الاثنين، 25 نوفمبر 2024

         التصوّف العليم:

الشيخ محمّد الكسنزان كما عَرفتُه (2).

بسم الله الرحمن الرحيم

خُطبةُ البحث

الحمد لله ربّ العالمين، الرحمنِ الرحيمِ، مالك يومِ الدين.

وأشهدُ أنْ لا إِلَهَ إلّا اللهُ، وحدَه لا شريكَ لهُ، شهادةَ موقنٍ به، متوكّل عليه، سبحانه وتعالى.

قالَ في كتابه الكريم:

- ]يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ منَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَدَعْ أَذَاهُمْ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ، وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً (48)[ [سورة الأحزاب].

- ]إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذيراً (8) لِتُؤْمِنوا باللهِ وَرَسولِهِ، وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ، وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)[ [سورة الفتح].

- ]لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)[ [سورة التوبة].

وأشهدُ أنّ محمّداً عَبدُاللهِ ورسولُه، وصفيُّه من عِباده وحبيبُه، القائلُ

صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ.

مَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ، آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ؛ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ) ([1]).

وقال صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم:

(إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشاً مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بني هاشمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ) ([2]).

وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم:

(قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) ([3])  

أمّا بعد: كان العربُ قبلَ الإسلامِ في جاهليّةٍ جهلاءَ، وفي عَصبيّةٍ شوهاءَ خَرقاءَ، وفي  احترابٍ وضَوضاء!

يَعبدُ كثيرٌ منهم الأصنامَ، ويُنكرون الحشرَ والنشرَ والقيامَ، ويقولون:

]إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيا، نَمُوتُ وَنَحْيا، وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ[.

سيماهُم الكِبْرُ، ومَلاذُهم الكِهانةُ والسِحْرُ، يمسون ويصبحون، وهم يتقلّبون في الضغائن والوِزْرِ!

بيدَ أنّهم من نَسْلِ نبيِّ اللهِ إسماعيلَ بنِ خليلِ الله إبراهيم عليهما الصلاة والسلام.

إبراهيم الذي دعا لذريّته قائلاً: ]رَبَّنا: وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، وَأَرِنا مَنَاسِكَنا، وَتُبْ عَلَيْنا؛ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا: وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ، يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ؛ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)[ [سورة البقرة] فاستجابَ له ربُّه تباركَ وتعالى بعدَ قرونٍ مِن عُمُر الزمان!

قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:

(أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ أخي عيسَى، وَرُؤْيا أُمِّي آمِنَةَ الَّتِي رَأَتْ) ([4])

استجابَ الله تعالى دعاءَ خليلِه إبراهيمَ، فبعثَ برسولِه محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالهدى ودينِ الحقّ، إلى بني إبراهيمَ، ثمّ إلى بني الإنسان كافّة!

]-هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)[ [سورة التوبة] و[سورة الصفّ: 9].

]-وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ، بَشِيراً وَنَذِيراً، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)[ [سورة سبأ].

]-إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)[ [سورة الأنبياء].

هذا عامٌّ شاملٌ لجميعِ المكلَّفين من الثقلين «الإنسِ والجنِّ»!

بيدَ أنّ ثمّةَ تخصيصاً صريحاً واضحاً، يَسيرُ مُوازياً هذا العمومَ الجليل!

قال الله تبارك وتعالى ممتنّاً على رسوله المصطفى، وموضحاً له ولآلِه  أوائلَ المخاطَبينَ بهذا الدين: ]اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ، سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ، بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)[ [سورة الأنعام].

]وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ؛ فَقُلْ: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)[ [سورة الشعراء].

] فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ؛ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ، وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)[ [سورة الزخرف].

جَهَر رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وآلِه وسلّم بدعوةِ الإسلامِ، فوقفَ في وجه دعوتِهِ أصحابُ النفوذِ والمالِ من قريشٍ، وعادَوْهُ، وآذوه ]وهمّوا بما لَمْ ينالوا[ مِن رَغبتهم بقتلِه، رُوحي له الفداءُ!

وصبرَ معه قومُه وعشيرتُه الأقربون «بنو هاشمٍ وبنو المُطّلب» مؤمنُهم ومَن تأخّر إيمانه برسالتِه يومئذٍ، وعانَوا معه زمانَ الحصارِ المقيتِ البَغيضِ، الذي فرضه عليه وعليهم مُشركو قريشٍ، الذين اخترعوا لأنفسهم فيما بعدُ مزايا وحقوقاً ومناقبَ وفضائلَ، نسبوها إليه صلّى الله عليه وآلِه وسلّم؛ ليكون لقريشٍ مشروعيّةٌ ظاهرةٌ لدى أتباعِه المؤمنين!

شكرَ الرحمنُ الرحيمُ لبني هاشمٍ نَجدتَهم، وكافأهم على نصرتهم لسيّدهم، رسولِه المصطفى، فخلّدَ ذِكْرَهم، ورفعَ فوق العالمين منزلتَهم، وفرضَ لهم على هذه الأمّةِ حقوقاً، أنكرَتْها، وحرَمَتْهُم منها!

قال الله تعالى:

- ]قُلْ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً، إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً؛ نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)[ [سورة الشورى].

- ]وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ؛ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ، وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)[ [سورة الأنفال].

- ]مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى؛ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ؛ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ.

وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ؛ فَخُذُوهُ، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ؛ فَانْتَهُوا، وَاتَّقُوا اللهَ، إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)[ [سورةُ الحشر].

إنّ المُنصفينَ من الفقهاءِ، غيرَ الخاضعين لأهواءِ الحكّامِ النواصبِ؛ فهموا من نصوصِ الكتابِ والسنّةِ أنّ «الصِّنْفَ الثَّالِثَ ممّن يُصرفُ إليهم سَهْمٌ مِنْ بَيْتِ مالِ المسلمينَ - عَلَى غِنَاهُمْ وَاسْتِظْهارِهِمْ - وَلاَ يُوقَفُ اسْتِحْقَاقُهُمْ عَلَى سَدِّ حَاجَةٍ، وَلاَ عَلَى اسْتِبقاءِ كِفَايَةٍ؛ هُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، فَهَؤُلاَءِ يَسْتَحِقُّونَ سَهْماً مِنْ خُمُسِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، منْ غَيْرِ اعْتِبَارِ حَاجَةٍ وَكِفَايَةٍ، عِنْدَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، رَحِمَهُ اللهُ.

وَقَدْ شَهِدَتْ بِصِحَّةِ مَذْهَبِهِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ، وَالنُّصُوصُ الصَّرِيحَةُ، وَسِيَرُ الْخُلفَاءِ، وَمَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ، قَبْلَ ظُهُورِ اخْتِلَافِ الْآرَاءِ» قاله الإمام الجوينيّ في غياثِه([5]).

وهذا هو الذي يعتقدُه علماءُ آل البيتِ، وافقَ مَنْ وافقَ، وخالفَ من خالف!

وقال ابن قيّم الجوزيّةِ الدمشقيُّ الحنبليُّ رحمه الله تعالى (ت: 751 هـ) في كتابه البديع «جلاءُ الأفهامِ»: «قال الله تعالى لنَبيِّهِ يُذَكّرُهُ بنِعمتِهِ عَلَيْهِ: ]وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ[.

قالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُما: يعني: «إِذا ذُكِرْتُ؛ ذُكِرْتَ مَعي،  فَيُقال: (لَا إِلَه إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) ([6]) عندَ الدخولِ في الْإِسلامِ، وَفِي الْأَذَانِ، وَفِي الخُطَبِ، وَفِي التَشهُّداتِ، وَغيرِ ذَلِك.

وَمِنْها: أَنّه سُبْحانَهُ جعلَ خلاصَ خَلْقِهِ مِن شقاءِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ؛ على أَيدي أهلِ هَذا البَيْتِ، فَلهُم على النَّاسِ مِن النِعَم؛ ما لَا يُمكنُ إِحصاؤُها، وَلَا جزاؤُها.

وَلَهُم المِنَنُ الجِسامُ فِي رِقابِ الْأَوَّلينَ والآخرينَ مِن أهلِ السَّعَادَةِ، ولهمُ الأيادي الْعِظَامُ، الَّتِي يجازيهِمْ اللهُ عزَّ وَجَلَّ عَلَيْها.

وَمِنْها: أَنَّ كلَّ نَفعٍ وَعمَلٍ صَالحٍ وَطَاعَةٍ للهِ تَعَالَى، حصَلتْ فِي الْعالمِ؛ فَلهم مِن الْأجرِ مِثلُ أجورِ عامِليها، فسبحانَ مَن يخْتَصُّ بفضْلِهِ مَن يَشاءُ مِن عِباده» ([7]).

وقال الشيخ أحمدُ ابن تيمية الكرديُّ الحرّانيُّ (ت: 728 هـ) في كتابه «اقتضاءُ الصراطِ المستقيم»: «إنّ الذي عليه أهلُ السنةِ والجماعةِ؛ اعتقادُ أنّ جِنسَ العَرَبِ أفضلُ من جنس العجمِ: عِبرانيّهِم، وسريانيّهِم، وروميّهِم، وفُرسيّهِم، وغيرهم.

وأنّ قُريشاً أفضلُ العَربِ، وأنّ بني هاشمٍ؛ أفضل قُريشٍ، وأنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أفضلُ بني هاشمٍ، فهو أفضلُ الخَلقِ نَفساً، وأفضلُهم نَسباً.

وليس فَضلُ العَربِ، ثمَّ قُريشٍ، ثم بَني هاشِمٍ، لمجرّدِ كونِ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلّم منهم، وإنْ كان هذا مِن الفَضلِ، بل هم في أنفسهِم أفضلُ، وبذلك يَثبتُ لرسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم؛ أنّه أفضلُ نَفساً ونَسباً».

إلى أنْ يقول: «ومِن الناسِ مَن قَد يُفضّل بعضَ أنواعِ العَجمِ على العربِ!

والغالبُ أنّ مِثلَ هذا الكلامِ؛ لا يَصدُر إلّا عَن نَوعِ نِفاقٍ: إمّا في الاعتقادِ، وإمّا في

العَملِ المُنْبَعثِ عن هَوى النَفْسِ، مع شُبهاتٍ اقتضَتْ ذلك»([8]).

كان شيخُنا «محمّدُ الكسنزان» رحمه الله تعالى؛ يؤمن إيماناً راسخاً بكلِّ ما تقدّم!

بيد أنّه كان يُنكرُ أن يكون لقريشٍ فضائلُ دينيّةٌ كَسبيّةٌ، وقد قال لي مرّةً: أنا لا أصدّق بأيِّ حديثٍ يُنسب إلى رسولِ اللهِ صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم، في فضائل قريش!

إذْ لم تؤذِ قبيلةٌ من العربِ الرسولَ، مثلما آذتْه قريشٌ، ولم يَقتُل من ذريّته قومٌ، كما قَتَلت قريشٌ، ولم يحرمهم حقوقهم، إلّا خلفاءُ قريش، وتبعتهم الأمّة الجاهلةُ على ذلك!

أليس الرسول صلوات ربي وسلامه عليه يقول: (اللهمُّ عليكَ بقُريشٍ، اللهمُّ عليكَ بقُريشٍ، اللهمُّ عليكَ بقُريشٍ) ([9]) أليس هذا صحيحاً عند المحدّثين؟

قلت: بلى هو حديث صحيح، سيّدي!

زارَه في تكيته المباركةِ مرّةً ثلاثةٌ من كِبارِ رجالِ الدولةِ البعثيين في العراقِ، وطرح واحدٌ منهم مسألةَ أنّ «العروبةَ هي قلبُ الإسلام» أو حاضنتُه - نسيتُ - فغضبَ حضرةُ الشيخ «محمّد» وقال لهم: «لا واللهِ لا أقبل بهذا، إذا لم يكن الانتسابُ إلى آلِ البيتِ وحدهم، فأكون كرديّاً أفضلُ -كردي يعني ألمانيّ - أليس الألمان خيراً من هؤلاء الأعراب الجفاة الغلاظ، الذين لا يحسنون شيئاً، ولا يعرفون كيف يسوسون رعاياهم، بغير القهر والدَم؟!

وهل آذى رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلّم وذرّيتَه من بعدِه، سوى العربِ وقومِه من قريشٍ الظالمة»؟ فسكتوا سكوتاً تامّاً، وغيّروا مجرى الحديث!

    عشتُ مع حضرةِ الشيخ «محمّد الكسنزان» رضي الله عنه، من دون انقطاعٍ، من شهر يونيه «حزيران» عام (1996) حتى منتصف شهر أغسطس «آب» (1998م) في التكية الكسنزانيّةِ في بغداد، ونَصبني عالمَ الطريقةِ ومفتيَها وخطيبَ مسجدِ التكيةِ، طيلةَ هذه المدّةِ المباركة.

وكان يستدعيني لمحاورةِ المعاندينِ، مثلما يستدعيني لمحاورةِ غير المسلمين، من الوافدين إلى تكيتنا في بغداد، وقال لي مرّاتٍ: «يا سيّد ليس لي ولا لك مِنّةٌ في شيءٍ من هذا الجُهد، هذا دينُ جدّك صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم، أنت تجاهد بعلمِك ولسانك، ونحن نجاهِد بإقامةِ الحجّةِ والبرهان العمليّ، على صدق هذا الدين».

والكلامُ تُجاهَ الشيخ رحمه الله تعالى ورضي عنه؛ ذو اتّجاهين: بينَ غالٍ وقالٍ!

وكنتُ أمنّي نفسي أن أكتبُ صفحاتٍ وجيزةً، توضحُ تجربتي مع حضرة الشيخ، بعيداً عن سفهِ السفهاءِ، الذين ينعتونه بنعوتٍ كاذبة مفتراةٍ، يستحيي العاقلُ من مجرّد ذِكْرها، أو سماعها، وسيأتي ذِكْرُ بعضها!

وبَعيداً عن الإطنابِ الذي ينفر منه طبعي، تُجاهَ أي مخلوقٍ ضعيفٍ، يأكلُ الطعام، ويتعرّض للأسقامِ، ويموتُ ويسجّى في نهايةِ أمره تحت الركام!

الشيخ «محمّد الكسنزان» في نظري: إنسانٌ ذكيٌّ لمّاحٌ فارس عاشقٌ حضرةَ الرسول وآلَ بيتِه، مُنافحٌ عنهم، ساعٍ في صلاحهم وسعادتهم الدنيوية والأخرويّة.

داعيةٌ بارعٌ بحالِه وأفعاله، أكثرَ بكثيرٍ من قالِه، مؤمنٌ عميق الإيمان، موقنٌ غاية اليقين، عارفٌ بمقاصدِ الدينِ وأهدافِ الشريعةِ ومكارمها، مُلتزمٌ بما يؤمن به أقصى التزام!

إداريٌّ من الطرازِ الرفيعِ، اقتصاديٌّ موفّق مسدّد، طموحٌ إلى نصرةِ طريقِ التصوّفِ الذي يعتقدُ أنّه دينُ الله تبارك وتعالى.

وأنا الفقير لن أكتبَ سيرةً لحضرة الشيخ محمّد الكسنزان، فقد كتب الأخُ الخليفةُ الدكتور «لؤيّ فتّوحي» للشيخِ سيرةً طيّبةً علميّةً مباركةً، ليس بوسعي؛ أن أضيفَ عليها إضافاتٍ صادقةً ذاتَ بالٍ!

إنّما ستكون كتابتي عن حضرته «ذكرياتٍ ومُذكِّراتٍ» ألخّص فيها تلخيصاً وجيزاً تجربتي الثريّةَ الغنيّةَ مع سماحته، رحمه الله تعالى، ورضي عنه وأرضاه، ونفعني بمحبّته والوفاءِ له ولذريّته ولطريقِ التصوّف الروحيِّ السامي.

والحمدُ لله على كلّ حال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل (2278) وأبو داود في كتاب السنّة مختصراً من حديث أبي هريرة، وأخرجه ابنُ ماجه والترمذيّ (3148، 3615) من حديث أبي سعيدٍ الخدريّ مرفوعاً، وقَالَ الترمذيّ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ» وهو مرويّ عن عددٍ من الصحابة.

([2]) أخرجه أحمد  ومسلمٌ (2276) والترمذيّ (3606) وقَالَ «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ».

([3]) أخرجه البخاريّ (3369) ومسلم (407).

([4]) الحديثُ مَرويٌّ عن عددٍ من الصحابة، عند أحمد في مسنده (17685) والطبراني في مسند الشاميين (1455) والبيهقيِّ في دلائل النبوة (1: 83) وأبي نعيم في حلية الأولياءِ (6: 89) والحاكم في المستدرك (3566) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

([5]) انظر الغياثي لإمام الحرمين (ص: 244 - 247).

([6]) لم يصحّ هذا القولُ من حديث ابن عبّاسٍ، ولا من حديث أبي سعيد الخدريّ، مرفوعاً، أو موقوفاً، وقد أورد تلك الرواياتِ ابنُ كثير في تفسيره (8: 430) والصوابُ أنّه مقطوعٌ من كلام مجاهد، وهذا الذي اعتمده الشافعيّ في مسنده (651) والخلّال في السنة (317) والآجريّ في الشريعة (953) وغيرهم.

([7]) اقتضاءُ الصراط المستقيم لابن تيمية (1: 420 - 422).

([8]) جلاءُ الأفهام في فضلِ الصلاة على محمّدٍ خير الأنام (ص: 311)

([9]) طرفٌ من حديثِ عبداللهِ بن مسعودٍ مرفوعاً؛ أخرجه البخاري في الصلاة (520) ومسلم في الجهاد والسير (1794)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق