أفرادُ الإمامِ البخاريّ (12):
مَشروعيّةُ سجودِ التلاوةِ!؟
بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا:
افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
بإسنادي
إلى الإمامِ البخاريّ في الجمعةِ، بابٌ من رأى أنّ الله عزَّ وجلّ لم يوجبِ
السجودِ للتلاوةِ (1077) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنا إِبْراهِيمُ بنُ مُوسَى
«التميميُّ الفرّاء» قالَ: أَنا هِشامُ بنُ يُوسُفَ «الصنعانيّ» أَنَّ
«عبدَالملكِ» ابنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قالَ: أَخبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بنُ أَبِي
مُلَيْكَةَ «التيميُّ» [ب: 91] عَنْ عُثْمانَ بنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ التَّيْمِيِّ،
عَنْ رَبِيعَةَ بنِ عَبْدِاللهِ بنِ الْهُدَيْرِ التَّيْمِيِّ، قال أَبُو بَكْرٍ
«ابن أبي مُليكةَ»: وَكانَ رَبِيعَةُ مِنْ
خِيارِ النّاسِ، عَمّا حَضَرَ رَبِيعَةُ مِنْ عُمَرَ بنِ الْخَطّابِ t.
قال: قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى
الْمِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ، حَتَّى إِذا جاءَتْ السَّجْدَةَ؛ نَزَلَ
فَسَجَدَ وَسَجَدَ النّاسُ، حَتَّى إِذا كانَتِ الْجُمُعَةُ الْقابِلَةُ؛ قَرَأَ
بِها، حَتَّى إِذا جاءَتْ السَّجْدَةَ؛ قالَ: «يا أَيُّها النّاسُ! إِنّا نَمُرُّ
بِالسُّجُودِ، فَمَنْ سَجَدَ؛ فَقَدْ أَصابَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ؛ فَلاَ إِثْمَ
عَلَيْهِ» وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ t ([1]).
وَزادَ
نافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما: «إِنَّ اللهَ عَزّ وجلَّ لَمْ
يَفْرِضِ عَلينا السُّجُودَ، إِلاَّ أَنْ نَشاءَ»([2]).
مَدارُ حديثِ عمر بن الخطّاب في البابِ، على عبدِالملك بنِ
عبدِالعزيز بنِ جُرَيجٍ، رَواهُ عنهُ:
حجاج بن محمد المصيصي عِندَ البيهقيِّ (3573).
وعبدالرزاق الصنعاني في مصنفه (5889).
وهشام بن يوسف الصنعاني عندَ البخاريِّ (1077).
وقد روي نحو متن هذا الحديث، من طريقِ هشامِ بنِ عروةَ عن
أبيه؛ أنَّ عمرَ بنَ الخطاب.. فذكر نحوه، كما بيّنتُ في التخريج.
وهذا
إسنادٌ ضعيفٌ؛ لأنه منقطعٌ بين عروةَ وعمر، كما قالَ ابنُ حجرٍ في الفتح (4: 236). وعليه فلا يرتقي مدارُه،
ويبقى على ابنِ جريجٍ.
والإمامُ البخاريّ أخرج من
طريق ابن جُريجٍ (190) رواية، منها (296، 398، 423، 517، 604).
لكنّ البخاريّ لم يخرّج
لأبي بكر بن أبي مليكة، سوى أثرِ الباب (1077) وحديثٍ آخر (4538) وكلتا الروايتين
من حديث ابن جريجٍ عنه!
وهذا يعني أنّ أبا بكر ابن
أبي مليكةَ؛ ليس من أعمدةِ صحيح البخاريّ!
وهو يعني أيضاً أنّ ابن
جُريجٍ ليس من خواصّ تلامذة أبي بكر بن أبي مليكة!
ولم يخرّج مسلمٌ لأبي بكرٍ
هذا أيَّ رواية، كما لم يخرّج له بقيّةُ التسعة شيئاً أبداً!
ومن المناسب القولُ هنا
أنّ إطلاق جملة (ابن أبي مليكة) تنصرف في صحيح البخاريّ إلى أبي بكرٍ عبدالله بن
عُبيدالله بن أبي مليكة، شقيقِ أبي بكرٍ هذا.
وقد أخرج البخاريّ
لعبدالله هذا (87) روايةً، منها (88، 108، 745، 764، 851).
وأخرج له مسلم لعبدالله
هذا (30) روايةً، منها (485، 928، 929، 1029، 1058).
وأبو بكر ابن أبي مليكة
هذا؛ لم يترجمه الذهبيُّ في الميزان، وترجمه المزيّ في تهذيبه (33: 121) وقال: روى
عن عبيد بن عمير الليثيّ، وعثمان بن عبدالرحمن التيمي، وعائشة أمّ المؤمنين، وذكر
أنّ ابن حبّان ترجمه في الثقات، وأشار إلى تخريج البخاريّ له، وكذلك فعل ابن حجر
في تهذيبه (12: 32).
لكنّ ابن حبّان لم يترجم
لأبي بكرِ بن عبيدالله هذا في الثقات، إنما ترجم لأخيه عبدالله بن عبيدالله فيه
(5: (3560) وقال: «كُنْيَتُهُ أَبُو بكر، وَقد قِيلَ: أَبُو مُحَمَّد» فلعلّ كنية
أبي بكر؛ أشكلت على المزيّ، أو لعلّ ترجمته سَقَطت من مطبوعة الثقات!
وترجمه ابن سعدٍ في
الطبقات الكبرى (6: (1548) وقال: كان قليلَ الحديث، والذهبيّ في الكاشف (2: (6528)
وقال: ثقة.
وترجمه ابن حجر في التقريب
(7980) وقال: مقبولٌ، بينما قال في تخريج أحاديثِ الأذكار (3: 273): ثقة!
والذي يقالُ عادةً: في مثل
هذه الترجمة: لم يرد في أبي بكر ابن أبي مليكةَ أيّ جرحٍ، ووثقه عدد من النقّاد،
وأخرج له البخاريُّ في صحيحه؛ فهو ثقةٌ، أو صدوقٌ في أقلّ أحواله!
لكنّ الرجلَ من
المتقدّمين، روى عن عائشة أمّ المؤمنين، فهو مجهولٌ، لا ينفعه توثيق الذهبيّ في
القرن الثامن شيئاً!
وقال بعضُ المشتغلين في
التحقيق تعقيباً على قول ابن حجر: «مقبول»: «بل صدوق حسن الحديث، فقد روى عنه جمع،
وذكره ابن حبّان في الثقات، وروى له البخاريّ في الصحيح».
وأقول: في هذا الكلام نظرٌ
من جهاتٍ شتّى:
الجهة الأولى: أنّ كتب
الرواية المعتمدة؛ لم تخرّج له سوى هذين الحديثين، عند البخاريّ، سواء روى عنه
اثنان أم خمسةُ رواة، أين هي روايات أولئك الرواة؟
الجهة الثانية: لم يترجمه
ابن حبّان في الثقاتِ، ولو سلّمنا بقول المزيّ، وكان قد سقطت ترجمته من الثقات،
فابن حبّان لم يثن عليه بشيءٍ، ومجرّد ترجمته في الثقات؛ لا تعني أنه ثقة!
فقد ترجم ابن حبّان مئات
المجهولين، الذين لم يرو عنهم سوى راوٍ واحدٍ، ولم يوثّقوا!
وقد قام أحدُ طلّابنا
بكتابة رسالةِ (المجهولون ومروياتهم في صحيح ابن حبّان) للحصول على درجة الماجستير
من جامعة صدّام، فكان عددهم (237) راوياً، بينهنّ تسع نسوة (229 - 237) انظر من
الأطروحة (ص: 529).
وأمّا تخريج البخاريّ له
حديثين، أعرض عنهما مسلم؛ يدلُّ بحدّ ذاته، على أنّ الرجل ليس من رجال الصحيح،
وإلّا فلِمَ أعرض مسلمٌ عن هذين الحديثين، وهو في حاجةٍ إليهما، في بابيهما؟
خلاصةُ الحكم على أثر
الباب هذا؛ أنّه حديثٌ جيّد، لا يرقى إلى مستوى الحسن لذاته لعدم تحقّق أبي بكر
ابن أبي مليكة بالعدالة الحديثية!
ولا يرقى إلى مستوى حسن
لغيره؛ لأنه لم يتابَع على حديثِه هذا.
واللهُ تَعالَى أعلمُ.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
([1])
من حديث عبدالملك ابن جُريج عن ابن
أبي مليكة، به موقوفاً على عمر؛ انفرد به البخاريُّ عن التسعة، وأخرجه عبدالرزاق
في مصنفه (3: (5889، 5912) وابن خزيمة في
الصلاة، باب ذكر الدليل على أن السجود عند قراءة السجدة فضيلة لا فريضة (567) وفي
سنده سقط قديمٌ بين ابن خزيمة وابن أبي
مُليكة، واضح في المطبوع، وفي إتحاف المهرة (12:
(15270) وأخرجه البيهقي في السنن، باب من لم ير وجوب سجدة
التلاوة (2: (3755) وأخرجه مالك في النداء للصلاة، باب ما جاء في سجود القرآن (433)
من طريقٍ أخرى عن عروة بن الزبير، عن عمر بن الخطّاب، ولم يسمع عروة من عمر، وانظر
أقوال العلماء في فقه سجود التلاوة في التمهيد (19: 133) والاستذكار (2: 508) لابن
عبد البر.
وانظر الجَمْعَ بين الصحيحين للحميدي
(49) والتحفة (8: (10438) والإتحاف (9: (10270، 10564) والفتح (4: 236).
([2]) قال ابن حجر في التغليق (2:
413): وأثر ابن عمر «هذا ظاهره التعليق، وذكره المزي؛ تبعاً للحميديّ من جملة المعلقات، وليس
كذلك، بل هو موصول بالإسناد الأول نفسه؛ بدليل أنّ الإسماعيلي وأبا نُعيم
والبيهقيَّ في الكبير (2:
(3755) أخرجوه من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج، عن ابن أبي
مليكة، عن نافع، عن ابن عمر، بعَقِبِه» وقال في الفتح (4: 236): «قَوْلُ
البخاريّ: «وَزَادَ نَافِعٌ» هُوَ مَقولُ ابن جُرَيْجٍ، وَالْخَبَرُ مُتَّصِلٌ
بِالْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِك عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه (3: (5889) قال: عَن ابن جُرَيْجٍ قال: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ
بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، فَذكره، وَقَالَ في آخِره: قَالَ ابن جريج: وَزَادَنِي
نَافِع عَن ابن عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْنَا السُّجُودُ،
إِلَّا أَنْ نَشَاءَ» وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْحُمَيْدِيِّ فِي زَعْمِهِ أَنَّ
هَذَا مُعَلَّقٌ، وَكَذَا عَلَّمَ عَلَيْهِ الْمِزِّيُّ عَلَامَةَ التَّعْلِيقِ،
وَهُوَ وَهَمٌ».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق