التَصَوُّفُ العَليمُ (11):
بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ
بيني وبين سيّدي أبي حنيفة رضي الله عنه!؟
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
ممّا لا يجوز إغفاله أبداً؛ أنّ الإمامَ أبا حنيفةَ
رضي الله عنه؛ غير المذهب الحنفيّ، وأنّ الإمامَ الشافعيَّ رضي الله عنه؛ غير المذهب
الشافعيّ، وأنّ صلاحَ أبي حنيفةَ؛ غير علوم أبي حنيفة، وكونُ أبي حنيفةَ فقيهاً مُستنبطاً؛
لا يسلتزم أن يكون محدّثاً، أو مقرئاً، أو مفسّراً، أو لغويّاً، إذ إنّ هذه
اللوازم وضعها الأتباعُ، عندما قرؤوا شروطَ الاجتهاد النظريّة، عند الأصوليين.
فلم ينقل عن أبي حنيفةَ أنه كان لغويّأً بارعاً،
ولا مفسّراً كبيراً، ولا محدّثاً، ولا مقرئاً، ولا أصوليّاً، إنما كان فقيهاً
أثريّاً، يتبع أقوال من سبقه من شيوخه وشيوخهم في الكوفة، وقد يوازن بين أقوالهم
ويختار!
بيد أنّ الجانب الذي وددتُ الإشارةَ إليه في هذا
المنشور؛ هو جانب الصلاح والتقوى، عند الإمام أبي حنيفة، رحمه الله تعالى.
وفي هذا المقال؛ لن أستدلَّ على صلاحه وتقواه، بما
نقله أتباعُه، فأنا أعلم أنّ من شأن بعضِ الأتباع؛ المبالغاتُ إلى حدّ الكذب
والافتراء، أحياناً.
أنا سأنقل تجربتي مع الإمامِ أبي حنيفة، طيلةَ عشرِ
سنواتٍ في بغدادَ الحبيبة!
في بغداد كما هو معلوم مراقدُ علماء كثيرين، ومراقد
أولياء وصالحين، ومشاهد عدد من أئمة آل البيت وأوليائهم عليهم السلام!
وبصفتي رجلاً صوفيّاً؛ فلم يكن لديّ هذا التحزّب
القبيحُ، الذي تجده لدى المذهبيّين المتعصّبين!
كنت أزور مراقد كثيرين من الأولياء والصالحين،
والأئمة المتبوعين، ولو عرفت قبرَ الإمام أحمد رضي الله عنه؛ لزرته، فهو من كبار
الصالحين في نظري!
غير أنّ ثلاثةً من الأولياء؛ كنت أزورهم باستمرار -
مرّةً في كلّ أسبوعٍ، في الحدّ الأدنى - وربما زرتُ ثلاثتهم في يوم واحد!
هم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، والإمام موسى
بن جعفر، والإمام عبدالقادر الجيلاني!
في رمضان المبارك خاصّة؛ كنت أجعل ختماتي للقرآن
العظيم، عند هؤلاء الأئمة الثلاثة، غالباً!
فكنت أقرأ عشرةَ أجزاء عند أبي حنيفةَ في يومٍ،
أبتدؤه عند الظهر، ثم أقرأ عشرةَ أجزاء عند جدي موسى، في يومٍ ثانٍ، ثم أقرأ عشرةَ
أجزاء، عند جدي عبدالقادر رضي الله عنهم أجمعين!
وهؤلاء الأئمةُ الثلاثةُ، كان يحتفي بي خدّام
مشاهدهم أتمّ حفاوة، ويستقبلونني هم أجملَ استقبالٍ، فمامن مرّةٍ زرت واحداً منهم،
إلا استقبلني بالروائح العطريّة العجيبة، مع نزولِ الأنس والسكينة والبرودة
الظاهرة جدّاً في أيّام الصيف!
ذات يومٍ من أيّام رمضان الصيفيّة في بغدادَ
الحارّةِ جدّاً؛ قصدتُ الإمام أبا حنيفةَ، فوصلتُ إليه قبيل صلاة الظهر، وهم لا
يفتحون باب حجرته، إلّا بعد الصلاة!
كان باب مشهده مغلقاً، فاستأذنته بالدخول، فجاء
خادم روضته من بعيدٍ يركض، حتى فتح لي بابها، فقبّلتُ عتبة الروضة، ودخلت إلى أبي
حنيفة.
صلّيت تحيّة المسجد بجانب مرقده، ولو جعلته بيني
وبين القبلةِ؛ لا شيء في ذلك عندي؛ لأنّ الذين يعبدون بوذا؛ يسجدون له في أمريكا،
ونحن لا نعبد أبا حنيفةَ ولا واحداً من الأنبياء والصالحين، بل نحن ندعو لهم،
ونترحم عليهم!
بعدَ انتهاء الصلاة؛ قبّلت أسفلَ القبرِ من جهة
قدمه اليمنى، ثم جلست متوجها إلى القبلةِ، وهو بيني وبينها!
أقيمت صلاة الظهر؛ فصلّيت الظهرَ في مسجده مع
الجماعةِ، ثمّ صليت سنةَ الظهر البعديّة عند أبي حنيفةَ، ثم رجعت إلى مكاني أتابع
تلاوتي للقرآن الكريم، وشعوري وارتياحي أنني في الجنّة، والله!
أُذّن لصلاة العصر؛ فصليت العصر مع الجماعة، ثم
رجعتُ إلى موضعي في روضة الإمام أبي حنيفة، ظللت أقرأ القرآن الكريم، حتى اقترب
موعد الإفطار، فقلت في نفسي: الآن أنجز هذه السورة، فأكون أتممت عشرةَ أجزاء،
وسأغادر!
بعد ثوانٍ من هذه الخاطرة؛ سمعت أصواتاً من جهة باب
الحجرة؛ فالتفتّ، فإذا طفلة في الثالثة أو الرابعة من عمرها، كأنها حوريّة من حورِ
الجنّة، تقودها والدتها - فيما أظنّ - حتى وصلَتْ إليّ، وقالت بصوت طفوليٍّ رقيق:
عمّو هذا فطورك!
أخذت من يدها صرّةً جميلةً جدّاً، نحن نسمّي مثلها
«محرمة مطرّزة» وهممت أن أقبّل الطفلة، فاستحييت من أمّها - فيما يبدو - واكتفيت
بأن قلت لها: شكراً يا أمّورة!
قلت في نفسي: الإمام يريدني في ضيافته اليوم، وأنا
سأقبل دعوته الحبيبة!
أذن لصلاة المغرب، فصلّيت مع الجماعةِ، ثمّ رجعت
إلى الحجرة، فوجدت خادمَها ينتظرني، وبيده إبريق ماء وكأس عراقيّ مزركش!
قال لي: سيّدنا نحن سنذهب إلى الفطور في البيت،
فتفضّل ادخل حتى أغلق عليك البابَ إلى صلاة العشاء، هنيئاً للإمام بحبُّك له،
وهنيئاً لك بحبّ الإمامِ لك!
شربت الماءَ، وأكلتَ ما في الصرّةِ، وهو قليلٌ
جدّاً، وقمتُ فصلّيت ستّ ركعاتٍ صلاة الغفلة، ثم تابعتُ تلاوتي للقرآن العظيم!
وحدي مع الإمام والحجرة مقفلة علينا، أحسستُ برهبةٍ
عظيمة، وسكينة زائدة، فقمتُ بمرابطةٍ مع الإمام، حتى شاهدتُه بقلبي كأنّه يبتسم
ويقول لي: لا تخفْ أنت في أمان الله تعالى!
تابعتُ تلاوتي للقرآن بعد ذلك، حتى فَتحَ عليّ خادمُ
الحجرةِ الباب، وذكّرني بأن أتوضّأ، حتى لا تفوتني الجماعة!
توضّأت، ثم صلّيت لله تعالى ركعتين عند أبي حنيفة،
فأُذّن للعشاء، صلّيت معهم العشاء والتراويح، ثم رجعتُ، فاستأذنت سيّدي أبا حنيفةَ
بالانصرافِ، فلم أحسّ بأنّه أذن؛ وأتذكّر أنني لم الانحناءَ لحملِ محفظتي الصغيرة
جدّاً، فوقع في قلبي أن أقرأ الفاتحةَ، فقرأتها عدّة مرّات، ثم حملت محفظتي،
وقبّلت قدم الإمامِ، وباب حجرته، ثم انصرفت!
هذه هي حالي مع سيّدي الإمام أبي حنيفةَ، فهل يزعم
واحدٌ من حنفيّة عصرنا؛ أنّ له مع الإمام مثلَ هذه المنزلةِ!
هذا يعني أنّ انتقادي لبعضِ فقه أبي حنيفة، أو
كثيرٍ من فقه الحنفيّة؛ لم يغضب أبا حنيفة رضي الله عنه، كما يُغضِبُ بعض السفهاء
من أتباعِه!
وقد حدّثت تلامذتي البغداديّين في الدرس الخاصّ،
بهذه القصّة في حينها، فإذا رأى أحدٌ منهم أنني أخطأتُ في شيءٍ من روايتها؛ فليذكّرْني،
حتى أصححه، ولهم جزيل الشكر، فعمر ذاكرتي (75) سنة!
والله تعالى أعلم
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق