مَسائِلُ مِن الفِقْهِ والأُصولِ (١3):
حُكْمُ
مَنْ يَقول: مال الأمّةِ مجهولُ المالك؟!
بسم
الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا:
عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا:
لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا:
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا
افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ
الْفَاتِحِينَ).
كتب
إليّ أحدُ الإخوة من أمريكا ما معناه: «أنا أتابعك منذ سنوات، ويعجبني كثيرٌ مما
تطرحه، لكنّ بعضَ ما تطرحه يَصدمني صدماتٍ عنيفة!
نحن
في أمريكا هنا؛ نخاف من القانون، لكنْ لو تيسّر للواحد منّا الحصولُ على أيّ مالٍ
ممكن؛ فنحن لا نتردّد في حيازتِه، وبعضنا يتصالح عليه مع مرجعه، وبعضنا لا يأبه
لذلك أصلاً.
وقد
قرأتُ لك منشوراً، تنفي فيه أن يكون شيءٌ من مال الدول مجهولَ المالك، يجوز لكلّ
أحدٍ حيازتُه.
فهل
يمكن تصوير منشأ فكرة (المال مجهول المالك) وأدلّتها عند القائلين بها، وكيف نردّ
على ذلك، وجزاكم الله خيراً».
أقول
وبالله التوفيق:
فكرةُ
المالِ مجهول المالك؛ منبثقةٌ عن حكم الركاز - دفين الجاهليّة - فمن عثر على كنزٍ،
أو على مال مدفون؛ فحكمه أن يعطيَ الحاكمَ الشرعيَّ الخمس (20%) ويأخذ هو الباقي.
لكنّ
مسألةَ « المالِ مجهول المالك» أبعد خطراً، وأقبح أثراً من فكرة تخميس الركاز هذه.
الإماميّة
يقولون: الإمام الشرعيّ الأوّل في الإسلام؛ هو الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلم،
ثمّ الإمام عليٌّ ، ثمّ الإمام الحسن، ثم الإمام الحسين، ثمّ الأئمة التسعة من
ذريّة الحسين، عليهم السلام .
وكلّ
مَن حكمَ الأمّةِ، بدءاً من وفاة الرسول، حتى عام (260 هـ) غير هؤلاء؛ فهو مغتصبٌ
للإمامةِ، وتصرّفه في شؤون الأمّة كلّها، بما في ذلك الأموال؛ هو تصرّفُ غاصبٍ، لا
تترتب عليه آثار شرعيّة.
فلمّا
مضى عصر الأئمة هؤلاء، وظهرت فكرة الإمام المهديّ الافتراضيّة؛ صار الخمس من حقّ
الإمامِ المهديّ، والإمام المهديّ صاحب الحقّ؛ لا يعرفه أحدٌ، ولم يثبت أنْ رآه
أحدٌ، ولا تواصل معه أحدٌ، وكلّ مَن يزعم غيرَ ذلك، ممن عاصر تلك الحقبة؛ فهو
كذّاب أشر.
ولأنّ
السيّد الخوئيّ يعلم هذه الحقيقةَ، لكنه لا يجرؤ على التصريح بها؛ فكان عندما
يتكلّم عن تلك الحقبة؛ يختم كلامه بقوله «الله العالم».
فعند كلامه على السفير العمريّ المزعوم؛ قال في معجم رجال
الحديث (7: 106): «على أنّ المستفادَ مِن التوقيع «توقيع المهديّ
المزعوم» أنّ العمري كان شخصاً واحداً يصل إليه كلُّ ما يُحمل إلى الامامِ عليه
السلام فيوصِلُه إليه، والله العالم بحقيقةِ الأمر».
يوصله إليه لماذا؟ وماذا يصنع به الإمام في غيبته، وهل ظهر
أنّ فقيراً واحداً من آل البيت، فضلاً عن غيرهم؛ وصله من هذا الإمام درهم واحد؟
لمّا حصلت الغيبة الكبرى المزعومة، عقب موت السفير الرابع
عليّ بن محمد السمريّ (329 هـ) سادت الإماميّةَ مرحلة سمّيت بالحيرة.
ثم فيما بعد اخترعوا شيئاً اسمه «المرجعيّة» وجعلوا المرجعَ
هو النائبَ العامّ عن الإمام المهديّ الغائب!
ولمّا لم يكن المرجع هو الحاكمَ الدنيويَّ، ولم يكن حاكمُ
البلد مُنصّباً من قِبَله؛ كان هذا الحاكم غيرَ شرعيّ، ومال الأمّة الذي تحت يده؛
هو حقّ المرجع، يتصرّف به كيف يشاء!
وإذ كان تصرّف المرجع به غيرَ ممكنٍ واقعيّاً؛ غدا مالاً
مجهول المالك، من حقِّ كلِّ إنسان أن يحوزَه، شريطةَ أن يتصالح مع المرجع الحاكم
الشرعيّ، على تخميسه، أو غير ذلك، هذه هي قصّة المسألة!
ومن الطريف أن أذكر ههنا قصّةً واقعيّة حصلت معنا نحن في
بيتنا في العراق!
كنت في بغدادَ أسكن في حيّ الداوودي، خلف مطعم الساعة، وقرب
السفارة العمانية، وكان لنا جيران من الشيعة فقراء، كنّا نساعدهم قدرَ الإمكان!
ذاتَ يومٍ جاءت جارتنا، واستعارت من بنتي سواراً من ذهبٍ،
هي كلّ ما تملكه من الدنيا، زعمت أنها ستلبسه في عرس أخيها.
طلبت بنتي السوارَ في اليوم التالي؛ فقالت لها الجارة: كنت
مضطرةً، فبعت السوارَ، وهذا ما تبقّى من ثمنه، خذيه!
اتّصلَت بي بنتي، فحضرتُ، وجارتنا ما تزال عندنا في البيت،
فسألتُها: لمَ فعلت هذا الشيءَ؛ قالت: اضطررت لهذا، وأنا امرأة فقيرة!
قلت لها: لكنّ سعر السوار أضعاف المبلغ الذي تقولين: إنّك
بعته به؟
اسمعي يا جارتنا: أنا أريد السوارَ بعينه غدا، وإذا لم تحضريه
غداً؛ فسأشتكي عليك للأمن!
قالت: كيف سأتدبّر هذا الأمر؟
قلت لها: كما احتلت على بنتي، وأخذته منها؛ تستطيعين أن
تستعيديه!
ذهبت المرأة، حتى كان اليوم التالي؛ اتّصلوا بي من البيت،
قالوا: والد جارتنا يريدُ مقابلتَك، وهو ينتظرك عند ابنته!
حضرت إلى بيتي، واستدعيته، فحضر هو وابنته، فقال بصوتٍ عال:
ما هذا الذي تفترونه على بنتي؟
أنا إمام مسجد الإمام الحسين بن روح، وأنا من بني أسدٍ، نحن
نصفُ العراق، وبنتي لم تأخذ من بنتك شيئاً أصلاً، وهي مستعدة للقسم على القرآن الكريم
أنّها لم تأخذ من بنتك سواراً، ولا أيّ شيء آخر!
ذُهلتُ من كلامه، وقلت له: لا ترفع صوتك، فأستطيع أن أرفع
صوتي أكثر منك بكثير، ولا يخيفني بنو أسد، ولا بنو فهد!
أراد أن يقاطعني، فصرخت به: اسكُت، بنتك جاءتني أمس بحزمة
من المال، وقالت: كذا وكذا!
قال: بنتي لا تفهم، أنا أكلّمك بالشرع، هل لبنتك بيّنةٌ على
ما تقول؟
قلت له: بنتك أقرّت على نفسها؟
قال: بنتي خافت منكم، أنتم أصحاب صدّام حسين، كل الحارة
تخاف منكم!
(البينة على من ادّعى، واليمين على من أنكر) أنت ليس لديك
بينة، ونحن على استعدادٍ للقسم على كتاب الله تعالى!
وأخرج المصحف من حقيبةٍ كانت معه، وطلب من بنته أن تحلف على
المصحف، وعلّمها ما تقسم به: «أقسم على كتاب الله تعالى أنني لم أستعر من جيراننا
السوريين سواراً من ذهب، ولا غيره، والله على ما أقول وكيل» ثم أخذ ابنته وخرج من
بيتي!
راودني الشيطان أن أرفع سمّاعة الهاتفِ، وأتّصل بالدكتور
سبعاويّ، لكنني قلت: سبعاوي ومن معه في الأمن العام؛ لن يسلكوا السبيلَ الشرعيّةَ
في التعاملِ مع هذه المرأة المسكينة، التي غرّر بها والدها، إمام مسجد الحسين بن
روح!
في اليوم التالي، جرى حديثٌ بين بناتي وزميلاتهنّ في
المدرسة؛ فلم تستنكر أيُّ بنت شيعيّة أمرَ اغتصاب السوارِ، إنّما استنكرن القسمَ
على المصحف الشريف، وقلن لبناتي: هذا شيء معروف عندنا (خمّس ما السنيّ، وكُلْه)
وكانت هذه أوّل مرّةٍ أسمع بهذه الجملة!
ما ذا بعد هذا:
بعد عدّةِ أشهر - والله الشاهد، والله الشاهد، والله الشاهد
- جئتُ إلى بيتي، فشاهدت تابوتاً على باب الباب، فرُعبت!
هُرعتُ إلى البيت، أسأل عن كلِّ واحدٍ من الأولاد والبنات؟
فقالوا لي: نحن كلّنا بخيرٍ، لكنّ ابن جيراننا الكبير -
وسمّوه لي - أحضروه إلى أهله في كيسِ قِنّبٍ (جونية) مقطّعاً عدداً من القطع.
قلت لهم: لا تشمتوا بموته يا أولادي، أعانَ الله والديه، وحسبنا
الله ونعم الوكيل.
ختاماً: إنّ المرجعَ الذي يفتي باستحلالِ مال المواطنِ
المسلم أو الذميّ، بعد تخميسه!
أو يفتي بأنّ مال الأمة في أيّ قطر من الأقطار؛ هو مالٌ
مجهول المالك، يجوز حيازته لكلِّ أحدٍ، إنما عليه المصالحةُ مع الحاكم الشرعي
«المرجع» ليحلّله له؛ لا يكون هذا المرجع لصّاً فحسب، إنما هو أستاذٌ في اللصوصيّة!
ولست أدري كيف تستقيمُ أمور دولةٍ أكثريّة أهلها يتبعون
أولئك المراجع الطغاةَ الظالمين، وسيكون أكثرُ موظّفي الدولة منهم؟
فهل نستغرب بعد هذا؛ أن يكون العراق من أكثر دول العالم
فساداً وتخلّفاً وفقراً، على الرغم من أنّه من أغنى بلاد الدنيا؟
إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلّا بالله
العلي العظيم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ
لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه
وسلّم تسليماً.
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق