مَجالسُ شَهرِ رَمَضانَ المُبارَك (2):
صِيامُ يومِ الشَكِّ!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).
لا يخفى على أحدٍ منكم - أيها الإخوةُ المؤمنون
الصائمون - أنّ يومَ الشكّ؛ هو اليوم الثلاثون من شهر شَعبانَ؛ لأنّ الشهر العربيّ
يكون ثلاثينَ يوماً، أو تسعةً وعشرين!
فاليوم التاسع والعشرون؛ هو مِن شهرِ شعبانَ جزماً.
والأصل في الصيام والفطر؛ قول الرسول صلّى الله
عليه وآله وسلّم:
(إِذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ؛ فَصُومُوا، وَإِذَا
رَأَيْتُمُوهُ؛ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ؛ فَصُومُوا ثَلَاثِينَ
يَوْماً) أخرجه البخاري في الصوم (1909) ومسلم الصيام (1081).
وقد جاء النهي عن صيام يوم الشكِّ - الثلاثين - في
حديث عمّار بن ياسرٍ، رضي الله عنهما قال: « «مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ؛ فَقَدْ
عَصَى أَبَا القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» أخرجه البخاريّ تعليقاً
بعد حديثِ (1905) بصيغة: «وقال صلة بن زُفَرٍ: عن عمّار قال».
وأخرجه الدارمي في سننه (1724) وأبو داود في السنن
(2334) والنسائيّ في المجتبى (2188) والترمذيّ في جامعه (686) وقَالَ: «وَفِي الْبَاب
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ عَمَّارٍ حَدِيثٌ
حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ
التَّابِعِينَ».
قال الفقير عداب:
حديث عمّارٍ هذا؛ ذكرَ ابنُ حجر في تغليق التعليق
(3: 141) وفي فتح الباري (4: 120) الخلافَ في صحّته وضعفه ورجّح صحّته بشواهده.
وهو حديث غريبٌ، لا يرقى إلى تحريمٍ أو تحليلٍ،
بكلِّ اعتبار.
ولفظ حديث أبي هريرة الذي أشار إليه الترمذيّ في
الباب (نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ صَوْمِ سِتَّةِ
أَيَّامٍ: الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ، وَيَوْمِ الْفطر،
ويَوْم الْأَضْحَى، وَأَيَّام التَّشْرِيق) وهو حديث ضعيف جدّاً.
ولفظ حديث أنسٍ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ:
دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عِنْدَ الْعَصْرِ يَوْمًا نَشُكُّ فِيهِ مِنْ
رَمَضَانَ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُسَلِّمَ عَلَيْهِ، فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأَكَلَ،
فَقُلْتُ: هَذَا الَّذِي تَصْنَعُ سُنَّةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ» وهو حديث ضعيفٌ واه.
لكنّ ثمّة حديثاً صحيحاً يقوّي معناه، هو ما أخرجه
البخاري في الصوم (1914) ومسلم في الصيام (1082) من حديث أبي هريرة، عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يَتَقَدَّمَنَّ
أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ
رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ؛ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ).
وهذا الحديثُ معارضٌ بحديثين صحيحين:
الأوّل: أخرج البخاري في الصوم (1983) ومسلمٌ في
الصيام (1161) من حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ أَوْ لِآخَرَ: (أَصُمْتَ
مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ)؟ قَالَ: لَا!
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: (فَإِذَا
أَفْطَرْتَ؛ فَصُمْ يَوْمَيْنِ) يعني: بعد رمضان.
والحديث الثاني: عَن فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ
أَنَّ رَجُلًا شَهِدَ عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَى رُؤْيَةِ
هِلَالِ رَمَضَانَ فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَصُومُوا، وَقَالَ: «أَصُومُ
يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ؛ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ
رَمَضَانَ» أخرجه الشافعيّ في الأمّ (2: 103).
وفي الأمّ أيضاً (7: 51) قَالَ الرَّبِيعُ: رَجَعَ
الشَّافِعِيُّ بَعْدُ، فَقَالَ: لَا يُصَامُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إنْ
كَانَ عَلِيٌّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أَمَرَ النَّاسَ بِالصَّوْمِ؛ فَعَلَى
مَعْنَى الْمَشُورَةِ، لَا عَلَى مَعْنَى الْإِلْزَامِ، وَاللهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ».
وأخرجه الدارقطني في السنن (2205) وقال: قَالَ
الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ لَمْ تَرَ الْعَامَّةُ هِلَالَ رَمَضَانَ، وَرَآهُ رَجُلٌ
عَدْلٌ؛ رَأَيْتُ أَنْ أَقْبَلَهُ لِلْأَثَرِ وَالِاحْتِيَاطِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بَعْدُ: لَا يَجُوزُ عَلَى
رَمَضَانَ إِلَّا شَاهِدَانِ».
وأخرجه البيهقيّ في السنن الصغير (1308) وفي معرفة
السنن (8606) وفي الخلافيّات (5: 26) وقال: «وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيِّ رضي الله
عنه: «لَأَنْ أَصُومَ
يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ؛ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْماً مِنْ
رَمَضَانَ) فَإِنَّمَا قَالَهُ عِنْدَ شَهَادَةِ رَجُلٍ عَلَى رُؤْيَةِ
الْهِلَالِ، وَبِهِ نَقُولُ».
ختاماً: لم يصحَّ أيّ حديثٍ بلفظ النهي عن يومِ
الشكّ، وحديثُ أبي هريرة في النهي عن تقدّم صيام رمضان بيومٍ أو يومين؛ صحيح إليه.
والأخذ بصنيع الإمامِ عليّ أفقه الأمّةِ، مع
موافقةِ حديثِ عمران بن حصين، رضي الله عنهم؛ أحبّ إلينا، مع قول الشافعيّ: إنّ
عليّاً قاله على سبيلِ الاختيارِ، لا على سبيلِ الإلزام.
ويعضد قولَ الشافعيّ قولُ البيهقيّ: «وبهِ نقول».
وأنا الفقير عدابٌ به أقول، فلا بأس أن
تصومَ اليوم الثلاثين على سبيل الاحتياط.
ولو صمتَ ثلاثةَ أيّامٍ من آخر شهر شعبانَ،
وجعلتَها عادةً لك؛ لكان في ذلك خير عميم.
كنت أنا الفقير في شبابي أصوم رجب وشعبان، وأفطر
فيهما يومَ الجمعة فحسب.
وبعدما أُجريَت لي عمليّة قرحةِ المعدة؛ غدوت أصوم
من شهر شعبانَ سرَرَه اليوم الثامن والعشرين والتاسع والعشرين والثلاثين، وبعدَها
أصوم رمضان وحسب!
وأيَّ ذلك صنعتَ أخي الصائم الكريم؛ فلا بأس عليك
ولا حرج، إن شاء الله تعالى.
ملحوظة مهمّة جدّاً:
أيّ مسألةٍ فقهيّة مَردّها
إلى الدليلِ الحديثيّ؛ فالقول فيها لفقهاء أهل الحديث، أما الفقهاء قديماً
وحديثاً؛ فجماهيرهم لا يحسنون تقويم الأحاديث والروايات، فلا تتحرّج من خلافهم،
فهو ليس بشيء!
والله تعالى أعلم
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد لله على كلّ حال».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق