الخميس، 10 يوليو 2025

  إلى سوريا من جديد:

اعتقال الشهيد مروان حديد، رحمه الله تعالى (1):

بسم الله الرحمنِ الرحيم

(الحمد للهِ، وسلام على عباده الذين اصطفى).

أمّا بعد: نشر أحدُ الإخوة الحمويين مقالاً عرضَ فيه ساعةَ اعتقال الشهيد مروان رحمه الله تعالى.

وصاحبُ المقالِ والذي نقلَ عنه؛ لم يكونا معنا عند اعتقالي واعتقال الشهيد مروان.

وأنا وحدي - والله شاهدي وحاضري وناظر إليّ - الذي يحقّ له شرعاً أن ينقلَ الواقعةَ كما حصلت، من دون شخصناتٍ وادّعاءاتٍ وطنون!

كتبت في كتابي (الشهيد مروان حديد ومنهجه في الدعوة والجهاد) عن الأسباب البعيدة لاعتقال الشهيد مروان، فيمكن لكلِّ أحدٍ أن يراجعها في الكتاب.

وكتبت تحت عنوان:

الأسباب القريبة لاعتقال الشهيد مروان:

حين علّقت عملي مع الشهيد مروان في (3/ 11/ 1974) حَصلَتْ عِدَّة أمورٍ، أدّتْ إلى تركي التدريس في ثانوية ابن العميد في دمشق، وفي المعهد الشرعي في حماة.

ورغبتُ أن يتحقق الشهيد مروان من كلّ كلمةٍ قلتها له، من أنني لا أغدرُ، ولا أخونُ، ولا يمكن أن أجعلَ شبابه مدارَ عملي الدعوي، فاستغلّيت أنني بدون عملٍ، وقررت السفر من سوريا كلها!

في (9/2/ 1975م) غادرت دمشق إلى القاهرة، ومنها إلى ليبيا، وحين سافرت؛ لم أمرّ على الشهيد مروان، ولم أسلّم عَلَيْهِ؛ لأنه سيثنيني عن السفر، وأنا مصرٌّ عَلَيْهِ.

وعدت إلى دمشق من ليبيا في (17/6/1975م) حيث كان امتحان مادة القانون المدنيّ، التي سأقدمها في (19/6) ومادة أخرى في (21/6).

وفي هذه الأثناء دعاني الشيخ إلى زيارته، وقال في دعوته إنه غيّر البيت، لكن هنا البيت مكشوف أكثر!

وعقب أداء الاختبار الثاني في (21/6) زرته لمدة ساعة، أو ساعتين، ووعدته أن أزوره وأنا مغادر إلى ليبيا في الساعة الثانية عشرة من ظهر يوم الاثنين (30/6/1975م).

فقال: بل تأتينا قبل يومين، أو ثلاثة على الأقلّ، لنستأنس بك أكثر، ولتستأنس زوجتي بزميلتها زوجتك، فقد مضى عَلَيْها عِدَّة أشهر، لم ترى فيها عتبة المنـزل، ولا يزورنا من النساء أحدٌ تقريباً.

وانطلقتُ إلى حَماة.. والتقيت بشباب الشهيد مروان وغيرهِم من الإخوة الأكارم، وكنتُ قلقاً غايةَ القلق على الشيخ، كما كنت أتوقّع في كلّ لحظة سماعَ مفاجئة تأتي من دمشق.

جاء الإخوة الأحباب إلى زيارتي، وبحثوا معي مسألة العودة إلى العملِ، فرفضت رفضاً قاطعاً، وقلت لهم يومها: طريقُكم هذه، وبصورتها الحالية؛ بدايةُ دمارِ هذا البلد، ودمارُ الدعوة إلى الله فيه، وأنا تاركٌ سوريّا كلّها؛ حتى لا أتحمّل شيئاً من ذلك أمام اللهِ، وأمام أهلها.

أنا لا يمكن أن أُطردَ من عملٍ، ثم أعودُ إليه بحالٍ من الأحوال؛ لأنّ الذي طردني من العمل، رأى بي ما سوّغَ له ذلك، وأنا لا أرى ذلك المسوغَ عندي سائغاً.

أنا أرى نفسي أكبر من جميع الشبه والارتياب والتطلّع والطموح، ومَن يتوقع مني احتمالَ أن أغدر به؛ فيستحيل أن أعمل معه إلى أن أموت!

قالوا: هو خيّرك، ولم يطردك؟! قلت: هو يعرف الطريقة اللائقة بطرد عدابٍ، وعدابٌ فهم مرادَه وانتهى!

وجاء يوم الجمعة الأخيرة، الموافق (27) حزيران، عام (1975م) وخطب الشيخ محمود الحامد خطبته الشهيرة في حَماة، والتي سُميّت بالخطبة الناريّة، كما سمعت بعدُ.

وانزعجتُ أنا من هذه الخطبة التي افتقدتِ الدقَّة التي كان الشيخ محمود يُعرف بها.

بل يسعني القولُ: إنّ تلك الخطبة؛ كانت كأنها تهديد هارون الرشيد لنقفور ملك الروم، بل هي أشدّ!

كانت العلاقة مع الأخ الشهيد مُحَمّد عجعوج  متينةً وحميمة، وكان في أثناء الخطبة جالساً بجواري، وهو يَفرك كفّيه، مُكفهرَّ الوجه، مما يسمع ويرى في جامع «السلطان».

وكان الأخ بسام أرناؤوط يجلس خلفي وينفخ، ويحوقل بصوتٍ مسموعٍ يملؤه الضجر!

بينما كان الأخ الشهيد هشام في إحدى زوايا المسجد، يسجّل الخطبة؛ ليحملها إلى الشهيد مروان.

كنّا جميعاً متوقّعين مصادمةً مع السلطة، عقب خروجنا من المسجد، وكان واقع حالنا فعلاً يقول: جدّدوا إيمانكم، توبوا إلى ربكم تَعالَى ، أخلصوا دينكم لله! أكثروا من الاستغفار، فليس بينكم وبين الشهادة، إلا أن تخرجوا من باب المسجد!

حين انتهت الخطبةُ، وفي أثناء إقامة الصلاة؛ أشرت إلى بسّام، فاقترب مني، فقلت له: لا تصلّ السنة البعديةِ، لكن انظر مَن هنا من شبابنا، فاجعلهم حول الشيخ؛ لنحميَه، وأخبرهم أن يكون سلاحُ كلٍّ منهم ملقّماً، فأنا أتوقع مصادمةً مع رجال الأمن بعد الصلاة!

وعقب انتهاءِ الصلاةِ مباشرة؛ كان يسرع أكثرُ الناس للخروج، بينما نحن أسرعنا بالاتجاه المعاكس، وصرنا قريبين جدّاً من الشيخ محمود، من دون أن نلفت نظره لشيءٍ!

وحين أراد الشيخ محمود الانصراف؛ سلّمت عَلَيْهِ، واستأذنته بزيارته في بيته عشرَ دقائق فرحّب، وقال: أنا أنتظرك في البيت!

خرجنا معه جميعاً، وجعلناه داخل حلقةٍ، حتى استقلّ السيّارةَ التي انطلقت به لتوصله إلى البيت، وقُضي الأمر على خير.

رجعنا إلى المسجد، وتبادلنا التحيات الطيبة مع كثير من شباب الجامع، وقد حاول بعضهم أن يصحبني إلى مَنْزله، أو أصحبه إلى مَنْزلي، لكنني اعتذرت من الجميع بأسباب كانت مقبولةً لدى الجميع!

وصرفتُ الإخوةَ هشاماً وبساماً ومأموناً، على أمل اللقاء بهم في مسجد سعد بن معاذ في حيّنا، بعد صلاة العصر!

انطلقتُ ومعي الشهيد مُحَمّد عجعوج، مسرعين في الوصول إلى مَنْزل الشيخ محمود الحامد، ونحن نتبادل وُجهات النظر فيما نقوله له!

ثمّ اتفقنا على أن لا يتكلّم الشهيد عجعوج بكلمة واحدةٍ؛ لأن الشيخَ محموداً مُفرطُ الحساسيّة، وما كان بيني وبينه من ثقة ومودة وصحبة طويلةٍ وجوار في المسكن؛ يجعلني مقبولاً لديه أكثرَ من غيري!

وحين دخلنا بيت الشيخ محمود، وتحاورت معه حيال موضوع الخطبةِ، وجرت موضوعات أخرى، وانتهت الجلسةُ وقد عاهدني على الأمور الثلاثة الآتية:

الأول: أن لا يخطب بعد هذه الخطبة، ما دامت الأجواء متوترةً.

الثاني: أن لا يخرج إلى منطقة ريف حَماة وبساتينها وحده، ومن غير سلاحٍ بتاتاً.

الثالث: أن لا يخرج إلى منطقة الغاب في الجمعة التالية، ليفتتح مسجداً أسسته جماعة الدعوة والتبليغِ، بالتعاون مع أهل القرية هناك.

وفي صبيحة اليوم الثاني اتفقت مع عدد من الإخوة منهم: هشام جنباز، ومأمون كاخي على السفر إلى دمشق ظهراً.

واستقلّينا سيارةً خاصة، وسافرنا بها من حَماة إلى مَنْزل الشهيد مروان بدمشق، فوصلنا قبيل العصر إلى منـزله العامر.

دخلت زوجتي إلى مخدع النساء، وجلسنا نحن معه في صالة الاستقبال.

ما أن دخلنا مَنْزلَ الشهيد مروان، حتى طلبتُ منه الإذنَ بالوضوء؛ لأداء الصلاة فذهبت لأتوضأ، ولما عُدت؛ إذا بالشيخ يستمع إلى الخطبة الأخيرة للشيخ محمود الحامد بضجرٍ وحزن، وبعد أدائي الصلاةَ؛ قال لي: أترى ماذا يصنع ابن حارتكم؟

وكان الشيخ محمود الحامد جاري في الحيّ، فضحكتُ أنا تلطيفاً للجّو، وقلت: أليس هذا الذي تريدُه يا شيخ مروان؟

قال: لا! لا والله ما هذا الذي نريده، ولا هذا الذي طلبناه منه، ولا أدري ماذا دهاه؟

قلت له: حدثني الشيخ محمود، والأخ مُحَمّد عجعوج حاضرٌ؛ أنه لم يكن في ذهنه موضوعُ الخطبة هذا إطلاقاً، ولكن أحدهم لقيه في الطريق، فكلّمه بكلام هيّجه، فخطب ما خطب، وهو غير راضٍ عما حدث.

قال: وماذا ينفع هذا الكلام! إنّ هذا الكلام لا يفيدنا أبداً، ثم لماذا أنتم مستعجلون؟

نحن الآن وَضَعنا أقدامنا على عتبة العمل، ولم ندخل ساحة العمل الحقيقي بعد!

مِن الممكن أن نقطفَ نحن ثمارَ عملنا، ومن الممكن ألا يقطفه أولادنا، بل أحفادُنا، ويمكن بعد!

فقلت: آلآن يا شيخنا؟ آلآن تقول هذا الكلام يا شيخ مروان؟ على كل حال هذا كلام طيبٌ، كنت أحبُّ أن أسمعه منك منذ سنوات!

قال: ماذا نعمل الآن؟

قلت: أنا أخذتُ على الشيخ محمود الحامد عهداً قطعه على نفسه بثلاثة أمورٍـ وذكرتها له.

فقال: ممتاز، أنا سمعت منه أنه يحبك كثيراً، ويثق برجولتك وعقلك.

قلت: وهذا هشام سوف ينـزل إلى حماة، فحمّله رسالة شفويةً، أو تحريرية تؤكد على هذه الأمور الثلاثة، ثم زد عَلَيْها ما تراه مناسباً، والشيخ رجل طيب يَسمعُ النُصحَ.

وإن شئت فأرسل إليه ليحضر، وناقشه في جميع أمور الخطبة وغيرها، فهو رجل يستمع النصيحة بكلّ أدبٍ واحترامٍ!

وقلت: إذا جاء الشيخ محمودٌ؛ فليأت سرّاً متخفّياً، متنكراً، فأنا أخاف أن يكون مراقباً بعد هذه الخطبة، وليأت هو وهشام فقط، وفي وقتٍ تعرف السلطة أنّ الشيخ محموداً فيها نائم.

في تلك الليلةِ؛ ضاق صدر الشهيدِ مروان كثيراً، وحدثنا عن تباطؤ الإخوان في تأمين بيتٍ له، وهو خائف أن يُداهَم البيت، من أجل زوجته، فهو يرغب عن تعريضها لمثل هذه المواقف الصعبة.

ضمّت هذه الجلسةُ الشهداء: مروان، وهشام، ومأمون، وزكي، والفقير عداباً.

قال الشهيد مروان: أخ عداب، ألا ترى من الأكرم لنا أن ننزل إلى حماة الآن، ونرتاح من هذا العناء؟

المقسوم لنا هنا؛ هو المقسوم لنا هناك، إخوانك (مو مُسمّين بالله!).

قلت له: والله يا شيخي هذا أفضلُ، الآن يذهب أحدنا، ويحضر (تاكسي) ويقول له: إلى حلب، أو إلى إدلب، أو إلى المعرة، وننزل إلى حماة، على الأقلّ، ريثما يتدبّر بيتٌ آمن!

فغضب الإخوة رَحمةُ اللهِ عَلَيْهِم، وقال هشام: البيت هنا غير آمن صحيح، لكن فكروا تطلعوا على الزبداني، على الغوطة، أما حماة؛ فمكهربة الآن أكيد بعد خطبة الشيخ محمود الأخيرة.

قال لي مأمون: أما قلتَ: إن عندك وعداً بعد صلاة الظهر غداً، من أجل هذا الموضوع، فلم العجلة يا شيخي؟

قلت له: كأنك فهمتَ أنني أنا مَن يحرض الشيخ على النزول؟ الشيخ ضجران ومتضايق، والجماعة لا يتجاوبون معه، وحتى لو اعتقل الشيخ؛ فلن يحزنوا عَلَيْهِ، ولن تؤنبهم ضمائرهم بأنّه اعتقل بسبب تقصيرهم!

ثمّ افرضْ دوهمنا الآن يا مأمون، ألن يبقى في نفس الشيخ شيء، إذا أثنيناه عن رغبته؟

قال زكي: لا تختلفوا يا جماعة..خالي (خالتي؟) مسافر إلى العمرة، ولن يعود قبل أسبوعين، فما رأيكم أن أستأذن الوالدة، وأحضر المفتاح منها، وننقل الشيخَ وأهله إلى هناك، ونبدأ نحن نبحث عن بيتٍ، لماذا ننتظر الجماعة وغير الجماعة؟

راق لي هذا العرضُ، لكنني لم أتفوّه بشيء، فشكره الشيخ مروان، ورفض الفكرة من أساسها.

وقال: (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً) ننتظر غداً، لنرى ماذا سيتمّ بين الأخ عداب وإخوانه، وغدا بعد العصر سيأتي لزيارتي أحدُ المسؤولين في الجماعة.

فإن عشنا إلى غدٍ يكون خيراً، وإن كان غير ذلك؛ فهو من الله خير.

ثم كتب الشهيد مروان رسالةً أرسلها إلى الشيخ محمود، مع الشهيد هشام، وانطلق هشامٌ في صبيحة يوم الأحد إلى حَماة.

والله تعالى أعلم.

والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق