الخميس، 10 يوليو 2025

  إلى سوريا من جديد:

اعتقال الشهيد مروان حديد، رحمه الله تعالى (2):

بسم الله الرحمنِ الرحيم

(الحمد للهِ، وسلام على عباده الذين اصطفى).

أمّا بعد: تابع للمنشور (1) الأسباب القريبة لاعتقال الشهيد مروان:

في صبيحة يوم الأحد؛ جرى حديث طويل بيني وبين الشهيد مروان حيالَ العمل معه، وعاتبني على ترك العمل، وأبدى استياءه من سفري من دون مشورته، وسفرِ بعض إخوانه الكبار، فقلتُ له متأثراً بكلامه:

أنا سأبقى معك، سأحيا معك، وأموت معك، وأنا لن أسافر بعد اليوم!

أقسم بالله العظيم لن أسافر، وكرّرت القسمَ ثلاثَ مرّاتٍ!

قال: لا تحلف..لا تحلف.. بل ستسافر، وتكفّر عن يمينك؟! أنا ألزمك بهذا؟

أنت في ليبيا تنفعنا، عسى الله أن ييسر لك الأمور، ونحن لسنا على وشكِ صدامٍ مع الدولة!

كنت على موعدٍ مع ثلاثةٍ من تلامذة الشهيد مروان، عقبَ صلاة الظهر من يومِ الأحد (29/6/1975م) وثلاثتهم منتظمون في جماعة الإخوان، وتغدينا معاً في بيت أحدهم في حيّ (المزة) ورجوتهم غايةَ الرجاء أن ينقلوا الشهيد من بيته المعروف لدى جميع خصومه، فرفضوا إلا أن ينصاع شيخُهم لأوامرهم، وأراني أحدهم (مفتاحَ) الشقة التي استأجروها للشهيد، لكنهم لن ينقلوه إليها، حتى يأتمر بأوامرهم، ويلتزم بما تريده الجماعةُ منه.

قلت لهم: إنّ شيخنا مؤمن صالحٌ، وقلبه يحدثه أنه سيعتقل الليلةَ، أو غداً؟

فقال أحد الثلاثة، وهو يقهقه: «بريّح وبيستريح والله، إذا ما وجد أمامه أحداً فليرجع»!

وأخرج الآخرُ المفتاحَ من جيبه، وقال: «والله ما يلمسه بيده، حتى يعطيني عهداً على الالتزام بما تريده الجماعةُ لصالحه».

قلت له: يا فلان، هذا كلام كبيرٌ وخطير، الشيخ قد يعتقل، وقد يقتلُ؟

قال: «أخي عداب، أنت عارف، الشيخ يريد الشهادة، خلّه يستشهد ويريّحنا، هو نحن ما عندنا شغل إلا هو؟».

قلت لهما: هل تحبّون أن أنقلَ كلامَكما إلى الشيخِ مروان، الذي كنتم في أسرة واحدة عنده؟

فوافقا على أن أنقل كلامهما للشيخ بصريح العبارة!

وأمّا الأخُ الثالثُ، وكان أكثرَهم أدباً؛ فلم ينطق بكلمة إساءةٍ لشيخه مروان، لكنهم جميعاً متّفقون على النتيجة.

صحيحٌ أنّهم يقصدون بوجوب التزام الشهيد بما يريدون مَصلحتَه بتقليل عَددِ زوّاره وموافقتهم المسبقة على زياراتهم للشهيد، لكنّ الوقت لم يكن وقتَ إملاءاتٍ، وهم لم يكن لديهم خوفٌ أو خشيةٌ من اعتقاله؛ لأنهم يفكرون في دراستهم، وتخرجهم من الجامعاتِ، وليسوا في وارد التغيير والجهادِ في قبيلٍ ولا دبيرٍ!

كان الشهيدُ طاقةً متفجّرةً، أكبرَ وأضخم من أن تستوعبها جماعة الإخوان المسلمين في ذلك الوقت، وحتى في هذا الوقت، هذا صحيح!

لكن أنْ يُسلِموا شيخَهم، ويحاولوا إذلالَه، ويعرّضوه للمهانة والاعتقال، ثم للتعذيب والآلام في السجن، بأحقر دمٍ باردٍ؛ فهذا ما يجب أن يحاسبوا عَلَيْهِ، مثلما يجب أن يحاسَب قاتلوه ومعذبوه، في هذه الحياة الدنيا، وإلا فعند الله تجتمع الخصوم.

حين شرحتُ في مكة المكرمة للشيخ سعيد حَوّى رحمه الله تعالى ظروفَ اعتقالِ الشهيد مروان؛ بكى بكاءً شديداً وقال: الله أكبر! إلى أيّ مستوىً منحطٍّ وصلتْ أخلاقُ هؤلاء التلاميذ؟

رجعتُ إلى الشهيد مروان قبيل صلاة العصر، وقلت له: تدبيرُ الشقة ليس أمراً صعباً لكن الإخوة يقولون: من أجل سلامتكم الغالية على الجميع؛ يريدون منك وعداً بتنسيق مسائل الزيارة؛ ليطمئنوا عليك من جهة، وليطمئنوا إليك من جهة أخرى!

التفت إليّ، وقال: صدقتَ، الثانية هي التي تُهمهم، هم يريدون الدنيا، يريدون المال، يريدون السعادة، أشكّ في أنهم يعنيهم أمر الدعوة في شيء (الرواية بالمعنى).

ثم قال لي: أحد المسؤولين، سيأتي لهذا الغرض، بعد قليل، فننتظر حتى نرى ما لديه!

وعقب صلاة العصر جاء مسؤولٌ من الإخوانِ، كان هو الصلةَ بين الجماعة وبين الشهيد مروان، وكان يرفض أن يجتمع مع أحدٍ من ضيوف الشهيد مروانَ، أو تلامذتِه.

وكان هذا المسؤول هو الأخ القياديّ المهندس (فاروق طيفور) كما أفصح لي هو بذلك بمنزله في القصيم، بعد سنواتٍ من هذه الحادثة.

سألني: هل تعلم من الزائر الذي لم يعجبك أن ينفردَ بالشيخ مروان وحده، فرفعتَ صوتَك، وقلت: مَن هذه الشخصية العظيمة الذي يخافنا على نفسه؟

قلت له: والله لا أدري، وليس من عادتي الاستفصال من شيخنا مروان، ولا من غيره.

قال: أنا هو! وضحكَ، غفر الله له.

التقى الأخ فاروقٌ الشهيدَ مروانَ على انفراد، وغادرَ قبيل المغرب، وعاد الشهيد مروان، وأخبرنا أنهما تكلّما بشأن البيت، واستنكر وصايةَ الإخوان عَلَيْهِ، وكان الشيخ غضبانَ جداً، وما سمعته أنا شخصياً دعا على الإخوان إلا هذه المرّة.

فإذا قدّر اللهُ لشباب الشهيد مروان قوّةً وتمكّناً؛ فعَلَيْهِم أن يحاكموا هؤلاء الثلاثةَ «وهم أحياءُ يعيشون من دون تأنيبِ ضميرٍ فيما أرى» ويحاكموا المهندس السيد (فاروق طيفور) الذي كان في زيارةِ الشهيد، بعد صلاة عصر الأحد.

وهو الذي نقلَ إليه؛ أنّ الجماعةَ قد فصلتُه من صفوفها.

وأنّ الجماعةَ قطعت عنه مساعدَته الشهريّة.

وأنّها ليست مسؤولةٍ عن تأمين بيتٍ له، أو حمايتِه.

وكثر زوّار البيت في نهار ذلك اليوم وليلته كثرةً مُذهلةً، أغاظتني للغايةِ!

فقلت للشيخ مروان: كل هؤلاء الزوار يأتون إليك، وتريد من الإخوان أن يُوافقوا على نقلك إلى بيت آخر، ما الفائدةُ من ذلك يا شيخي؟

يا شيخي! هذا وضع غير صحيح، والله لو كان الإنسان الذي يأتيه كل هؤلاء الشباب في يوم واحدٍ من أركان الدولة؛ لراقبته الدولةُ، وشكّت فيه، سبحان الله العظيم!

وفي الساعة الثانية بعد منتصف الليل تقريباً؛ قُرع جرس البيت، فحملت سكينَ المطبخ واقتربتُ من الباب، فرأيت من المنظار السري الشيخ محموداً الحامدَ، ففتحتُ لهم الباب فدخل الشيخ محمود ومعه الشهداء بدر ذكرى، وبسام أرناؤوط، وهشام جنباز، ومُحَمّد عجعوج، وزهير الظريف وحسّان كيلاني

وما أن انتهينا من السلام والعناق، حتى انطلق الأخ مُحَمّد عجعوج يقول: ضيعناهم والله ضيعناهم! قلتُ: ضيّعتم مَن؟ قال: المخابرات!

قلت: كيف ضيعتموهم، بل كيف عرفوا بكم؟

قال: جاء إليّ ابن خالتِك (بدر ذكرى) فأخذني ثم ذهبنا إلى بسام، ثم إلى هشام، ثم إلى فلان وفلان، ثم جئنا إلى الشيخ محمود، فتأكدنا أن سيارتين كانتا وراءنا إلى «الرستن» ثم اختفتا، فما عدنا نراهما، فيبدو أننا ضيعناهم، والله أعلم!

وفي هذه الأثناء دخل الشهيد مروان والشيخ محمود إلى غرفة مستقلة، وتابعنا حديثنا عن متابعة المخابرات إياهم، فقلت للأخ عجعوج: يا أخي يغفر الله لكم، حَماة مكهربة من خطبة الشيخ محمود، ومن المؤكد أنه مراقب، فكان ينبغي أن يأتي متخفّياً وحده، أو يأتي معه واحد منكم فقط؟ فلماذا جئتم ستة، وكيف وسعتكم السيارة؟ وهل من ضرورة لذلك؟

قال: جئنا حمايةً للشيخ محمودٍ، وضحك، ثم قال: اللهُ يستر في الرجعة؟

قلت أنا: اللهُ يستر الآن قبل الرجعة، اليوم دخل إلى بيتنا هذا أكثرُ من ثلاثين زائراً؟!

ثم جئتم أنتم قُبَيل الفجر؛ أإلى هذا الحدّ تظنون الدولة غافلة؟

قال أحدُ الحاضرين: أنا أتوقع أنهم تابعونا إلى باب العمارة، وربما إلى باب الشقة؟

قال له: كيف؟

قال: عندما كنتُ أخدم في الجيش؛ كنتُ في دائرة الاتصالات، وحين كانوا يريدون رَصدَ شيء؛ كانت الدورية المكلفة في هذا القطاع تتابع الهدَفَ حتى نهاية قطاعها، ثم تتصل بدورية القطاع التالي، حيث تتابع هذه الدورية المهمة، وهكذا إلى نهاية الهدف.

فالسيارة التي كانت تتابعنا إلى «الرستن» ربما أعطت معلوماتٍ عن سيارتنا إلى دورية «الرستن» التابعة لمحافظة حمص، ونحن لا نعرفها.. وهكذا.. فالله يستر!

فصرتُ أسأل كلّ واحد منهم: لماذا جئت أنت؟ فكان كل واحد يقول شيئاً!

ومحصّلة ذلك كلّه؛ أن يصحبوا الشيخ محموداً، ويفوزوا برؤية الشهيد مروان!

وانتهى لقاء الشهيد مروان مع الشيخ محمود، وخرجا إلينا عند أذان الفجر!

صلّينا الصبح، وطلب الشهيد مروان من الشيخ محمود وصحبه أن يستلقوا قليلاً، حتى يُسافروا قبل حَرَكةِ العمارة، حين بدء دوام الموظفين.

وعند الساعة السادسة غادر الجميع الشقة، ولم يبق سوى الشهيد مروان، وأنا الفقير والأخ الصامت الصابر زكي صفدي، والأخ مأمون كاخي، والمرأتان في قسم النساء مع طفلتي التي لم تكن جاوزت العشرين شهراً من عمرها!

استلقى الشهيد مروان على ظهره، رافعاً رأسه على طرف الجدار، وأغمض عينيه لحظاتٍ، ثم قال: لا حول ولا قوة إلا بالله! لقد تراءت لي الزنزانة الانفرادية الآن؛ أضيَقَ من هذا الفراش، لكن في الزنزانة رأسك في مكان منخفضٍ، وجسمك في مكان أعلى، والمرحاض القذر تحت رجليك، حسبنا الله ونعم الوكيل.

اللهم شهادةً في سبيلك يا ربّ.. اللهم نجنا من السجن.. أعوذ بالله من سجونهم!

فأمنّا على دعائه، وأغمض عينيه ثانية!

فيما أخذ كل من الأخوين زكي ومأمون مضجيعهما، وراحا في سبات عميقٍ، إذ نحن لم ننم أبداً نهارَ السبت وليلةَ الأحد، ونهارَه، وليلة الاثنين، إلا ما كان من إغفاءة قاهرةٍ، ونحن جالسون!

والله تعالى أعلم.

والحمد لله على كلّ حال.

يتبع منشورٌ ثالثٌ إن شاء الله تعالى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق