اجْتِماعِيّاتٌ (127):
شوّاخُ البورسان من
رجالاتِ سوريّا الأبطال!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ
بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
عَقبَ خَراب مضافةِ جدّنا
الشيخ خالد «البوهبطة» المشهور بالعتّال؛
اتّخذ جدّي السيّد إبراهيم الحمش الغرفةَ المجاورةَ لباب منزلنا مضافةً صغيرةً،
يستضيف فيها مساءً عدداً من الأقاربِ والأصدقاء، كان من بينهم رجلٌ من الموالي
العبّاسيين، كان يناديه جدّي المولى أبو ليلى الصقلاويّ، نسيت اسمه، وكان كثيرَ
الكلام، كثيرَ الاعتراض، وكان جدّي يحترمه لشجاعته، كما قال لي جدّي.
عندما حجّ جدّي
الحجّةَ الأخيرةَ في أوائل الستينات، وكان عمره فوق التسعين؛ أحضر معه عطراً
ثقيلاً فعلاً، يُدعى عِطْرَ الكعبة، صرنا نعطّر ضيوفنا منه للبركة!
كان من عادة جدّي التي
تعلّمناها منه، ولم نعمل بها لأسباب متعدّدة؛ أنّ الضيفَ متى أخذ موضعه من المجلس،
واستقرّ به المقام؛ حيّاه الحاضرون بتحية المساء «مساك الله بالخير» والبدو
يقولون: «الله بالخير».
ثمّ يقوم واحدٌ منّا -
أحفاد جدّي - فيعرض عليه كأسَ ماء، ثم بعد دقيقتين يضيّفه بالقهوة العربيّة
السمراء!
بعد دقيقتين أخريين،
يعرضُ عليه الطيب «العطر» ويعطّره، وبعد خمس دقائق يقدّم إليه الشاي، وكان التدخين
ممنوعاً في مضافةِ جدّي.
فعطّرته من عطر الكعبة
الذي أحضره جدّي معه من الحجّ، فلم تعجبه رائحته، ونادى جدّي قائلاً: حاج إبراهيم
أقول!
قال له جديّ: تفضل قل!
قال: العطر الأوّلاني
كان زُويّن، هذا والله ما هو بزين!
قال له جدي: يا بو
ليلى، نحن أتينا به للبركة، ومهما كان ما هو بزين، لكنه أزين من رائحة بني آدم!
ذاتَ ليلةٍ من تلك
الليالي؛ استأذن هذا المولى أبو ليلى بالكلام، فأذن له جدّي، فحدّثنا حديثاً
طويلاً عن «شيخ شيوخ الوُلْدَة» شوّاخ البورسان، ومقاومته للفرنسيين، وحكمهم عليه
بالإعدام ستَّ مرّاتٍ، أو سبعَ مرّاتٍ - أنا نسيت - وتكلّم طويلاً عن كرمه وشجاعته
وسأل جدّي إن كان يعرفه؟
قال جدّي: لم ألتقِ
الشيخ شوّاخ - حفظه الله تعالى - إنما التقيت والدَه الشيخ أحمد البورسان، وأثنى
عليه جدّي كثيراً.
تاربع المولى حديثَه
قال: لمّا انكسرت قبائلُ الجزيرة أمام جيش الفرنساويّ؛ حكمت فرنسا غيابياً على
الفارس عبدالرزاق المولى، أمير قبيلة الموالي العبّاسيين، وعلى شوّاخ البورسان،
شيخِ الوُلدَة، من قبيلة البوشعبان، بالإعدام.
فاختفى شوّاخ البورسان
عند بعض معارفه من الوجهاء، ومن جملة هؤلاء الوجهاء «أصلان آغا البرازي، في قريّة
تدعى «زور العاصي» وراءَ جبل معرّين، زرتُها أنا فيما بعد، وهي جنّةٌ من جنان الله
تعالى في الأرض!
استأذن أصلان البرازي
الشيخ شوّاخاً أبا أحمد بالذهاب إلى بعض أعماله، وبقي الشيخ شوّاخ في المضافةِ مع
بعض الضيوف.
كان خادمُ المضافةِ
واحداً من عبيد أصلان البرازي، فأراد أن يفرضَ حضوره على الحاضرين نوعاً من
التعويضِ الأدبيّ - فيما يبدو - وعندما وضع للضيوف الطعامَ؛ وجدَ الشيخ شوّاخاً
أضخمَ شخصٍ في المجلس جسماً، وأطولَهم وأغلظهم شارباً!
فناداه، ورمى له بطاس
الماء، وقال له: «قم املأ هذه الطاس، وحوّل على السفرة».
فلم يردّ عليه شوّاخ
البورسان، وتجاهلَه!
لكنّ هذا العبدَ تمادى
وتجاسر، وقال لشوّاخ: «كأنك مصدّق نفسك إنك رجّال بطول شواربك، قم قم املأ الطاس
ماي، هيّا».
قام شوّاخ، وملأ الطاس
ماءً، ووضعه على المائدة، وجلس مع الضيوف يسايرهم، وهم يتناولون طعامهم.
عندما رجع أصلان إلى
منزله؛ أحسّ بأنّ شوّاخاً زعلان، فحاول مداعبته وممازحته، وطلب منه أن يعزف على
الربابة!
أخذ الشيخ شوّاخ
الربابة، وحضّر موسيقاها لتتلقى كلامه، ثم ارتجل قائلاً:
الله كريم... الله
كريم ... الله كريم ... الله كريم ... الله كريم ...
الله كريم نبدل الدار
بديار.
والماي تروح لو كانت
بطيّة!
عقب ما كنت أنا شيخ؛
صرت أنا دوّار
والشين قبل الزين يامر
عليّ».
وكرّر الكلام عدّة
مرّاتٍ، وشرر النار يقدح من عينيه!
فعاقبَ أصلان عبده
عقاباً عسيراً، لكنّ الشيخ شوّاخاً رفض البقاءَ عند أصلان، وغادر المكان في
الليلةِ ذاتها.
في عام (1971) عُيّنت
مدرّساً مكلّفاً بإعدادية قرية «شمس الدين» على شطّ الفرات، قريباً من مدينةِ «منبج»
وأنا لا أعرف أنّ هذه القريةَ هي قرية الشيخ شوّاخ البورسان!
كان مطلوباً منا تسجيلُ
حضور الطلاب وغيابهم، فكنت أقرأ أسماء الطلّاب:
محمد أحمد الشواخ.
عمر أحمد الشواخ
سعود فلان الشوّاخ!
لفت نظري أن ربع كلّ
فصل تقريباً من الفصول ينتهي بالشوّاخ!
سألت أحد طلّاب الصفّ
الثالث الإعدادي، قلت له: أنت قبيلي؟
قال: كلّنا قبيليين يا
أستاذ، نحن كلّنا قبيلة واحدة، هب البوشعبان، ونحن من الوُلدة!
قلت له: انسب نسبك إلى
خمسة جدود، فنسب نفسه: عامر «أو عمر» بن أحمد بن شوّاخ بن أحمد البورسان!
فأوقفتُه، وقلت له:
أبو أحمد شوّاخ البورسان، شيخ شيوخ الجزيرة، هو جدّك، أو هو اسم مشابه لاسم؟
قال: بل هو جدّي!
قلت له: رحمه الله
تعالى، كم كان بطلاً شجاعاً كريماً عزيز النفس، أنا أعرف عن جدّك الكثير، لكنني ما
التقيته في حياتِه وللأسف!
تبسّم الولد وقال:
الله يعطيك طول العمر يا أستاذ، جدّي شابٌّ قويٌّ على قيد الحياة، والحمد لله ربّ
العالمين!
قلت له: جدّك منذ
الثورة السورية عام (1925) كان فارساً بطلاً، وقائداً يقارع الفرنسيين، ما يزال
على قيد الحياةِ، ما شاء الله لا قوّة إلّا بالله، سلّم لي عليه كثيراً، أنا والله
أحبّه، ومعجب بشخصيّته.
قال الولد: سلّمك الله
يا أستاذ، يصل إن شاء الله.
في اليوم التالي، بعد
انصراف الطلّاب من المدرسة؛ جاء أحد أولاد الشيخ شوّاخ الرجال، على حصانٍ، يقود
حصانين ليس عليهما أحد، حتى وقف على باب المدرسة، فنادى على «آذن المدرسة»: أين
الشيخ عذاب النعيميّ الحمويّ؟
فأخبرني الآذن بأنّ
أحداً يطلبني، خرجت من غرفتي، وأقبلتُ إلى الرجل، الذي نزل من على ظهر حصانه،
وسلّم عليّ وعانقني، وقالت: «يا عمي الوالد أرسل إليك يريدك تتغدّى معه وهذا
الحصان مركوبك، وخذ معك ضيفاً أو اثنين، إن شئت، وأنا أرَوّح ماشياً، وحيّاك الله»!
كنت شاباً في الحادية
والعشرين من عمري، أحبّ السلاح، وأحبّ الخيل، فقلت لابن شوّاخ: أريد أن أتخيّل على
أحد هذين الحصانين، هل لديك مانع؟
قال باستحياء: على «الرحب
والسعة» وكأنه خاف عليّ من الوقوع عن ظهر الحصان.
كانت الأرض كلّها
زراعية حمراء جميلة، ليس فيها أيّ حجر صخريّ، أو شارع مرصوف!
لعبت على الحصان
قرابةَ ربع ساعةٍ، ثم رجعتُ إلى ابن شوّاخ، فوجدته مسروراً جدّاً.
قلت له هامساً: ليس في
هذه المدرسة أحدٌ يستحقّ أن يرى وجهَ الشيخ شوّاخ البورسان، كلّهم كفرة!
وذهبنا إلى حويجة
شوّاخ بقاربٍ صغير نسيت اسمه، في الساحل يقولون لمثله: «فلوكا»!
تغدّيت مع الشيخ شوّاخ
وعددٍ من الضيوفِ، وكان ثلاثةٌ من أولاده الشباب وافقين على رؤوسنا للخدمة، والشيخ
شوّاخ يسايرنا ويضاحكنا حتى لا نشعر بالخجل.
وبعدما انتهى الجميع
من الطعام؛ قُدّم إليه طبقٌ، فتغدّى، فعلمتُ أنّ هذه عادةٌ له!
قال: ممكن تنتسب لي يا
ولد أخوي؟
قلت له: أنا عداب بن
السيّد محمود بن السيد إبراهيم بن الشيخ محمد الحمش!
قال: العفو منك، الحمش
الذي هو أبو حمدو؟
قلت له نعم.
قال: حمدو جدّك أم
عمّك؟
قلت له: حمدو عمّ أبي،
وشقيق جدّي السيّد إبراهيم!
قال: سمعت عن إبراهيم،
لكن أعرف جدّك الحمش، وعمّك حمدو، الذي يقولون له: العرّ!
قلت له: نعم صحيح.
قال: العرّ كبير، أكبر
مني بأربعين سنة تقريباً، لكنه كان قويّا جدّاً وشجاعاً جدّاً، وظني كان جدّك
الحاج محمد الحمش يومها فوق مائة سنة، لكنه كان بكامل عافيته!
وحدّثني ما يعرفه
عنهما، وعن لقائه بهما.
فطلبت منه أن يقصّ
عليّ قصّة زيارته لأصلان آغا البرازي، وما جرى له هناك!
فتغيّر وجهه، وقال: أنت
قصَّ عليَّ الذي سمعته، وأنا أقول لك الصحيح!
فقصصت عليه القصّة،
وذكرت له البيتين اللذين كانا سببَ تلك العقوبةِ القاسية لعبد أصلان!
أطرق قليلاً، ثم قال:
مَن حدّثك بهذه السالفة؟
قلت له: قريب لنا
يقولون له: الصقلاويّ أبو ليلى المولى!
قال: «أعرفه زين،
رجالٍ ملو هدومه» هل هو طيّب «على قيد الحياة»؟
قلت: عقبَ وفاة جدّي (1968م)
لم أعد أراه، فلا أدري أحيٌّ هو أم لا !
قال: «أصلان وربع
أصلان؛ جماعة كرامٌ، وهمّ منّا تراهم، ما هم بأكراد» همّ من وين؟
قلت له: هم من عين
العرب!
قال: هاه أنت قلتها،
هي بلد العرب، جاورهم فيها الكرد، ثم تصاهروا بينهم، وتكاثروا، فصاروا هم أكرادَ
اللغة فقط، وهم منّا من قحطان!
لكنهم نسوا أصلهم
وفصلهم، وللأسف!
ختاماً: ولد شوّاخ
البورسان عام (1900م) وتوفي عام (1982) وقد حدّثني أنّ له من صلبه خمسَ مائةِ ولد «يقصد
ذريّته» رحمه الله تعالى وغفر له، ولنا، ولسائر المؤمنين!
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ(.
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلَّم تَسليماً.
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق