السبت، 28 يناير 2023

  اجتماعيات (13):

حَيَّ اللهُ رجالَ الأرضِ المُقدّسةِ !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

يقول الله تعالى:

(يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) [التوبة] و[التحريم: 9].

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) [التوبة].

(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ، وَلَا تَعْتَدُوا؛ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) [البقرة].

حَيّ الله رجال الأرض المقدّسة الأبطال!

وأخزى الله حكّامنا الخونة العملاء الأنذال!

حيَّ الله الشجعان الذين يذودون عن حمى الله تعالى وحمى المؤمنين!

وتبّاً لتلك الجيوشِ التي تحمي العروشَ الوضيعة الذليلة!

(فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ، وَاللهُ مَعَكُمْ، وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) [سورة محمد].

والله تعالى المستعان على ما يصفون.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الأربعاء، 25 يناير 2023

  مَسائلُ حديثيّةٌ  (7):

  تسبيحُ اللهِ تعالى عَدَدٌ أمْ وَزنٌ؟!

قال لي: هل حديث الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ) صحيحٌ؟

طبعاً، ستقول لي: هو صحيحٌ؛ لأنّه في صحيح مسلم!

وإذا كان صحيحاً عندك؛ فكيف نفهم وزنَ التسبيحِ، وقد فهمنا عدده؟

أقول وبالله التوفيق:

بإسنادي إلى الإمام مسلمٍ في كتاب الذِكْرِ والدعاءِ، باب التسبيحِ أوّلَ النهار، وعند النوم (2726) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ وَعَمْرٌو النَّاقِدُ وَ«محمّد بن يحيى» ابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَاللَّفْظُ لابنِ أَبِي عُمَرَ قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ «بنُ عُيينةَ» عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ «بن أبي مُسلمٍ، مولى ابن عبّاسٍ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ «أمّ المؤمنين» أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً، حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى، وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: (مَا زِلْتِ عَلَى الحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟) قَالَتْ: نَعَمْ.

قَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ اليَوْمِ؛ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ).

وبه إلى مسلمٍ فيه، قال: حَدَّثَنَا أَبو بَكْرِ بنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبو كُرَيْبٍ «محمد بن العلاءِ الهمدانيّ» وَإِسْحَقُ «بن راهويه» عَنْ مُحَمَّدِ بنِ بِشْرٍ «العَبديّ» عَنْ مِسْعَرِ «بن كِدامٍ» عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ «التيميّ» عَنْ أَبِي رِشْدِينَ «كريبٍ مولى ابن عبّاسٍ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ قَالَتْ: مَرَّ بِهَا رَسولُ اللهِ e حِينَ صَلَّى صَلاةَ الغَدَاةِ، أَوْ بَعْدَمَا صَلَّى الغَدَاةَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ.

غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: (سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ).

وصحّحه ابن خزيمة وأبو عوانةَ وابن حبّان، وقال الترمذيّ: حسن صحيح.

مدار حديث الباب على مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ التيميّ مولاهم، رواه عنه:

سُفْيَانُ بنُ عيينةَ، عند مسلم (4905) وأحمد (2334) وعبد بن حميد في المنتخب (704) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3108) والطحاوي في شرح مشكل الآثار (6033) والطبراني في الدعاء للطبراني (1742) والطبراني في المعجم الكبير (162، 163).

وشعبةُ عند أحمد (26758، 27421) وابن خزيمة في كتاب التوحيد (1: 394) وَابْن حِبّانَ في صَحيحِهِ (828) والترمذي (3555) والنسائي في المجتبى (1352) وفي السُنَنِ الكُبْرى (1275، 9991، 9992) وفي عمل اليوم والليلة له (164) وابن ماجه (3808) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3107) وأبي يعلى الموصلي في مسنده (7068) والطبراني في المعجم الكبير (160) والطبراني في الدعاء للطبراني (1742) وأبي نعيم في الحلية (7: 162).

وعبدُالرحمن بن عبد الله المسعودي عند أحمد (3308) والترمذي (3555) والنَسائيّ في السُنَنِ الكُبْرى (9990) والبزار في مسنده (5211) والطحاوي في شرح مشكل

وَمِسْعَرُ بنُ كِدامٍ، عند مسلم (2726) وأبي عوانة في مستخرجه (20: 410) وابن أبي شيبة في مصنفه (30008) وإسحاق بن راهويه في مسنده (2077) وابن ماجه (3808) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3106) والنَسائيّ في السُنَنِ الكُبْرى (9993) والطبراني في المعجم الكبير (161) والطبراني في الدعاء للطبراني (1741) والبيهقي في الأسماء والصفات (628).

ورجالُ إسنادِ الحديثِ؛ ثقاتٌ، ما عدا محمّد بن عبدالرحمن مولى آل طلحةَ بن عبيدالله التيميّ، فقد اختلف فيه نقّاد الحديث.

فوثّقه  عددٌ منهم، وصحح له مسلم وابن خزيمة وأبو عوانةَ وابنُ حبّان.

وترجمه المزيّ في تهذيبه (25: 615) وقال: «قَال أَبُو زُرْعَة وأبو حاتم وأبو داود: صالح الحديث، وقال النسائيّ: لا بأس به».

ولم يخرّج البخاريّ له في صحيحه أيَّ حديثٍ، لكنه أثنى عليه في تاريخه الكبير (1: 146) فقال: «قال لنا عليُّ ابن المدينيِّ عن ابن عُيَيْنَة: كان أعلَمَ مَن عِندنا بالعربية».

وللحديث شاهدٌ من حديث سعدِ بن أبي وقّاص، رضي الله عنه، أخرجه ابن حبّان في صحيحه (837) وفيه (سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي السَّمَاءِ، وَسُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ، وَسُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ).

وفي الحديثِ قصّةٌ تُشيرُ إلى أنّ محمّد بن عبدالرحمن حفظ حديثه!

قال ابن حجر في مقدمة الفتح (ص: 363): «قالَ أَحْمد ابن حَنْبَلٍ: إِذا كانَ فِي الحَدِيث قصَّةٌ؛ دَلّ على أَنّ راويَه حفظه، وَالله أعلم».

خلاصةُ الحكم على إسنادِ الحديث: إسناده حسن، في أحسن أحواله، والحديث الحسن لا يثبت به حلال ولا حرامٌ، فضلاً عن إثبات عقيدةٍ، فتنبّه!

أمّا استشكال السائل جملةَ (زنَةَ عرشِهِ) فالله تعالى وصف عرشه بأنه عظيم، وأنه كريم، ووصفَ الهدهدُ عرشَ بلقيس بقوله: (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) وأقرّه القرآن الكريم.

فهل عظمةُ العَرشَ تَعني ضخامَته وثِقلَ وزنه، إضافةً إلى إتقان صنعِه وجمالِه؟

هذا موضوع طويلٌ، يحتاج إلى شرحِ الآياتِ الكريمة التي ورد فيها ذكرُ العرش.

مثلما يحتاج إلى تخريج الأحاديث التي ذُكِر فيها العرش؛ لنعلم ما إذا كان العرشُ جُرْماً له أبعادٌ، أم إنّه كنايةٌ عن سَعةِ مُلك الله تبارك وتعالى.

 والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

السبت، 21 يناير 2023

  مَسائلُ حديثيّةٌ  (6):

 أَيْنَ اللهُ ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

على الفيسبوك جدالٌ دائرٌ بين أحد السلفيين، وبين تلامذة السيّد حسن السقّاف، تجاه حديثِ الجاريةِ (أين الله).

فتواصل معي عددٍ من الإخوة، يسألونني عن الصوابِ في الحكمِ على حديثِ الجاريةِ هذا؟!

أقول وبالله التوفيق:

مرّ عليَّ الشهرُ من أوّله إلى هذا اليوم، وأنا مريضٌ غير قادرٍ على الإنتاج الفكريّ، والحمد لله على كلّ حال.

قرأت ما كتبه هذا السلفيّ الذي يجادلُ؛ فرأيته لم يأتِ بشيءٍ جديدٍ، ولا قرأت له جديداً قطّ، إنما هو يتابع الشيخ الألبانيَّ رحمه الله تعالى، مثلما يتابعه سائرُ الحنابلةِ والسلفيين والوهابيين!

والإشكالُ الأكبر في حديثِ الجارية هذا؛ ليس في قولها: «في السماء» إنما فيما نسبوا إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال لها: (أين الله)!

ولا أغضّ الطرفَ عن أنّ الذين خرّجوا هذا الحديثَ كثيرون جدّاً!

يحسن أن أذكر أصحابَ الصحاح، دون غيرهم؛ لأن تخريجَ الباقين تكرارٌ لا يستفاد منه تصحيحٌ، ولو كانوا ألفاً!

فمن حديثِ يحيى بن أبي كثيرٍ عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، من حديث طويلٍ فيه:

قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟

قَالَ صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ائْتِنِي بِهَا» فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا: (أَيْنَ اللهُ)؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ!

قَالَ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (مَنْ أَنَا)؟ قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: (أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ).

أخرجه الإمام مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة (537) وابن الجارود في المنتقى (212) وابن خزيمة في التوحيد (1: 278) وأبو عوانة في مستخرجه على صحيح مسلم (1769، 1770، 9840) وابن حبّان في صحيحه (165) وأبو نعيم في مستخرجه على صحيح مسلم (1183).

وهذا يعني أنّ جميع أصحاب الصحاح خرّجوه، سوى البخاريّ وتلميذه الترمذيّ!

فتخطئة هؤلاء الحفّاظ جميعاً؛ يستدعي أدلّةً قويّةً موجبةً، أحدها عدم تصحيح البخاريّ للحديث، فأين نذهب؟

ذهبنا إلى الإمامِ مسلمٍ رحمه الله تعالى؛ فوجدناه أخرج حديثَ معاوية بن الحكم السلميّ في كتاب السلام، باب تحريم الكَهانةِ وإتيانِ الكهّانِ، عقب حديث رقم (2227) قال:

1- حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى قَالَا: أَخْبَرَنَا عبدالله بنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ بنُ يزيدَ الأيليُّ عَنْ محمد بن مسلمِ ابْنِ شِهَابٍ الزهريّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ الله أُموراً كُنَّا نَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كُنَّا نَأْتِي الْكُهَّانَ قَالَ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم: (فَلَا تَأْتُوا الْكُهَّانَ).

قَالَ معاويةُ: قُلْتُ: (كُنَّا نَتَطَيَّرُ)؟ قَالَ صلّى الله عليه وآله وسلم: (ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ فِي نَفْسِهِ، فَلَا يَصُدَّنَّكُمْ).

2- وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنِي حُجَيْنٌ، يَعْنِي ابْنَ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ (ح).

3- وحَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ (ح).

4- وحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ: حَدَّثَنَا محمد بن عبدالرحمن ابنُ أَبِي ذِئْبٍ ( ح).

5- وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ: أَخْبَرَنَا إِسْحَقُ بْنُ عِيسَى: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ...

كُلُّهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، مِثْلَ مَعْنَى حَدِيثِ يُونُسَ.

غَيْرَ أَنَّ مَالِكاً فِي حَدِيثِهِ ذَكَرَ الطِّيَرَةَ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْكُهَّانِ.

- وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ حَجَّاجٍ الصَّوَّافِ (ح).

- وحَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ.

كِلاهُما عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَعْنَى حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ.

وَزَادَ فِي حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: قُلْتُ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ؟

قَالَ صلّى الله عليه وآله وسلم: (كَانَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ، فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ؛ فَذَاكَ).

وحديث الزهريِّ عن أبي سلمةَ بن عبدالرحمن، عن معاويةَ بن الحكم؛ أخرجه مسلم كما رأيت، وأخرجه عبدالله بن وهبٍ في جامعه (622) وابن أبي شيبة في مسنده (826) وأحمد في مواضع عديدة من مسنده، منها (23763، 23764) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1401) وأبو عوانة في مستخرجه على صحيح مسلم (9833، 9835) وغيرهم.

أقول: أمامنا إسنادان كلاهما في صحيح مسلمٍ، وفي مستخرج أبي عوانةَ عليه.

أسند الإمام أبو بكر بن أبي خيثمة في ترجمة الصحابيّ معاوية بن الحكم السلميّ من تاريخه الكبير (1: 5485) عن عطاء بن يسار قال: حدثني معاوية عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثلاثةَ أحاديثَ.

لكنّ ابن عبدالبرّ جعلها حديثاً واحداً، قطعه بعض الرواة عنه، فجعله ثلاثة أحاديث، كما في الاستيعاب (3: 1414).

ومعاوية بن الحكم السلميّ؛ معروفُ العين، ترجمه الذهبي في تاريخ الإسلام، وأرّخ وفاته (51 - 60 هـ) وترجمه المزي في تهذيبه (28: 170) وقال: روى عنه ثلاثة رواة: عطاءُ بن يسار، وولده كثيرُ بن معاوية بن الحكم، وأبو سلمة بن عبدالرحمن.

وحديثُه هذا رواه عنه راويان:

عطاء بن يسار (ت: 103 هـ) وأبو سلمة بن عبدالرحمن (ت: 94 هـ).

وعطاءُ بن يسار: ترجمه المزي في تهذيبه (20: 125) ونقل عن جمع من العلماء أنه توفي سنة ثلاث ومئة، وهو ابن أربع وثمانين سنة، وهذا يعني أنه ولد في خلافة عمر بن الخطاب سنة (19 هـ).

وهلال بن أبي ميمونة: ترجمه المزيّ في تهذيب الكمال (30: 343) ونقل عن أبي حاتم فيه: شيخ يكتب حديثه، وعن النسائيّ: ليس به بأس.

فيكون هذا الحديث على قسمين:

ما اتّفق عليه عطاء بن يسارٍ وأبو سلمة بن عبدالرحمن صحيحاً، وما انفرد به هلال بن أبي ميمونة يكون ضعيفاً؛ لأنّ جملة «يكتب حديثُه» وجملة «لا بأس به» إنما يقبل حديثُ صاحبِها في المتابعات، أمّا ما ينفرد به من اتّصف بذلك؛ فحديثه منكر!

قال الذهبيّ في الميزان (3: 140): «إنّ تفرُّدَ الثِقةِ المُتْقِن؛ يُعَدُّ صَحيحاً غريباً، وإنّ تَفرّد الصَدوقِ ومَنْ دونَه؛ يُعَدُّ مُنكَراً».

وقال ابن حجر في النكت على علوم ابن الصلاح (2: 690): «حاصلُ كلامِ هؤلاء الأئمة أنّ الزيادةَ إنّما تُقبل ممّن يكن حافظاً مُتقناً، حيث يَستوي مَع مَن زاد عليهم في ذلك.

فإن كانوا أكثرَ عدداً منه، أو كان فيهم مَن هو أحفظُ منه، أو كان غيرَ حافظٍ، ولو كان في الأصلِ صَدوقاً؛ فإنّ زيادتَه لا تُقبَلُ».

وهلال بن أبي ميمونة ليس من الثقات المتقنين، إنما هو ممن يكتب حديثه، ولا يحتجّ بما ينفرد به، وبذلك يكون ما انفرد به هلالٌ من حديث الجارية التي زعم أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قالَ لَهَا: (أَيْنَ اللهُ)؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ!

قَالَ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (مَنْ أَنَا)؟ قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: (أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ) يكون هذا القسم من الحديثِ منكراً.   

ويَكون جميعُ من صحّح الحديثَ؛ أخذ بظاهر الإسناد، واعتمد على تخريجِ مسلمٍ للحديثِ، بمعزلٍ عن طريقِ أبي سلمةَ التي تُبرز وهمَ هلالِ بن أبي ميمونة، وعدم حفظِه للحديث.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الاثنين، 16 يناير 2023

  في سَبيلِ العِلْمِ (2):

مَعَ شَيْخِنا الشَعْراويِّ (2)!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتب إليّ أحدهم يقول: أنا أعتب عليك كثيراً يا شيخ عداب، مع معرفتي بشجاعتك وجرأتك بقول الحقّ.

لكن ألا تتذكر مَوقفَك من الشيخ الشعراوي، عندما قال للرئيس أنور السادات: «لو كان لي من الأمر شيءٌ؛ لحكمت لهذا الرجل - السادات - بمقام الذي لا يُسأل عمّا يفعل» وعندما قال: «أكبر أعدائي هم الشيوعيّون، والإخوان المسلمون»؟

ألا تتذكّر عندما قلت: يجب أن يستتاب الشيخ الشعراويّ؟

أقول وبالله التوفيق:

كان هذا الكلام في حدود عام (1978م) قبل أن ألتقيَ بالشيخ الشعراويّ، وأتعرّف إليه عن قرب!

وقد سألته عن هاتين المسألتين بعينهما، في عام (1401) ونحن في طريقنا إلى مكّة المكرمّة!

أمّا عن قوله «أعدائي الشيوعيين والإخوان المسلمين» فكان جوابه بما معناه:

«أمّا الشيوعيون؛ فظاهر، ولا تحتاج مني إلى تفسير!

وأمّا الإخوان المسلمون؛ فلست أدري إن كنت تعلم أو لا تعلم، فقد كنت أنا من جماعة الإخوان المسلمين، وكنت معجباً جدّاً بالشيخ حسن البنّا وبوالده أيضاً، رحمهما الله تعالى.

لكنّ الإخوان المسلمين غيّروا وبدّلوا، وصار همّهم الأوّل والأخير هو الوصول إلى الحكم، وقد اغتالوا عدداً من الشخصيّات المصريّة المخلصة، ولا يخفى عليك فظائع ما ارتكبه الجهاز السريّ، وهذا لا يمكن أن أوافق عليه أو أقبله، والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أمرنا بالصبر على وُلاة الأمر، حتى يستريح برٌّ، أو يُستراحَ من فاجر، وإلّا أنت مش معاي؟!

قال الله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أليس هذا مذهب أهل السنّة قاطبة؟

أليس الاغتيالُ السياسيّ خلاف الهدي النبويّ الشريف (الإيمان قيّد الفتك).

على كلّ حال: هذا مذهب أهل السنة، وهذا رأيي وفهمي!

يعجبك ما يعجبكش، هذا قرارك»!

وأمّا كلامي للسادات؛ فأنا برضه أتبع في ذلك الهدي الربانيّ، اسمع يا ابني!

يقول الله تبارك وتعالى لنبيّيه موسى وهارون، على نبينا وعليهما الصلاة والسلام:

(اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى).

وقال لرسولنا صلّى الله عليه وسلّم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ).

وقال له أيضاً: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

والشيخ حسن البنا بذات نفسه، كان يخاطب الملك فاروق بألفاظ التفخيم والتبجيل، وعندما التقى الملك عبدالعزيز في الحجّ، أثنى عليه ثناء عاطراً، ليه؟

لأنّ الملوك لا يفهمون إلّا هذه اللغة، وعلى الداعية إلى الله تعالى أن يدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة!

وبعدين أنتَ يا ابني أديب وشاعر، أين الخطأ الشرعي في كلامي؟

أنا قلت إيه؟ أنا قلت: «إذا» أنا قلت: «إن» أو قلت: «لو»؟

أنا قلت: «لو» يا ابني، وجواب «لو» يكون إيه؟

قلت له: جواب «لو» منفيّ!

قال: هو ده، فما دام جواب «لو» منفيّاً؛ فأين الجرم الذي وقع الشعراوي فيه؟ ما فيش!

أنا عملت تورية، عشان هدّئ الجوّ، ويبرد غضب الرئيس أنور السادات، لكنّ الموجودين لم يفهموا، فراحوا يشنعون عليّ!

قال الفقير عداب: ممّا لا ريب فيه عندي أنّ (99%) من علمائنا مجاملون في قول الحقّ، عاجرون عن التعامل مع الملوك والقادة والعسكر.

وجميع علماء أهل السنّة يرون حرمةَ الخروجِ على الحاكم، ويرون الاقتصار على نصيحته بالسرّ، والدعاء له، والشعراوي واحدٌ من أولئك العلماء، فإذا رحنا نسقطه بهاتين الكلمتين وأشباههما؛ فهذا يستلزم إسقاط جميع علماء الإسلام، إلّا أفراداً قليلين، قد لا يصلون إلى عشرة علماء في تاريخنا الإسلاميّ كله.

ولا يخفى على أحدٍ منكم أنّ منهجي ليس هذا، وأنا أخالف الشيخ في المسألتين!

لكنني كما قلت مرات: لا يسعنا في هذه الدنيا، إلّا الإعذار بالاجتهاد، والإعذار بالجهل، والله تعالى يتولّى حسابَ الخلائق يوم القيامة.

من شيوخي السيّد مجد الدين المؤيّدي.

ومن شيوخي السيّد علي السيستانيّ.

ومن شيوخي السيّد محمد مهدي الخرسان.

ومن شيوخي الشيخ أحمد الخليلي مفتي سلطنة عمان.

ومن شيوخي عبدالحليم محمود.

ومن شيوخي عبدالعزيز ابن باز.

هل تتوقّعون أنّني أوافقهم في كلّ ما يذهبون إليه، وما هو من أصول مذاهبهم؟

فإذا كنت أعذر هؤلاء جميعاً - على كثرة ما أخالفهم فيه - فمن الطبيعيّ أن أعذر شيخي الشعراويّ، رحمهم الله تعالى أجمعين، ورحمنا معهم وبهم.

واللهُ تَعالَى أَعْلَمُ.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى اللهُ على سَيّدنا محمّدِ بن عبدِالله، وعلى آلِه وصحبِه وسلَّمَ تَسْليماً.

والحَمْدُ للهِ عَلى كُلِّ حالٍ.

 

السبت، 14 يناير 2023

  مَسائلُ حديثيّةٌ  (5):

الإجماعُ على صِحّة أحاديثِ الصَحيحينِ (2)!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

ذكرت في المنشور السابق (4) أنّ الإجماعَ الأصوليّ، الذي يعني «اتّفاق مجتهدي عصرٍ من عصور الإسلام على حكم واحدٍ في مسألةٍ مطروحةٍ للاجتهاد، بأن يبدي كلّ واحدٍ منهم رأيَه صراحةً في تلك المسألة، ثمّ تتفق آراؤهم جميعاً على حكم واحدٍ فيها».

هذا الإجماع لا وجودَ له إطلاقاً بين الصحابةِ الذين كانوا محصورين في المدينة، وعدد علمائهم لا يزيد على عشرين صحابيّاً عالماً، بحالٍ من الأحوال.

أمّا الإجماع السكوتيّ، الذي يعني «أن يحكم بعضُ مجتهدي عصرٍ من العصور على واقعةٍ حدثت في عصره بحكمٍ ما، وينتشر هذا الحكم بين المجتهدين في ذلك العصر، فيسكتون، ولا يظهر من أحدهم اعتراضٌ ولا إنكارٌ على ذلك الحكم».

وفي عصرنا هذا «القرن الخامس عشر الهجريّ» يكون اتّفاق علماء الفرق الإسلاميّة: من مدرسة أهل السنة، ومدرسة الشيعة، ومدرسة الإباضيّة، على حكمٍ في واقعةٍ معيّنةٍ إجماعاً توافقيّاً، أو إجماعاً ضمنيّاً، وهو إجماعٌ ظنيّ بالتأكيد؛ لأنّ إحصاءَ فتازى كلّ علماء الأمة في حكم واقعةٍ؛ متعذّر، والذين يظهرون ويبرزون؛ هم العلماء الرسميّون، وقد يكون في الأمة من هو أعلم منهم بمرّاتٍ وكرّات!

ونحن في هذا المنشور؛ سنذكر عدداً من العلماءِ الذين رفضوا دعوى الإجماع هذه، صراحةً، وليس ضمنيّاً؛ لأنّ الرفضَ الضمنيّ، الذي يعني تضعيفَ حديثٍ أو أحاديثَ في الصحيحين؛ أكثرُ من أن يحصى!

(1) الإمام أبو الفضل الشهيد، محمد بن أبي الحسين الجاروديّ (ت: 317 هـ).

وقد صنّف جزءاً حديثيّاً، استدرك به (36) حديثاً على الإمام مسلم، وهو جزءٌ مهمّ، لا يسع طالبَ علمٍ تجاهله.

(2) الإمام أبو الحسن علي بن عمر الدارقطنيّ (ت: 385 هـ).

قال في مقدمة كتابه التتبع (ص: 120): «ابتداءُ ذِكر أحاديثَ مَعلولةٍ اشتملَ عليها كتابا البخاريِّ ومُسلمٍ، أو أحدهما، بيّنتُ عِلَلَها والصواب منها».

ثمّ ساق (218) حديثاً، حسب النسخة المطبوعةِ (ص: 378).

لكنّ في ختام الطبعة (ص: 378) ما نصّه (قال أبو بكر الخوارزمي: هذا آخر ما وجدته من هذا التَعليق بِخطِّ أبي الحسن الدارقطني».

وقال ابن القَمّاح: نُقل مِن خَطّ الحافظ السِلَفيِّ على حواشي نسخته: «مائتان وسبعةُ مواضعَ، تَتبّعها الدارقطنيُّ على أبي عبدالله البخاريّ، وعلى أبي الحسين مسلم بن الحجاج».

