مَسائل حديثية (21):
هل رواية الحديثِ المنكَر؛
تُضَعّفُ راويَهُ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا،
وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا،
وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ،
وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
كتب إليّ يقول: «الذي تعلمناه على مشايخنا أنّ نقّاد الحديث،
كانوا يضعّفون الراوي بحديث منكرٍ انفرد بروايته، فلماذا لم يضعّفوا عمرو بن
ميمون، في قوله الباطل: (رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً، اجْتَمَعَ
عَلَيْهَا قِرَدَةٌ قَدْ زَنَتْ، فَرَجَمُوها، فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ) أخرجه
البخاري (3849).
أقول وبالله التوفيق:
أخرج البخاري خبرَ عمرو بن ميمون في كتاب المناقب، باب أيّام الجاهليّة!
وأحسب أنّ البخاريّ أخرج هذه الروايةَ، لوجود كلمة الجاهليّة
فيها، وحسب!
إذ من عادة الإمام البخاريّ تخريج حديثٍ كاملٍ في بابٍ، وغرضه
منه كلمة واحدة خاصّة عندما تكون الكلمة قليلة الاستعمال في الروايات الحديثيّة!
وهذا ما اقتصر عليه الحميديّ في الجمع بين الصحيحين (3: 490) إذ
قال:
«الَّذِي
قَالَ البُخَارِيّ فِي التَّارِيخ الْكَبِير (6: 367):
قَالَ
لي نُعيمُ بن حَمَّاد: أخبرنَا هشيم عَن أبي بلج وحصين، عن عَمْرو بن مَيْمُون
قَالَ:
رَأَيْت
فِي الْجَاهِلِيَّة قردةً، اجْتمع عَلَيْهَا قرودٌ، فرجموها، فرجمتها مَعَهم.
وَلَيْسَ
فِيهِ: «قد زنت» فَإِن صحّت هَذِه الزِّيَادَة؛ فَإِنَّمَا أخرجهَا البُخَارِيّ
دلَالَة على أَن عَمْرو بن مَيْمُون قد أدْرك الْجَاهِلِيَّة!
وَلم
يُبالِ بظنّه الَّذي ظنّ فِي الْجَاهِلِيَّة».
قال عداب: لكنني بحثت عن كلمة «الجاهلية» في صحيح البخاريّّ؛
فوجدتها مذكورة في (100) موضع من الصحيح، أوائلها (4، 30، 979، 1294، 1297)
وأواخرها (7053، 7054، 7084، 7116، 7143).
فهو إذنْ ليس بحاجةٍ إلى كلمة
الجاهليّة، في باب أيّام الجاهليّة ، أو في باب القَسامَة في الجاهلية!
وهو لم يخرّجها غمزاً بعمرو بن ميمون، وإشارةً إلى تضعيفِه، كما
قال أحدهم؛ لأنّ البخاري أخرّج عن عمرو بن ميمون عشرين روايةً في جامعه الصحيح.
فيحتمَل أنّه أخرج هذه الكلمات القليلةَ من قصّة طويلةٍ،
تعجّباً واستغراباً من أمور الجاهليّة!
قال ابن حجر في فتح الباريّ، عند شرح الحديث (3849):
«سَاقَ
الْإِسْمَاعِيلِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُطَوَّلَةً، مِنْ
طَرِيقِ عِيسَى بْنِ حِطَّانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: كُنْتُ فِي
الْيَمَنِ فِي غَنَمٍ لأهلي، وأنا على شُرُفٍ «مكان مرتفع».
فجَاء
قرد مَعَ قِرَدَةٍ فَتَوَسَّدَ يَدَها، فَجَاءَ قِرْدٌ أَصْغَرُ مِنْهُ،
فَغَمَزَهَا، فَسَلَّتْ يَدَهَا مِنْ تَحْتِ رَأْسِ الْقِرْدِ الأوّل سلّاً رَقيقاً،
وَتَبِعَتْهُ، فَوَقَعَ عَلَيْها، وَأَنَا أَنْظُرُ، ثُمَّ رَجَعَتْ!
فَجَعَلَتْ
تُدْخِلُ يَدَها تَحْتَ خَدِّ الْأَوَّلِ بِرِفْقٍ، فَاسْتَيْقَظَ فَزِعاً،
فَشَمَّها، فَصَاحَ! فَاجْتَمَعَتِ الْقُرُودُ، فَجَعَلَ يَصِيحُ وَيُومِئُ
إِلَيْهَا بِيَدِهِ، فَذَهَبَ الْقُرُودُ يَمْنَةً ويسرة فجاؤوا بِذَلِكَ
الْقِرْدِ، أَعْرِفُهُ!
فَحَفَرُوا
لَهُمَا حُفْرَةً، فَرَجَمُوهُما، فَلَقَدْ رَأَيْتُ الرَّجْمَ فِي غَيْرِ بَنِي
آدَمَ!
قَالَ
ابنُ التِّينِ: «لَعَلَّ هَؤُلَاءِ «القردة» كَانُوا مِنْ نَسْلِ الَّذِينَ
مُسِخُوا، فَبَقِيَ فِيهِمْ ذَلِكَ الْحُكْمُ،ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْمَمْسُوخَ لَا
يَنْسِلُ!
قال
ابن حجر: وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ؛ أَنَّ
الْمَمْسُوخَ لَا نَسْلَ لَهُ! وَعِنْدَهُ «مسلم» (2662) مِنْ حَدِيثِ ابن
مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا أَوْ
يُعَذِّبْ قَوْمًا فَيَجْعَلَ لَهُمْ نَسْلًا، وَإِنَّ الْقِرَدَةَ
وَالْخَنَازِيرَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ).
ثمّ
راح ابن حجر يتكلّف في وصف القرد وبيان مزاياه، ما يدلّك على عقل السلف الذي
تقدسونهم، إلى أن قال:
وَقد
استنكر ابن عَبْدِ الْبَرِّ قِصَّةَ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ هَذِهِ وَقَالَ: «فِيهَا
إِضَافَةُ الزِّنَا إِلَى غَيْرِ مُكَلَّفٍ، وَإِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى
الْبَهَائِمِ، وَهَذَا مُنْكَرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ!
قَالَ
ابن عبدالبرّ: فَإِنْ كَانَتِ الطَّرِيقُ صَحِيحَةً، فَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا
مِنَ الْجِنِّ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمُكَلَّفِينَ، وَإِنَّمَا قَالَ
ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي أَخْرَجَهَا
الْإِسْمَاعِيلِيُّ حَسْبُ»!
قال
عداب: في كلام ابن حجر نظر؛ فإنّ ابن عبدالبرّ قال في الاستيعاب (3: 1205): «وَهُوَ
الَّذِي رأى الرجمَ فِي الجاهلية مِن القِرَدةِ، إن صَحّ ذَلِكَ؛ لأن رواته
مجهولون.
وَقَدْ
ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ نُعَيْمٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو
بْنِ مَيْمُونَ الأَوْدِيِّ مُخْتَصَراً، قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
قِرْدَةً زَنَتْ، فَرَجَمُوهَا- يَعْنِي الْقِرَدَةَ- فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ.
ورواه
عبّاد بن العوّام، عَنْ حُصَيْن، كما رواه هشيم مختصراً!
وأما
القصّة بطولها، فإنها تدور على عبدالملك بن مسلم، عن عيسى بن حطّان، وليسا ممن يُحتجّ
بهما.
وَهَذَا
عِنْدَ جماعة أهل العلمِ، منكرٌ إضافةُ الزنا إِلَى غير مكلّف، وإقامة الحدود فِي
البهائم.
ولو
صحّ؛ لكانوا من الجنّ؛ لأن العبادات فِي الجن والإنس دون غيرهما، وقد كَانَ الرَجمُ
في التوراة».
قال
ابن حجر: وَأَغْرَبَ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ (3: 490)
فَزَعَمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، وَأَنَّ
أَبَا مَسْعُودٍ وَحْدَهُ ذَكَرَهُ فِي الْأَطْرَافِ!
قَالَ:
«وَلَيْسَ فِي نُسَخِ الْبُخَارِيِّ أَصْلاً، فَلَعَلَّهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ
الْمُقْحَمَةِ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ»!
قال
عداب: ليس في الجمع بين الصحيحين، هذا النفي المطلق، إنما فيه «وَلَيْسَ فِي
رِوَايَة الكُشميهنيّ عَن الْفربرِيّ أصلاً شيءٌ من هَذَا الْخَبَر فِي القِرْدَة،
ولعلها من الْمُقْحمَات التِي أقحمت فِي كتاب البُخَارِيّ».
وَمَا
قَالَهُ مَرْدُودٌ فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُور فِي مُعْظَمِ الْأُصُولِ
الَّتِي وَقَفْنَا عَلَيْهَا!
وَكَفَى
بِإِيرَادِ أَبِي ذَرٍّ الْحَافِظِ لَهُ، عَنْ شُيُوخِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَئِمَّةِ
الْمُتْقِنِينَ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ حُجَّةً!
وَكَذَا
إِيرَادُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجَيْهِمَا وَأَبِي
مَسْعُودٍ لَهُ فِي أَطْرَافِهِ.
قال
عداب: كلام ابن حجر ههنا دقيقٌ، فالحديثُ موجودٌ في رواية أبي ذرّ، الورقة (127/ أ)
السطر (13) من أسفل، وفيه لفظةُ (قد زنت)!
قال
ابن حجر: وَأَمَّا تَجْوِيزُهُ أَنْ يُزَادَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مَا لَيْسَ
مِنْهُ؛ فَهَذَا يُنَافِي مَا عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْحُكْمِ بِتَصْحِيحِ
جَمِيعِ مَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَمِنِ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى
أَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِنِسْبَتِهِ إِلَيْهِ!
وَهَذَا
الَّذِي قَالَهُ تَخَيُّلٌ فَاسِدٌ، يَتَطَرَّقُ مِنْهُ عَدَمُ الْوُثُوقِ
بِجَمِيعِ مَا فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ فِي وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ؛
جَازَ فِي كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، فَلَا يَبْقَى لِأَحَدٍ الْوُثُوقُ بِمَا فِي
الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ، وَاتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ يُنَافِي ذَلِكَ.
وَالطَّرِيقُ
الَّتِي أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ؛ دَافِعَةٌ لِتَضْعِيفِ ابن عَبْدِ الْبَرِّ
لِلطَّرِيقِ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَقَدْ أَطْنَبْتُ فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ لِئَلَّا يَغْتَرَّ ضَعِيفٌ بِكَلَامِ الْحُمَيْدِيِّ فَيَعْتَمِدُهُ
وَهُوَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ» قلت: سيأتي أنّ تخريج البخاريّ القصة من هذه الطريق؛
لا يقوّيها أبداً.
قال
عداب: الذي أراه أنّ البخاريّ أخرج طرفاً من هذه القصّة المطوّلة؛ ليثبت أنّ عمرو
بن ميمون مخضرم أدرك الجاهلية، ولذكر كلمة الجاهلية في هذه القصة!
وربما
ليدلّ على أنّ الرجم كان معروفاً قبل الإسلام، وليس الإسلام من ابتدأه!
أمّا
تضعيف عمرو بن ميمون بهذه القصّة؛ فيتوقّف على ثبوتها عنه!
ففي
رواية البخاريّ؛ شيخه نعيمُ بن حمّاد، راوي العجائب والأساطير، والذي اتّهم بوضع
الحديث!
وقد
ترجمه في الضعفاءِ النسائيّ (589) وابن عدي (1959) وابن الجوزي (3543) وقال:
«قَالَ أَبُو الْفَتْح الْأَزْدِيّ: قَالُوا كَانَ يضع الحَدِيث فِي تَقْوِيَة
السّنة، وحكاياتٍ مُزوّرةً فِي ثَلْب أبي حنيفَة، كلهَا كذب!
وَكَذَلِكَ
ذكر ابْن عدي».
وحكى
الذهبيّ في المغني (6658) ما سبق ثم قال: ما أظنّه يضع!
وأطال
ابن كثير في التكميل (1: 386) من النقول فيه، فينظر ثمة.
وترجمه
الذهبيّ في النبلاء (10: 595) وقال: «الإِمَامُ العَلاَّمَةُ الحَافِظُ، أَبُو
عَبْدِ اللهِ الخُزَاعِيُّ المَرْوَزِيُّ، الفَرَضِيُّ».
وبعد
هذا الإطراء (ص: 600) قال الذهبي: «قُلْتُ: نُعَيْمٌ مِنْ كِبَارِ أَوْعِيَةِ
العِلْمِ، لَكِنَّهُ لاَ تَرْكَنُ النَّفسُ إِلَى رِوَايَاتِهِ».
وقال
في (ص: 609) أيضاً: «قَالَ الحَافِظُ أَبُو عَلِيٍّ النَّيْسَابُوْرِيُّ: سَمِعْتُ
أَبَا عَبْدِالرحمن النَّسَائِيَّ يَذْكُرُ فَضْلَ نُعَيْمِ بنِ حَمَّادٍ،
وَتَقَدُّمَهُ فِي العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ وَالسُّنَنِ، ثُمَّ قِيْلَ لَهُ فِي
قَبُولِ حَدِيْثِهِ؟
فَقَالَ:
قَدْ كَثُرَ تَفَرُّدُهُ عَنِ الأَئِمَّةِ المَعْرُوْفِيْنَ بِأَحَادِيْثَ
كَثِيْرَةٍ، فَصَارَ فِي حَدِّ مَنْ لاَ يُحْتَجُّ بِهِ».
قال
الذهبي: «قُلْتُ: لاَ يَجُوْزُ لأَحَدٍ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ، وَقَدْ صَنَّفَ
كِتَابَ «الفِتَنِ» فَأَتَى فِيْهِ بِعَجَائِبَ وَمَنَاكِيْرَ».
وأمّا
طريق الإسماعيليّ؛ فقد ضعّفها ابن عبدالبرّ، وأقرّه ابن حجرٍ على تضعيفها كما
تقدّم.
وهذا
يعني أنّ هذه القصّة مشكوك في صحتّها، وأسوأ ما فيها؛ التشكيك بصدق عمرو بن ميمون،
الذي ربما لم تخطر له على بال، ولا علم له بشيءٍ مما فيها!
وظهر
بما تقدّم أنّ دفاع ابن حجرٍ في غير موضعه، وهو لا يفيد في إثبات هذه القصة شيئاً!
والله تعالى أعلم
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا
وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه
وسلّم تسليماً
والحَمْدُ
للهِ على كلِّ حالٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق