الاثنين، 23 أغسطس 2021

 قريبا من السياسة (١4):

هل تؤيّدُ عودةَ حزبِ البعثِ إلى حكم العراق!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

من أغرب الأسئلةِ التي جاءتني في هذه الأيام، هذا السؤال: بصفتك كنتَ قريباً من الرئيس صدام حسين، وكنت شاهداً ومشاركاً في الحملة الإيمانية؛ فهل تؤيّد عودة حزب البعث إلى حكم العراق؟!

أقول وبالله التوفيق:

إنّ الرئيسَ صدّام حسين رحمه الله تعالى، الذي عرفته منذ بداية عام (1992م) هو غير صدّام حسين الذي كنتُ أكفّره قبل عام (1990م).

إنّ حزب البعث العراقيّ المسلم، الذي عرفته منذ بدايات عام (1992م) هو غير حزب البعث السوريّ العلمانيّ، الذي عرفته قبل عام (1990م).

إنّ عشر سنواتٍ كاملةً من السير الحثيث في ركب الحملةِ الإيمانيّة، التي أعادت حزبَ البعث العراقيّ، ومعه الشعب العراقيّ إلى الإسلام «خطوة خطوة» أو «حبّة حبّة» كما هو تعبير السيد الرئيس صدّام؛ لا ينكرُ آثارَها على المجتمع العراقيّ، إلا مكابر حاقد لئيم!

فإذا قدّر الله تعالى لهذا الحزب، بهذه الصفات التي تركته عليها في صيف عام (2002م) فأهلاً وسهلاً ومرحباً بعودة حزب البعث العربيّ المسلم المؤمن.

حزبُ البعث العراقيّ؛ مرجعيته الإسلام، ومذهبه شبه الرسميّ هو المذهب الحنفيّ.

وليس في المذهب الحنفيّ، ولا في مذاهب أهل السنّة كلّها؛ فتوى مدمّرةٌ حقيرة، تشجّع على نهبِ مال الأمّة، تحت شعار «مال الدولة مجهول المالك».

وما على عملاءِ أمريكا الذين جعلتهم حكاماً على العراق، إذا هم تقاسموا عوائدَ الثروات والموارد الطبيعيّة في العراق، سوى أن يُراجعوا الحاكم الشرعيّ، الذي يزعم كذباً وزوراً أنه نائب الإمام المهديّ، الذي لم يخلقه الله تعالى أصلاً.

فإذا ما راجعه «شلّةُ الحراميّة العملاءُ» صالحهم على أداء الخمس إليه، وأجاز لهم باطلاً أربعةَ أخماس مال الأمةِ، الذي نهبوه وحازوه.

وشواهد ذلك ظاهرةٌ، ليس في العراق فحسب، بل وفي سوريّا ولبنان، ولا أعرف عن اليمن شيئاً.

إنّ ديناً يجوّز لسدنته نهبَ مال الأمّةِ، وإفقار شعوبها، وانعدام أمنها، تحت ذريعة باطلةٍ من أساسها؛ لهو دين باطلٌ، بعيدٌ عن الله تعالى، بعيدٌ عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، بعيد عن فقه آل البيتِ، بعيدٌ عن الإنسانية، بعيدٌ عن الذوق والأخلاق والسلوك الحميد.

أنا أتمنّى أن يحكمَ العراقَ وسائرَ بلادِ المسلمينَ العلماءُ الربّانيون، لو أمكن ذلك!

لكنّ العلماء وللأسف، لم يكونوا يوماً أهلاً لحكم قريةٍ من قرى المسلمين، وقد درج جماهيرهم على مدار تاريخ الإسلام، أن يكونوا أدواتٍ طيّعةً في أيدي الطغاةِ من الحكّام.

وإذ إنّ حزب البعث العراقيّ، لا يزال لديه قوّة عسكريّة وسياسيّةٌ تعينه على الحكم وحماية الشعب؛ فأهلا وسهلاً بعودته، سالماً من الأحقاد والانتقام والثارات!

اللهم إلّا رؤوسَ الضلال، الذين قتلوا مئاتِ الآلافِ، وسجنوا الأحرار، واغتصبوا الحرائر، وشرّدوا المسلمين من ديارهم، ونهبوا مال الأمة وثرواتها!

فإن هم قدَروا عليهم، وعلى نوّاب المهديّ الموهومِ أيضاً؛ فليحاكموهم محاكماتٍ شرعيّةً عادلةً، وليستردّوا منهم أموالَ الأمّة التي نهبوها، ثمّ لينفّذوا فيهم الأحكام الشرعيّة الصادرة في حقّهم، حتى لو كان منها إقامةُ حدود الله تعالى عليهم، داخل العراق، وفي أيّ مكانٍ يأوون إليه، فلا حرج عليهم في شيءٍ من ذلك أبداً، ما دام ضمن إطار الفقه الإسلاميّ الجليل!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحمد لله على كل حال.

الجمعة، 20 أغسطس 2021

مَسائِلُ عَقَدِيّةٌ (6):

تحريمُ اتّخاذِ التماثيلِ!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

استمعتُ إلى تقرير إخباريّ، حاورت فيه إحدى المذيعاتِ رجلاً من الكويت، حِيالَ إزالةِ ما يدعى  تمثال إلهة الحبّ، من أحد المحالات التجاريّة الكبيرة.

يبدو أنّ المذيعةَ، أو المطلوب منها؛ استنكارُ هذا الفعل غير الحضاريّ، لذلك قاطعت محاورَها عدّة مرّاتٍ، ولم تتركه يشرح وجهة نظره.

ونحن المسلمينَ؛ متى جاءت آيةٌ من كتاب الله تعالى، تنهانا عن شيءٍ، أو تحقّر شيئاً، أو تصف شيئاً بأنّه من مظاهر الشرك أو الكفر؛ تقول ألسنةُ أحوالنا فوراً: سمعاً وطاعةً يا ربّ، انتهينا!

سواءٌ ظهرت لنا حكمةُ هذا النهي، أم لم تظهر.

وكذلك إذا جاءنا عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ حديثٌ صحيح في أمرٍ أو نهيٍ؛ امتثلنا لأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو نهيه، من دون أن نضرب لكلام الله تعالى وكلام رسوله الأمثال!

وبشأنِ التماثيل والأصنام والأوثان؛ فلم يذكرها الله تبارك وتعالى في آيةٍ واحدةٍ من القرآن العظيم، إلّا مع ذمّها، وذمّ معظّميها.

قال الله تبارك وتعالى:

(وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ، وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51).

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52).

قَالُوا: وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53).

قَالَ: لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) [الأنبياء].

وقال الله تعالى:

(وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) [الحجّ].

وقال الله تعالى:

(وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) [الأعراف].

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) [الشعراء].

إنّ مجرّد التذكير بإلهةِ الحبّ، أو إلهِ الحبّ؛ يُحيل إلى الذهن أنّ إلهة الحبّ المزعومة؛ تحتاجُ إلى إلهٍ حبيب، وهو تذكيرٌ بفكرة تعدّد الآلهة البدائيّة الباطلةِ!

وتداوُل هذه الفكرةِ، والتهاونُ في إنكارها؛ هو بحدّ ذاته يغضبُ الله تبارك وتعالى.

قال الله تعالى:

(بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ!

أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ؟

وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) [الأنعام].

(مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ، وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ!

إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ، وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ!

سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) [المؤمنون].

وههنا يرد السؤال الآتي:

هل عُرِضَ تمثالُ إلهة الحبّ هذا؛ في معرضِ الإشادةِ به، وبما يرمز إليه، أو هو إهانةٌ له، ولما يرمز إليه؟

ومن المعلوم ضرورةً أنّ كلّ ما حقّره الله تعالى من ذاتٍ أو قولٍ أو فعلٍ؛ يجب على المؤمن تحقيرُه، ولا بدّ (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) [الحجّ].

وكذلك ما عظّمه الله تعالى : (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ؛ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ (30) [الحجّ].

ووحدانيةُ الله تعالى؛ من أخصّ حرمات الله وشعائره المقدّسة!

ربّنا تبارك وتعالى؛ يعظّم جناب التوحيد، ويحقّر العقل البشريّ الوثنيّ، في آياتٍ كثيرة من كتاب الله تعالى، ثمّ يأتي بعضنا، فيزيّن معرضه بوثن؟.

قالت المذيعة: هم طبعاً لم ينصبوا هذا التمثال  ليعبده الناس ويعظّموه، إنّما ليروّجوا بضاعتهم!

ونحن نقول: هي طبعاً ومدراء مؤسستها وصاحب المعرض التجاريّ؛ جهلةٌ بدين الله تعالى، بل لا يعنيهم الدين في شيء!

ونقضاً لفكرة ترويج البضاعة وزيادةِ البيع والربح؛ يقول الله تعالى:

(إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا، وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا.

إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ؛ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا.

فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ، وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ، إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) [العنكبوت].

أمّا الأحاديث النبويّة الصحيحة، في النهيِ عن صناعة التماثيل، وصناعة الصور المنسوجة؛ فكثيرة كثيرة!

أخرج البخاري في كتاب بَدْء الخلق (3224) ومسلم في اللباس والزينة (2107) من حديث أمّ المؤمنين عائشة، رضي الله عنها قالت:

(كَانَ لَنَا سِتْرٌ فِيهِ تِمْثَالُ طَائِرٍ، وَكَانَ الدَّاخِلُ إِذَا دَخَلَ؛ اسْتَقْبَلَهُ!

فَقَالَ لِي رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوِّلِي هَذَا، فَإِنِّي كُلَّمَا دَخَلْتُ فَرَأَيْتُهُ؛ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا).

وفي رواية القاسم بن محمد عن عائشة، عند الإمام البخاريّ (3224)قالت:

(حَشَوْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِسَادَةً فِيهَا تَمَاثِيلُ، كَأَنَّهَا نُمْرُقَةٌ!

فَجَاءَ، فَقَامَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ، وَجَعَلَ يَتَغَيَّرُ وَجْهُهُ!

فَقُلْتُ: مَا لَنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: مَا بَالُ هَذِهِ الْوِسَادَةِ؟

قَالَتْ: وِسَادَةٌ جَعَلْتُهَا لَكَ، لِتَضْطَجِعَ عَلَيْهَا!

قَالَ: أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ؟

وَأَنَّ مَنْ صَنَعَ الصُّورَةَ؛ يُعَذَّبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقالُ لهم: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ).

وأخرج البخاريّ في بدء الخلق (3225) ومسلم في اللباس (2106) من حديث عبدالله بن عباس عن أبي طلحة زيد بن سهلٍ الأنصاريّ، رضي الله عنهم، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، وَلَا صُورَةُ تَمَاثِيلَ).

وأخرج البخاري في اللباس (5954) ومسلم في اللباس (2107) من حديث عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سَتَرْتُ سَهْوَةً لِي بِقِرَامٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ!

فَلَمَّا رَآهُ؛ هَتَكَهُ، وَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ، وَقَالَ يَا عَائِشَةُ: أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ الله)!

أخرج البخاريّ في أحاديث الأنبياء (3352) من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى الصُّوَرَ فِي الْبَيْتِ «الكعبة» لَمْ يَدْخُلْ، حَتَّى أَمَرَ بِهَا، فَمُحِيَتْ!

وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَام بِأَيْدِيهِمَا الْأَزْلَامُ «أقداح القرعة».

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: (قَاتَلَهُمْ اللهُ، واللهِ ما اسْتَقْسَمَا بِالْأَزْلَامِ قَطُّ).

وفي الموسوعة الفقهية الكويتية (7: 8) ما نصّه: «وَكُلّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ يَحْرُمُ صُنْعُهُ وَبَيْعُهُ وَاقْتِنَاؤُهُ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ صَنْعَةَ التَّصَاوِيرِ الْمُجَسَّدَةِ لإِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ؛ حَرَامٌ عَلَى فَاعِلِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ حَجَرٍ، أَمْ خَشَبٍ، أَمْ طِينٍ، أَمْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِمَا رَوى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: (الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَال لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ) أخرجه البخاري في اللباس (5951) ومسلم (2108).

وَعَنْ مَسْرُوقِ ابن الأجدع قَال: دَخَلْنَا مَعَ عَبْدِاللَّهِ بَيْتًا فِيهِ تَمَاثِيل، فَقَال لِتِمْثَالٍ مِنْهَا: تِمْثَال مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: تِمْثَال مَرْيَمَ، قَال عَبْدُ اللَّهِ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ) أخرجه البخاري (5950) ومسلم (2109) وأحمد في المسند (3377) وهذا لفظه.

وَالأَمْرُ بِعَمَلِهِ مُحَرَّمٌ كَعَمَلِهِ.

بَل إِنَّ الأُجْرَةَ عَلَى صُنْعِ مِثْل هَذِهِ الأَشْيَاءِ؛ لاَ تَجُوزُ.

وَهَذَا فِي مُطْلَقِ التَّصَاوِيرِ الْمُجَسَّدَةِ!

فَإِذَا كَانَتْ، مِمَّا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ فَذَلِكَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا» انتهى.

نحن المسلمين لا نرى في أمم الغربِ أمما راقيةً دينيّاً وفكريّاً، بل إننا لا نراها على دينٍ أيّ دين لذلك لا يَغرّنا ولا يُغرينا تعظيمهم لشيءٍ منكرٍ، أو ترويجهم له.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

_________________________

معاني المستغرب:

التمثال: أصلُ المُثولِ: الانتصاب، والتمثال: الشيءُ المصوّرُ المنصوب، والمُمَثّل: المصوّرُ على مثالِ غيره.

الصنم: جُثّةٌ متّخذةٌ من خشب، أو نحاسٍ، أو فضّةٍ، كانوا يعبدونها متقربين بها إلى الله تعالى، وجمع الصنم: أصنام.

وقال بعض الحكماء: كلّ ما يَشغَل عن الله تعالى؛ فهو صنم.

والوثن: هو النُصب المصنوع من الحجارة. [المفردات].

والحمد لله على كلّ حال.

الأربعاء، 18 أغسطس 2021

 قريبا من السياسة (١3):

ماذا عن طالبان؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

حواراتٌ عديدةٌ جرت بيني وبين عدد من الإخوة المتابعين للحراك السياسيّ في العالم العربي والإسلاميّ، حيالَ ما جرى ويجري في بلاد الأفغان وفلسطين ولبنان، وسوريا واليمن والعراق ...إلخ.

فكنت بارداً في تلك الحواراتِ، غير متحيّزٍ مع هذا الحراك أو ذاك، حتى مع نجاح طالبان في السيطرة على بلاد الأفغان!

غدوتُ موقناً بأنّ جميع شعوبنا العربية، غدت تقدّس حدودَ «سايكس بيكو» والجنسياتِ، وجوازات السفر التي نشأت تبعاً لذلك!

إلى درجة أنك تجد الإسلاميين أنفسهم يصرحون بأنّ اهتماماهم في بلدهم «الوطن»!

فالسوري يتأثّر إذا تكلم اللبناني بشأن سوريا، والعراقي يرغي ويزبد إلى تكلمتَ بشأن العراق، وهكذا.

ولذلك، فأنا شخصياً لم أعُد يعنيني حتى الأوضاع السياسية في سوريا؛ لأنّني لا أجد فارقاً كبيراً بين الأطراف المتصارعة، فالظلم والعجز هو السمة العامّة لدى الجميع!

أنا الفقير لا يعنيني شيء اسمه «الوطن» إلا بمقدار التزام أهله بدين الإسلام!

لا يعنيني حتى أعمامي وأخوالي وجيراني، ما دام مبلغ علمهم ومقاصدهم؛ الحياةُ الدنيا!

لأنّ خدمةَ الحياةِ الدنيا وعبوديتها؛ شأن مشترك بين البشرية جمعاء، والإسلام غير ذلك!

(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) [القصص].

(وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) [العنكبوت].

كلّ الذي يهمني ممّا يجري في سوريا؛ هو تأمين الخبز والماء والدواء لعدد من العائلات، بمعزلٍ عن خطئهم وصوابهم في ثورتهم غير المباركة هذه!

لقد عشت في سوريا خمساً وعشرين سنةً من عمري، وعَلّمتُ في مدينة حماة ودمشق ومنبج والرقة وبانياس وجبل العلويين، فلم أجد كبيرَ فارقِ بين أهالي هذه البلدان، في موقفهم من الدين والأخلاق، فأكثريتهم الساحقة لا مكان للدين في سلوكهم!

حتى «البدو» الذين كنتُ أظنّ لديهم شهامةً وغيرة على أعراضهم؛ شاهدتُ مئاتٍ من رجالهم في إحدى حفلات الزفاف، جميعُهم يقبلون «العروس» الأنثى، وهي بينهم كما تُشاهد هيئةُ العروس الأنثى في الأفلام!

فما دامت مجتمعاتنا العربية؛ قدّست مقرّرات «سايكس بيكو» وعظّمت «الوطن» الذي رسمه لنا أعداء الإسلام؛ فلم أعد أرى هذه المجتمعات تستحقّ مني أدنى اهتمام، بَدْءاً من سوريا وانتهاء ببلاد «الواق واق»!

ما الفرق بين أن يحكم سوريا الطاغية بشار الأسد، أو الطاغية نور الدين الأتاسي؟

بين أن يحكمها أديب الشيشكلي، أو أمين الحافظ؟

بين أن يحكمها شكري القوتلي، أو أكرم الحورانيّ، أو عبدالحليم خدّام؟

جميعهم طغاةٌ، وجميعهم علمانيون، وجميعهم ليس للدين من حياتهم نصيب!

وحين لا يكون للدين في حياتك نصيب؛ فكن ما شئتَ، سنيّاً، شيعيّاً، درزيّاً، نصيريّاً، فلا فرق لديّ أبداً!

وأثراً من آثار هذا الموقف النفسيّ؛ فأنا لا أتابع أخبار أيّ حركةٍ أو حزبٍ أو صراعٍ، سوى أخبار حركة «حماس» لأنها الحركة الشرعيّةُ، التي تسعى إلى تجسيد الإسلام المعتدل في فلسطين، وتبذل أقصى طاقاتها في مطاولةِ العدوّ الصهيونيّ المجرم.

أمّا عن طالبان الأفغان:

إذا كانت حركةُ طالبان سنيّةً حنفيّةً ما تريدية نقشبندية أو قادريّة، كما سمعتُ أحدهم يقول؛ فهذا أمر طيّب للغاية في نظري!

وإذا كانت منعت «الوهابية» من نشر أفكارهم في أفغانستان؛ فهذا أمر ضروريّ وممتاز؛ لأنّ الفكر والسلوكَ الوهّابيين؛ من المحال أن ينتجا سوى التكفير والتبديع والاستعلاء والتطرّف والانغلاق، والفكر الوهابيّ لا يصنع حضارة!

إنني أؤمن بضرورة الوحدة الفكريّة لكلّ بلد، مادامت أوطاننا غدت وحداتٍ مستقلّة، وكيانات متمايزة!

فليكن المغرب العربيّ كله مالكيّاً أشعريّاً صوفيّاً!

وليكن المشرق الإسلاميّ كلّه شافعيّاً أشعريّاً صوفياً!

ولتكن الدول التركيّة الكثيرةُ كلها حنفيّة ما تريدية نقشبندية، فإنّ هذا أدعى إلى الوحدة الفكرية والسلوكية داخل المجتمع الواحد، وأحرى بأن تقلَّ النزاعات العسكرية المسلحة بين أبنائه!

مع قيدٍ واحدٍ على جميع ما تقدّم، وهو:

أن ينشأ في كلّ قطر من الأقطار مؤسسة علمية بحثيّة تراجع مسائلَ الخلاف العقدية والفكرية والفقهيّة؛ لأنه لا يحلّ لدولةٍ تمتلك إمكاناتٍ ماليةً ضخمةً؛ أن تبقى سادرةً في عمى التقليدِ والتعصّب المذهبيّ البليد.

وإذا لم يكن لديها علماءُ، على مستوى البحث والنظر؛ فإنها تستطيع استقدام أكبر العقول في العالم الإسلاميّ؛ لتُخَرّج لها بعد عشر سنواتٍ عشراتِ المجتهدين في كلّ فنٍّ، ثم هم يتولون تخريج المجتهدين في بلادهم.

وأؤكّد على ضرورةِ عدمِ السماح بنشر التشيّع في بلاد السنة، ولا نشر التسنّن في بلاد الشيعة!

وإذا أمكنَ جمع الشيعة جميعهم في بلاد متجاورة متقاربة، وجمع السنّة في بلاد متجاورة متقاربة؛ فيتوجّب على الحكوماتِ القيامُ بذلك؛ لأنّ الخلاف بين الحنفية والشافعية؛ ليس كالخلاف بين الشافعية والإمامية مثلاً.

إذا كانت حركةُ طالبان إسلامية حنفيّة ما تريديّة، كما عرّفها أحد قادتها الحركةَ؛ فما تقدّم في كلامي هو نصيحةٌ صادقةٌ لقادة هذه الحركة.

وعلى قادة أفغانستان الجديدة؛ أنْ يعلّموا الناس دينهم، وأن يلزموا المسلمين بعبادات الإسلام وأخلاق الإسلام إلزاماً تربويّاً إقناعيّاً عن طريق الإعلام الكثيف!

وقول الله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) موجّهٌ إلى الكافرين، وليس إلى المسلمين، إذ مما لا خلاف فيه أبداً بين علماء الإسلام؛ أنّ المسلم مطالبٌ بأداء عبادات الإسلام على وجه الإلزام، ومطالب بأخلاق وسلوك الإسلام على وجه الإلزام أيضاً!

فغير مسموح لأيّ مسلم أن يزني أو يلوط أو يتناول المسكرات والحشيشة مثلاً.

وغير مسموح لأي مسلم أن يسرق أو يقتل أو يقطع الطريق، أو يكذب أو يغتاب، وهكذا.

فالإسلام غير الأديان المعاصرة الأخرى، والذين يريدون أن يفرضوا على أمتنا أسلوبَ حياتهم؛ يعرفون هذه الحقيقةَ تماماً، لكنهم كما قال الله تعالى عنهم: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ).

وكما قال جلّت قدرته أيضاً: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) [النساء].

وعليهم أن يقوموا بحوارات حرّةٍ جادّةٍ مع العلمانيين، حتى يقنعوهم بحقّ الإسلام، أو يعرّوهم أمام مجتمعهم المسلم، وبعد ذلك، فلا يسمحوا لهم بنشر سمومهم وفسادهم في المجتمع.

وعلى قادة طالبان؛ أن ينتبهوا إلى ضرورة الرفق والتدرّج في نقل المجتمع الأفغاني إلى الإسلام خطوةً خطوةً، وليس بقرار سياسيّ صارم.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحمد لله على كل حال.

الأحد، 15 أغسطس 2021

مِنْ عِبَرِ التاريخِ (7):

معاويةُ كاتبُ الوَحيِ !؟

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

ممّا يشيُعه النواصبُ، وكثيرٌ من أهل السنةِ تأثّراً بهم، بحكم المجاورة وتداخل الثقافة؛ أنّ معاويةَ بن أبي سفيان، كان كاتباً للوحي، فهو إذنْ أمين على وحي الله تعالى، فكيف لا يكون فاضلاً؟

يبدو أنّ القومَ لجأوا إلى مثل هذه الأمورِ، عندما أعياهم البحثُ عن منقبةٍ لمعاويةَ، بعدما نصّ علماؤهم على أنّه لا يصح لمعاويةُ منقبةٌ عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، سوى حديثين:

حديث: (لا أشبع الله بطنه) أخرجه مسلم في البرّ والصله (2604).

وحديث ( ويح عمّار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار)    أخرجه البخاري في التعاون على بناء المسجد (447) واللفظ له، ومسلم في الفتن (2915) فكان معاويةُ إمامَ الفئة الباغية الداعية إلى النار!

تزوّج الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ثلاثَ عشرةَ امرأةً، لكلّ واحدةٍ منهنّ أخٌ أو إخوة، لكنّ النواصب الأوشاب، لا يلقّبون عبدالله بن عمر، أو عبدالله بن جحش، أو ضرار بن الحارث، رضي الله عنهم بأخوال المؤمنين!

معاويةُ وحده هو خال المؤمنين، لأنهم يعشقون الطغاة، ويهنأون بالعيش تحت نعالهم!

أمّا مسألة كتابةِ معاويةَ للوحي؛ فإن كانت مزيّةً، فقد كتب الإمامُ عليٌّ وعبدالله بن مسعودٍ وزيدُ بن ثابت، وغيرهم، رضي الله عنهم الوحيَ، وما رأينا الناصبةَ والمتأثرين بهم من أهل السنّة، يجعلون كتابةَ الوحي مزيّةً لمن كتبه حقيقةً!

إنّ كتابةَ الوحيِ وغير الوحيِ؛ كانت خاضعةً للظرف الذي نزل فيه الوحي، فكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، إذا أوحي إليه؛ دعا واحداً ممن كان يقرأ ويكتب، فأملى عليه ما أوحاه الله إليه، ولذلك كثر من قالوا: إنّه كتب الوحي!

وهذا عبدُالله بن سعدِ بن أبي سَرْح  العامريّ، كان يكتب الوحيَ للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، ثمّ ارتدّ، وذهب يقول: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ مَا يَقُولُ، إِنِّي لَأَكْتُبُ لَهُ مَا شِئْتُ، هَذَا الَّذِي كَتَبْتُ يُوحَى إِلَيَّ، كَمَا يُوحَى إِلَى مُحَمَّدٍ « صلى الله عليه وآله وسلّم» كما في القسم المتمم من طبقات ابن سعد (ص: 448) وفي معرفة الصحابة لأبي نعيم (3: 1670) والإصابة لابن حجر (2: 309).

فنحن لو سلّمنا بما يرويه النواصبُ أحباب معاويةَ، من أنّه كتب الوحيَ للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فيغدو شأنه في كتابة الوحيِ؛ كشأن عبدالله ابن أبي سرحٍ العامريّ، فما الفرق؟

ما دام معاويةُ باغياً ظالماً قائدَ قطّاع الطرق الذين كانوا يغيرون على المسلمين، فيقتلونهم، ويسلبون أموالهم بأمره؟!

ختاماً: يحسن في هذا المقام أن ننقلَ ما أورده ابن حجر في فتح الباري، عند شرحه الحديث (3764، 3765) قال: «صنّف ابنُ أَبِي عَاصِمٍ جُزْءاً فِي مَنَاقِبِ «معاوية» وَكَذَلِكَ أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ، وَأَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ.

وَأَوْرَدَ بن الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرُوهَا.

ثُمَّ سَاقَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: «لَمْ يَصِحَّ فِي فَضَائِلِ مُعَاوِيَةَ شَيْءٌ، فَهَذِهِ النُّكْتَةُ فِي عُدُولِ الْبُخَارِيِّ عَنِ التَّصْرِيحِ بِلَفْظِ مَنْقَبَةٍ، اعْتِمَاداً عَلَى قَوْلِ شَيْخِهِ «إسحاق».

لَكِنّ «البخاريَّ» بدقيق نظره، استنبط مَا يدْفع بِهِ رُؤُوس الرَّوَافِضِ!

وَقِصَّةُ النَّسَائِيِّ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ، وَكَأَنَّهُ «النسائيّ» اعْتَمَدَ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ شَيْخِهِ إِسْحَاقَ، وَكَذَلِكَ فِي قصَّة الْحَاكِم.

وأخرج ابن الْجَوْزِيِّ أَيْضاً مِنْ طَرِيقِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قال: سَأَلْتُ أَبِي: مَا تَقُولُ فِي عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ؟

فَأَطْرَقَ، ثُمَّ قَالَ: اعْلَمْ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ كَثِيرَ الْأَعْدَاءِ، فَفَتَّشَ أَعْدَاؤُهُ لَهُ عَيْباً، فَلَمْ يَجِدُوا!؟

فَعَمَدُوا إِلَى رَجُلٍ قَدْ حَارَبَهُ، فَأَطْرَوْهُ كِيَاداً مِنْهُمْ لِعَلِيٍّ»

قال ابن حجر: أَشَارَ «أحمدُ» بِهَذَا إِلَى مَا اخْتَلَقُوهُ لِمُعَاوِيَةَ مِنَ الْفَضَائِلِ، مِمَّا لَا أَصْلَ لَهُ!

وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضَائِلِ مُعَاوِيَةَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهَا مَا يَصِحُّ مِنْ طَرِيقِ الْإِسْنَادِ.

وَبِذَلِكَ جَزَمَ إِسْحَاقُ بن رَاهَوَيْه وَالنَّسَائِيُّ وَغَيرُهما، وَاللهُ أعْلَم»

قال الفقير عداب: قول ابن عبّاس عن معاوية: «إنّه فقيه» معارَض بما أخرجه الطحاويّ في شرح معاني الآثار (1: 289) من طريق عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ نَتَحَدَّثُ، حَتَّى ذَهَبَ هَزِيعٌ مِنَ اللَّيْلِ, فَقَامَ مُعَاوِيَةُ, فَرَكَعَ رَكْعَةً وَاحِدَةً!

فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «مِنْ أَيْنَ تُرَى أَخَذَهَا الْحِمَارُ»!؟

فإن صحّ قول ابن عبّاس: «إنّه فقيه» ونحوها؛ فيحمل على الاستخفاف والتهكّم.

والله تعالى أعلم

(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحمد لله على كلّ حال. 

السبت، 14 أغسطس 2021

اجتماعيات (٢5):

هل ينقلب الحبُّ إلى كراهية؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).

عقب منشور «الهجر الجميل» جاءتني تساؤلات عديدة، ينصبّ أكثرها حيالَ انقلاب الحبّ إلى بُغضٍ، وانقلاب الصداقةِ إلى عداوة!

أقول وبالله التوفيق:

إنّ مما لا شكّ فيه أنّ لتغيّر الطرف المقابلِ أثراً كثيراً في استمرار المحبة، أو انقطاعها، في ازديادها، أو نقصانها.

فإذا كان الإنسان حبيبك ملتزماً بدينه، يعاملك بأدب واحترام؛ فإنّ سلوكه هذا يزيدك محبّةً به!

أمّا إذا انقلب حبيبك هذا من مسلمٍ إلى ملحدٍ، أو إلى علمانيّ، أو إلى زانٍ، أو لوطيّ؛ فإن سلوكه الشائنَ هذا، يوجب عليك فصم عرى المحبة والصداقة معه.

وأنا الفقير شخصيّاً، أستطيع أن أتجاهل تعاطي الدخان والخمرة والحشيشة، إذا تاب صديقي القديم، ورجع إلى الصراط المستقيم، لكنني من المحالِ أن أتقبّل صديقاً أو حبيباً تعاطى الزنى واللواط، ثمّ تاب، بل من المحال أن أسمح له بدخول بيتي، إذا ترجّح لديّ أنه كان كذلك!

أمّا ما دام الصديق أو الحبيب في دائرة الإسلام، وما دام مجانباً للكبائر؛ فلا أجد نفسي تتقبّل أنّ من أحببته وبحت له ببعض أسراري؛ يغدو بغيضاً أو عدّوا لي!

نعم قد أغضب منه، وقد أحزن من بعض تصرفاته، وقد أجد من المناسب هجره، لكنني أبداً لا أتّخذه عدوّاً أو خصماً لي، خاصّةً من عشت معه لحظاتِ صفاءٍ، فأكرمني، واستضافني، وتناولت من زاده.

وأظنّ قولَ الإمام عليّ عليه السلام «أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا ما، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا! وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا ما، عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا» أخرجه الترمذيّ في البرّ والصلة (1997) والبزّار في مسنده (9883) والبيهقيّ في شعب الإيمان (6171).

وقال الترمذيّ هنا، والدارقطنيّ في العلل (1436): «لا يصحّ رفعه إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، وَالصَّحِيحُ عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام، مَوْقُوفٌ قَوْلُهُ».

أظنّ قولَ الإمام عليه السلام؛ ينصرفُ إلى التغيّر الناتجِ عن تبدّل حال المحبوب من الحقّ إلى الباطل، والعكس.

وقد يظنّ بعض الناس؛ أنّني أبغض نسائي اللواتي طلّقتهنّ، أو أنهنّ هنّ يبغضنني أيضاً؛ وهذا باطل وحَيدةٌ عن الصواب!

ومن المناسب قوله هنا: إنني لم أتزوّج أيّ زوجةٍ من زوجاتي الخمس، من بعد حبٍّ سابق!

بل إنني خطبت إحداهنّ، وقلت لوالدها: لا أريد حتى أن أراها، حتى لو كانت برميلاً، فوقه بطّيخة؛ فأنا قابل بها!

المرأة الوحيدةُ التي تَزوّجت بَعدَ طلاقها مني، ما زالت تعيش في إحدى دول الخليج مع أولادها، وقد توفي زوجها، الذي تزوجَتْه بعدي؛ أرسلت إليّ أكثر من رسالةِ اعتذار بأنها كانت صغيرةً، وكانت واقعةً تحت تأثير وضغط والدها.

بيد أنني آثرتُ عدم الردّ عليها!

أمّا زوجاتي الثلاثُ الأخريات؛ فلم تنقطع مراسلاتي معهنّ، ودعواتهنّ لي، ودعواتي لهنّ.

قد أكون غضبت في يومٍ من الأيامِ، من كلّ واحدةٍ منهنّ، فصدرت عني كلمة الطلاق، لكنني أبداً لا أكره واحدةً منهنّ.

ورحم الله الأديبة الشاعرة أمّ مراد، فتلك لها شأن آخر!

ورحم الله الأديبةَ الشاعرةَ أمّ الوفاء، فوفاتُها زادت سقمي وحزني!

ختاماً: المحبُّ قد يغضب، وقد يحزن، وقد يُعاقِب، لكنّه لا يبغض ولا يكره، ما دام حبيبه وصديقه مستقيماً في دائرة الإسلام.

والله تعالى أعلم

]رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[.

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلَّم تَسليماً

والحمد لله على كلّ حال.


الأحد، 8 أغسطس 2021

 التصوّف العليم (6):

هوان هذه الدنيا على الله تعالى !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

عندما نذكرُ بعضَ أحوال الصالحين تجاه الله جلّ وعزّ؛ يذهب كثيرٌ من الناس، يقولون: إنّ الصوفيّةَ قوم بطّالون، عالةٌ على الآخرين، لا يساهمون في بناء المجتمع، تضيع عوائلهم بسبب انقطاعهم إلى العبادة والذكر، إلخ هذا الكلام السخيف!

أقول وبالله التوفيق:

معلوم لدى السادةِ الصوفيّةِ؛ أنّ الخلوةَ سنّة نبويّة، قد فعلها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل النبوّة، وبعدها.

أخرج الإمام مسلمٌ في صلاة المسافرين (730) من حديث عبدالله بن شقيقٍ العقيليّ

قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ تَطَوُّعِهِ.

فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعاً، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ.

وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ.

وَيُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ، وَيَدْخُلُ بَيْتِي فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ.

وَكَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ تِسْعَ رَكَعَاتٍ، فِيهِنَّ الْوِتْرُ.

وَكَانَ يُصَلِّي لَيْلًا طَوِيلًا قَائِمًا، وَلَيْلًا طَوِيلًا قَاعِدًا.

وَكَانَ إِذَا قَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ؛ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ.

وَإِذَا قَرَأَ قَاعِدًا؛ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَاعِدٌ.

وَكَانَ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ؛ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ).

إسناد الحديث صحيح، وفي سنده عبدالله بن شقيق، وثّقه جمع من الحفّاظ، ورموه بالنصب!

ونحن إنما نتوقّف في حديث المبتدعِ، إذا كان متن حديثِه، مما يقوّي بدعته، أو ممّا يحتمل أنّ حديثه أثرٌ عن بدعته.

وليس في متن هذا الحديث شيءٌ له علاقةٌ بالنصب، والله تعالى أعلم.

وهذا الحديث إنما كان في أواخر عهد رسول اللهِ صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم بهذه الدنيا.

وإنما قلت ذلك لسببين:

الأوّل: لأنّ في متن الحديث (وَإِذَا قَرَأَ قَاعِدًا؛ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَاعِدٌ) والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، لم يكن يصلّي قاعداً، إلا في أواخر عمره.

أخرج مسلمٌ (733) وغيره، من حديث الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ السَّهْمِيِّ عَنْ حَفْصَةَ أمّ المؤمنين رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم صَلَّى فِي سُبْحَتِهِ قَاعِداً، حَتَّى كَانَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِعَامٍ، فَكَانَ يُصَلِّي فِي سُبْحَتِهِ قَاعِداً، وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسُّورَةِ فَيُرَتِّلُهَا، حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ مِنْهَا) وأخرجه الترمذي (373) وقال: حديث حفصة حسن صحيح.

والثاني: لأنّه صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم، اجتهد في العبادة أكثر وأكثر، عندما نزلت سورةُ النصر، التي ذكّرتْه بدنوّ أجله!

فقد أخرج البخاريّ في المغازي (4294) وغيره، من حديثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ «هو عبدالرحمن بن عوف، كما في رواية أخرى للحديث عند البخاري (3627)»: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا الْفَتَى مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ عمرُ: إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ!

قَالَ ابنُ عباس: فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ، وَدَعَانِي مَعَهُمْ، قَالَ: وَمَا رُئِيتُهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ، إِلَّا لِيُرِيَهُمْ مِنِّي!

فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً) حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ؟

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ، إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا!

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَدْرِي أَوْ لَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ شَيْئًا!

فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ: أَكَذَاكَ تَقُولُ؟ قُلْتُ: لَا!

قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَعْلَمَهُ اللهُ لَهُ.

(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ) وَالْفَتْحُ فَتْحُ مَكَّةَ، فَذَاكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) قَالَ عُمَرُ: «مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ» وأخرجه الترمذيّ في التفسير (2366) وقال: حديث حسن صحيح.

أقول: في قول السيدة عائشة: (كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعاً، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ) إلخ حديثها؛ دليل واضح على أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان في عبادةٍ دائمة، وفي خلوةٍ مع الله تبارك وتعالى.

إنّ الخلوةَ فرصةٌ لصفاء النفس، وراحتها من الأغيار، وتدبّر القرآن العظيم، والتطلّع إلى فتوحاتِ الرحمن الرحيم، وتجلّياته على المنقطعين إليه!

ومهما طال أمد الخلوةِ؛ فهو لا يزيد عن أربعين يوماً في السنةِ، أو في العمر!

والذين يبكون على الدنيا ومتاعها، قد يصطافون في كلّ عامٍ أكثرَ من أربعين يوماً، يُنفقون فيها مبالغ طائلة، قد تكفي الصوفيّ العابدَ سنوات!

بينما الصوفيّ العابدُ؛ لا ينفق في الأربعين يوماً تلك؛ ما ينفقه أهل الدنيا في يوم واحدٍ، بل في وجبة واحدة!

حدّثني أحد طلابي من السادة الصوفية قال: تحت إشرافي شيخنا فلان رضي الله عنه خَلَوْتُ (55) يوماً، لم أتناول فيها، سوى الماء، وهل للماء من ثمن؟!

في يومٍ من الأيّام قرّرت أنا الفقير عداب، أن أخلوَ مع الله تعالى، في أحد المساجد أسبوعين:

فصمتُ ثلاثةَ أيّامٍ على الماء، فحسب!

وصمت ثلاثةَ أيامٍ وكنت أتناول «صمّونة عراقية واحدة» عند الإفطار!

وصمت ثلاثة أيّام، وكنت أتناول صمونتين عند الإفطار واحدة، وعند السحور الثانية.

وصمت ثلاثة أيّام، كنت أتناول صمّونتين عند الإفطار، ومثلها عند السحور!

وفي اليومين الأخيرين؛ طلبت كميّةً من التمر مع الخبز، ثم ضعفتُ، فأنهيت الخلوة بعدهما.

فهل كانت تكلفة خلوةِ أسبوعين؛ أكثر من وجبة طعامٍ واحدةٍ، في أدنى مطعمٍ ببغداد؟!

إنّ الذين يتفوّهون بمثل هذا الكلام التافه؛ جعلوا الدنيا هي الأصلَ، ونظروا إلى طالبي الآخرة على أنهم يعيقون حركة الحضارة والتقدّم!

مع أنّهم لو كانت لديهم مسكةٌ من عقلٍ؛ لتفكّروا بأنّهم غير موفقين لنوال شرف طاعة الله تعالى وعبادته!

ولأنهم يغفلون عن أنّ الذاكرين الله تعالى كثيراً والذاكرات؛ لا يكونون نسبة (1%) بحالٍ من الأحوالِ، وبقية الغافلين يقومون بشأن هذه الدنيا!

ويقولون: لو أنّ كلّ مسلمٍ، انقطع إلى الذكر؛ لتعطّلت سبل الحياة!

وجواب ذلك أنّ جواب «لو» منفيّ، مستحيل الوقوع!

لأنّ الذاكرين الله تعالى والذاكرات؛ هم خواصّ عباد الله تعالى، الذين يُخضع لهم الأسباب، ولا يخضعهم هم لها.

قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا؛ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.

وَلَكِنْ كَذَّبُوا، فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) [الأعراف].

وإنني أشهد الله الذي جلّ في علاه؛ أنني بعد انتهائي من حفظ القرآن العظيمِ، في عام (1976) في مصر المحروسة؛ ما كان يخطر الأمر على خاطري، حتى يحقّقه الله تعالى لي فوراً، من دون أن أحرّك شفتيّ بالدعاء!

وأشهد الله العظيم؛ أنني حين طردت من عملي لدى الدولة عام (1973) وسمح لي والدي بزراعة قطعة من أرضه الزراعية أعمل بها؛ أنّ نوعية الخضار التي كانت تنتجها مزرعتي؛ لم يكن لها شبيه ولا مثيلٌ، لا في الجمال ولا في الجودة ولا في الكمّ المنتَج الهائل!

وفي رمضان ذلك العام، وكان في الشتاء القارس، لم يكن في مدينة حماة خسّة واحدةٌ إلّا من مزرعتي، بل ولا بعد شهرين أيضاً!

وكم كنتُ أخجلُ من تجّار الخضار، الذين كانوا يتسابقون في الصيف والشتاء معاً لحيازة منتوج مزرعتي، التي لا يمكن أن تكفي طلباتهم، بطبيعة الحال.

اللهم إني لا أقول هذا الكلام تسميعاً لا والله! وإنما أقوله تصديقاً بقول الله تعالى ووعده!

في ربيع ذلك العام، كان يزورني في المزرعة كثيرٌ من الإخوة الأصدقاء؛ لأنّ مزارعنا أقرب المزارع إلى المدينة، فهي لا تبعد أكثر من ميلين عن وسط المدينة!

كنت أنظّف لهم الخسّ من ماء الساقية، وأقول لهم: الذي يستطيع إنجاز أكل خسة كاملة، له عشر خسّاتٍ، يأخذها معه إلى بيته، فكان قليلون الذين يتمكنون من تناول خسّةٍ بتمامها، لكنّ جميعهم كان يحمل خسّاته معه!

إنّ البركة التي يجنيها العبدُ المؤمن، من وراء الثبات على حزبه من القرآن العظيم، وحزبه من صلاة النافلة، وأوراده من التهليل والتسبيح والاستغفار، والصلاة والسلام على الرسول الأكرم؛ أقلّها الراحةُ النفسيّة والرضا بما قسم الله تعالى من هذه الحياة الدنيا، القصيرة جدّاً جدّاً جدّاً !

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ، وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ، وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) [الحجّ] هذا يوم من أيّام الآخرة.

(تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) [المعارج] وهذا يوم آخر من أيّام الآخرة، وذهب بعض المفسّرين إلى أنه يوم الحساب!

كم أنت غبيّ مغرورٌ غافلٌ أيّها الإنسان، عندما يلهيك عن «خلودٍ في الجنةِ، أو خلودٍ في الجحيم» خمسون، أو سبعون، أو مائة سنة!

كم الفارق بين مائة سنة، وألف سنة؟

بل كم الفارق بين مائة سنة، وخمسين ألفَ سنة؟!

أيها الناس: أفلا تعقلون ؟!

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

الخميس، 5 أغسطس 2021

 مَسائل حديثية (21):

هل رواية الحديثِ المنكَر؛  تُضَعّفُ راويَهُ؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتب إليّ يقول: «الذي تعلمناه على مشايخنا أنّ نقّاد الحديث، كانوا يضعّفون الراوي بحديث منكرٍ انفرد بروايته، فلماذا لم يضعّفوا عمرو بن ميمون، في قوله الباطل: (رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً، اجْتَمَعَ عَلَيْهَا قِرَدَةٌ قَدْ زَنَتْ، فَرَجَمُوها، فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ) أخرجه البخاري (3849).

أقول وبالله التوفيق:

أخرج البخاري خبرَ عمرو بن ميمون في كتاب المناقب، باب أيّام الجاهليّة!

وأحسب أنّ البخاريّ أخرج هذه الروايةَ، لوجود كلمة الجاهليّة فيها، وحسب!

إذ من عادة الإمام البخاريّ تخريج حديثٍ كاملٍ في بابٍ، وغرضه منه كلمة واحدة خاصّة عندما تكون الكلمة قليلة الاستعمال في الروايات الحديثيّة!

وهذا ما اقتصر عليه الحميديّ في الجمع بين الصحيحين (3: 490) إذ قال:

«الَّذِي قَالَ البُخَارِيّ فِي التَّارِيخ الْكَبِير (6: 367):

قَالَ لي نُعيمُ بن حَمَّاد: أخبرنَا هشيم عَن أبي بلج وحصين، عن عَمْرو بن مَيْمُون قَالَ:

رَأَيْت فِي الْجَاهِلِيَّة قردةً، اجْتمع عَلَيْهَا قرودٌ، فرجموها، فرجمتها مَعَهم.

وَلَيْسَ فِيهِ: «قد زنت» فَإِن صحّت هَذِه الزِّيَادَة؛ فَإِنَّمَا أخرجهَا البُخَارِيّ دلَالَة على أَن عَمْرو بن مَيْمُون قد أدْرك الْجَاهِلِيَّة!

وَلم يُبالِ بظنّه الَّذي ظنّ فِي الْجَاهِلِيَّة».

قال عداب: لكنني بحثت عن كلمة «الجاهلية» في صحيح البخاريّّ؛ فوجدتها مذكورة في (100) موضع من الصحيح، أوائلها (4، 30، 979، 1294، 1297) وأواخرها (7053، 7054، 7084، 7116، 7143).

فهو إذنْ ليس بحاجةٍ إلى كلمة  الجاهليّة، في باب أيّام الجاهليّة ، أو في باب القَسامَة في الجاهلية!

وهو لم يخرّجها غمزاً بعمرو بن ميمون، وإشارةً إلى تضعيفِه، كما قال أحدهم؛ لأنّ البخاري أخرّج عن عمرو بن ميمون عشرين روايةً في جامعه الصحيح.

فيحتمَل أنّه أخرج هذه الكلمات القليلةَ من قصّة طويلةٍ، تعجّباً واستغراباً من أمور الجاهليّة!

قال ابن حجر في فتح الباريّ، عند شرح الحديث (3849):

«سَاقَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُطَوَّلَةً، مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ حِطَّانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: كُنْتُ فِي الْيَمَنِ فِي غَنَمٍ لأهلي، وأنا على شُرُفٍ «مكان مرتفع».

فجَاء قرد مَعَ قِرَدَةٍ فَتَوَسَّدَ يَدَها، فَجَاءَ قِرْدٌ أَصْغَرُ مِنْهُ، فَغَمَزَهَا، فَسَلَّتْ يَدَهَا مِنْ تَحْتِ رَأْسِ الْقِرْدِ الأوّل سلّاً رَقيقاً، وَتَبِعَتْهُ، فَوَقَعَ عَلَيْها، وَأَنَا أَنْظُرُ، ثُمَّ رَجَعَتْ!

فَجَعَلَتْ تُدْخِلُ يَدَها تَحْتَ خَدِّ الْأَوَّلِ بِرِفْقٍ، فَاسْتَيْقَظَ فَزِعاً، فَشَمَّها، فَصَاحَ! فَاجْتَمَعَتِ الْقُرُودُ، فَجَعَلَ يَصِيحُ وَيُومِئُ إِلَيْهَا بِيَدِهِ، فَذَهَبَ الْقُرُودُ يَمْنَةً ويسرة فجاؤوا بِذَلِكَ الْقِرْدِ، أَعْرِفُهُ!

فَحَفَرُوا لَهُمَا حُفْرَةً، فَرَجَمُوهُما، فَلَقَدْ رَأَيْتُ الرَّجْمَ فِي غَيْرِ بَنِي آدَمَ!

قَالَ ابنُ التِّينِ: «لَعَلَّ هَؤُلَاءِ «القردة» كَانُوا مِنْ نَسْلِ الَّذِينَ مُسِخُوا، فَبَقِيَ فِيهِمْ ذَلِكَ الْحُكْمُ،ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْمَمْسُوخَ لَا يَنْسِلُ!

قال ابن حجر: وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ؛ أَنَّ الْمَمْسُوخَ لَا نَسْلَ لَهُ! وَعِنْدَهُ «مسلم» (2662) مِنْ حَدِيثِ ابن مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا أَوْ يُعَذِّبْ قَوْمًا فَيَجْعَلَ لَهُمْ نَسْلًا، وَإِنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ).

ثمّ راح ابن حجر يتكلّف في وصف القرد وبيان مزاياه، ما يدلّك على عقل السلف الذي تقدسونهم، إلى أن قال:

وَقد استنكر ابن عَبْدِ الْبَرِّ قِصَّةَ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ هَذِهِ وَقَالَ: «فِيهَا إِضَافَةُ الزِّنَا إِلَى غَيْرِ مُكَلَّفٍ، وَإِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْبَهَائِمِ، وَهَذَا مُنْكَرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ!

قَالَ ابن عبدالبرّ: فَإِنْ كَانَتِ الطَّرِيقُ صَحِيحَةً، فَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا مِنَ الْجِنِّ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمُكَلَّفِينَ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ حَسْبُ»!

قال عداب: في كلام ابن حجر نظر؛ فإنّ ابن عبدالبرّ قال في الاستيعاب (3: 1205): «وَهُوَ الَّذِي رأى الرجمَ فِي الجاهلية مِن القِرَدةِ، إن صَحّ ذَلِكَ؛ لأن رواته مجهولون.

وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ نُعَيْمٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونَ الأَوْدِيِّ مُخْتَصَراً، قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً زَنَتْ، فَرَجَمُوهَا- يَعْنِي الْقِرَدَةَ- فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ.

ورواه عبّاد بن العوّام، عَنْ حُصَيْن، كما رواه هشيم مختصراً!

وأما القصّة بطولها، فإنها تدور على عبدالملك بن مسلم، عن عيسى بن حطّان، وليسا ممن يُحتجّ بهما.

وَهَذَا عِنْدَ جماعة أهل العلمِ، منكرٌ إضافةُ الزنا إِلَى غير مكلّف، وإقامة الحدود فِي البهائم.

ولو صحّ؛ لكانوا من الجنّ؛ لأن العبادات فِي الجن والإنس دون غيرهما، وقد كَانَ الرَجمُ في التوراة».

قال ابن حجر: وَأَغْرَبَ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ (3: 490) فَزَعَمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، وَأَنَّ أَبَا مَسْعُودٍ وَحْدَهُ ذَكَرَهُ فِي الْأَطْرَافِ!

قَالَ: «وَلَيْسَ فِي نُسَخِ الْبُخَارِيِّ أَصْلاً، فَلَعَلَّهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُقْحَمَةِ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ»!

قال عداب: ليس في الجمع بين الصحيحين، هذا النفي المطلق، إنما فيه «وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الكُشميهنيّ عَن الْفربرِيّ أصلاً شيءٌ من هَذَا الْخَبَر فِي القِرْدَة، ولعلها من الْمُقْحمَات التِي أقحمت فِي كتاب البُخَارِيّ».

وَمَا قَالَهُ مَرْدُودٌ فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُور فِي مُعْظَمِ الْأُصُولِ الَّتِي وَقَفْنَا عَلَيْهَا!

وَكَفَى بِإِيرَادِ أَبِي ذَرٍّ الْحَافِظِ لَهُ، عَنْ شُيُوخِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَئِمَّةِ الْمُتْقِنِينَ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ حُجَّةً!

وَكَذَا إِيرَادُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجَيْهِمَا وَأَبِي مَسْعُودٍ لَهُ فِي أَطْرَافِهِ.

قال عداب: كلام ابن حجر ههنا دقيقٌ، فالحديثُ موجودٌ في رواية أبي ذرّ، الورقة (127/ أ) السطر (13) من أسفل، وفيه لفظةُ (قد زنت)!

قال ابن حجر: وَأَمَّا تَجْوِيزُهُ أَنْ يُزَادَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مَا لَيْسَ مِنْهُ؛ فَهَذَا يُنَافِي مَا عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْحُكْمِ بِتَصْحِيحِ جَمِيعِ مَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَمِنِ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِنِسْبَتِهِ إِلَيْهِ!

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ تَخَيُّلٌ فَاسِدٌ، يَتَطَرَّقُ مِنْهُ عَدَمُ الْوُثُوقِ بِجَمِيعِ مَا فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ فِي وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ؛ جَازَ فِي كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، فَلَا يَبْقَى لِأَحَدٍ الْوُثُوقُ بِمَا فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ، وَاتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ يُنَافِي ذَلِكَ.

وَالطَّرِيقُ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ؛ دَافِعَةٌ لِتَضْعِيفِ ابن عَبْدِ الْبَرِّ لِلطَّرِيقِ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَقَدْ أَطْنَبْتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِئَلَّا يَغْتَرَّ ضَعِيفٌ بِكَلَامِ الْحُمَيْدِيِّ فَيَعْتَمِدُهُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ» قلت: سيأتي أنّ تخريج البخاريّ القصة من هذه الطريق؛ لا يقوّيها أبداً.

قال عداب: الذي أراه أنّ البخاريّ أخرج طرفاً من هذه القصّة المطوّلة؛ ليثبت أنّ عمرو بن ميمون مخضرم أدرك الجاهلية، ولذكر كلمة الجاهلية في هذه القصة!

وربما ليدلّ على أنّ الرجم كان معروفاً قبل الإسلام، وليس الإسلام من ابتدأه!

أمّا تضعيف عمرو بن ميمون بهذه القصّة؛ فيتوقّف على ثبوتها عنه!

ففي رواية البخاريّ؛ شيخه نعيمُ بن حمّاد، راوي العجائب والأساطير، والذي اتّهم بوضع الحديث!

وقد ترجمه في الضعفاءِ النسائيّ (589) وابن عدي (1959) وابن الجوزي (3543) وقال: «قَالَ أَبُو الْفَتْح الْأَزْدِيّ: قَالُوا كَانَ يضع الحَدِيث فِي تَقْوِيَة السّنة، وحكاياتٍ مُزوّرةً فِي ثَلْب أبي حنيفَة، كلهَا كذب!

وَكَذَلِكَ ذكر ابْن عدي».

وحكى الذهبيّ في المغني (6658) ما سبق ثم قال: ما أظنّه يضع!

وأطال ابن كثير في التكميل (1: 386) من النقول فيه، فينظر ثمة.

وترجمه الذهبيّ في النبلاء (10: 595) وقال: «الإِمَامُ العَلاَّمَةُ الحَافِظُ، أَبُو عَبْدِ اللهِ الخُزَاعِيُّ المَرْوَزِيُّ، الفَرَضِيُّ».

وبعد هذا الإطراء (ص: 600) قال الذهبي: «قُلْتُ: نُعَيْمٌ مِنْ كِبَارِ أَوْعِيَةِ العِلْمِ، لَكِنَّهُ لاَ تَرْكَنُ النَّفسُ إِلَى رِوَايَاتِهِ».

وقال في (ص: 609) أيضاً: «قَالَ الحَافِظُ أَبُو عَلِيٍّ النَّيْسَابُوْرِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِالرحمن النَّسَائِيَّ يَذْكُرُ فَضْلَ نُعَيْمِ بنِ حَمَّادٍ، وَتَقَدُّمَهُ فِي العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ وَالسُّنَنِ، ثُمَّ قِيْلَ لَهُ فِي قَبُولِ حَدِيْثِهِ؟

فَقَالَ: قَدْ كَثُرَ تَفَرُّدُهُ عَنِ الأَئِمَّةِ المَعْرُوْفِيْنَ بِأَحَادِيْثَ كَثِيْرَةٍ، فَصَارَ فِي حَدِّ مَنْ لاَ يُحْتَجُّ بِهِ».

قال الذهبي: «قُلْتُ: لاَ يَجُوْزُ لأَحَدٍ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ، وَقَدْ صَنَّفَ كِتَابَ «الفِتَنِ» فَأَتَى فِيْهِ بِعَجَائِبَ وَمَنَاكِيْرَ».

وأمّا طريق الإسماعيليّ؛ فقد ضعّفها ابن عبدالبرّ، وأقرّه ابن حجرٍ على تضعيفها كما تقدّم.

وهذا يعني أنّ هذه القصّة مشكوك في صحتّها، وأسوأ ما فيها؛ التشكيك بصدق عمرو بن ميمون، الذي ربما لم تخطر له على بال، ولا علم له بشيءٍ مما فيها!

وظهر بما تقدّم أنّ دفاع ابن حجرٍ في غير موضعه، وهو لا يفيد في إثبات هذه القصة شيئاً!

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.