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1: 346): «الْفَصْل الثَّامِن فِي سِيَاق الْأَحَادِيث الَّتِي انتقدها عَلَيْهِ حَافظ عصره أَبُو الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره من النقاد وإيرادها حَدِيثا حَدِيثا» على سِيَاق الْكتاب وَسِيَاق مَا حضر من الْجَواب عَن ذَلِك.

وَقبل الْخَوْض فِيهِ يَنْبَغِي لكل منصف أَن يعلم أَن هَذِه الْأَحَادِيث وَإِن كَانَ أَكْثَرهَا لَا يقْدَح فِي أصل مَوْضُوع الْكتاب، فَإِن جَمِيعهَا وَارِدٌ من جِهَة أُخْرَى، وَهِي مَا ادَّعَاهُ الإِمَام أَبُو عَمْرو بن الصّلاح وَغَيره من الْإِجْمَاع على تلقي هَذَا الْكتاب بِالْقبُولِ وَالتَّسْلِيم لصِحَّة جَمِيع مَا فِيهِ فَإِن هَذِه الْمَوَاضِع متنازع فِي صِحَّتهَا فَلم يحصل لَهَا من التلقي مَا حصل لمعظم الْكتاب وَقد تعرض لذَلِك بن الصّلاح فِي قَوْله: «إِلَّا مَوَاضِعَ يسيرَةً انتقدها عَلَيْهِ الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره».

وَقَالَ فِي مُقَدّمَة شرح مُسلم لَهُ: «مَا أَخذ عَلَيْهِمَا يَعْنِي على البُخَارِيّ وَمُسلم وقدح فِيهِ مُعْتَمد من الْحفاظ؛ فَهُوَ مُسْتَثْنى مِمَّا ذَكرْنَاهُ لعدم الْإِجْمَاع على تلقيه بِالْقبُولِ انْتهى، وَهُوَ احْتِرَاز حسن.

 وَاخْتلف كَلَام الشَّيْخ مُحي الدّين فِي هَذِه الْمَوَاضِع فَقَالَ فِي مُقَدّمَة شرح مُسلم مَا نَصه:

فصل: قد استدرك جمَاعَة على البُخَارِيّ وَمُسلم أَحَادِيث أخلّا فِيهَا بشرطيهما وَنزلت عَن دَرَجَة مَا التزماه، وَقد ألّف الدَّارَقُطْنِيّ فِي ذَلِك، وَلأبي مَسْعُود الدِّمَشْقِي أَيْضا عَلَيْهِمَا اسْتِدْرَاك، وَلأبي عَليّ الغساني فِي جُزء الْعِلَلِ من «التَّقْيِيد» اسْتِدْرَاك عَلَيْهِمَا، وَقد أُجِيب عَن ذَلِك، أَو أَكْثَره» ويحسن قراءة مقدمة ذلك الفصل كاملة.

وقد بيّن الدكتور ربيع بن هادي في كتابه القيّم «بين مسلمٍ والدارقطنيّ» (ص: 29) أنّ العددَ الصحيح من الأحاديثِ التي انتقدها الدارقطنيّ، من مسند الإمام مسلم، هي (95) حديثاً، والباقي كانت منتقدةً على البخاريّ. 

وقد أوضح في خاتمة كتابه هذا (ص: 438) أنواع الانتقادات التي وجّهها الدارقطنيّ إلى صحيح مسلم، وأوضح رأيَه فيها، فانظرها فإنها مفيدةٌ للغاية!

أقول: بمعزلٍ عن صوابِ الدارقطنيّ في نقده جميعَ هذه الأحاديثِ، أو خطئه في بعضها، فليس ثمّة إجماع أصوليٌّ ولا سكوتيٌّ حتى عصر الدارقطنيّ، إذن!

(3) الإمام أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي (ت: 464 هـ).

في كتابه التعديل والتجريح، لمن خرّج له البخاريّ في جامعه الصحيح (1: 310): أسند إلى البخاريّ أنه قال: « مَا أدخلت فِي هَذَا الْكتاب - يَعْنِي جَامعَه الصَّحِيحَ - إِلَّا مَا صَحَّ، وَتركت من الصِّحَاح حَتَّى لَا يطول الْكتاب»

قال الباجيُّ: «وَإِنَّمَا أدخلت هَذِه الْحِكَايَة؛ لِئَلَّا يعْتَقد من لَا يحسن هَذَا الْبَاب أَنّ مَا لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ؛ لَيْسَ بِصَحِيح!

بل قد تَصحُّ أَحَادِيثُ لَيست فِي صحيحي البُخَارِيّ وَمُسلمٍ، وَلذَلِك قد خرج الشَّيْخ أَبُو الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ وَالشَّيْخ أَبُو ذَر الْهَرَوِيّ فِي كتاب «الإلزاماتُ من الصَّحِيح» مَا ألزماهما إِخْرَاجه كما أَنه قد وجد فِي الْكِتَابَيْنِ مَا فِيهِ الْوَهمُ.

وَأخرج ذَلِك الشَّيْخ أَبُو الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ، وَجمعه فِي جُزْءٍ، وَإِنَّمَا ذَلِك بِحَسب الِاجْتِهَاد.

فَمن كَانَ من أهل الِاجْتِهَاد وَالْعلم، بِهَذَا الشَّأْنِ؛ لزمَه أَن ينظر فِي صِحَة الحَدِيث وسقمه، بِمثل مَا نظرا.

وَمن لم تَكن تِلْكَ حَاله لزمَه تقليدُهما فِيما ادّعَيَا صِحَّته، والتوقّف فِيمَا لم يُخرجَاهُ فِي الصَّحِيح.

وَقد أخرج البُخَارِيُّ أَحَادِيثَ، اعْتقد صِحَّتها؛ تَركهَا مُسلم لما اعْتقد فِيهَا غيرَ ذَلِك.

وَأخرج مُسلم أَحَادِيث اعْتقد صِحَّتهَا؛ تَركهَا البُخَارِيّ لما اعْتقد فِيهَا غير معتقده.

وَهُوَ يَدل على أَن الْأَمرَ طَرِيقُه الِاجْتِهَادُ، لمن كَانَ من أهل الْعلم بِهَذَا الشَّأْنِ، وَقَلِيل مَا هم»!

وتفريعاً على هذه القاعدةِ التي قرّرها الإمام الباجيّ؛ فهناك عشراتٌ من رواة صحيح البخاريّ، نقل هو عن الأئمة أقوالهم فيهم، ومنها (منكر الحديث) وعشراتٌ أخرى (ضعيف) وعشرة رواة (لا يحتجّ به) وهؤلاء الرواة وغيرهم لا يسع الباحثَ غيرُ النظر في أحوالهم، وفي كيفية تخريج البخاري ومسلم لهم.

(4) الإمام أبو عليّ الحسين بن محمّد الغسّاني الجيّاني (ت: 498).

قال في كتابه الماتع القيّم تقييد المهمل وتمييز المشكل (2: 565) ما نصّه:

«هذا كتابٌ يتضمن التنبيهَ على الأوهامِ الواقعةِ في المسندين الصحيحين، وذلك في ما يخصُّ الأسانيدَ وأسماءَ الرواة، والحملُ فيها على نقلة الكتابين عن البخاري ومسلم، وبيان الصواب في ذلك.

واعلم، وفقك الله؛ أنه قد يندر للإمامين مواضعُ يسيرةٌ من هذه الأوهام، أو لمن فوقهما من الرواة، لم تقع في جملة ما استدركه الشيخ الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني عليهما.

ونبّه على بعض هذه المواضع أبو مسعود الدمشقي الحافظ، وغيره من أئمتنا، فرأينا أن نذكرها في هذا الباب لتتم الفائدة بذلك، والله الموفق للصواب.

فمن ذلك ما جاء في كتاب أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري».

ثمّ تتّبع الأوهامَ الواقعةَ في الصحيحين، من الصفحة (565) حتى الصفحة (759) ثمّ قال: «انتهى ما نَبّهنا عليه ممّا وقعَ في كتاب البخاري مِن الأوهامِ، مِن قِبَل رُواةِ الكتاب، ومِن عِللِ أسانيدَ لم تقع في الاستدراكات، التي لأبي الحسن الدارقطني.

إلا مواضعَ يسيرةً، احتجنا إلى الاستشهاد بقوله في بعض ما سنح من هذا الباب».

