الخميس، 26 سبتمبر 2024

مسائل من الفقه والأصول:
أبو حنيفة يبيح زنا المحارم؟!
سألني سائلٌ قال: هل صحيح أنّ أبا حنيفةَ يُبيح نكاح المحارم، وإذا زنى أحدهم بمحرمه أمّا أو أختاً أو بنتاً؛ لا يُقامُ عليه الحدّ؟
أقول وبالله التوفيق:
أوّلاً: استمعتُ إلى أحدِ خطباءِ الرافضة منذ برهةٍ يقول: (أنا لا أعترف بالمذاهب كلّها، سوى مذهب الإمام جعفر الصادق عليه السلام، تَدْزون ليش؟ لأنّ أبا حنيفة يبيح زنا المحارم!
فقلت في نفسي: ابتُلينا بالإماميّة الاثني عشريّة، مثلما ابتلينا بالحنابلة، الذين يسمون أنفسهم اليوم بالسلفية!
الجعفريّة يقولون: مذهبنا مذهب الأئمة المعصومين من آل البيت، ولا يجوز الخروج عن مذهبهم بحال؛ لأنّ الله تعالى على لسان رسوله، جعلهم قُرناءَ القرآن الكريم.
والسلفيّة يقولون: مذهبنا الكتاب والسنّة بفهم سلف الأمّة!
والحقيقة أنّ مذهبهم هو فتاوى المعاصرين من شيوخهم (ابن باز - وابن عثيمين - والفوزان) وضربائهم.
وسواء اعترف هذا الرافضي بمذاهب أهل السنّة أم لم يعترف؛ فهو من ؟!
إذ الواقع يقول: إنّ ملياراً ونصفَ مليار مسلم، يدينون الله تعالى بمذاهب أهل السنة، منهم مليار مسلمٍ - في الحدّ الأدنى - هم أتباع الإمام أبي حنيفة!
ثانياً: أمّا قوله الذي نقله إليّ السائلُ، وسمعت أنا مثلَه: (إنّ أبا حنيفة يبيح زنا المحارم) فنبرأ إلى الله تعالى من أيّ إنسانٍ يفتي بهذه الفتوى، أو يذهب هذا المذهب الكفريّ!
أجل هو مذهب كفريّ؛ لأنّ الله تعالى يقول:
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ.
وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ، وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ. وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ.
وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ؛ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيماً).
فأيّ إنسانٍ أفتى بجواز نكاح واحدةٍ من هذه المحارم؛ فهو كافرٌ كفراً ناقلاً عن ملّة الإسلام!
فكيف يفتي أبو حنيفةَ بزنا المحارم؟
نعوذ بالله من الهوى الطائفيّ والمذهبيّ، الذي يعمي بصيرة المقلّد، فلا يعود يعقل!
ثالثاً: ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعن عمر وعائشة رضي الله عنهما أنهم قالوا ما معناه: (ادرؤوا الحدود بالشبهات) والمرفوع ضعيف لا يحتج به!
فإذا عقدَ رجل على إحدى محارمه عقداً شهدَ عليه شاهدان؛ فهذا العقدُ يحول دون إقامةِ حدِّ الزنا عن العاقدَيْن كليهما، بسبب شبهة العقد.
قسم الحنفية الشبهاتِ إلى ثلاثة أنواع: (شبهةُ في الفعل، وشبهة في المحلِّ، وشبهةٌ في العقد).
قال الحنفيّة: (يَثْبُتُ دَرْء الحدِّ بِشُبهَةِ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ.
وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي (نِكَاحِ الْمَحَارِمِ) النَّسَبِيَّةِ، أَوْ بِالرَّضَاعِ، أَوْ بِالْمُصَاهَرَةِ؟!
فَإِذَا وَطِئَ الشَّخْصُ إِحدَى مَحَارِمِهِ بَعدَ أَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا؛ فَلاَ حَدَّ عَلَيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ! وَلَكِنْ يَجِبُ الْمَهْرُ، وَيُعَاقَبُ عُقُوبَةً هِيَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّعْزِيرِ سِيَاسَةً، لاَ حَدًّا، إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بالتحريم؛ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ وَلاَ تَعْزِيرَ.
فَوُجُودُ الْعَقْدِ؛ يَنْفِي الْحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، حَلاَلاً كَانَ الْعَقْدُ أَوْ حَرَامًا، مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ، عَلِمَ الْوَاطِئُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ) الموسوعة الفقهية الكويتية.
رابعاً: لا ريبَ عندي في أنّ هذه المسألةَ من أشنعِ المسائلِ الفقهيّة، المنقولةِ عن أبي حنيفة، رحمه الله تعالى.
بيدَ أنّ أبا حنيفة يقول: بحرمة نكاح المحارم قطعاً، كغيره من فقهاء الإسلام.
وأبو حنيفةَ يحرّم وَطء الرجل إحدى محارمه بعقدٍ أم بدون عقدٍ، وحاشاه أن يفتي بجواز نكاح المحارم بعقد، فضلا عن إباحةِ الزنا بهن، والعياذ بالله تعالى.
بل إن أبا حنيفة يقول: إذا كان المسلم الذي نكح إحدى محارمه عالماً بالتحريم؛ (يُعَاقَبُ عُقُوبَةً، هِيَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّعزِيرِ، سِيَاسَةً، لا حدّاً).
فالقولُ بأنّ أبا حنيفة يجيز زنا المحارم، أو حتى نكاح المحارم؛ كذب وافتراءٌ عليه وعلى الحنفية، رحمهم الله تعالى.
خِتاماً: مسألة (العقد) عند أبي حنيفة مسألة معقّدة جدّاً، ولها مصاديق كثيرةٌ صحيحة عند الحنفيّة؛ باطلة عند غيرهم من علماء الإسلام، وأئمة المسلمين، من مثل:
جواز أن يبيع صاحبُ الكرم عِنبَه لمن يعلم أنّه سيجعله خمراً.
جواز أن يؤجّر الإنسان منزله ليجعله المستأجرُ بيت نارٍ، أو كنيسةً، أو دار بغاء!
وأمثال هذه المسائل المستشنعةِ، التي نبرأ إلى الله تعالى من الفتوى بها، أو استحلال العمل بها.
بيد أنّ على المسلم، شيعيّاً كان، أم سنيّاً، أم إباضيّاً، أم غير مذهبيٍّ؛ أن يكون صادقاً أميناً فيما ينقله عن مذهبه وغير مذهبه، وإلّا كان كذّاباً ساقطَ العدالةِ عند المسلمين.
والله تعالى أعلم.
والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق