التصوّف العليم (6):
هوان
هذه الدنيا على الله تعالى !؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا،
وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا،
وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ،
وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
عندما نذكرُ بعضَ أحوال الصالحين تجاه الله جلّ وعزّ؛ يذهب
كثيرٌ من الناس، يقولون: إنّ الصوفيّةَ قوم بطّالون، عالةٌ على الآخرين، لا
يساهمون في بناء المجتمع، تضيع عوائلهم بسبب انقطاعهم إلى العبادة والذكر، إلخ هذا
الكلام السخيف!
أقول وبالله التوفيق:
معلوم لدى السادةِ الصوفيّةِ؛ أنّ الخلوةَ سنّة نبويّة، قد
فعلها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل النبوّة، وبعدها.
أخرج الإمام مسلمٌ في صلاة المسافرين (730) من حديث عبدالله بن
شقيقٍ العقيليّ
قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ تَطَوُّعِهِ.
فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِي قَبْلَ الظُّهْرِ
أَرْبَعاً، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي
رَكْعَتَيْنِ.
وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ يَدْخُلُ
فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ.
وَيُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ، وَيَدْخُلُ بَيْتِي
فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ.
وَكَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ تِسْعَ رَكَعَاتٍ، فِيهِنَّ
الْوِتْرُ.
وَكَانَ يُصَلِّي لَيْلًا طَوِيلًا قَائِمًا، وَلَيْلًا
طَوِيلًا قَاعِدًا.
وَكَانَ إِذَا قَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ؛ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ
قَائِمٌ.
وَإِذَا قَرَأَ قَاعِدًا؛ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَاعِدٌ.
وَكَانَ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ؛ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ).
إسناد الحديث صحيح، وفي سنده عبدالله بن شقيق، وثّقه جمع من
الحفّاظ، ورموه بالنصب!
ونحن إنما نتوقّف في حديث المبتدعِ، إذا كان متن حديثِه، مما
يقوّي بدعته، أو ممّا يحتمل أنّ حديثه أثرٌ عن بدعته.
وليس في متن هذا الحديث شيءٌ له علاقةٌ بالنصب، والله تعالى
أعلم.
وهذا الحديث إنما كان في أواخر عهد رسول اللهِ صلّى اللهُ عليه
وآله وسلّم بهذه الدنيا.
وإنما قلت ذلك لسببين:
الأوّل: لأنّ في متن الحديث (وَإِذَا قَرَأَ قَاعِدًا؛ رَكَعَ
وَسَجَدَ وَهُوَ قَاعِدٌ) والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، لم يكن يصلّي
قاعداً، إلا في أواخر عمره.
أخرج مسلمٌ (733) وغيره، من حديث الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي
وَدَاعَةَ السَّهْمِيِّ عَنْ حَفْصَةَ أمّ المؤمنين رضي الله عنها أَنَّهَا
قَالَتْ: (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم صَلَّى فِي
سُبْحَتِهِ قَاعِداً، حَتَّى كَانَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِعَامٍ، فَكَانَ يُصَلِّي
فِي سُبْحَتِهِ قَاعِداً، وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسُّورَةِ فَيُرَتِّلُهَا، حَتَّى
تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ مِنْهَا) وأخرجه الترمذي (373) وقال: حديث حفصة
حسن صحيح.
والثاني: لأنّه صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم، اجتهد في العبادة
أكثر وأكثر، عندما نزلت سورةُ النصر، التي ذكّرتْه بدنوّ أجله!
فقد أخرج البخاريّ في المغازي (4294) وغيره، من حديثِ سَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ عُمَرُ
يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ «هو عبدالرحمن بن عوف، كما
في رواية أخرى للحديث عند البخاري (3627)»: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا الْفَتَى مَعَنَا
وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ عمرُ: إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ!
قَالَ ابنُ عباس: فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ، وَدَعَانِي
مَعَهُمْ، قَالَ: وَمَا رُئِيتُهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ، إِلَّا لِيُرِيَهُمْ
مِنِّي!
فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ
وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً) حَتَّى
خَتَمَ السُّورَةَ؟
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللهَ
وَنَسْتَغْفِرَهُ، إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا!
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَدْرِي أَوْ لَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ
شَيْئًا!
فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ: أَكَذَاكَ تَقُولُ؟ قُلْتُ:
لَا!
قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَعْلَمَهُ اللهُ لَهُ.
(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ) وَالْفَتْحُ فَتْحُ مَكَّةَ،
فَذَاكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ
كَانَ تَوَّاباً) قَالَ عُمَرُ: «مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ»
وأخرجه الترمذيّ في التفسير (2366) وقال: حديث حسن صحيح.
أقول: في قول السيدة عائشة: (كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِي قَبْلَ
الظُّهْرِ أَرْبَعاً، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَدْخُلُ
فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ) إلخ حديثها؛ دليل واضح على أنّه صلّى الله عليه وآله
وسلّم كان في عبادةٍ دائمة، وفي خلوةٍ مع الله تبارك وتعالى.
إنّ الخلوةَ فرصةٌ لصفاء النفس، وراحتها من الأغيار، وتدبّر
القرآن العظيم، والتطلّع إلى فتوحاتِ الرحمن الرحيم، وتجلّياته على المنقطعين
إليه!
ومهما طال أمد الخلوةِ؛ فهو لا يزيد عن أربعين يوماً في السنةِ،
أو في العمر!
والذين يبكون على الدنيا ومتاعها، قد يصطافون في كلّ عامٍ أكثرَ
من أربعين يوماً، يُنفقون فيها مبالغ طائلة، قد تكفي الصوفيّ العابدَ سنوات!
بينما الصوفيّ العابدُ؛ لا ينفق في الأربعين يوماً تلك؛ ما
ينفقه أهل الدنيا في يوم واحدٍ، بل في وجبة واحدة!
حدّثني أحد طلابي من السادة الصوفية قال: تحت إشرافي شيخنا فلان
رضي الله عنه خَلَوْتُ (55) يوماً، لم أتناول فيها، سوى الماء، وهل للماء من ثمن؟!
في يومٍ من الأيّام قرّرت أنا الفقير عداب، أن أخلوَ مع الله
تعالى، في أحد المساجد أسبوعين:
فصمتُ ثلاثةَ أيّامٍ على الماء، فحسب!
وصمت ثلاثةَ أيامٍ وكنت أتناول «صمّونة عراقية واحدة» عند
الإفطار!
وصمت ثلاثة أيّام، وكنت أتناول صمونتين عند الإفطار واحدة، وعند
السحور الثانية.
وصمت ثلاثة أيّام، كنت أتناول صمّونتين عند الإفطار، ومثلها عند
السحور!
وفي اليومين الأخيرين؛ طلبت كميّةً من التمر مع الخبز، ثم
ضعفتُ، فأنهيت الخلوة بعدهما.
فهل كانت تكلفة خلوةِ أسبوعين؛ أكثر من وجبة طعامٍ واحدةٍ، في
أدنى مطعمٍ ببغداد؟!
إنّ الذين يتفوّهون بمثل هذا الكلام التافه؛ جعلوا الدنيا هي
الأصلَ، ونظروا إلى طالبي الآخرة على أنهم يعيقون حركة الحضارة والتقدّم!
مع أنّهم لو كانت لديهم مسكةٌ من عقلٍ؛ لتفكّروا بأنّهم غير
موفقين لنوال شرف طاعة الله تعالى وعبادته!
ولأنهم يغفلون عن أنّ الذاكرين الله تعالى كثيراً والذاكرات؛ لا
يكونون نسبة (1%) بحالٍ من الأحوالِ، وبقية الغافلين يقومون بشأن هذه الدنيا!
ويقولون: لو أنّ كلّ مسلمٍ، انقطع إلى الذكر؛ لتعطّلت سبل
الحياة!
وجواب ذلك أنّ جواب «لو» منفيّ، مستحيل الوقوع!
لأنّ الذاكرين الله تعالى والذاكرات؛ هم خواصّ عباد الله تعالى،
الذين يُخضع لهم الأسباب، ولا يخضعهم هم لها.
قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا
وَاتَّقَوْا؛ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
وَلَكِنْ كَذَّبُوا، فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
(96) [الأعراف].
وإنني أشهد الله الذي جلّ في علاه؛ أنني بعد انتهائي من حفظ
القرآن العظيمِ، في عام (1976) في مصر المحروسة؛ ما كان يخطر الأمر على خاطري، حتى
يحقّقه الله تعالى لي فوراً، من دون أن أحرّك شفتيّ بالدعاء!
وأشهد الله العظيم؛ أنني حين طردت من عملي لدى الدولة عام
(1973) وسمح لي والدي بزراعة قطعة من أرضه الزراعية أعمل بها؛ أنّ نوعية الخضار
التي كانت تنتجها مزرعتي؛ لم يكن لها شبيه ولا مثيلٌ، لا في الجمال ولا في الجودة
ولا في الكمّ المنتَج الهائل!
وفي رمضان ذلك العام، وكان في الشتاء القارس، لم يكن في مدينة
حماة خسّة واحدةٌ إلّا من مزرعتي، بل ولا بعد شهرين أيضاً!
وكم كنتُ أخجلُ من تجّار الخضار، الذين كانوا يتسابقون في الصيف
والشتاء معاً لحيازة منتوج مزرعتي، التي لا يمكن أن تكفي طلباتهم، بطبيعة الحال.
اللهم إني لا أقول هذا الكلام تسميعاً – لا والله! – وإنما
أقوله تصديقاً بقول الله تعالى ووعده!
في ربيع ذلك العام، كان يزورني في المزرعة كثيرٌ من الإخوة الأصدقاء؛
لأنّ مزارعنا أقرب المزارع إلى المدينة، فهي لا تبعد أكثر من ميلين عن وسط
المدينة!
كنت أنظّف لهم الخسّ من ماء الساقية، وأقول لهم: الذي يستطيع إنجاز
أكل خسة كاملة، له عشر خسّاتٍ، يأخذها معه إلى بيته، فكان قليلون الذين يتمكنون من
تناول خسّةٍ بتمامها، لكنّ جميعهم كان يحمل خسّاته معه!
إنّ البركة التي يجنيها العبدُ المؤمن، من وراء الثبات على حزبه
من القرآن العظيم، وحزبه من صلاة النافلة، وأوراده من التهليل والتسبيح والاستغفار،
والصلاة والسلام على الرسول الأكرم؛ أقلّها الراحةُ النفسيّة والرضا بما قسم الله تعالى
من هذه الحياة الدنيا، القصيرة جدّاً جدّاً جدّاً !
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ، وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ،
وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) [الحجّ]
هذا يوم من أيّام الآخرة.
(تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ
مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ
السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) [المعارج] وهذا
يوم آخر من أيّام الآخرة، وذهب بعض المفسّرين إلى أنه يوم الحساب!
كم أنت غبيّ مغرورٌ غافلٌ أيّها الإنسان، عندما يلهيك عن «خلودٍ
في الجنةِ، أو خلودٍ في الجحيم» خمسون، أو سبعون، أو مائة سنة!
كم الفارق بين مائة سنة، وألف سنة؟
بل كم الفارق بين مائة سنة، وخمسين ألفَ سنة؟!
أيها الناس: أفلا تعقلون ؟!
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق