مَسائل حديثية (20):
هل كان البخاريّ يحفظ مائةَ ألفِ حديثٍ صحيح؟!!
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا،
وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا،
وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ،
وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
سألني أحد طلبة العلم: لم تُنكِر مقولَةَ: أنّ البخاريّ اختار
أحاديثَ كتابه، من مائة ألف حديثٍ صحيح؟ وما وجه اعتراضك؟
أقول وبالله التوفيق:
ستكون إجابتي مختصرةً في نقاط:
الأولى: نَصُّ المَرويِّ عن البخاريّ أنه يحفظ مائةَ ألف حديثٍ
صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، كما في علوم الحديث لابن الصلاح (ص: 86)!
وهذا يعني أنّ الأحاديث التي كانت مُتداولةً بين أيدي الناس في
زمانه تبلغ ثلاثَ مائةِ ألف حديث، في المتوسّط!
وهو يعني أيضاً أنّ ثلثَ الأحاديث المتداولة بين أيدي الناس؛ هي
الصحيحة، وأنّ الثلثين هو الضعيف!
وهذا يعني أنّ ثقافةَ الأمة خليطٌ من الصواب والغلط، بهذه
النسبة!
وهذا لا يقول به عاقل، أو على الأقلّ، هذا يعكّر على قول من
يقول: إنّ الله تعالى حفظَ السنّة!
فأين حفظه تعالى للسنة، والأحاديث الباطلة والموضوعة تغطّي
عليها، لدى (99%) من المسلمين، الذين لا يميزون؟!
الثانية: هل صنّف البخاري كتابا أورد فيه مائة ألف حديث صحيح، ثمّ اختار ما في كتابه الجامع منها؟
قاله ابن الصلاح، من دون أن ينسبه، وهو عند ابن عدي في مقدمة
الكامل (1: 226) والخطيب في تاريخ بغداد (2: 25) وابن نقطة في التقييد (ص: 33)
وغيرهم.
وأجاب على ذلك بقوله: «إلاَّ أنَّ هذهِ العبارةَ قدْ يندرجُ
تحتَها عندهم آثارُ الصحابَةِ والتابعينَ، وربَّما عُدَّ الحديثُ الواحدُ المرويُّ
بإسنادينِ حديثينِ»!
وأجاب
الزركشيّ في نكته (1: 178) على هذا بقوله: «وقيل: إنه أراد المبالغة في الكثرة،
وهذا ضعيف، بل أراد التحديدَ، وقد نُقل عن غيره من الحفّاظ ما هو أكثر من ذلك!
وعلى
هذا ففيه وجهان:
أحدهما:
أنه أراد به تَعدّد الطرقِ والأسانيد.
والثاني:
أن مراده بالأحاديثِ ما هو أعم:ّ منَ المرفوعِ والموقوفِ وأقاويل السلف!
وعلى
هذا حمل البيهقيُّ في «مناقب أحمد» قولَ أحمد: «صحّ من الحديث سبع مئة ألف»
على أنه أراد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، وأقاويلَ الصحابة والتابعين. فإن قلت: قد قال: «ومئتي ألف غير صحيح» فما
فائدة حفظه لذلك؟
قلت:
التمييز بينهما» انتهى كلام الزركشيّ.
وأجاب السيوطي في شرح الألفيّة (2: 752) بقوله:
«في نكت الزركشي، ذكر أبو سعدٍ إسماعيل ابن أبي القاسم البوشنجيّ
في كتابه «الجهر بالبسملة» عن البخاري أنه صنّف كتابًا أورد فيه مائة: ألف حديث
صحيح».
قال الزركشي: «وهو غريب، ولعله أراد لو صَنّف» لاستطاعَ ذلك!
قال
السيوطيّ معقّباً «تقدّم في كلام ابن طاهرٍ أنّ البخاريَّ عمل قبل الصحيح كتابًا
يقال له «المبسوط» وجمع فيه جميعَ حديثه على الأبواب، فالظاهر أنه هو!
وقد ذكره الحافظ ابن حجر في المقدمة «هدي الساري» (2: 555) حين
عدّد تصانيفه فقال: ومن تصانيفه أيضاً«الجامع الكبير» ذكره ابن طاهر، و«المسند
الكبير» و«التفسير الكبير» ذكره الفِرَبْريُّ، وكتاب «المبسوط» ذكره الخليليّ في «الإرشاد»
له، وقال: إنّ مَهيب بن سُليم رواه عنه.
فلعلّ الكتابَ الذي أشار إليه أبو سعدٍ أحدُ هذه الثلاثة» انتهى كلام السيوطيّ!
قال الفقير عداب: لنفترضْ أنّ البخاريّ صنّف ذاك الكتاب الذي
يضمّ مائةَ ألف حديث صحيح، فلماذا اقتصر على زكاة مائة الألفِ هذه، وعنده أكثرُ من
ثمانين باباً، ليس تحتها أيّ حديث؟!
ثمّ هل يجوز أنْ يُعرض البخاريُّ عن سبعةٍ وتسعين ألف حديث
صحيح، إذا كان يعتقدُ أنها سنن ثابتةٌ عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم؟
ألا يخدع الناسَ بهذا القدر الضئيل، من الأحاديث الصحيحة؟!
الثالثة:
قال الزركشيّ في نكته على علوم الحديث لابن الصلاح (1: 181) فما بعد، ما مختصره:
قال
الفقيه نجم الدين القُمولي: إنّ مجموع ما صح من الحديث أربعةَ عشر ألف حديثٍ، وأوّلَ
كلامَ البخاري السابق، فقال: مراده - والله أعلم - بما ذكره تَعدّدُ الطرقِ والأسانيدِ وآثارِ
الصحابة والتابعينَ وغيرهم، فسمّى الجميعَ حديثاً، وقد كان السلف يطلقون الحديث
على ذلك.
قال
القمولي: وهذا أولى من تأويله أنه أراد المبالغة في الكثرة بل هو متعين، لا يجوز
العدول عنه» انتهى كلام القمولي.
قال
الزركشيّ: وَهَذَا التَّأْوِيل يُؤَيّدهُ أَنه قد صَحَّ عَن جمَاعَة من الْحفاظ
أَن الْأَحَادِيث لَا تَنْتَهِي إِلَى هَذَا الْعدَد» يعني مائة ألف حديث!
قال
الزركشيّ: وَقد ذكر أَبُو الْعَرَبِ التميميُّ فِي مُقَدّمَة كِتَابه الضُّعَفَاء
عَن عَليّ ابن المدينيّ «على الصواب» قَالَ: سَأَلت يحيى بن سعيد الْقطَّان: كم
جملَة الْمسند؟
فَقَالَ
لي: حصّل أَصْحَابُنَا ذَلِك، وَهُوَ ثَمَانِيَة آلَاف حَدِيثٍ، وفيهَا مُكَرر!
قَالَ:
وَسمعت إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه يَقُول: سَأَلت جمَاعَة من أهل الْبَصْرَة عَن
جملَة الْمسند الَّذِي رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا:
سَبْعَة آلَاف ونيّف!
وَعَن
غنْدر قال: سَأَلت شُعْبَة عَن هَذَا؟
فَقَالَ:
جملَة الْمسند أَرْبَعَة آلَاف ونيّف!
وناظر
عبد الرَّزَّاق إِسْحَاقَ بن رَاهَوَيْه فِي ذَلِك، فَقَالَ إِسْحَاق: أَرْبَعَة
آلَاف!
وَقَالَ
عبدالرَّزَّاق: أَقُول مَا قَالَه يحيى بن سعيد: الْمسند أَرْبَعَة آلَاف
وَأَرْبَعمِائَة، مِنْهَا ألفٌ ومائتان سُنَن، وَثَمَانمِائَة حَلَال وَحرَام،
وَأَلْفَانِ وَأَرْبَعمِائَة فَضَائِل وأدب وتسديد!
وَقَالَ
سُفْيَان الثَّوْريّ: سِتَّة آلَافٍ، أَو خَمْسَة!
وَذُكِر عَن جمَاعَة من الْأَئِمَّة القدماء قَرِيباً من ذَلِك، وَأكْثر مَا قيل: ثَمَانِيَة آلَاف!
قال
الزركشيّ متعجّباً: «لَكِن أَيْن هَذَا مِمَّا حَكَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي كتاب «الْحَث
على الْحِفْظ» عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه قَالَ: أعرف بكتابي مائَة ألف حَدِيث
كَأَنِّي أنظر إِلَيْهَا، وأحفظ مِنْهَا سبعين ألفَ حَدِيث عن ظهر قلبِي صَحِيحَة،
وأحفظ أَرْبَعَة آلَاف حَدِيث مُزوّرة؟! [انتبه إلى إسحاق، يحفظ (4000) حديث
مزورة، بينما يحفظ تلميذه البخاري (200000) حديث مزوّرة]!
قَالَ:
وَسُئِلَ أَبُو زرْعَة الرَّازِيّ عَن رجلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاق أَنّ أَبَا زرْعَة
يَحفظ مِائَتي ألفِ حَدِيثٍ، هَل حنث؟!
قَالَ:
لَا!
ثمَّ
قَالَ أَبُو زرْعَة: أحفظ مِائَتي ألف حَدِيثٍ، كَمَا يحفظ الْإِنْسَان (قل هُوَ
الله أحد) وَفِي المذاكرة: ثَلَاثمائَةِ ألف حَدِيث» انتهى كلام الزركشيّ!؟
أمّا ابن حجر؛ فنحا منحىً آخر فقال: «وهذه الجملة – جملة أحاديث الصحيحين - تشتمل على الأحكام الشرعية وغيرها: من ذكر الأخبار عن الأحوال الماضية من بدء الخلقِ، وصفة المخلوقاتِ، وقصص الأنبياء والأمم، وسياق المغازي والمناقب والفضائلِ، والأخبار عن الأحوال الآتية، من الفتن والملاحم وأشراط الساعة والبرزخ والبعث وصفة النار وصفة الجنة وغير ذلك، والأخبار عن فضائل الأعمال وذكر الثواب والعقابِ، وأسباب النزول.
وكثير
من هذا؛ قد يدخل في الأحكام، وكثير منه لا يدخل فيها»!
فأما
ما يتعلق بالأحكام خاصةً؛ فقد ذكر أبو جعفر محمد بن الحسين البغدادي في كتاب «التمييز»
له عن الثوريّ وشعبةَ ويحيى بنِ سعيد القطّان وابن مهدي وأحمد ابن حنبل، وغيرهم؛
أنّ جملةً الأحاديث المسندة عن النبيّ صلى اللَّه عليه وآله وسلم - يعني
الصحيحةَ بلا تكرارٍ - أربعةَ آلافِ وأربعمائة حديث!
وعن
إسحاق بن راهَويهِ أنها سبعةُ آلافٍ ونيّفٍ.
قال أحمد ابن حنبلٍ: وسمعت ابن مهدي يقول: الحلالُ والحرام من ذلك
ثمانمائة، وكذا قال ابن راهويهِ، فيما نقله عن يحيى بن سعيدٍ القطّان.
فيكون توجيه هذه الأعداد المَهولةِ منصرفاً إلى الأسانيد!
قال الفقير عداب: هذه الأرقام جميعها تخيّليّة، فحتّى ابن حجر
لم يَعدّ أحاديثَ الصحيحين عدّاً دقيقاً من دون تكرار، فقال في النكت (1: 298): «وعلى
هذا، فتنقصُ العِدّة كما ذكر الجَوزقيُّ قليلاً، ويزيد عددُ الصحيحين في الجملةِ،
فلعله يَقربُ من سبعةِ آلاف بلا تكرير، والله أعلم».
واضحٌ أنّ ابن حجرَ يقدّر تقديراً، لكنه تقدير غلط، وبعيدٌ
جدّاً!
فهو قد قال في مقدمة الفتح (2: 525): «جميع ما في صحيح البخاري
من المتون الموصولة بلا تكرير (2602)».
قال: «وبين هذا العدد الذي حرّرته، والعدد الذي ذكره ابن الصلاح
وغيره تفاوتٌ كبير» يعني ينتقد عِدّةَ ابن الصلاح وغيره!
قال عداب: وجملة أحاديث مسلم بلا تكرير (3033) حسب عدّ محمد
فؤاد عبدالباقي، وهو عدّ صحيح إلى حدٍّ كبير.
اتَّفقا منها عَلَى (1906)
حَدِيْثاً تَقرِيباً، حسب إحصائيّةِ موسوعة صخر.
فيكونُ البُخاريُّ قد انفَرَدَ
بتخريجِ (696) ثمانِمِئَةٍ وواحدٍ وأربعينَ حَدِيْثاً.
وانفردَ مُسلِمٌ بتخريج (1006)
ألفِ حَدِيْثٍ وسبعةٍ وعِشرينَ حَدِيْثاً.
فتكون جملةُ أحاديث الصحيحين،
من دون تكرار (3608) حديثاً.
ونحن بدورنا نكرّر كلام ابن
حجرٍ في انتقاده ابنَ الصلاحِ فنقول:
«وبين هذا العدد الذي ذكرته (3608) والعدد الذي ذكره ابن حجر (7000)
حديثٍ بلا تكرير؛ تفاوتٌ كبير»!
خلاصةُ ما في الأمر: أنّ اعتمادَ علماء التراجم على
النَفْخَ والتضخيم والمنقبيّات؛ أبعدهم عن معرفة الحقيقة كثيراً !
وسواء كان عددُ طرق الأحاديثِ الصحيحةِ (100000)
ألف حديثٍ، أم كان عددها أكثرَ أو أقلّ من ذلك؛ فنحن إنّما نتعبّد الله تعالى بمتون
الأحاديث الصحيحة الثابتة عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وهذه الأحاديث الصحيحة، منها ما هو سننٌ نبويّة،
ومنها ما هو أحاديثُ في الحلال والحرام.
فما كان منها سنناً نبويّة؛ فليس لأحدٍ خيارٌ في الإعراض
عن شيءٍ منها، وعددها في تقدير يحيى بن سعيد؛ ألفٌ ومائتا سُنَّة.
وما كان منها في الحلال والحرام، وعددها ثمَانمِائَةِ
حديثٍ؛ فمن حقّ الناقد الخبير؛ أن ينظرَ فيها؛ لأنّ جميعها من أخبار الآحادِ
الظنيّة الثبوت.
وأمّا أحاديثُ الفَضَائِل والأدب والتسديد، وعددها أَلْفَانِ
وَأَرْبَعمِائَة حديثٍ، تقديراً؛ فمنهجُ جميعِ العلماءِ؛ التساهلُ في هذه
الأحاديث.
وقد كان هدفُ العلماء الأقدمين من ذاك التساهل؛
الحثُّ عن الخير، والتحذير من الشرّ، وتوقير السلف الصالح من خيار الصحابة والعلماء،
ولم يكونوا يفكّرون بأنّ الحشويّة ستتخذ من هذه الروايات عقائدَ، توالي عليها
وتعادي المسلمين!
فأمّا إذ غدا هذا شائعاً حتى بين أكثر الخاصّة – وهم جميعهم طائفيّون ومذهبيون متعصّبون - فأمسى لزاماً علينا أن نوضحَ بأنّ أكثر هذه الأحاديث لا يصحّ،
وفقَ مناهج النقّاد القدماء، وليس وفق منهجٍ اخترعناه نحن!
والله تعالى أعلم
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا
وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه
وسلّم تسليماً
والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق