الاثنين، 25 نوفمبر 2024

         التصوّف العليم:

الشيخ محمّد الكسنزان كما عَرفتُه (2).

بسم الله الرحمن الرحيم

خُطبةُ البحث

الحمد لله ربّ العالمين، الرحمنِ الرحيمِ، مالك يومِ الدين.

وأشهدُ أنْ لا إِلَهَ إلّا اللهُ، وحدَه لا شريكَ لهُ، شهادةَ موقنٍ به، متوكّل عليه، سبحانه وتعالى.

قالَ في كتابه الكريم:

- ]يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ منَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَدَعْ أَذَاهُمْ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ، وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً (48)[ [سورة الأحزاب].

- ]إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذيراً (8) لِتُؤْمِنوا باللهِ وَرَسولِهِ، وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ، وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)[ [سورة الفتح].

- ]لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)[ [سورة التوبة].

وأشهدُ أنّ محمّداً عَبدُاللهِ ورسولُه، وصفيُّه من عِباده وحبيبُه، القائلُ

صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ.

مَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ، آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ؛ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ) ([1]).

وقال صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم:

(إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشاً مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بني هاشمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ) ([2]).

وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم:

(قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) ([3])  

أمّا بعد: كان العربُ قبلَ الإسلامِ في جاهليّةٍ جهلاءَ، وفي عَصبيّةٍ شوهاءَ خَرقاءَ، وفي  احترابٍ وضَوضاء!

يَعبدُ كثيرٌ منهم الأصنامَ، ويُنكرون الحشرَ والنشرَ والقيامَ، ويقولون:

]إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيا، نَمُوتُ وَنَحْيا، وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ[.

سيماهُم الكِبْرُ، ومَلاذُهم الكِهانةُ والسِحْرُ، يمسون ويصبحون، وهم يتقلّبون في الضغائن والوِزْرِ!

بيدَ أنّهم من نَسْلِ نبيِّ اللهِ إسماعيلَ بنِ خليلِ الله إبراهيم عليهما الصلاة والسلام.

إبراهيم الذي دعا لذريّته قائلاً: ]رَبَّنا: وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، وَأَرِنا مَنَاسِكَنا، وَتُبْ عَلَيْنا؛ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا: وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ، يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ؛ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)[ [سورة البقرة] فاستجابَ له ربُّه تباركَ وتعالى بعدَ قرونٍ مِن عُمُر الزمان!

قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:

(أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ أخي عيسَى، وَرُؤْيا أُمِّي آمِنَةَ الَّتِي رَأَتْ) ([4])

استجابَ الله تعالى دعاءَ خليلِه إبراهيمَ، فبعثَ برسولِه محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالهدى ودينِ الحقّ، إلى بني إبراهيمَ، ثمّ إلى بني الإنسان كافّة!

]-هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)[ [سورة التوبة] و[سورة الصفّ: 9].

]-وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ، بَشِيراً وَنَذِيراً، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)[ [سورة سبأ].

]-إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)[ [سورة الأنبياء].

هذا عامٌّ شاملٌ لجميعِ المكلَّفين من الثقلين «الإنسِ والجنِّ»!

بيدَ أنّ ثمّةَ تخصيصاً صريحاً واضحاً، يَسيرُ مُوازياً هذا العمومَ الجليل!

قال الله تبارك وتعالى ممتنّاً على رسوله المصطفى، وموضحاً له ولآلِه  أوائلَ المخاطَبينَ بهذا الدين: ]اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ، سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ، بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)[ [سورة الأنعام].

]وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ؛ فَقُلْ: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)[ [سورة الشعراء].

] فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ؛ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ، وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)[ [سورة الزخرف].

جَهَر رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وآلِه وسلّم بدعوةِ الإسلامِ، فوقفَ في وجه دعوتِهِ أصحابُ النفوذِ والمالِ من قريشٍ، وعادَوْهُ، وآذوه ]وهمّوا بما لَمْ ينالوا[ مِن رَغبتهم بقتلِه، رُوحي له الفداءُ!

وصبرَ معه قومُه وعشيرتُه الأقربون «بنو هاشمٍ وبنو المُطّلب» مؤمنُهم ومَن تأخّر إيمانه برسالتِه يومئذٍ، وعانَوا معه زمانَ الحصارِ المقيتِ البَغيضِ، الذي فرضه عليه وعليهم مُشركو قريشٍ، الذين اخترعوا لأنفسهم فيما بعدُ مزايا وحقوقاً ومناقبَ وفضائلَ، نسبوها إليه صلّى الله عليه وآلِه وسلّم؛ ليكون لقريشٍ مشروعيّةٌ ظاهرةٌ لدى أتباعِه المؤمنين!

شكرَ الرحمنُ الرحيمُ لبني هاشمٍ نَجدتَهم، وكافأهم على نصرتهم لسيّدهم، رسولِه المصطفى، فخلّدَ ذِكْرَهم، ورفعَ فوق العالمين منزلتَهم، وفرضَ لهم على هذه الأمّةِ حقوقاً، أنكرَتْها، وحرَمَتْهُم منها!

قال الله تعالى:

- ]قُلْ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً، إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً؛ نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)[ [سورة الشورى].

- ]وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ؛ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ، وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)[ [سورة الأنفال].

- ]مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى؛ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ؛ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ.

وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ؛ فَخُذُوهُ، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ؛ فَانْتَهُوا، وَاتَّقُوا اللهَ، إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)[ [سورةُ الحشر].

إنّ المُنصفينَ من الفقهاءِ، غيرَ الخاضعين لأهواءِ الحكّامِ النواصبِ؛ فهموا من نصوصِ الكتابِ والسنّةِ أنّ «الصِّنْفَ الثَّالِثَ ممّن يُصرفُ إليهم سَهْمٌ مِنْ بَيْتِ مالِ المسلمينَ - عَلَى غِنَاهُمْ وَاسْتِظْهارِهِمْ - وَلاَ يُوقَفُ اسْتِحْقَاقُهُمْ عَلَى سَدِّ حَاجَةٍ، وَلاَ عَلَى اسْتِبقاءِ كِفَايَةٍ؛ هُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، فَهَؤُلاَءِ يَسْتَحِقُّونَ سَهْماً مِنْ خُمُسِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، منْ غَيْرِ اعْتِبَارِ حَاجَةٍ وَكِفَايَةٍ، عِنْدَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، رَحِمَهُ اللهُ.

وَقَدْ شَهِدَتْ بِصِحَّةِ مَذْهَبِهِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ، وَالنُّصُوصُ الصَّرِيحَةُ، وَسِيَرُ الْخُلفَاءِ، وَمَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ، قَبْلَ ظُهُورِ اخْتِلَافِ الْآرَاءِ» قاله الإمام الجوينيّ في غياثِه([5]).

وهذا هو الذي يعتقدُه علماءُ آل البيتِ، وافقَ مَنْ وافقَ، وخالفَ من خالف!

وقال ابن قيّم الجوزيّةِ الدمشقيُّ الحنبليُّ رحمه الله تعالى (ت: 751 هـ) في كتابه البديع «جلاءُ الأفهامِ»: «قال الله تعالى لنَبيِّهِ يُذَكّرُهُ بنِعمتِهِ عَلَيْهِ: ]وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ[.

قالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُما: يعني: «إِذا ذُكِرْتُ؛ ذُكِرْتَ مَعي،  فَيُقال: (لَا إِلَه إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) ([6]) عندَ الدخولِ في الْإِسلامِ، وَفِي الْأَذَانِ، وَفِي الخُطَبِ، وَفِي التَشهُّداتِ، وَغيرِ ذَلِك.

وَمِنْها: أَنّه سُبْحانَهُ جعلَ خلاصَ خَلْقِهِ مِن شقاءِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ؛ على أَيدي أهلِ هَذا البَيْتِ، فَلهُم على النَّاسِ مِن النِعَم؛ ما لَا يُمكنُ إِحصاؤُها، وَلَا جزاؤُها.

وَلَهُم المِنَنُ الجِسامُ فِي رِقابِ الْأَوَّلينَ والآخرينَ مِن أهلِ السَّعَادَةِ، ولهمُ الأيادي الْعِظَامُ، الَّتِي يجازيهِمْ اللهُ عزَّ وَجَلَّ عَلَيْها.

وَمِنْها: أَنَّ كلَّ نَفعٍ وَعمَلٍ صَالحٍ وَطَاعَةٍ للهِ تَعَالَى، حصَلتْ فِي الْعالمِ؛ فَلهم مِن الْأجرِ مِثلُ أجورِ عامِليها، فسبحانَ مَن يخْتَصُّ بفضْلِهِ مَن يَشاءُ مِن عِباده» ([7]).

وقال الشيخ أحمدُ ابن تيمية الكرديُّ الحرّانيُّ (ت: 728 هـ) في كتابه «اقتضاءُ الصراطِ المستقيم»: «إنّ الذي عليه أهلُ السنةِ والجماعةِ؛ اعتقادُ أنّ جِنسَ العَرَبِ أفضلُ من جنس العجمِ: عِبرانيّهِم، وسريانيّهِم، وروميّهِم، وفُرسيّهِم، وغيرهم.

وأنّ قُريشاً أفضلُ العَربِ، وأنّ بني هاشمٍ؛ أفضل قُريشٍ، وأنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أفضلُ بني هاشمٍ، فهو أفضلُ الخَلقِ نَفساً، وأفضلُهم نَسباً.

وليس فَضلُ العَربِ، ثمَّ قُريشٍ، ثم بَني هاشِمٍ، لمجرّدِ كونِ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلّم منهم، وإنْ كان هذا مِن الفَضلِ، بل هم في أنفسهِم أفضلُ، وبذلك يَثبتُ لرسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم؛ أنّه أفضلُ نَفساً ونَسباً».

إلى أنْ يقول: «ومِن الناسِ مَن قَد يُفضّل بعضَ أنواعِ العَجمِ على العربِ!

والغالبُ أنّ مِثلَ هذا الكلامِ؛ لا يَصدُر إلّا عَن نَوعِ نِفاقٍ: إمّا في الاعتقادِ، وإمّا في

العَملِ المُنْبَعثِ عن هَوى النَفْسِ، مع شُبهاتٍ اقتضَتْ ذلك»([8]).

كان شيخُنا «محمّدُ الكسنزان» رحمه الله تعالى؛ يؤمن إيماناً راسخاً بكلِّ ما تقدّم!

بيد أنّه كان يُنكرُ أن يكون لقريشٍ فضائلُ دينيّةٌ كَسبيّةٌ، وقد قال لي مرّةً: أنا لا أصدّق بأيِّ حديثٍ يُنسب إلى رسولِ اللهِ صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم، في فضائل قريش!

إذْ لم تؤذِ قبيلةٌ من العربِ الرسولَ، مثلما آذتْه قريشٌ، ولم يَقتُل من ذريّته قومٌ، كما قَتَلت قريشٌ، ولم يحرمهم حقوقهم، إلّا خلفاءُ قريش، وتبعتهم الأمّة الجاهلةُ على ذلك!

أليس الرسول صلوات ربي وسلامه عليه يقول: (اللهمُّ عليكَ بقُريشٍ، اللهمُّ عليكَ بقُريشٍ، اللهمُّ عليكَ بقُريشٍ) ([9]) أليس هذا صحيحاً عند المحدّثين؟

قلت: بلى هو حديث صحيح، سيّدي!

زارَه في تكيته المباركةِ مرّةً ثلاثةٌ من كِبارِ رجالِ الدولةِ البعثيين في العراقِ، وطرح واحدٌ منهم مسألةَ أنّ «العروبةَ هي قلبُ الإسلام» أو حاضنتُه - نسيتُ - فغضبَ حضرةُ الشيخ «محمّد» وقال لهم: «لا واللهِ لا أقبل بهذا، إذا لم يكن الانتسابُ إلى آلِ البيتِ وحدهم، فأكون كرديّاً أفضلُ -كردي يعني ألمانيّ - أليس الألمان خيراً من هؤلاء الأعراب الجفاة الغلاظ، الذين لا يحسنون شيئاً، ولا يعرفون كيف يسوسون رعاياهم، بغير القهر والدَم؟!

وهل آذى رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلّم وذرّيتَه من بعدِه، سوى العربِ وقومِه من قريشٍ الظالمة»؟ فسكتوا سكوتاً تامّاً، وغيّروا مجرى الحديث!

    عشتُ مع حضرةِ الشيخ «محمّد الكسنزان» رضي الله عنه، من دون انقطاعٍ، من شهر يونيه «حزيران» عام (1996) حتى منتصف شهر أغسطس «آب» (1998م) في التكية الكسنزانيّةِ في بغداد، ونَصبني عالمَ الطريقةِ ومفتيَها وخطيبَ مسجدِ التكيةِ، طيلةَ هذه المدّةِ المباركة.

وكان يستدعيني لمحاورةِ المعاندينِ، مثلما يستدعيني لمحاورةِ غير المسلمين، من الوافدين إلى تكيتنا في بغداد، وقال لي مرّاتٍ: «يا سيّد ليس لي ولا لك مِنّةٌ في شيءٍ من هذا الجُهد، هذا دينُ جدّك صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم، أنت تجاهد بعلمِك ولسانك، ونحن نجاهِد بإقامةِ الحجّةِ والبرهان العمليّ، على صدق هذا الدين».

والكلامُ تُجاهَ الشيخ رحمه الله تعالى ورضي عنه؛ ذو اتّجاهين: بينَ غالٍ وقالٍ!

وكنتُ أمنّي نفسي أن أكتبُ صفحاتٍ وجيزةً، توضحُ تجربتي مع حضرة الشيخ، بعيداً عن سفهِ السفهاءِ، الذين ينعتونه بنعوتٍ كاذبة مفتراةٍ، يستحيي العاقلُ من مجرّد ذِكْرها، أو سماعها، وسيأتي ذِكْرُ بعضها!

وبَعيداً عن الإطنابِ الذي ينفر منه طبعي، تُجاهَ أي مخلوقٍ ضعيفٍ، يأكلُ الطعام، ويتعرّض للأسقامِ، ويموتُ ويسجّى في نهايةِ أمره تحت الركام!

الشيخ «محمّد الكسنزان» في نظري: إنسانٌ ذكيٌّ لمّاحٌ فارس عاشقٌ حضرةَ الرسول وآلَ بيتِه، مُنافحٌ عنهم، ساعٍ في صلاحهم وسعادتهم الدنيوية والأخرويّة.

داعيةٌ بارعٌ بحالِه وأفعاله، أكثرَ بكثيرٍ من قالِه، مؤمنٌ عميق الإيمان، موقنٌ غاية اليقين، عارفٌ بمقاصدِ الدينِ وأهدافِ الشريعةِ ومكارمها، مُلتزمٌ بما يؤمن به أقصى التزام!

إداريٌّ من الطرازِ الرفيعِ، اقتصاديٌّ موفّق مسدّد، طموحٌ إلى نصرةِ طريقِ التصوّفِ الذي يعتقدُ أنّه دينُ الله تبارك وتعالى.

وأنا الفقير لن أكتبَ سيرةً لحضرة الشيخ محمّد الكسنزان، فقد كتب الأخُ الخليفةُ الدكتور «لؤيّ فتّوحي» للشيخِ سيرةً طيّبةً علميّةً مباركةً، ليس بوسعي؛ أن أضيفَ عليها إضافاتٍ صادقةً ذاتَ بالٍ!

إنّما ستكون كتابتي عن حضرته «ذكرياتٍ ومُذكِّراتٍ» ألخّص فيها تلخيصاً وجيزاً تجربتي الثريّةَ الغنيّةَ مع سماحته، رحمه الله تعالى، ورضي عنه وأرضاه، ونفعني بمحبّته والوفاءِ له ولذريّته ولطريقِ التصوّف الروحيِّ السامي.

والحمدُ لله على كلّ حال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل (2278) وأبو داود في كتاب السنّة مختصراً من حديث أبي هريرة، وأخرجه ابنُ ماجه والترمذيّ (3148، 3615) من حديث أبي سعيدٍ الخدريّ مرفوعاً، وقَالَ الترمذيّ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ» وهو مرويّ عن عددٍ من الصحابة.

([2]) أخرجه أحمد  ومسلمٌ (2276) والترمذيّ (3606) وقَالَ «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ».

([3]) أخرجه البخاريّ (3369) ومسلم (407).

([4]) الحديثُ مَرويٌّ عن عددٍ من الصحابة، عند أحمد في مسنده (17685) والطبراني في مسند الشاميين (1455) والبيهقيِّ في دلائل النبوة (1: 83) وأبي نعيم في حلية الأولياءِ (6: 89) والحاكم في المستدرك (3566) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

([5]) انظر الغياثي لإمام الحرمين (ص: 244 - 247).

([6]) لم يصحّ هذا القولُ من حديث ابن عبّاسٍ، ولا من حديث أبي سعيد الخدريّ، مرفوعاً، أو موقوفاً، وقد أورد تلك الرواياتِ ابنُ كثير في تفسيره (8: 430) والصوابُ أنّه مقطوعٌ من كلام مجاهد، وهذا الذي اعتمده الشافعيّ في مسنده (651) والخلّال في السنة (317) والآجريّ في الشريعة (953) وغيرهم.

([7]) اقتضاءُ الصراط المستقيم لابن تيمية (1: 420 - 422).

([8]) جلاءُ الأفهام في فضلِ الصلاة على محمّدٍ خير الأنام (ص: 311)

([9]) طرفٌ من حديثِ عبداللهِ بن مسعودٍ مرفوعاً؛ أخرجه البخاري في الصلاة (520) ومسلم في الجهاد والسير (1794)

الأحد، 24 نوفمبر 2024

التصوّف العليم:

الشيخ محمّد الكسنزان كما عَرفتُه (1).

بسم الله الرحمن الرحيم

بينَ يديِ البحثِ:

منذ مدّةٍ مديدةٍ؛ أحدّث نفسي بكتابةِ صفحاتٍ عن (الشيخ محمّد الكسنزان كما عَرفتُه) وفاءً بحقّه، وعرفاناً لفضله.

وما كان يمنعني من ذلك، إلّا أن يُظنَّ بأنني إنّما أكتب عنه لأنتقدَه، إذْ إنني أخالفُه في عددٍ من أصولِ منهاجِ التصوّف المعاصر وفروعِه.

ولا يخفى على القريبين من دوائر الصوفيّة؛ أنّ للشيخِ عندهم قداسةً خاصّةً، إنْ لم تبلغْ رتبةَ الرسولِ صلّى الله عليه وآلِه وسلّم؛ فهي دونها بدرجة أو درجتين وحسب، وأنا بعيدٌ عن مثلِ هذه المعتقداتِ غايةَ البعد!

وأنا الفقير ليس من أهدافي فيما أكتب؛ التنقيصُ من الرموز والهيئاتِ والشخصيّات، خلافاً لما يظنّه كثيرون!

إنّما أنا أحبّ الالتزام بالقيود الشرعيّة، وأكره الغلوّ والمبالغات، وأتجنّبها في نفسي ووالديَّ ومشايخي قاطبةً.

مثال ذلك: أنّ أتباعَ الشيخ محمّد الكسنزان يرونه وليّاً حقيقةً، ويرونه صالحاً حقيقةً، ويرونه غوثاً حقيقةً، ويرونه قطب الزمان وسلطان الأولياء حقيقةً!

وأنا الفقيرُ لا أعتقد بوجود مخلوقٍ مرتبته البدلُ، والمُعَصّب، والقطبُ، والغوثُ، وسلطان الأولياء، وخليفة الله!

إنني أرى الإمام عليّاً عليه السلام سيّد الأولياء والصالحين، بعد الأنبياء عليهم السلام، بيد أنّه ليس بدلاً، ومُعَصّباً، ولا قُطباً، ولا غوثاً، ولا هو سلطانُ الأولياء، ولا خَليفةُ اللهِ في الأرض، إذْ لم يقم لديّ دليلٌ يثبتُ وجود هذه المزاعم الصوفيّة!

فإذا كانت هذه رؤيتي للإمام عليٍّ عليه السلام، فكيف تكون رؤيتي لمشايخي من الصوفيّة؟

أقول: إنّ الإمامَ عليّاً عليه السلام وليٌّ من أولياء الله تعالى، وهو أعظم الصالحين كما قدّمتُ، من دون مثنويّة، إذ قامت الأدلّة الشرعية على أنه من أهل الجنّة هو وسائر أهل الكساء، أمّا غيرهم؛ فهو تحت مشيئةِ الله تعالى ورحمته.

فلا أقول: الحسن البصري، وداود الطائي ومعروف الكرخيّ والجنيد البغدادي والسريّ السقطي؛ إنهم أولياء، بل لا أجوّز هذا القولَ أصلاً، إنّما أقول:

الحسن البصريّ: أحسبه من أولياء الله تعالى.

معروف الكرخي من الأولياء، ولا أزكّيه على الله تعالى.

وجميع مشايخي الصوفيّةِ الكبار: الشيخ محمّد الحافظ التجاني، والشيخ محمّد الحامد، والشيخ محمد علي المراد، والشيخ عبدالحليم الجيلانيّ، والشيخ محمد الكسنزان، رحمهم الله تعالى؛ أحسبهم من الصالحين، ولا أزكيهم على الله تعالى.

لما تقدّم فإنّ كتابتي عن الشيخ (محمّد الكسنزان) ستكون ذكرياتٍ ومذكّراتٍ.

آمل أن يعينني الله تعالى على إتمامها، وأن يجعل فيها الفائدةَ للقرّاء الكرام، وتاريخاً أميناً صادقاً لسنواتٍ عشتها قريباً من حضرة الشيخ محمّد، رحمه الله تعالى.

والحمدُ لله على كلِّ حال. 

الجمعة، 25 أكتوبر 2024

 مَسائل من التفسير وعلوم القرآن:

 ما معنى (وَيْكَأَنّ) ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

سألني أحدهم قال: ما معنى كلمة (وَيْكَأَنّ) الواردة في سورة القصص؟!

أقول وبالله تعالى التوفيق:

لا يخفى على طلبةِ العلم أنّ الرسمَ القرآنيَّ هو فنّ (الإملاءِ) الذي كان سائداً في الحجاز، عند نزول القرآن الكريم، وهو في بعض جوانبه يختلف عن الرسمِ الإملائيّ المعاصر الذي تعلمناه.

ويحسن أن ننقلَ الآيةَ الكريمة كاملةً؛ ليتوضّح لنا المعنى أكثر.

قال الله تبارك وتعالى في سورة القصص، الآية (82): (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ: وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ.

لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا؛ لَخَسَفَ بِنَا، وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ).

الآيةُ واقعةٌ في سياقِ آياتٍ تتحدّث عن قارونَ وكنوزه ونكرانِه فضل الله تعالى عليه، وفي السياقِ أنّ أهلَ الدنيا تمنَّوا أن يكون لهم مثلَ ما لقارون من الكنوز والأموال.

فلما شاهدوا هلاكَه وهلاكَ كنوزه بالخسف؛ ندموا على ما تمنَّوا وقالوا: «وَيْ كأَنّ اللهَ يبسطُ الرزق» الآية.

قال في المفردات (ص: 888): «وَيْ» كلمةٌ تُذْكَرُ للتَّحَسُّر والتَّنَدُّم والتَّعَجُّب، تقول: وَيْ لعَبدِاللهِ: أتعجّب منه.

قال تعالى: (وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ، وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ  

أمّا إعرابُ «وَيْ»: اسمُ فعلٍ مضارعٍ، بمعنى أتوجّعُ وأتعجّبُ.

«كأنَّ»: حرفٌ مشبّه بالفعلِ، من أخواتِ «إنّ» الناصبة للاسم والرافعة للخبر.

«اللهَ» اسمُ الجلالةِ: اسمُ كأنّ منصوب، وعلامةُ نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.

وقد اختلف أهلُ العربيّةِ في معنى «ك» «كأنّ» على أقوال عديدة:

- فمنهم من قال: هي للتشبيه.

- ومنهم من قال: هي للتقريب.

- ومنهم من قال: هي مثل «لام» التعليل، وهي بمثابة «لأنّ».

- ومنهم من قال: هي للشكّ والتخمينِ والظنّ.

و- منهم من قال: أصل «وي = وَيْكَ» والكاف للخطاب، فيستقلّ حرف «أنّ» للتوكيد، فيصبح التقدير «ويكَ.. إنّ الله يبسط الرزق»    

قال الفقير عداب: مهما كان الأقربُ إلى الصوابِ في تفسير «ك» «كأنّ» فالقرآن الكريم يحكي قولَ أناسٍ قالوها، ولم يكونوا قبلَ قولهم إيّاها ممدوحين ولا مستقيمين!

والأقربُ أنّ «ك» كأنّ في هذا الموضع تفيد التعجّب، فيكون المعنى: نعجبُ لحكمة الله تعالى في تفاوتِ الناس في الرزق، وعدم شكر المنعَم عليهم للمنعِمِ، ونعجب لعدم صلاح الكافرين، الذي منع من فلاحهم.

والله تعالى أعلم.

والحمد لله على كلّ حال. 

الاثنين، 21 أكتوبر 2024

       التصوّف العليم:

مَنْ هُم الصوفيّة؟

نقل أبو بكرٍ الكلاباذيّ في كتابه «التعرّف إلى مَذهبِ أهل التصوّف» عن «ذُو النُّون» المِصريّ الزاهدِ أنّ أحدَ أهل الشامِ أنشده في وصف عبادِ الرحمن الأبيات الآتية:

قومٌ همومُهمُ بِاللَّهِ قَد عَلِقَت

فَما لَهُمْ هِممٌ تَسمو إِلَى أحدِ

فمَطلبُ الْقَوْم؛ مَوْلَاهُم وسيدُهُمْ

يا حُسنَ مَطلبِهم للْوَاحِدِ الصَّمدِ

مَا إِن تُنارعُهم دنيا وَلا شُرُفٌ

مِن المطاعِمِ وَاللّذّاتِ وَالْوَلَدِ

وَلا لِلُبس ثِيَابٍ فائقٍ أنِقٍ

وَلا لرَوْحِ سُرورٍ حلَّ فِي بَلَدِ

إِلَّا مُسارَعةً فِي إِثْرِ مَنزلَةٍ

قَد قَاربَ الخطوَ فِيها باعِدُ الأبَدِ

فهُم رَهائنُ غُدْرانٍ وأوديَةٍ

وَفي الشَوامِخِ تَلقاهُم مَعَ العَدَدِ) انتهى.

قال الفقير عداب:

قال الله تبارك وتعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيراً. وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا).

وقال جلّ وعزّ في وصف أولي الألباب من عباده:

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ.

الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ:

رَبَّنَا: مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

رَبَّنَا: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ.

رَبَّنَا: إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا.

رَبَّنَا: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ.

رَبَّنَا: وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ).

ولا يخفى على أحدٍ أنْ ليس فينا من يحقّقُ مرادَ الله تعالى في التخلّي عن العوائقِ والعوالقِ؛ إلّا نزرٌ يسيرٌ من الناس!

إنّهم الصوفيّةُ الملتزمون بمنهاج التصوّف العليم: (علم وعمل وحالٌ وحبّ) بعيداً عن الشطحِ والنطحِ والقَدحِ والمدح!

جعلنا الله وإياكم من هؤلاء الصوفيةِ الأخيار، أتباع سيّد المتّقين الأبرار، محمد بن عبدالله وآله الطيّبين الأخيار.

والحمد لله على كلِّ حال.  

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مع العَدَد: الأيام والشهور الكثيرة، منقطعين عن الناس، إلى الله تعالى.

الأربعاء، 16 أكتوبر 2024

  مسائلُ فكريّةٌ:

لماذا لا تَكتبُ عن الإباضيّة !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

عَقب ردِّ لجنة المناقشةِ الأنباريّة أطروحتي للدكتوراه في جامعة بغداد؛ أشاع بعض العراقيين النواصبِ - وما أكثرهم في العراق - أنني تشيّعتُ!

- وأنني أطعن في الصحابةِ، ويقصدون معاوية وحزبَه الفئةَ الباغيةَ، وهو عندهم مقدّسٌ، مثلَ عجل بني إسرائيل!

- وأنني أطعن بأمّ المؤمنين عائشة - غفر الله لها - واستغلّوا كلمة (باغية) فجعلوهاً (بغيّاً) عامدين، عاملهم الله تعالى بعدله، وقد فعل!

وأنني أطعن في الصحيحين، الذين لا يعرفون عنهما شيئاً يومئذٍ، وقد اعترف الدكتور حارث الضاري بأنه لم يقرأ صحيح البخاري ولا صحيح مسلم!

صارت سمعتي في العراق أسودَ من «السخامِ» بالباطل، وقد ظللت أدعو على هؤلاء العراقيين أكثر من سنتين، حتى إذا كنت في سجودِ قيامِ إحدى الليالي؛ قرعَ سمعي بعنفٍ قول الله تعالى:

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ).

ثمّ جاءني واردٌ قلبيّ يقول: «ادع بهذا الدعاء: اللهم أحسن إلى مَن أحسن إليّ، وسامحني وسامح من أساء إليّ من المسلمين».

فاتّخذت هذا الدعاء وِرداً لي أدعو به في كلّ صلاةِ فريضةٍ أو نافلةٍ، منذ ذلك اليوم!

في عام (2002م) غادرتُ العراق، باحثاً عن عملٍ، بعدما أيقنتُ أنْ لا عملَ لي في العراقِ بتاتاً!

وحين كتبتُ إلى الرئيس صدّام حسين: «أنني انتظرت سنواتٍ لتضعني في الموقع المناسبِ، لكنني لم يصلني منك أيّ جوابٍ بهذا الخصوص، لذا أستأذنك في مغادرة العراق، بحثاً عن عمل».

وخشيةَ أن يظنَّ بي سوءاً؛ كتبتُ إليه: «وقد تركت أولادي تحتَ رعايتك، وفي ظلّ حمايتكَ، فهم هاهنا آمنون» وتركتهم فعلاً، وغادرتُ إلى الأردن!

وكان مِن عاقبةِ هذا التصرّف المَخوف؛ أنني لم أر بناتي منذ عام (2002) حتى هذا اليوم!

في الأردنّ الهاشميّ، الذي يرتع فيه النواصب؛ قَبلتُ أن أعملَ في مدرسةٍ ابتدائيّة معلمّاً للغة العربية والدين، بيد أنّ المخابرات الأردنيّة (السامية) رفضت مزاولتي أيَّ عملٍ في الأردنّ، حتى أتعاونَ معهم، ورفضت ذلك بالتأكيد!

بقيتُ في الأردنّ منذ العام (2002) حتى العام (2014م) ولم يُسمح لي بالعمل بتاتاً!

راسلت كثيراً من الجامعاتِ العربية والإسلاميةِ، من دون جدوى، لأنّ الحقدَ السنّي الطائفيّ على رائحةِ التشيّع؛ أشدُّ بكثيرٍ من الحقد السنيّ على الكفّار الأصليين!

يُضاف إلى هذا حقدُ الإخوان المسلمين الحزبيّ، الذي يزلزل الجبال السوداء!

في عام (2003) كتبتُ إلى سماحةِ الشيخ أحمد بن حمد الخليليّ كتاباً، أوضحت له فيه حاجتي الماسّة إلى العمل - وليس إلى مساعدة! - فعمل شهوراً طوالاً، حتى حصل لي على إذنٍ بالعملِ في (سلطنة عُمان) في المعهد الشرعيّ، الذي يشرف هو عليه مباشرة!

عَملتُ في المعهد الدينيّ من اليومِ الأوّلِ لافتتاح الدراسةِ، إلى نهايةِ الفصل الأوّل، يعني أكثرَ من أربعة شهورٍ!

فكنتُ أقترض مصروفي الشخصيّ ومصروفَ أسرتين إحداهما في بغداد، والأخرى في عمّان الأردنّ، من خارجِ (سلطنة عمان) وأنا أنتظر مرتّبات أربعة شهورٍ أو خمسة، من دون فائدة!

تقدمت باستقالتي إلى إدارةِ المعهدِ، فغضبت الإدارةُ منّي، لكنني أصررت على الاستقالة، لاعتقادي أنّني سأتعب معهم كثيراً، وأنا أستحيي جدّاً من الخصومة الماليّة!

بعدَ التفاهمِ على إنهاء عقدي؛ وقّعوني على وثيقةٍ بأنهم هم أنهوا عقدي، مستغنين عن خدماتي زوراً وكذباً، ورفضوا إعطائي استحقاقاتي الماليّة، وقالوا لي: أعطنا عنوانك وحسابك، ونحن نودع فيه استحقاقاتك المالية، عندما تُقَرّ ميزانيّة المعهد، أو كلاماً كهذا.

عندها لجأتُ إلى سماحةِ شيخي الجليلِ، فشكوتهم إليه، فتدخّل حتى صرفوا إليّ مرتّباتي الأصليّة، بعدما ألزموني بالتنازل عن أجور الساعات الإضافيّة التي تقربُ من المرتّبات الأصليّة ذاتها، فلا سامح الله إدارةَ المعهد على هذا الفعل الشائن!

وحسب معتقداتِ الإباضيّة؛ أكلُ أموال الناس بالباطل من الكبائر التي تودي بصاحبها إلى الخلودِ في النار، فأزفّ إلى مدير المعهد هذه البشرى؛ لأنني لن أسامحهم أبداً!

كانت حياتي في (سلطنة عُمان) جميلةً جدّاً، تتناسب مع طبيعتي الصوفيّة، ورغبتي الأكيدةِ في اقتناص الحسناتِ، ومباعدةِ السيئات!

وعندما وصلتُ إلى عمّان الأردنّ؛ سألوني عن حياتي في سلطنة عمان؛ فقلت لهم: «أظنني لم أرتكب في مَسقط سيئةً واحدةً، ولو أنني متُّ هناك؛ فسأكون من أهل الجنّة يقيناً، بفضل الله تعالى ورحمته».

قرأت في مسقط عشراتِ المجلّدات عن الفكر الإباضيّ، والعقيدة الإباضيّة، وأصول الفقه والفقه، وقرأت عدداً من كتب شيخي المفتي أحمد الخليليّ حفظه الله تعالى، واستمعتُ بحياةٍ هادئةٍ صالحةٍ، لم أتناول فيها دواءً للسكّريّ، ولا لغير السكريّ أبداً!

من أجل ذلك كلّه؛ تجنّبتُ نشرَ شيءٍ مما كتبتُ عن (الإباضيّةِ) وفاءً وعرفاناً.

منذ العام (1999) كتبتُ بحثاً مطوّلاً عن الإباضيّة ومسند الربيعِ، أعطيت نسخاً منه لبعضِ طلابي العُمانيين الأحبّة، لكنني لم أنشره حتى هذا اليوم؛ لئلّا أُدخلَ الحزنَ عن قلبِ شيخي الفاضلِ المفتي «أحمد الخليلي» الرجل الصالح الشجاع، صاحب المواقف النبيلة تجاه قضايا الأمّة الكبرى، ولئلّا يتبادر إلى قلبه الطيّب أنني ممن ينكر الجميل!

ربما لا يَفهم كثيرون موقففي هذا، وكثيرون سيرونه خطأً، لكنني مقتنع قناعةً تامّةً أنْ لا ضرورةَ إلى نشر ما كتبته عن «الإباضيّة» وعن «مسند الربيع» وسينشره أولادي بعد وفاتي بكلّ تأكيد!

والله تعالى أعلم.

والحمدُ لله على كلّ حال.

الثلاثاء، 15 أكتوبر 2024

   مسائلُ فكريّةٌ:

احترامُ رأيِ المخالفِ!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

قال لي صديقي: (إلى أيِّ مدىً يجوزُ احترامُ رأيِ المحاورِ المخالفِ؟

ولو صحّ ما تكتبونه دائماً: لا بدّ من احترام الرأي المخالفِ؛ فلماذا لم يحترم الصحابةُ آراءَ بعضهم بعضاً، وذهبوا بأجمعهم إلى قتالِ ما نعي الزكاة، حتى عدّوهم مرتدّين، أو على الأقلّ: أباحوا دماءَهم، وقتلوهم، وسبوا نساءهم، ولم يحترموا اجتهادهم؟

هل الدين الحاضر غير الدين الماضي)؟

أقول وبالله التوفيق: لم يرد في القرآن الكريم، ولا في الروايات الحديثيّة ألفاظ (محترم - احترام) ولم تكن هذه الكلماتُ متداولَةً قديماً لدى العرب.

وقد اشتقّ لفظ (الاحترام) من الحُرْمةِ: التي تعني التقدير والتوقير.

قال الله تعالى: (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) ولم يقلْ: (وتحترموه).

والاختلافُ في الأهواء «المذاهب والاتّجاهات» سنّةٌ من سنن الله تعالى في المكلّفين من الإنس والجنّ!

قال الله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ).

وفي سورة الجنّ (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15).

والذي يتبيّن لي من فهمي لهذا الدينِ العزيزِ العظيم؛ أنّ الاختلافَ يكون بين مسلمٍ ومشرك، وبين مسلمٍ ووثنيّ، وبين مسلمٍ وملحِدٍ، وبين مسلمٍ ومسلم:

والاختلاف بين المسلمين؛ على أنواعٍ أيضاً!

فقد يكون الاختلافُ بين سنيٍّ وشيعيّ اثني عشريّ.

وقد يكون بين سنيّ وشيعيٍّ زيديٍّ.

وقد يكون بين سنيٍّ وإسماعيليّ.

وقد يكون بين سنيٍّ وما انفصل عن مذاهب الشيعة هذه كالبابيّة والبهائيّة والقاديانية والبُهرةِ، وغيرهنّ من فروع المذاهب الشيعيّة.

وقد يكون الاختلاف بين سنيٍّ وشيعيٍّ حُرٍّ غير منتمٍ لأيّ مذهبٍ من مذاهب الشيعةِ المتقدّم ذكرُها (من أمثال الفقير عداب) وجمهورِ تلامذته.

وقد يكون الاختلاف بين سنيٍّ وإباضيّ.

وقد يكون الاختلافُ بين سنيٍّ وسنيٍّ:

اختلافٌ بين أشعريٍّ وماتريديٍّ.

اختلافٌ بين أشعريٍ مثبتٍ، وأشعريٍّ مفوّضٍ، وأشعريّ مؤوّل!

اختلافٌ بين أشعريٍّ ومعتزليّ!

اختلافٌ بين ماتريديٍّ ومعتزليّ.

اختلاف بين أشعريٍّ وحنبليٍّ.

اختلافٌ بين حنبليٍّ وتيميٍّ!

اختلافٌ بين تيميٍّ ووهّابي!

اختلافٌ بين سلفيٍّ وصوفيّ!

اختلافٌ بين إخوانيٍّ وتحريريّ.

اختلافٌ بين وهّابي وسروريّ.

وقد أدخلَتْ بعضُ فرق المسلمين الاختلافَ في المعتقداتِ أو في الفروعِ؛ إلى ساحة (الولاءِ والبراء) وأهل السنّةِ يعدّونَ كلَّ مخالفٍ لهم مبتدعاً، ويتفاوتون في درجة (البراءة) منه اختلافاً كبيراً.

والفقيرُ عدابٌ لا يرى في المسلمين اليومَ (مجتهداً) وجميعهم مقلّدةُ المذهبِ السائد في مواطنهم، عقيدةً وفروعاً، وبعضهم أقربُ إلى الترجيح من بعضٍ، وبعضهم أفحشُ في التعصّب والتقليد من بعضٍ!

لأجل ذلك فهو يمنح (الولاء) لكلّ أبناءِ أمّةِ الإسلام:

إذا كانوا يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسلِه واليوم الآخر.

وكانوا يدينون اللهَ تعالى بوجوب الطهارةِ والصلاة والزكاة والصيام والحجّ.

ويرون وجوبَ الأمر بالمعروفِ والنهيَ عن المنكر، ويرون وجوبَ جهادِ الصائل الأجنبيّ على ديار الإسلام.

ولا يُنكرونَ معلوماً من الدين بالضرورة قولاً أو فعلاً.

فمن كان من المسلمين كذلك؛ فهو أخي ووليّي، سنيّاً كان أم شيعيّاً أم إباضيّاً، حتى لو كانَ هو يفتي بكفري أو بقتلي!

أمّا مَقولةُ (مَن كفّرنا؛ كفّرناه، ومَن فسّقنا؛ فسقناه) فمقولةٌ مرفوضةٌ عند الفقير عداب تماماً!

وأمّا فِقرةُ هذه المقولةِ الأخيرةِ (ومَن قاتلنا؛ قاتلناه) فهي مقولة صحيحةٌ؛ لقيامِ الأدلة الوافرة على مشروعيةِ حفظِ النفس المسلمة، ودفع الصائل.

أمّا ما جرى من القتال والقتلِ بين الصحابةِ - رضي الله عن أهلِ الحقّ منهم - فغدوتُ أميلُ إلى تجاوزِ هذه المسألةِ الشاذّة القبيحة جدّاً؛ لأنّ الأمّةَ درجتْ على تقديسِ الصحابةِ وتعظيمهم، بل غدا هذا التقديس معيارَ السنيِّ من البدعيِّ.

بيد أنّني أقول كلاماً وجيزاً: لا يختلفُ المسلمون سنّةً وشيعةً وخوارجَ؛ أنّ الإمامَ عليّاً كان على الحقِّ في حربِ الجملِ وصفّين.

وكان مقاتلوه أجمعونَ مخطئين، بغاةً عليه، ظالمين له، بهذا الخروجِ الدامي.

واتّفق السنة والشيعةُ على أنّه كان على الحقِّ في قتاله الخارجين عن سلطانه من أهل النهروان.

أمّا ما وراءَ ذلك من الحُكمِ على مخالفيه بالكفر أو الفسق؛ فلا نخوضُ فيه، مراعاةً لعقولِ العامّةِ، التي تظنّ الصحابة كالملائكةِ، وربما أعلى رتبةً من الملائكة، وهم لم يكونوا كذلك على أيّ حال.

بقيت مسألة احترامِ رأيِ المخالفِ؛ وللفقير عداب فيها كلامٌ يسير واضح:

الفقيرُ عدابٌ يفرّق بين المخالفِ المسلم، والمخالفِ الكافر!

فلا احترامَ عندي للكافرِ المخالفِ، ولا لرأيِه، إنّما المطلوب مني أن أعدلَ معه، وأن أنصفه، وأن أجتنب إثارته كي لا يتجاوز على مقدّساتي المشروعة!

إذ كيف أحترمُ الشركَ بالله تعالى أو الكفرَ به، أو كيف أحترم شرب الخمرةِ والربا والزنا، وسائر المناهي في دين الإسلام؟

-أمّا المخالفُ المسلمُ، الذي تحقّق بالصفاتِ السابقةِ، فأحترمه هو، وأقدّره هو، أمّا رأيه المخالفُ ؛ فله حالان:

الحالُ الأولى: أن يكون رأيُه ممّا يسوغُ فيه الاجتهاد عندي، وفي هذه الحال أحترمُه وأحترمُ اجتهادَه.

مثال ذلك: جَهْرُ الإمامِ بالبسملةِ في صلاةِ الجماعةِ!

فأنا أذهبُ إلى الجهرِ بالبسملةِ للإمامِ والمنفرد، في الصلواتِ الجهريّة الثلاثِ!

لكنني أحترمُ الذي يُسرّ بالبسملةِ، وأحترم رأيَه؛ لورود الأدلّةِ المحتملة لديه في ذلك.

والحال الثانية: أن يكون رأيُه مما لا يسوغ فيه الاجتهاد عندي، ففي هذه الحال؛ أحترمُه هو - بمعنى أوقّره وأكرمه وأبتعد عن تنقيصه - إنّما لا أحترم رأيَه، بل أحتقر ذاك الرأيَ الباطل!

مثال ذلك: القولُ بتحريف القرآن الكريم:

نفيتُ في منشورٍ سابقٍ؛ أن يكون القولُ بتحريفِ القرآن الكريم؛ مذهباً للشيعةِ الإماميّةِ، وأنّ المعتمد في المذهبِ عندهم؛ هو أنّ القرآن الكريمَ كلامُ الله تعالى، المجموع في المصحفِ الشريفِ، المتداول بين المسلمين اليوم.

لكنْ لو وُجدَ بعدَ ذلك مَن يقول بنوعٍ ما من أنواعِ ما يسمّى تحريفاً للقرآن الكريم؛ فأنا أحترمُه هو بصفته مسلماً لديه شبهاتُه، بل وأدلّته أحياناً، لكنني لا أحترم القول بتحريف القرآن الكريم بتاتاً.

ثبتَ في الصحيحين وغيرهما من دواوينِ الإسلام؛ أنّ الصحابيّ الفقيه عبدالله بن مسعودٍ كان يُنكرُ أنّ سورة (قل أعوذ بربّ الفلق) وسورةَ (قل أعوذُ بربّ الناسِ) ليستا من القرآن الكريم، وقد خطّأه الصحابةُ بذلك، ولم يلتفتوا إلى خلافِه باحترام!

بيدَ أنهم لم يكفّروه ولم يفسّقوه ولم يضلّلوه!

وفي كتب أهل السنّة المعتمدة عَنْ زِرٍّ قَالَ: قَالَ لِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: كَأَيِّنْ تَعُدُّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ؟ قُلْتُ لَهُ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ آيَةً!

فَقَالَ: قَطُّ! لَقَدْ رَأَيْتُهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَادِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَلَقَدْ قَرَأْنَا فِيهَا: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللهِ، واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

ولم يلتفتْ أحدٌ إلى قولِ أبيِّ بن كعبٍ سيّدِ القرّاء، وعدّوا سورةَ الأحزابِ ثلاثاً وسبعين آيةً فحسب، بيدَ أنهم لم يكفّروه ولم يفسّقوه ولم يضلّلوه!

فابنُ مسعودٍ وأبيٌّ محترمان موقّران عند المسلمين، أمّا قولُهما هذا؛ فباطلٌ غير محترم!

والفقير عدابٌ يعُدُّ القولَ بنسخِ التلاوةِ تحريفاً، ويعدُّ القولَ بالنسخِ كلّه تحريفاً للقرآن الكريم!

فأنا أحترم العلماءَ المتقدّمين والمتأخّرين القائلين بالنسخِ؛ لأنهم مسلمون لهم شبهاتُهم.

بيد أنني لا أحترم القولَ بوجود منسوخٍ في القرآن الكريم البتّةّ، وأراه تحريفاً للقرآن الكريم.

والله تعالى أعلم.

والحمدُ لله على كلّ حال.

الأربعاء، 2 أكتوبر 2024

  مَسائِلُ مِن الفِقْهِ والأُصولِ:

هلْ سبُّ اللهِ طلاق؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

وصلَ إليّ السؤال الآتي:

(إذا سبّ أحدُ الزوجينِ (الله) تعالى، أو الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، أو أحدَ الأنبياءِ، أو سبّ الدين، كأن يقول: (يلعَن دينه) أو يقول: (دينك صرماية) أو أيَّ لفظةٍ أخرى يراد منها (تحقيرُ الدين) هل يُعدّ طلاقاً)؟ وشكرا لكم.

أقول وبالله التوفيق:

لا يختلف علماءُ الإسلامِ المتقدّمون؛ أنّ سبّ (اللهِ) تعالى، من أشدّ أنواع الكفر، وبعده في المرتبة سبّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

فمن سبّ الله تعالى، بلعنٍ، أو بتنقيصٍ، أو بشتمٍ، أو سبَّ الرسولَ، بلعنٍ أو بتنقيصٍ أو بشتمٍ؛ فقد ارتدّ عن الإسلام؟

وقد اختلفُ العلماء في آثار هذا السبُّ على الزوجيّة:

(1) فالذين قالوا: من سبّ الله تعالى، أو الرسولَ صلى الله عليه وآله وسلّم؛ يُقتَلُ فوراً من دون استتابة، فتكون زوجته بائنةٍ منه، ولا توارثَ بينهما.

والحكم ذاته، لو أنّ المرأة هي من سبّ الله تعالى، أو الرسولَ صلى الله عليه وآله وسلّم.

(2) والذين قالوا: يُستتابُ الزوج أو الزوجة المرتدّ بلفظة الكفر؛ قالوا: بعد تلفظ أحد الزوجين بالكفر؛ لا يحلّ لأحدهما من الآخر؛ ما كان يحلّ له في أثناء قيام الحياة الزوجية بينهما، ويفرّق بينهما من دون احتسابِ تلفّظه بالكفر طلاقاً، إنّما هو فرقة.

فإن تاب وجدّد إسلامَه؛ يمكنه مراجعةِ زوجته، ولا تحنسب عليه طلقةً.

وإنْ لم يتب بعد تلفّظه بالكفر حتى انتهت العدّة؛ فيمكنه أن يخطب زوجته السابقة، ويتزوّجها شأنه شأنُ أحد الخاطبين، ولا يحقّ له إجبارُها على الرجعة إليه، بدعوى أنّها زوجته.

أمّا من سبّ (الدينَ) فليس حكمه واحداً:

فمن سبّ (دينَ الإسلام) بهذا القيدِ؛ فقد ارتدّ عن الإسلام، وحكمه هو ما تقدّم!

ومن سبّ (صلاةَ المسلمين) أو أيّ فريضةٍ من فرائضِ الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة؛ فقد ارتدّ عن الإسلام، وحكمه هو ما تقدّم!

ومَن قال (ألعن دينك، أو شريعتك، أو مذهبك، أو ملّتك) فقد ارتدّ عن الإسلام، وحكمه هو ما تقدّم.

إلّا إنْ كان من أهلِ العلم، فيوقَفُ ويُحَلّفُ أنّه لم يُرد في قوله واحدةً من تلك الكلمات الإسلام، وإنما أرادَ من(دينها) تعاملها السيّء معه، وأراد من (شريعتها) ما تتبناه من آراء باطلة، وكذلك بقية الكلمات المماثلة.

فإنْ حلفَ أنّه لم يقصد الكفرَ أبداً، ولا تحقير أو تصغير (الدين الإسلاميّ) فتبقى زوجته على حالِها ظاهراً، أمّا في الباطن؛ فبينه وبين الله تعالى.

والله تعالى أعلم

والحمد لله على كلّ حال.

الخميس، 26 سبتمبر 2024

مسائل من الفقه والأصول:
أبو حنيفة يبيح زنا المحارم؟!
سألني سائلٌ قال: هل صحيح أنّ أبا حنيفةَ يُبيح نكاح المحارم، وإذا زنى أحدهم بمحرمه أمّا أو أختاً أو بنتاً؛ لا يُقامُ عليه الحدّ؟
أقول وبالله التوفيق:
أوّلاً: استمعتُ إلى أحدِ خطباءِ الرافضة منذ برهةٍ يقول: (أنا لا أعترف بالمذاهب كلّها، سوى مذهب الإمام جعفر الصادق عليه السلام، تَدْزون ليش؟ لأنّ أبا حنيفة يبيح زنا المحارم!
فقلت في نفسي: ابتُلينا بالإماميّة الاثني عشريّة، مثلما ابتلينا بالحنابلة، الذين يسمون أنفسهم اليوم بالسلفية!
الجعفريّة يقولون: مذهبنا مذهب الأئمة المعصومين من آل البيت، ولا يجوز الخروج عن مذهبهم بحال؛ لأنّ الله تعالى على لسان رسوله، جعلهم قُرناءَ القرآن الكريم.
والسلفيّة يقولون: مذهبنا الكتاب والسنّة بفهم سلف الأمّة!
والحقيقة أنّ مذهبهم هو فتاوى المعاصرين من شيوخهم (ابن باز - وابن عثيمين - والفوزان) وضربائهم.
وسواء اعترف هذا الرافضي بمذاهب أهل السنّة أم لم يعترف؛ فهو من ؟!
إذ الواقع يقول: إنّ ملياراً ونصفَ مليار مسلم، يدينون الله تعالى بمذاهب أهل السنة، منهم مليار مسلمٍ - في الحدّ الأدنى - هم أتباع الإمام أبي حنيفة!
ثانياً: أمّا قوله الذي نقله إليّ السائلُ، وسمعت أنا مثلَه: (إنّ أبا حنيفة يبيح زنا المحارم) فنبرأ إلى الله تعالى من أيّ إنسانٍ يفتي بهذه الفتوى، أو يذهب هذا المذهب الكفريّ!
أجل هو مذهب كفريّ؛ لأنّ الله تعالى يقول:
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ.
وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ، وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ. وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ.
وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ؛ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيماً).
فأيّ إنسانٍ أفتى بجواز نكاح واحدةٍ من هذه المحارم؛ فهو كافرٌ كفراً ناقلاً عن ملّة الإسلام!
فكيف يفتي أبو حنيفةَ بزنا المحارم؟
نعوذ بالله من الهوى الطائفيّ والمذهبيّ، الذي يعمي بصيرة المقلّد، فلا يعود يعقل!
ثالثاً: ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعن عمر وعائشة رضي الله عنهما أنهم قالوا ما معناه: (ادرؤوا الحدود بالشبهات) والمرفوع ضعيف لا يحتج به!
فإذا عقدَ رجل على إحدى محارمه عقداً شهدَ عليه شاهدان؛ فهذا العقدُ يحول دون إقامةِ حدِّ الزنا عن العاقدَيْن كليهما، بسبب شبهة العقد.
قسم الحنفية الشبهاتِ إلى ثلاثة أنواع: (شبهةُ في الفعل، وشبهة في المحلِّ، وشبهةٌ في العقد).
قال الحنفيّة: (يَثْبُتُ دَرْء الحدِّ بِشُبهَةِ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ.
وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي (نِكَاحِ الْمَحَارِمِ) النَّسَبِيَّةِ، أَوْ بِالرَّضَاعِ، أَوْ بِالْمُصَاهَرَةِ؟!
فَإِذَا وَطِئَ الشَّخْصُ إِحدَى مَحَارِمِهِ بَعدَ أَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا؛ فَلاَ حَدَّ عَلَيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ! وَلَكِنْ يَجِبُ الْمَهْرُ، وَيُعَاقَبُ عُقُوبَةً هِيَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّعْزِيرِ سِيَاسَةً، لاَ حَدًّا، إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بالتحريم؛ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ وَلاَ تَعْزِيرَ.
فَوُجُودُ الْعَقْدِ؛ يَنْفِي الْحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، حَلاَلاً كَانَ الْعَقْدُ أَوْ حَرَامًا، مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ، عَلِمَ الْوَاطِئُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ) الموسوعة الفقهية الكويتية.
رابعاً: لا ريبَ عندي في أنّ هذه المسألةَ من أشنعِ المسائلِ الفقهيّة، المنقولةِ عن أبي حنيفة، رحمه الله تعالى.
بيدَ أنّ أبا حنيفة يقول: بحرمة نكاح المحارم قطعاً، كغيره من فقهاء الإسلام.
وأبو حنيفةَ يحرّم وَطء الرجل إحدى محارمه بعقدٍ أم بدون عقدٍ، وحاشاه أن يفتي بجواز نكاح المحارم بعقد، فضلا عن إباحةِ الزنا بهن، والعياذ بالله تعالى.
بل إن أبا حنيفة يقول: إذا كان المسلم الذي نكح إحدى محارمه عالماً بالتحريم؛ (يُعَاقَبُ عُقُوبَةً، هِيَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّعزِيرِ، سِيَاسَةً، لا حدّاً).
فالقولُ بأنّ أبا حنيفة يجيز زنا المحارم، أو حتى نكاح المحارم؛ كذب وافتراءٌ عليه وعلى الحنفية، رحمهم الله تعالى.
خِتاماً: مسألة (العقد) عند أبي حنيفة مسألة معقّدة جدّاً، ولها مصاديق كثيرةٌ صحيحة عند الحنفيّة؛ باطلة عند غيرهم من علماء الإسلام، وأئمة المسلمين، من مثل:
جواز أن يبيع صاحبُ الكرم عِنبَه لمن يعلم أنّه سيجعله خمراً.
جواز أن يؤجّر الإنسان منزله ليجعله المستأجرُ بيت نارٍ، أو كنيسةً، أو دار بغاء!
وأمثال هذه المسائل المستشنعةِ، التي نبرأ إلى الله تعالى من الفتوى بها، أو استحلال العمل بها.
بيد أنّ على المسلم، شيعيّاً كان، أم سنيّاً، أم إباضيّاً، أم غير مذهبيٍّ؛ أن يكون صادقاً أميناً فيما ينقله عن مذهبه وغير مذهبه، وإلّا كان كذّاباً ساقطَ العدالةِ عند المسلمين.
والله تعالى أعلم.
والحمد لله على كلّ حال.

الخميس، 19 سبتمبر 2024

  اجتماعيات:

قصيدةُ المولد النبويّ الشريف!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) [التوبة].

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ: إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ؛ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) [الأنبياء].

بمناسة عيدِ المولدِ النبويّ لعام (1446) الموافق (20/ 9/ 2024) جاشتْ هاته المعاني بخاطري، فنطق بها لساني شعراً، قال:

(1) رسولَ اللهِ حارَ بي المآلُ

وزاد الخوفُ، وارْتَجفَ المقالُ

(2) وما عُمري - وطاعاتي نُزورٌ -

سينفعني، إذا كثرتْ نَصالُ

(3) وما أدري إلى  عَفوٍ وصَفحٍ

عن الزلّاتِ، أم حَجَرٌ يُشالُ؟

(4) ذنوبيَ يا رسولَ اللهِ شَتّى

فُتورٌ، وانفعالٌ، وانتِقالُ

(5) وما بي يا رسولَ الله شِرْكٌ

ولا شَكٌّ يُوالِسُ، أو يُدالُ

(6) ولا أغشَى الفواحشَ قاطباتٍ

ولا أغفو، فيسرِقُني الضلالُ

(7) ولكنّي - رسولَ اللهِ - قِرْمٌ

منَ الأشرافِ، يُحزُنه الثِقالُ

(8) يَرى الأشرافَ ساداتِ البرايا

وقد ظُلِموا، وحَطَّ بهم نَكالُ

(9) ولم يُنصِفْهمُ أبداً غَشومٌ

ولا عَدْلٌ يُظنُّ، ولا ثِمالُ

(10) إذا ما الرافضيُّ قلاهُ خُلْفاً

وناصبه النواصبُ، واستطالوا

(11) فكيف يَعيشُ في دُنياه حرّاً

وكيفُ يَعولُ، حينَ هو المُعالُ؟

(12) هو المهضومُ بين الناس طرّاً

لمَنْ يَشكو، وما ثمَّ احتفالُ؟

(13) إليكَ لجأتُ يا جدّاهُ، عَلّي

من الرحمنِ، يُسعفني نَوالُ

(14) فقد ضاقَت بي الدنيا، وضَنّتْ

وأعمامي جَفَوني والخَوالُ

(15) رسولَ اللهِ، والآلام شتّى

على آلِ الرسول، وهم شِبالُ

(16) شِبالٌ يرفضونَ الذلَّ طبعاً

ولو خضع الأنام له، ومالوا

(17) رسولَ اللهِ لا نبغي علوّاً

بأرضِ الناسِ، لو كانوا استطالوا

(18) وما نبغي سوى حقٍّ قديمٍ

به القرآنُ جاءَ، وإنْ أطالوا

(19) رسولَ اللهِ يا هادي البرايا

ويا نوراً تَضيء به الجِبالُ

(20) توسّلنا إلى الرحمن، نرجو

بكم رِزْقاً، تَتيهُ به الغِلالُ

(21) ونرجو من شفاعتكم بدنيا

سلامتنا، فيجفونا الوَبالُ

(22) فنحيا في ظلالِ الحقّ دوماً.

وإنْ متنا؛ فأنت لنا المآلُ

(23) وما في يوم القيامة من شفيعٍ

سواكَ لنا، إذا فَهِهَ المقالُ

(24) إذا أعطاكَ ربّك ما تمنّى

سترضَى إنْ عَفا عنّا الجلالُ

(25) وإنّا يا حَبيبَ اللهِ نَسمو

نُفاخرُ مَن أدالوا أو أمالوا

(26) فإنْ تَبعوا؛ اهتدوا رِفقاً، وإنْ هم

جَفَوا نصباً، وطاحَ بهم خَبالُ

(27) تردّوا في جحيم النار صرعى

فلا فَزَعٌ يفيدُ، ولا نِضالُ

(28) حبيبَ اللهِ، محبوبُ البرايا

ومحبوبُ الوجودِ، وما تزالُ

(29) صلاةُ اللهِ والتسليمُ قِرنٌ

عليكَ وآلِ صِدْق، لم يُطالُوا

(30) إلى حِينِ اللقاءِ بيومِ حَشْرٍ

على حَوْضٍ تُلاطِفُه الظلال.

 والسلام عليكم ورحمةُ الله وبركاته.

والحمد لله على كلّ حال.

الخميس، 8 أغسطس 2024

     مِنْ عِبَرِ التاريخِ:

ما قِصةُ صَبيغٍ ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين) ([1]).

سألني أحد الإخوة قال: «قرأت في طبقات الشافعيين لابن كثير ما نصّه:

« قال أبو نعيم بن عدي، وغيره: قال داود بن سليمان، عن الحسين بن علي؛ أنّه سمع الشافعيَّ، يقول: حُكمي في أهل الكلام: حكم عمر في صبيغ» قال السائل:

مَن صبيغٌ هذا، وما قصّته، وما علاقتُه بعلم الكلام،وما حُكمُ عمرَ فيه»؟

أقول وبالله التوفيق:

بإسنادي إلى الإمام مالك في الموطّأ - كتاب الجهاد (991) قال رحمه الله تعالى:

حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْأَلُ عَبْدَاللهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْأَنْفَالِ؟

فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَرَسُ مِنْ النَّفَلِ، وَالسَّلَبُ مِنْ النَّفَلِ، قَالَ القاسم: ثُمَّ عَادَ الرَّجُلُ لِمَسْأَلَتِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ أَيْضاً!

ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ: الْأَنْفَالُ الَّتِي قَالَ اللهُ فِي كِتَابِهِ مَا هِيَ؟

قَالَ الْقَاسِمُ: فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُهُ حَتَّى كَادَ أَنْ يُحْرِجَهُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:

أَتَدْرُونَ مَا مَثَلُ هَذَا الرجلِ؟ مَثَلُ صَبِيغٍ الذِي ضَرَبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ».

وهذا إسنادٌ صحيح على شرط الشيخين.

فقصّة صبيغٍ إذنْ صحيحة، فمن هو صبيغ؟

ترجمه الحافظ ابن حجر في الإصابة (3: 370) فقال: «صبيغ - بوزن عظيم - وآخره غينٌ معجمة، ابن عِسْلٍ، ويقال بالتصغير «عُسَيلٍ» الحنظليّ له إدراك، وقصته مع عمر مشهورة».

وأمّا قصّته، فقد وردت من طرقٍ عديدة، صحيحةٍ وضعيفةٍ، ولنقتصر على بعض الروايات الصحيحة.

قال الإمام أحمد في فضائل الصحابة (717): حدثنا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ:  حدثنا الْجُعَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ؛ أَنَّهُ قال: أَتَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قومٌ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّا لَقِينَا رَجُلًا يَسْأَلُ عَنْ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ؟

فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَمْكِنِّي مِنْهُ.

قَالَ: فَبَيْنَا عُمَرُ ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسٌ يُغَدِّي النَّاسَ، إِذْ جَاءَهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ وَعِمَامَةٌ، فَغَدَّاهُ، ثُمَّ إِذَا فَرَغَ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً، فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا)؟

 قَالَ عُمَرُ: أَنْتَ هُوَ؟

فَمَالَ إِلَيْهِ وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَجْلِدُهُ حَتَّى سَقَطَتْ عِمَامَتُهُ.

ثُمَّ قَالَ: احْمِلُوهُ حَتَّى تُقْدِمُوهُ بِلَادَهُ، ثُمَّ لِيَقُمْ خَطِيبًا، ثُمَّ لِيَقُلْ: إِنَّ صَبِيغاً ابْتَغَى الْعِلْمَ، فَأَخْطَأَ، فَلَمْ يَزَلْ وَضِيعاً فِي قَوْمِهِ حَتَّى هَلَكَ، وَكَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ» قال عداب: إسناده صحيح.

وقال الدارميّ في سننه (148): أَخْبَرَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ صَالِحٍ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عَجْلَانَ عَنْ نَافِعٍ - مَوْلَى عَبْدِاللهِ بنِ عمرِ؛ أَنَّ صَبِيغًا الْعِرَاقِيَّ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَدِمَ مِصْرَ فَبَعَثَ بِهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَلَمَّا أَتَاهُ الرَّسُولُ بِالْكِتَابِ فَقَرَأَهُ، فَقَالَ: أَيْنَ الرَّجُلُ؟ قَالَ: فِي الرَّحْلِ!

قَالَ عُمَرُ: أَبْصِرْ أَيَكُونُ ذَهَبَ، فَتُصِيبَكَ مِنْهُ الْعُقُوبَةُ الْمُوجِعَةُ، فَأَتَاهُ بِهِ، فَقَالَ عُمَرُ:

تَسْأَلُ مُحْدَثَةً؟ وَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى رَطَائِبَ مِنْ جَرِيدٍ، فَضَرَبَهُ بِهَا حَتَّى تَرَكَ ظَهْرَهُ دَبِرَةً!

ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرَأَ، ثُمَّ عَادَ لَهُ، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرَأَ، فَدَعَا بِهِ لِيَعُودَ لَهُ!

فَقَالَ صَبِيغٌ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي، فَاقْتُلْنِي قَتْلًا جَمِيلاً، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُدَاوِيَنِي؛ فَقَدْ وَاللهِ بَرَأْتُ!

فَأَذِنَ لَهُ إِلَى أَرْضِهِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: أَنْ لَا يُجَالِسَهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ، فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ: أَنْ قَدْ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ!

فَكَتَبَ عُمَرُ: «أَنْ ائْذَنْ لِلنَّاسِ بِمُجَالَسَتِهِ»!

هذه خلاصةُ قصّة صَبيغِ بن عسل!

وأمّا تفسير صنيع عمر، رضي الله عنه؛ فقد قال أبو بكر الآجريُّ في كتاب الشريعة (1: 211): «فإن قال قائل: فمَن سأل عن تفسير (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً) استحقّ الضربَ والتنكيل به والهجرة؟!

قيل له: لم يكن ضرب عمر له، بسبب هذه المسألة، ولكن لما تأدّى إلى عمرَ ما كان يَسألُ عنه مِن متشابه القرآن، من قبل أن يراه؛ علم أنّه مَفتون، قد شغل نفسه بما لا يعود عليه نَفْعًه، وعلم أن اشتغاله بطلب علم الواجباتِ مِن علم الحلال والحرام أولى به، وتطلب علم سنن رسول الله أولى به، فلما علم أنه مقبل على ما لا ينفعه؛ سأل عمر اللهَ تعالى أن يمكنه منه، حتى ينكّل به، وحتى يَحذَر غيرُه؛ لأنه راعٍ يجب عليه تَفقُّد رعيته في هذا، وفي غيره، فأمكنه الله تعالى منه».

وقال ابن بطّة الحنبليُّ في كتابه الإبانة الكبرى (1: 415):

«عسى الضعيفُ القلب، القليل العلم من الناسِ، إذا سمع هذا الخبر، وما فيه من صنيع عمر، رضي الله عنه؛ أن يتداخله من ذلك، ما لا يَعرفُ وجهَ المَخرجِ عنه، فيُكْثِر هذا من فِعل الإمام الهادي العاقل، رحمة الله عليه، فيقول: كان جزاءُ مَن سأل عن معاني آيات من كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- أحبَّ أن يعلم تأويلها؛ أن يُوجَعَ ضربًا، ويُنفَى، ويُهْجَرَ ويُشْهَّرَ؟

وليس الأمر كما يظنُّ مَن لا عِلم عنده، ولكن الوجه فيه غير ما ذهب إليه الذاهب، وذلك أن الناس كانوا يهاجرون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته، ويَفِدُونَ إلى خلفائه بعد وفاته -رحمة الله عليهم- ليتفقهوا في دينهم، ويزدادوا بصيرةً في إيمانهم، ويتعلَّموا علم الفرائض التي فرضها الله عليهم؛ فلما بلغ عمر-رَحِمَهُ الله- قدوم هذا الرجل المدينة، وعرف أنه سأل عن متشابه القرآن، وعن غير ما يلزمه طلبه مما لا يضره جهله، ولا يعود عليه نفعه، وإنما كان الواجب عليه حين وفد على إمامه أن يشتغل بعلم الفرائض والواجبات، والتفقه في الدين من الحلال والحرام، فلما بلغ عمر -رَحِمَهُ اللهُ- أن مسائله غير هذا؛ علم من قبل أن يلقاه أنه رجلٌ بطَّال القلب، خالي الهمة عما افترضه الله عليه، مصروف العناية إلى ما لا ينفعه، فلم يأمن عليه أن يشتغل بمتشابه القرآن، والتنفيرِ عما لا يهتدي عقله إلى فهمه، فيزيغ قلبه، فيهلك، فأراد عمر -رَحِمَهُ اللهُ- أن يكسره عن ذلك، ويذلَّه، ويشغلَه عن المعاودة إلى مثل ذلك».

ختاماً: هذه القصّة، كما وردت لدى أحباب عمر رضي الله عنه، ولكلِّ قارئٍ أن يفهمها كما يرى، مراعياً في ذلك أنّ من مذهب عمر؛ الاقتصارُ على ما يترتّب عليه عمل، وعدم الخوضِ فيما ليس تحته عمل!

وكان عمر لا يسمح لكلّ أحدٍ أن يعظَ الناس في مسجد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلا لمن يأذن له هو.

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمدُ للهِ على كلّ حال.