ثمّ قال (3: 763): «وهذا كتابٌ يَتضمّنُ التَنبيهَ على ما في كتاب مسلم بن الحجاج، من الأوهامِ لرواةِ الكتابِ عنه، أو لمَنْ فوقهم من شيوخِ مسلمٍ وغيرهم، ممّا لم يذكره أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني في كتابِ الاستدراكات.

ومن الرواة الذين نقلوا إلينا الكتاب عن مسلم:

1- أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه.

2- وأبو محمد أحمد بن علي بن الحسن القلانسي رحمهما الله».

وفي ختام تنبيهه على الأوهام الواقعة في صحيح مسلم (3: 937) قال:

«انتهى ما ذَكرنا من العِلل، ومِن إصلاحِ الأوهامِ الواقعةِ في الكتابين، التي جاءت من قبل الرواة عن البخاري ومسلم، رحمهما الله تعالى.

ومَن جَمع إلى كتابنا هذا كتابَ الاستدراكات، التي أملاها أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني عليهما، في كتابيهما الصحيحين؛ فقد جمع عِلماً كثيراً، مما يتعلق بالكتابين، ومتناً صالحاً مِن العِلل وعِلم الحديث».

أقول: سطر الغسانيّ أكثر من (400) صفحةٍ في نقد الصحيحين، فهل كان يلعب؟

وسواءٌ كانت الأوهامُ والعلل من قِبلِ الإمام مسلمٍ، أم كانت من قِبل شيوخِه، أو من قِبل رواة كتابه؛ فالنتيجة واحدة، إذ نحن نجلُّ الإمامين البخاريّ ومسلماً، ونَعلم أنهما محدّثان ناقدان كبيران، لكنّ هذا لا يمنع من طروء الوهم عليهما، وعلى شيوخهما، وعلى الرواة عنهما، وتتبّع الغسانيّ يشمل ذلك كلّه.

(5) الإمام عبدالحقّ بن عبدالرحمن الإشبيليّ (ت: 581 هـ).

أخرج الإمام مسلم من حديث أبي الزبير محمد بن مسلمٍ المكيّ عن جابر بن عبدالله الأنصاريّ (214) حديثاً، ومعلومٌ لدى طلبة العلم أنّ أبا الزبير مدلّس!

فقال الإمام عبدالحقّ في الأحكام الوسطى (3: 180): « إنما يؤخذ من حديث أبي الزبير ما يَذكُر فيه السَماع، أو كان من رواية الليثِ بن سعدٍ عن أبي الزبير، وليس هذا الحديث من رواية الليث فيما أعلم».

وقال في موضع آخر (3: 226): « إنما يؤخذ من حديث أبي الزبير عن جابر ما ذَكَر فيه السماعَ، أو كان عن الليث عن أبي الزبير» وأعاد الكلام نفسه في (4: 117).

أقول: الأحاديث التي رواها الليثُ بن سعدٍ عن أبي الزبير (26) حديثاً، فحسب!

وقد بيّن أبو الزبير السماعَ، عند مسلمٍ في (122) موضعاً، فهذه (148) موضعاً مقبولةٌ عند عبدالحقّ، إذا كانت العلّة الوحيدة فيها هي تدليس أبي الزبير، فيبقى عندنا (56) حديثاً غير مقبولةٍ عند عبدالحقّ وابن القطّان وغيرهما!

ومع تصريح أبي الزبير بهذا الكمّ الكبير من الأحاديث؛ فإنّ البخاريّ لم يخرّج له حديثاً واحداً مسنداً في صحيحه، وعدّه ممّن لا يحتجّ به إذا انفرد!

واستشهد به في سبعة مواضع من صحيحه (705، 1320، 2189، 2718، 4130، 4137، 7442).

فلو أنّ باحثاً رجّح منهج البخاريّ على منهج مسلمٍ في جميع أحاديث أبي الزبير، فلم يَقبلْ منها، إلّا ما صرّح فيه بالتحديث، هل يكون طاعناً في صحيح مسلم؟

(6) الإمام الناقد أبو الحسن علي بن محمد الكُتاميّ القطّان (ت: 628 هـ).

قال في كتابه الوهم والإيهام (2: 164): «وَحَدِيث أبي جُهَيم هَذَا، سأذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى، فِي بَاب الْأَحَادِيث التِي أوردهَا على أَنَّهَا مُتَّصِلَة، وَهِي مُنْقَطِعَة، فَإِنَّ الحديثَ فِي كتاب مُسلم بَيّنُ الِانْقِطَاع، وَهُوَ «عبدالحقّ» مُعرِضٌ فِيمَا يُورد من مُسلم أَو البُخَارِيّ، عَن النّظر فِي الْأَسَانِيد، وَقد علم أَن فيهمَا أَحَادِيثَ مُنْقَطِعَة، ويُظَنُّ أَنَّهَا تخطئه، فَيَقَع فِيهَا وَلَا يشْعر، وسترى من ذَلِك جملَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى».

وقال فيه أيضاً (5: 303): «وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن يُحذَرَ فِي كِتَاب «الأحكام الوسطى لعبدالحقّ» سُكوتُه عَن مُصحّحات التِّرْمِذِيّ، وَمَا أخرجه البُخَارِيّ أَو مُسلم، فَإِنَّهُ قد يكون الحَدِيث مِنْها مِن رِوَايَة مَن هُوَ عِنْده ضَعِيفٌ، أَو مَوضِعٌ للنَّظَر، إِذا كَانَ مَا يرويهِ من عِنْد غير هَؤُلَاءِ!

وَكَأَنَّهُ إِذا كَانَ مَا رَوَاهُ «موجوداً» عِنْد هَؤُلَاءِ؛ دخل الْحمى، فَسلم من اعْتِبَار أَحْوَاله، فَإِذا كَانَ مَا يَرويهِ من عِنْد غير هَؤُلَاءِ؛ وضعَ فِيهِ النّظر.

فَمِنْهَا أَحَادِيث أبي الزبير عَن جَابر، من غير رِوَايَة اللَّيْث، وَمِمَّا لم يذكر فِيهِ سَمَاعه، أورد مِنْهَا من عِنْد مُسلم جملَة كَبِيرَة، لم يبين أَنَّهَا من رِوَايَته، وَهُوَ إِذا روى عِنْد غير مُسلم، نبه عَلَيْهِ، وَبَين أَنَّهَا من رِوَايَته، وَقد قدمنَا ذكر ذَلِك بِمَا يُغني عَن رده.

وَكَذَلِكَ سماك بن حَرْب، لم يعرض لَهُ فِي شَيْء مِمَّا أخرج من حَدِيثه من عِنْد مُسلم، وَقد تقدم أَيْضا بَيَان ذَلِك.

وَكَذَلِكَ أَحَادِيث أبي سُفْيَان عَن جَابر، وَإِنَّمَا هِيَ كَمَا قُلْنَا الْآن صحيفَة.

وقال في موضع آخر (2: 168): « والدرك الثَّالِث: هُوَ إِيرَاده حَدِيث ابْن عمر الْمَذْكُور، وَهُوَ من رِوَايَة حَرْمَلَة وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ، وَمِمَّنْ عيب على مُسلم إِخْرَاجه».

وقال في موضع آخر (3: 324): « وَيحيى بن أَيُّوب مُخْتَلف فِيهِ، وَهُوَ مِمَّن عيب على مُسلم إِخْرَاج حَدِيثه».

وقال في يحيى أيضاً (4: 69): «وَأما يحيى بن أَيُّوب، فَهُوَ أَبُو الْعَبَّاس الغافقي، الْمصْرِيّ، وَهُوَ مَن قد عُلِمَتْ حَالُه، وَأَنه لَا يُحْتَج بِهِ لسوء حفظه، وَقد عيب على مُسلم إِخْرَاجه، وَمِمَّنْ ضعفه أَحْمد بن حَنْبَل، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا يحْتَج بِه».

وقال أيضاً في (3: 394): «ومطر الْوراق كَانَ يشبه فِي سوء الْحِفْظ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، وَقد عيب على مُسلم إِخْرَاج حَدِيثه».

فكلام ابن القطّان واضحٌ في أنّ وجود الحديث في الصحيحين؛ لا يعني تركَ البحثِ عن علله!

وقال في موضع آخر (4: 37): «هُوَ حَدِيث فِي إِسْنَاده فُليح بن سُلَيْمَان، وَهُوَ ضَعِيف، وَإِن كَانَ البُخَارِيّ قد أخرج لَهُ، مِمَّن عيب عَلَى البخاريِّ الْإِخْرَاجُ عَنهُ، وَأرَاهُ كَانَ حسن الرَّأْي فِيهِ، فَإِنَّهُ قد تجنب الدارورديَّ، فَلم يخرج عَنهُ إِلَّا مَقْرُوناً بِغَيْرِهِ، وَهُوَ أثبت عِنْدهم من فليح.

قَالَ ابْن معِين فِي فليح: لَا يحْتَج بِهِ، هُوَ دون الدَّرَاورْدِي.

وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَيْسَ بِشَيْءٍ، روى ذَلِك عَنهُ الرَّمْلِيّ.

وَقَالَ السَّاجِي: إِنَّه يَهِم، وَإِن كَانَ من أهل الصدْق».

أقول: هذا النصّ واضحٌ بأنّ وجود الحديثِ في صحيح البخاريّ؛ لا يستلزم تركَ البحثِ عن علله!

وقد أخرج البخاريّ لفليحِ بن سليمان هذا (53) حديثاً، منها ما توبع عليه، ومنها ما تفرّد به، ومذهب هؤلاء الأئمّة أنّه لا يحتجّ بما يتفرّد به!

وهذا ما فعله الإمام مسلم، فلم يحتجّ بحديثٍ واحدٍ لفليح، إنما أخرج له خمس رواياتٍ متابعةً، فانظرها (240، 839، 891، 2382، 2770).

وهذا ما فعله مسلمُ بأحاديث عكرمة مولى ابن عبّاس؛ فإنه لم يخرّج له في صحيحه، سوى حديثٍ (1208) من طريقين، كان في كلٍّ منهما مقروناً.

بينما أخرج البخاريّ لعكرمة (139) رواية بالمكرر، منها ما توبع عليه عكرمة، ومنها ما انفرد به.  

فماذا عليَّ أو على غيري من الباحثين، إذا رجّح مذهب ابن معين ومسلم وأبي داود والساجي في أحاديث فُليح، ورجّح مذهب مسلمٍ على مذهب البخاريّ في عكرمة، فلم يقبل منه إلّا ما توبع عليه؟

وأيّ إجماعٍ سخيفٍ يدّعى، مع ما تقدّم ذكره، عن هؤلاء الأئمة الكبار؟

إنّ الجهل والعصبيّة الحمقاء؛ هي التي تقود أولئك اللئامِ إلى التشويه والتشويش!

وسنتابع الكلام في هذه المسألةِ، حتى لا نبقي عذراً لعالمٍ أو جاهل!

إن شاء الله تعالى.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الجمعة، 13 يناير 2023

 مَسائلُ حديثيّةٌ  (4):

الإجماعُ على صِحّة أحاديثِ الصَحيحينِ (1)!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتب إليّ يقول: إذا سبقَ إجماعُ أهل العلمِ في عصرٍ من العصورِ على مسألةٍ، هل يجوز نقضُ هذا الإجماع؟

وإذا قلتم: لا يجوز نقضه، فكيف تضعّفون بعضَ أحاديثِ الصحيحين، وترون أنّكم بذلك مأجورون؟

أقول وبالله التوفيق:

يحسن الإجابةُ على ما تقدّم بفقراتٍ وجيزة، حتى يسهل استيعاب الكلام على غير المتخصّصين!

أوّلاً: أنا الفقير إلى الله تعالى، جاوزت الخامسة والسبعين من عمري، وأبعدُ ما يمكن قولُه في بداية طلبي للعلم أنّه كان في بداية العام الدراسي (1962 - 1963) فشهود هذا في بلدنا حماة عشراتٌ كثيرةُ، وربما مئاتٌ!

أمّا طلبي للعلم قبل هذا؛ فلا يعرفه سوى أفرادٌ من الخواصّ!

مع أنني قبل العام (1962) حفظت ربع (يس) وربع العبادات من متن القدوري الحنفيّ، ومثله من متن الغاية والتقريب الشافعيّ، وحضرت كثيراً من مجالس العلم على عدد من العلماء، ومئاتٍ من خطب الجمعة!

ولو نحن نظرنا إلى عام (1962) وعام (2023) لوجدنا الفقير يطلب العلم منذ واحدٍ وستّين عاماً، وربما لم يطلب العلم واحداً وستّين عاماً أحدٌ من الصحابة رضي الله عنهم، ولا طلب العلمَ واحداً وستين عاماً، إلّا عددٌ يسير من العلماء الذين أطال الله أعمارهم.

ولا يعني هذا أنني أزنُ نفسي الضعيفةَ بالصحابة أو غيرهم، إنما أعني أنني أمضيت عمري الطويل هذا كلّه في طلب العلم، مما لا يتأتى مثله لكثيرين!

ولا يستطيع عاقلٌ أن يقول: إنني لم أكن من الأذكياء والمتميّزين؛ لأنني كنت الأوّل على طلّاب جامعة أم القرى، عام (1402) بمعدل ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى!

ويَعلم زملائي في جامعة أمّ القرى أنني كنتُ المتفوّق بالمسابقات الثقافية التي كانت تقوم بها عِمادة شؤون الطلاب في الجامعة كلّ عام.

وقد كتبتُ في العلم الشرعي والثقافة الإسلامية أكثرَ من عشرين ألف صفحة بيقين!

ما أريد قولَه: إنني عندما أوافق بعض المتقدّمين، أو أخالف بعضهم الآخر؛ فأنا لا ألفّق بين أقوالِ هؤلاء وأولئك، إنما هو اختيارٌ للصواب في نظري، وترجيحُ قولٍ على قولٍ بقوّة الدليل في نظري!

ثانياً: لو سلّمتُ أنا بوجود إجماعٍ أصوليٍّ في الفقه الإسلاميّ - وأنا لا أسلّم إلّا بوجود الإجماع السكوتي التقديريّ - فقد اختلف أهل العلم: هل يدخل علماءُ أهل البدع في الإجماع؟

بمعنى آخر: هل يدخل علماءُ (200 - 300) مليون مسلمٍ، مع أهل السنّة المدّعين للإجماع في الإجماع؟

اختلف العلماء في هذا، وترجيحي أنا مع الذين قالوا بوجوب دخول علماء المبتدعة في الإجماع.

فإذا اختلفتُ أنا وإيّاك في مسألةٍ؛ فأنت تلزمني بمنهجي الاجتهاديّ، وليس بمنهجك التقليديّ!

بتوضيح أكثر: إذا ادّعى سنيٌّ الإجماعَ على صحّةِ أحاديث الصحيحين؛ فدعواه باطلةٌ ابتداءً، ومن دون تفكيرٍ؛ لأنّ الشيعة الزيدية والإمامية والإسماعيليّة، والإباضيّة، لا يَعترفون بهذا الإجماع جملةً وتفصيلاً، وجميع هذه الفرق تقول بوجود أحاديثَ ضعيفةٍ في الصحيحين.

فيكونُ التشويشُ بأن لا عبرة بأقوال المبتدعة، وأنت تتبع المبتدعة؛ ليس من العلم في شيءٍ، إنما هو انتصارٌ للهوى والمذهب، ليس غير!

ثالثاً: أنا شخصيّاً أعتدُّ بالتخصّص، ولا تعنيني كثيراً أقوالُ غيرِ المتخصصين، مهما اشتهرت أسماؤهم!

فعندما يجمع القرّاء على مسألةٍ؛ لا قيمة عندي لخلاف المحدّثين والفقهاء والمتكلّمين فيها البتّة!

وعندما يجمع الأصوليون على مسألة؛ لا قيمة عندي لخلاف القرّاء والمحدّثين والمفسرين!

وعندما يجمع المحدّثون على مسألةٍ؛ فلا قيمة لرأي الأصوليين والفقهاء والقرّاء وغيرهم، إن لم يكونوا متخصّصين!

وهذا يعني: هَلْ نقلٌ المحدّثون الإجماعَ على صحّةِ أحاديثِ الصحيحين، حتى أكون أنا خارقاً لهذا الإجماع؟

الذي يدّعي إجماعَ المحدّثين بعد عام (261 هـ) على صحّة أحاديثِ الصحيحين؛ أحدُ رجلين:

إمّا أنّه جاهل، وإمّا أنّه كذّاب أشر؛ لأنّ البخاريّ نفسَه ضعّف أحاديثَ أخرجها مسلمٌ في صحيحه، وضعّف مسلمٌ أحاديث أخرجها البخاريّ في صحيحه!

وأعرض مسلم عن قُرابةِ (800) حديثٍ، أخرجها البخاريّ في صحيحه، وأعرض البخاريّ عن أكثر من (1200) حديثٍ، أخرجها مسلمٌ في صحيحه!

وقد ضعّف الترمذيُّ عدداً من أحاديث البخاريّ، وعدداً أكثرَ من أحاديث مسلمٍ، وهو تلميذهما!

وحكم بقوله (حسن) على عشرات الأحاديث عند البخاريّ، وعند مسلم، ومصطلح (حسن) مجرّداً عن الإضافة عنده؛ هو الحديث (الحسن لغيره)!

وكتب أبو الحسن الدارقطنيّ كتابين في نقد الصحيحين، ولم يستوعب، أحدهما:  التتبع، والآخر: الإلزامات، وإذا كانت الإلزامات لا تلزمهما؛ فالذي تتبّعهما الدارقطنيّ وانتقدهما فيه (207) أحاديث في الصحيحين.

تقول لي: أجاب عنها النووي وابن حجر وغيرهما؛ أقول لك: أنا أوافق الدارقطنيّ مثلاً، فهو أعلم بعلل الحديث من النووي وابن حجر، ولا توجد قاعدةٌ علميّةٌ تلزمني بتقليد النووي وابن حجر!

رابعاً: اختلف المحدّثون في رواة الحديث، بين موثّقٍ ومضعّف، ورواة البخاريّ ومسلم منها.

مثلما اختلفوا في قبول رواية المستور والوحدان والأفراد.

وقد أخرج البخاريّ ومسلمٌ لعددٍ من المجاهيل، وعددٍ من المستورين، ولمائة راوٍ من الوحدان، وأكثرا من تخريج أحاديثَ لرواةٍ من العوامّ، ليس للواحد منهم سوى حديثٍ واحدٍ، وأكثرا من تخريج الأفراد المطلقة!

وقد اختلف العلماء كثيراً في قبول الأفراد المطلقة، كما سيأتي بيانُه!

فإذا قبلَ البخاريُّ حديثاً من الأفراد المطلقةِ، وضعّفه الإمام أحمد، أو أبو حاتم الرازي، أو أبو زرعة الرازي.

أو سكت عنه هؤلاء جميعاً؛ لأنّ المتأخر عن البخاريّ لم يقصد استيعاب نقده للصحيح، ثمّ وجدتُ أنا علّةً خفيّةً في إسنادِ هذا الحديثِ، أو نكارةً في متنه، أو تَضعيفاً من النقّاد لمن تفرّد به؛ فهل يجوز لي شرعاً أن أترك فهمي واجتهادي، إلى اختيار البخاريّ واجتهاده؟

ختاماً: أنا الفقير إلى الله تعالى أقرّ وأعترف ولديّ الأدلة الراجحة على صحّة وثبوت نِسبةِ صحيحِ البُخاريّ إلى البخاريّ، وصحّة وثبوت صحيح مسلم إلى مسلمٍ.

وأقرّ وأعترف بأنّ صحيح البخاريّ وصحيح مسلم؛ أصحّ كتابين من كتب الحديث عند المسلمين.

وأقرّ وأعترف بأنّ الصحيحَ والحسن في الصحيحين؛ أكثرُ بكثيرٍ، وكثيرٍ جدّاً من الأحاديث الضعيفة فيهما، وهذا لا يقوله أهل البِدَعِ، الذين يتّهمني خصومي بمجاراتهم!

والله تعالى يعلم أنني أبذُل قصارى جهدي؛ لأجد مخرجاً علميّاً مقبولاً  للحكم على بعض الأحاديث بالحسن، إذ عجزت عن إلحاقه بالصحيح!

وإنّ جميعَ المشوّشين، والزاعمين أنهم يردّون على الفقير عداب؛ لم يمارسوا تخريج الصحيحين، ولم يقوموا بإحصاءاتٍ علميّة، توضح جوانب القُصور في بعض أحاديث الصحيحين.

وبعض هؤلاء يقول: إنّ الطعن ببعض أحاديثِ الصحيحين؛ يقوّي المبتدعة، ويجعل لهم علينا سبيلَ الانتقادِ لما هو مستقرٌّ في مذاهب أهل السنّة؟

أقول: ومن الذي قال لكم عنّي: إنني معجَب بمذاهب أهل السنّة، أو بمذاهب الشيعةِ، أو بمذهب الإباضيّة؟

بيقينٍ تامٍّ لست معجباً بأيّ مذهبٍ من هذه المذاهب كلّها، ففي جميعها ثغراتٌ لا تكاد تحصى، وبعضُ هذه المذاهب يكفّر بعضاً، وبعضها يحقّر بعضها الآخر!

وجميع هذا المذاهب السنيّة وغيرها؛ لديها صوابٌ كثير، ولديها خطأٌ كثيرٌ وقليل!

ووظيفتي ووظائف أهل العلم المعاصرين؛ أن يعتمدوا الصواب الراجح وينشروه ويدعو إليه، ويوضحوا الخطأ ويحذّروا من العمل به.

وفي المنشور التالي؛ سأقيم الحجّةَ، وأورد الأدلّة التي تثبت أنّ دعوى الإجماع على صحّة جميع أحاديثِ الصحيحين؛ باطلةٌ من جذورها، وأن عشرات العلماء في القديم والحديث ضعّفوا بعض الأحاديث المخرّجة في الصحيحين، مثلما ضعّفوا مئاتٍ من رواتهما.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الأحد، 8 يناير 2023

 مَسائِلُ فِكْرِيّةٌ (2):

ما دَليلُ استحقاقِ عائِشَةَ وصفَ الصِدّيقَةِ ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

أرسل إليّ أحد الإخوة مقطعاً صوتيّاً للسيّد كمال الحيدريّ الشيعيّ الإماميّ، وقال: أنتم معاشرَ اهل السنّة تلهجون بأنّ عائشة أمّ المؤمنين صدّيقة، وهذا السيّد كمال الحيدريّ يتحدّاكم أن تأتوا بدليلٍ يثبت لها هذه الصفةَ الدينيّة الساميةَ!

استمعتُ إلى المقطع الصوتي الصغير، فوجدت السيّد كمال الحيدريّ يطلب الدليلَ المثبتَ منزلةَ «الصدّيقيّة» لأمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ويتحدّى من يأتيه بذلك الدليل!

أقول وبالله التوفيق: قبل الإجابةِ على تحدّيه؛ لا بدّ من الجوابِ على السؤال الآتي:

هل الصدّيقيّة مرتبة دينيّة خاصّة تلي مرتبةَ النبوّةِ، أو هي منزلة دينيّة عامّة، مبالغة من التصديق أو الصداقة، كوصفنا كلّ مسلمٍ بأنّه مسلم، ومؤمن؟

أوضح القرآن الكريمُ المفهومَ العامَّ للصدّيقيّة، فقال الله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ؛ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ!

وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ؛ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا؛ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) [الحديد].

فالذين يؤمنون بالله ورسولِه، وبسائر مقتضِياتِ ذلك الإيمان؛ هم الصدّيقون!

وبناء على هذا الفَهم؛ فكلّ مؤمنٍ بالله ورسوله، صحيح الإيمان؛ هو صدّيق!

هذا هو المعنى العامّ للصدّيقيّة!

فهل ثمّةَ معنى أخصَُّ لها؟

وصف الله تعالى عدداً من أنبيائه بالصدّيقيّة، فقال:

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) [مريم].

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) [مريم].

(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) [يوسف].

صحيحٌ أنّ الذي وصف يوسف بالصدّيق هو رفيقه في السجن، لكنّ الله تعالى حكى كلامه مقرّاً له، فجاز قولنا: إنّ الله وصف يوسف بالصدّيق!

ووصف الله امرأةً واحدةً في القرآن الكريم بالصدّيقَةِ، فقال جلّ شأنه:

(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ، انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) [المائدة].

وقال الله تعالى أخيراً:

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ؛ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ، وَكَفَى بِالله عَلِيمًا (70) [النساء].

عُلِمَ ممّا سبق أنّ الصديقيّة؛ مرتبةٌ دينيّةٌ، لا يجوز منحُها لأحدٍ إلا بدليل صحيح عن الله تعالى، أو عن رسولِه صلّى الله عليه وآله وسلّم.

أمّا الدليل الوارد عن الله تعالى في القرآن الكريم، في وصفِ أيّ إنسانٍ من هذه الأمّة؛ فغير موجود جزماً، لا في وصف عليٍّ، ولا أبي بكرٍ، ولا عائشة، رضي اللهُ عنهم!

وأمّا في الأحاديث النبويّة الشريفة؛ فقد ورد في الصحيحين حديثان استنبط منهما أهل السنّة وصفَ أبي بكرٍ بالصدّيقيّة.

الحديثُ الأوّل: أخرج الإمام مسلم في الفضائل (2417) من حديث سهيل بن أبي صالحٍ عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَى جبلِ حِرَاءٍ، فَتَحَرَّكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اسْكُنْ حِرَاءُ، فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ)

وَعَلَى الجبلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ» انتهى.

وفي إسناد هذا الحديث علّتان:

-الأولى: أنّه فردٌ مطلقٌ غريب، لم يروه عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم سوى أبي هريرة، ولا عن أبي هريرة إلّا ذكوان أبو صالح السمّان - من بين مائتي راوٍ أخذ عن أبي هريرة - ولا عنه سوى ابنه سهيل.

- العلّة الثانيّة: أنّ أبا هريرة لم يصرّح بسماعه الحديثَ من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو من واحدٍ من أولئك الصحابةِ الذين كانوا على الجبل، كما تقول الرواية.

وأبو هريرة أسلم في السنة العشرين من بعثة، وفي السنة السابعة من الهجرة.

وهذا النوع من مراسيل الصحابة يسمّيه ابن حزمٍ وابن القطّان الفاسي: المرسل الذي لا يمكن لراويه من الصحابة أن يكون شهده، فلا يقبَل منه هذا المرسل!

فبمعزلٍ عن الكلام في سهيلٍ وتفرّده هنا؛ فأبو هريرة يحدّثنا عن حدثٍ جرى قبل سبع أو ثمان، أو عشرين سنةً من إسلامه، إنّ صحّ صدوره عن أبي هريرة.

وأهل السنّة يعدّون عمر وعثمان وعليّاً وطلحةَ والزبيرَ من الشهداء.

لكن يبقى أبو بكرٍ، وهو الصدّيق الوحيد عندهم، ويبقى سعدٌ أيضاً، وأهل السنّة لا يقولون: إنّ سعداً شهيدٌ ولا صدّيق، وهذه علّة أخرى من علل الحديث!؟

- الحديث الثاني: أخرج البخاري في المناقب (3675، 3686، 3699) من حديث قتادةَ بن دعامةَ السدوسيّ عن أنس بن مالك قال: صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُحُدٍ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ بِهِمْ، فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ، وقَالَ: (اثْبُتْ أُحُدُ، فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدَانِ) انتهى.

وهذا حديث تفرّد به أنسٌ عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولم يصرّح أنسٌ بسماعه هذا الحديثَ من الرسول، ولم يوضح ما إذا كان هو مع الرسول على الجبل، وظاهر الحديث أنّه لم يكن معهم، وتفرّد به عنه قتادةُ، فهو من الفرد المطلق أيضاً!

وهناك علّة عامّةٌ في حديثِ أنس كلّه، قالتها السيدة عائشة.

فقد أخرج الطبرانيّ في المعجم الكبير (1: (711) وابن عبدالبرّ في جامع بيان العلم (2: 2146) من حديث عليّ بن مسهر عن هشام بن عروةَ، عن أبيه عن عائشة قالت: «مَا عَلِمَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَأَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا كَانَا غُلَامَيْنِ صَغِيرَيْنِ»!؟

وقد روى البخاريّ بهذا الإسنادِ عشرين حديثاً، منها (1390، 1665، 2138).

وروى مسلم بهذا الإسناد اثني عشر حديثاً، منها (216، 724، 941).

وهذا إسنادٌ فردٌ مطلقٌ غريب صحيح على شرط البخاري ومسلم، لكنّ الفقيرَ عداباً لا يصحح الأفرادَ المطلقةَ الصحيحةَ الإسناد، إنما يعطيها درجة حسن!

فإذا كانت «الصديقيّةُ» منزلةً دينيّة تلي درجةَ النبوّةِ؛ فلا تثبت لأبي بكرٍ بحديثٍ مُدلَّس تفرّد بروايتِه غلام صغير، لم يشهد الواقعةَ ولم يصرّح بسماعه الحديثَ من غيره، أيّاً كان هذا الغير!  

وإنْ كانت «الصديقيّةُ» منزلةً عامّة؛ فجميع المؤمنين من الصدّيقين، فلا يبقى لأبي بكرٍ ولا لعليّ، ولا لعائشة أيّ مزيّةٍ بها!

أمّا الرواياتُ الخاصّةُ بعائشة رضي الله عنها؛ فلا يوجد عن الرسولِ حديثٌ صحيح ولا حسنٌ، يُثبتُ لها صفةَ الصديقيّة أبداً!

لكنْ لمّا عانَت عائشةُ من فِريةِ الإفك ما عانت، وعانت من بغض الرافضةِ والناصبة لها على حدٍّ سواء، إلى درجة أنّ بعضَ الرافضةِ - عليهم غضب الله - حتى اليوم يَتّهمونها بالفاحشة؛ تعاطف المسلمون معها كثيراً، فوصفوها بالصدّيقة بنت الصدّيق، وهذا شأن المسلمين دائماً، يتعاطفون مع المظلوم.

أخرج ابن أبي شيبة في المصنّف (2: (7354) وإسحاق بن راهويه في مسنده (1452) وأحمد في المسند (26045) من حديث أبي الضّحى مسلم بن صبيح عن مسروق بن الأجدع قال: «حدّثتني الصدّيقةُ بنت الصدّيق، حبية حبيب الله».

وأخرج الطبرانيّ في المعجم الكبير (23: 181) من حديث الأعمش عن مسلم بن صبيح قال: كَانَ مَسْرُوقٌ إِذَا حَدَّثَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ قَالَ: «حَدَّثَتْنِي الْمُبَرَّأَةُ الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، حَبِيبَةُ حَبِيبِ اللهِ».

ويبدو لي أنّ مسروقاً هذا؛ هو أوّلُ من أطلق عليها لقبَ الصدّيقة.

وقد أَعجب هذا اللقبُ المحدّثين، فصاروا يكتبون في مصنّفاتهم:

مسند الصديقة بنت الصدّيق، عائشة بنت أبي بكر!

أو مسند الصديقة عائشة بنت الصدّيق أبي بكر!

وقد يزيد بعضهم: الحبيبةُ بنتُ الحبيب!

وقد يزيد بعضهم: المبرّأةُ من كلّ عيب!

وقد يقول بعضهم: الصدّيقة الكبرى بنت الصدّيق الأكبر!

وقد وقفتَ على أكثرَ من مائتي نصٍّ، وُصفت فيه عائشة بالصدّيقة بنت الصديّق!

لكنّني لم أقف على دليلٍ لاستحقاقها هذه الصفة، لدى أحدٍ من المتقدّمين.

بيد أنّ الشيخ محمد الصالح العثيمين فسّر ذلك في شرح العقيدة الواسطيّة (2: 280) بقوله: «أما كونها صديقة؛ فلكمال تَصديقِها لرسول الله، صَلَّى الله عليه وسلم، ولكمال صِدقها في مُعاملتِه، وصبرِها على ما حصل من الأذى في قصة الإفك.

ويَدلك على صِدقها وصِدقِ إيمانها باللهِ؛ أنَّه لما نَزلت براءتها؛ قالت: «إنِّي لا أحمد غيرَ الله» وهذا يدل على كمال إيمانها وصدقها.

وأمَّا كونها بنت الصِّديق؛ فكذلك أيضًا؛ فإن أباها رضي الله عنه هو الصِّديق في هذه الأمة، بل صِدّيق الأمم كلّها؛ لأنَّ هذه الأمة أفضل الأمم؛ فإذا كان صِدّيقَ هذه الأمة؛ فهو صديق غيرها من الأمم» اقرأ واعجب واسكت!!

لا أريدُ مناقشةَ ما تقدّم كلّه؛ لأنّ إساءات العلمانيين والرافضة إلى أمّ المؤمنين رضي الله عنها؛ تجعل أيَّ نقدٍ لشيءٍ ممّا تقدّم تهمةً لدى أهل السنّة.

ختاماً: لم يصحّ عندي وصفُ الإمام عليّ عليه السلام، ولا وَصفُ أبي بكرٍ، ولا وصف عائشة رضي الله عنهما بالصدّيقيّة، بأيّ وجهٍ علميٍّ.

وإنّ الفرقاءَ المتناحرين؛ يثبتون وينفون بعواطفهم أحياناً، وبأزماتهم النفسيّة أحياناً، وبردود الفعلِ العنيفةِ أحياناً أخرى.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.