الخميس، 10 يوليو 2025

  إلى سوريّا من جديد:

اعتقال الشهيد مروان حديد، رحمه الله تعالى (3):

بسم الله الرحمنِ الرحيم

(الحمد للهِ، وسلام على عباده الذين اصطفى).

أمّا بعد:

في الساعة السابعة إلا ربعاً صباحاً، تقريباً، قُرع الباب، فحملت سكيناً، واستأذنت الشيخَ بفتح الباب، فأذن، وقال: احذر، وتريّث، وأخبرني، فأنا مُنقبِضْ!

فنظرتُ من المنظار السحري، فرأيت الدكتور عبدالستار الزعيم، فقلت للشيخ: عبدالستار، ثم فتحت الباب، فدخل الدكتور عبدالستار، وتعانقنا طويلاً؛ لأننا كنا من الأحباب، ثم سلمت على الأستاذ فريد قدّاح، وعلى الأخ مصطفى عادلة «المصريّ» وطلبت من الجميع أن يجلسوا، ولكن الدكتور الزعيم اعتذر بأنه سيتقدّم إلى امتحانٍ في الثامنة والنصف، واستأذن، فأذن له الشيخ مروان، وودعته وداعَ السفر، ثم انصرف.

إرهاصات الاعتقال:

جلست بجانب الشهيد مروان، وجلس مقابلنا الأستاذ فريد قدّاح، والأخ مصطفى عادلة، وتبادلنا التحيّاتِ، وأطراف الحديث.

بادَرَ الأستاذ قدّاح، وأخرج مبلغاً من المال، ووضعه تحت الفراش، وقال للشيخ مروان: نعتذر عن التقصير، هذا المبلغ المتواضع للأكل والشرب، وليس لشيء آخرَ!

أغضبني هذا التصرف جداً، والتفتّ إلى الشهيد مروان، فرأيته صامتاً، فلا هو شَكره حتى أعلم أنه راضٍ بهذا التصرّف السمج عندي، ولا هو ردّ عَلَيْهِ بشيء.

فالتفتُّ إلى الأستاذ فريد، ولم تكن الأمور بيننا سيئة أبداً، وقلت له: احمل فلوسَك وأطعِم بها أولادك، الشيخ مروان لا يقال له هذا الكلام! الشيخ مروان يُطعم الدنيا كلها (وأنا أعلم بيقين أنّ الشهيد مروان لا يملك ليرةً سورية واحدة)!

قال فريد: أنت لا تتدخل بيني وبين الشيخ مروان رجاءً، هذا شيء يخصّه وحده!

فازداد غضبي، وكدت أضربُه، لولا مبادرةُ الشيخ مروان، وأمرُه إياي بالسكوت!

يبدو لي أنني إذ غضبت من الأستاذ فريد؛ صرت أتضايق من كلّ كلام يقوله، خصوصاً وأنّ أسلوبه بالكلام كأنه تحقيقٌ استخباراتيّ!

عقبَ قليل عاد الأستاذ فريد إلى إثارتي أكثر، فقال: لا أرى معكم سلاحاً!

أين السلاحُ، أين أسلحتكم، يمكن الآن تُداهَم الشقة، هل تستسلمون بدون مقاومةٍ، كم قطعة سلاح عندكم، وكم كمية الذخيرة؟

فازددتُ منه غضباً، وقلت: نحن ليس عندنا سلاح، ونحن لا نملك ثمن السلاح أصلاً، حبذا لو اشتريت لنا جميعاً أسلحة! قال: وأنا لا أملك قيمة الأسلحة، هل أنا أغنى منكم؟

قلت: لماذا تسأل عن السلاح إذن، ولماذا تستغرب عدمَ وجود السلاح عندنا؟

قال: سبحان الله! الشيخ مروان مطلوبٌ بغاية الشدة، وليس معه إلا ثلاثة رجال، ليس معهم سلاح؟ إذن لماذا أنتم هنا؟

والتفتَ إلى الشيخ مروان وقال: فعلاً أنا أسأل جاداً عن السلاح، فأنت في كل لحظة مُعرّضٌ لمداهمةِ بيتك؟

ضحك الشهيد مروان، وقال له: كفى أبا صفوان، كفى تستفّز الشيخ عداباً، الآن يقوم، ويضربنا!

يا أبا محمود! لو سمحت أنت الآن صاحب البيت، قم أحضر لنا فطوراً من السوق القريب!

في لحظات الغضب الشديد؛ لم أنتبه إلى أنّ الشيخ يريد تهدئةَ الموقف، وإبعادي عن الاحتكاك مع «أبو صفوان القداح».

فقمتُ، وطرقت الباب على زوجتي، وطلبت منها وعاءً كبيراً للحليب، فأعطتني وعاءَ الحليب، وقالت: يا أبا محمود بحقّ الله تَعالَى  أخرجني من هذا البيت، واللهِ أشعر أن حبلاً يلتفّ على عنقي، يريد أن يخنقني، أسألك بالله، خُذني إلى أي مكان، أكاد أموتُ في هذا البيت؟!

فاستفهمت عمّا إذا كانت زوجةُ الشهيد مروان متضايقةً منك؟

فنفت ذلك، وقالت: هي أشد مني رُعباً، وتخوّفاً، وقلقاً، وقد استأذن أخوها من الشيخِ؛ ليأخذها معه، فرفضَتْ من أجلي!

قلت لزوجتي: بعد الفطور إن شاء الله؛ سنَزور أخاك نصف ساعة، ثم نخرج إلى المطار فنحن يجب أن نكون في المطار الساعةَ العاشرة، والشيخ حمّلني عدداً من الرسائل إلى ليبيا، وهو مُصِرٌّ على أن نسافر.

وخرجتُ من البيتِ، وقَفَل مأمون كاخي البابَ ورائي، ونزلت من الدور الخامس إلى الدور الأرضي، ولم ألاحظ أي شيء، سوى أنّ رجلاً نحيلاً كان يدخّن وهو يصعد الدرج، فلم أستظرف حتى السلامَ عَلَيْهِ!

لكنني عندما خرجت من العمارة؛ أحسست أن النهار في باكورته، وأن المحلات التجارية مُغلقة! فهممت بالرجوع، وإذا برجل خرج من أحد المحلاّت التجاريّة القريبة، فعلمت أن ثمّة محلاً مفتوحاً.

كان الشهيد مروان أخبرني مساءَ يوم الأحد؛ أن أخواته سيَزُرنه يومَ الاثنين بعد الظهر، وكانت زوجتي أخبرتني أن المطبخ يحتاج بعض الحاجيات، وكتبتها لي على ورقة.

دخلت الدكانَ، وسلّمت على صاحبها الدمشقي، وأعطيته الورقة، فأعطاني الأغراض، وقبل خروجي من الدكان؛ جاء الفرّان ومعه كمية جيدة من الخبز الطازج الساخن، فرأيت من المناسب لوضع منْزل الشيخ شراءَها كلهّا!

ما عدا ثلاثةَ أرغفة اشتراها الزَبونُ الوحيد الذي دخل المحلّ.

حاول صاحب المحل أن يساعدني في حمل الأغراض؛ لأن حملها صعبٌ على شخصٍ واحدٍ، فرفضت، وطلبتُ منه أن يضعها في أكياس كبيرة، وفعل فعلاً.

لكن صبيّاً صغيراً قال: عمّو أنا جاركم في الدور الخامس، وقد اشتريت لوالدتي شيئاً، وأنا طالعٌ معك، فأنا أساعدك.

فحمّله صاحب المحل طبقَ البيض وفوقه عدد يسير من الأغراض الخفيفة، وسرنا إلى العمارةِ، وأنا أستفهم عن اسمه واسم والده وعمله، وكيف عرف أنني في الدور الخامس؟

فقال الصبيُّ على سجيته: أنا اسمي فلانٌ، وأبي فلانٌ، وأمي فلانة، وأبي ضابط في جهاز كذا «نسيت!» وشقة الشيخ بجوارنا، كل يوم يأتي ويروح إليه كثيرون.

وهي بالأصل شقةُ الخالة «أمّ حسني» لكن أجّرتها، وسافرت إلى أمريكا!

فغصصتُ من كلامه، وقلت في نفسي: نحن إذنْ مفضوحون، من غير جلاجل، الله يستر!

لحظات اعتقالي:

وصلنا إلى الدور الثالثِ، والطفل يتكلم على سجيّته؛ رافعاً صوته، وأنا أصغي إليه وألاطفه، ولم أنتبه إلى شيء.

ولمّا وصلتُ إلى الدور الرابع؛ إذا بي أرى رجلاً، وبيده مسدس، فلما أحسّ بي؛ جَفِل؛ فأيقنت أنه من الأمن، فتمالكتُ نفسي، وقلت: السلام عليكم، فرد عليّ جمعٌ: وعَلَيكُم السَلامُ ورَحْمَةُ اللهِ وبَركاتُه.

وتابعت طريقي متماسكاً، فنادى عليّ: عفوا اسمك هويتك، هويتك اسمك، وهو يشير إليّ بالمسدّس، فضحكت، ورفعت يده التي يمسك بها المسدس إلى أعلى، وقلت له: بيدك مسدس ومرعوب؟ خيراً إن شاء الله، ما لك؟

فلم يقل الرجل شيئاً، وتابعت سيري، حتى وصلت الساحةَ التي أمام شقق الدور الخامس، فإذا على الدرج السابق واحدٌ آخر انضم إليه من كان في الرابع، وعلى باب الشقة اثنان وعلى الدرج الصاعد إلى الدور السادس اثنان، فصاروا ستةَ رجالٍ، كلّ منهم يشهر مسدسه نحوي، ويَدُه ترتَجف.

جاء كبيرهُم - فيما بدا لي - نحوي، وقال بارتباكٍ شديد: اسمك، هويتك! اسمك هويتك! من أنت، وإلى أين قادم؟

فأزحت مسدسه عن وجهي قائلا: أبعدْ مسدسك عن وجهي، المسدسُ لا يخيف الرجال، أنت مَن، وماذا تريد؟ ورفعت صوتي عالياً جدّاً، حتى قلتُ: إن الجيران استيقظوا.

وكلّ غرضي أن يَسمع الشهيد مروان، فيأخذَ حِذرَه.

فغضب الرجل، وحملق عينيه قائلاً: ورَبّكَ أقتلك، لا ترفع صوتك أبداً!

فتجاهلتُ، ورفعتُ صوتي أكثر، ومشيتُ إلى الباب بعنف، ولكنهم أمسكوا بي بقوةٍ ومنعوني من قرع الباب، واقتادوني إلى أعلى، فتابعت صراخي: من أنتم، وماذا تريدون مني؟

فقال كبيرهم: نحن ..أنا.. أمن.. أمن دولة، هذه بطاقتي، انظر بها، اصمتْ، اسكتْ!

فقلت: أهلاً وسهلاً بكم، ماذا تريدون؟

قال كبيرهم: أين شقتك؟ قلت هذه شقتي، فقال: هذه شقتك؟

قلت: نعم، وأخرجتُ مفتاح بيتي في دمشق من جيبي، وقلت: تعالَ معي، تفضّل حتى أفتح لك الباب، وكان غرضي أن أقرع الجرس، وأضربه بشدّة، وليعتقلوني بعد ذلك، أو يقتلوني، فلا فرق!

فقال: أنا أريد أسألك سؤالاً واحداً، لكن لا ترفع صوتك، وإلا «بشنكلك لتحت» أو «بشنتلك»!

قلت ساخراً متكلفاً الضحكَ: تفضل لنشوف؟

قال: أبو خالد جَوَّه ولا لأ؟ قلت: من أبو خالد هذا؟

قال: ألا تعرف أحداً اسمه أبو خالد؟

قلت: بلى! جدي أبو خالد، وابن عمّي أبو خالد، لكن من الذي تسألون عنه، ولماذا؟

قال: أبو خالد مروان .

فكدتُ والله أختنقُ بريقي، ولكني تجلّدت، وقلت: من هذا مروان ؟

قال: لا تعرف مروان حديد؟

قلت: ولا مروان خشب!

[كان لنا أخ اسمه عادل لبابيدي، رحمه الله تعالى، يلاطف الشهيد مروان، ويقول له: مروان من المرو، وهو الحجر الصلب، والحديد معروفٌ، لو قلنا: مروان خشب ألطف قليلاً]!

ففي هذه اللحظات الحرجة؛ تذكرت كلمات ذلك الأخ الطيب، وقلت له: ولا مروان خشب، فهمّ بضربي على رأسي، ولكنه تراجع، لا أدري لم؟

في تلك اللحظات اقتادوني إلى أسفل، فمشى واحدٌ إلى جانبي، ومسدسه في خاصرتي اليمنى من جهة «الدرابزين» والآخر يمشي خلفي، ومسدسه في وسط ظهري، وكان الذي يمشي ورائي رئيسَهم.

بدليل أنه التفت إلى الأربعة الباقين، وقال: إذا نحن نزلنا إلى الأسفل؛ اقرعوا الباب، فإذا سمعتم حركة، فاضربوا الباب حتى «يِتْخِلِع» وحاولوا ألا تصيبوه، ونزلنا بهدوءٍ تامٍ، وأنا واجم، كأنني منوّم مغناطيسياً، وهم كذلك، فلا هم كلموني بكلمة، ولا أنا كلمتهم بكلمة، حتى وصلنا الدور الأول فنّي «المائدة» نظرت فإذا بثماني سيارات عسكريّة (لاندروفر) فيما يبدو، وفيها جنود على رؤوسهم خَوذات حربيّة، فقلت في نفسي: انتهى الشيخ مروان!

في تلك اللحظة صحوتُ من سباتي الرهيب، وحاولت أن أتحرك بهدوءٍ، ولكن مُرافقيَّ كانا يقظين تماماً.

في اللحظة التي وصلنا فيها إلى باب العمارة؛ سمعت صوت الشهيد مروان يصرخ: الله أكبر .. الله أكبر ..عداب، عداب، عداب، وكان في الحقيقة يشتمهم ويقول: (كلاب.. كلاب.. كلاب).

وأعقب صراخَه إطلاقُ عياراتٍ ناريَة قَدرتُّها بين أربع إلى ست عيارات، وخَمَد صوت الشهيد مروان بعدها نهائياً، فذرفتْ عينايَ، وقلت في نفسي: ما قيمةُ عيشك بعد شيخك؟

في هذه اللحظاتِ؛ صرنا خارج العمارة، وأسرع عدد من رجال الأمن المسلحين نحونا وقالوا لمن معي: هذا هو؟

قال الرئيس: لا.. خذوه..خذوه..خذوه!

ورجعا راكضين مسرعين إلى العمارة.

نظرت أمامي، فرأيت ستةً من رجال الأمن المدنيين، ونظرت خلفي إلى جهة اليمين؛ فرأيت السياراتِ الثماني التي أشرت إليها، وتذكرت ما قاله لي الشهيد مروان من أن أخواته سيأتين بعد ظهر ذلك اليوم، وسيأتي إلى لقائه عددٌ من إخوانه «جماعة مروان» من عِدَّة محافظات قال لي: إنهم قد يصلون إلى سبعين شابّاً!

فأقنعت نفسي بأن المصلحةَ تقتضي أن أُفلت من أيدي رجال الأمن، ما دام الشهيد مروان قد قُتل، والشباب سوف يستسلمون؛ لأنني لم أكنْ أعلم أنّ لديهم  سلاحاً أصلاً.

ورأيتُ الرجالَ أمامي غيرَ منتبهين إليّ، ولا مهتمّين بي، وأنا بدوري أشعرتهم باستسلامي التام لهم، ووقفت قريباً منهم، أنظر إلى أعلى العمارة، ثم استللتُ سكيناً صغيراً حادّاً كان معي، وصرخت فيهم، وهجمت عَلَيْهِم بأقصى درجات العنف، فتفرقوا من أمامي، وهربت من بينهم، ولم يكن غرضي جرحَ أحد منهم، إلا إذا أرادوا الإمساك بي.

وهم لم يجرؤوا على الإمساك بي، لكنهم أمطروني برصاص المسدسات والرشاشات، وأنا أسابق الريح، وأتمايل في جريي تمايلَ الحصان، والرصاص يحوطني من كل اتجاه.

فلم أشعر إلا وأنا واقع في حفرة عريضةٍ، عمقها يزيد على ثلاثة أمتار بيقين، ودخل سيخُ حديدٍ في قدمي اليُسرى فمزّقها، وعندها لم أعد أسمعُ رَميَ الرصاص، وأغمي عليّ - فيما يبدو - لكن لا أدري كم كانت مُدّة الإغماء!

حين صحوتُ؛ وجدتُ بِركةً من الدم تحتي، والسيخُ ما يزالُ عالقاً في قدميّ.

سحبتُ السيخ بعنف، ثم نظرت، فرأيت مكان خروج الآليات من تلك الحفرة الواسعة في الجهة المقابلة، فخرجتُ، فرأيت أمامي طريقاً مسدوداً، وأنا لا أعرف تلك المنطقةَ أصلاً!

رَميت بنفسي في حديقةِ أحد المنازل، وإذا بصاحبها يسقيها، فصرخ بي مؤنّباً، فصرخت به: اخرس!

فسكتَ الرجل، وخاف من السكين التي بيدي، فيما يبدو، وتابعت طريقي إلى مَنـزل الشهيد الطبيب «رياض جعمور» رحمه الله تعالى، في حيّ الميدان.

قصة الطريق من العدويّ إلى المجتهد؛ تحتاج إلى مقالٍ خاصٍّ، فقد كان الدم لا يزال ينزف من قدمي، ويزداد نزفه كلما مشيتُ على رجليّ، وأنا حافي القدمين...إلخ.

قصدت منزل الدكتور رياض جعمور؛ لما أعرفه من حذره الشديد، وحرصه على عدم الظهور بمظهر الإسلاميّ اللافت للنظر، وكان أخوه الدكتور مُحَمّد يدرس الطبّ، فطببني الرجل، وخاط لي جرحي الغائر الممزق، وأخبرتهم بما حدث، وطلبت منهم الاتصال بأهل الشيخ، وإعلام الإخوة بعدم الذهاب إلى منـزل الشيخ؛ فإن الشيخ إما قتيل، أو جريح، وغفوتُ، وأنا أحدّثهم، ولم أستيقظ من غفوتي إلا بعد صلاة الظهر؛ لأجد أمامي الدكتور الطبيب مُحَمّد، والأخ صفوان عقميق، وعدداً من الإخوة الآخرين!

أعطاني الدكتور مُحَمّد حقنة (كزاز) وقال: من الأفضل أن نأخذك إلى المشفى؛ لأن جرحك عميق، وقد نزفت دماً كثيراً.

كيفية اعتقال الشيخ:

كيفية اعتقال الشيخ لا يعرفها إلا الذين اعتقلوه، ومن ساعدهم على اعتقاله، وهو يَعرفُ لحظات التنفيذ.

ومن أقدار الله تَعالَى  أن الأستاذَ فريد قداح، كان في الشقّة في أثناء اعتقال الشيخِ، وهو حيّ يرزق، يمكن سؤاله عن كلّ حرفٍ في كلامي هذا.

والشهيد مروان أضرب في السجن عن الطعام أياماً طويلة، فساءت حالته الصحية والنَفسيّة، فأحضروا أحدَ السجناء الدمشقيين، وهو الأخ «عادل حيدر» حفظه المولى، ليراقب حالتَه ويخفف عنه في زنزانته، كما حدّثني عادلٌ في شهادته.

فأنسَ به الشهيدُ مروان، وأسرّ إليه بما جرى أثناء اعتقاله.

وقد التقيتُ به في مكة المكرمة، واستضفته في بيتي، وأنا لا أعرفه من سابق، وسألته عن أيام اعتقاله مع الشهيد مروان، فأملى عليّ أوراقاً عديدة، مهرها بتوقيعه، وهي في مكتبتي في الأردن حتى اليوم، وقد أودعتها بتمامها في ملحق الكتاب.

حدثني الأخُ عادل أبو عبدُالرحمن قال: كان مما قاله لي الشهيد مروان في الزنزانة (9): دخل الأخ أبو صفوان، وبدأ يتكلم بكلامِ مداعبةٍ، لم يحتمله الشيخ عداب، وبدأ يصرخ في وجهِ أبي صفوان، ويؤنّبه، فخشيتُ أن يتطوّرَ الأمر بينهم؛ وعدابٌ عنيفٌ، فطلبتُ منه أن يذهب إلى السوق ليشتري لنا طعامَ الفطور، ولم يكن غرضي إلا إبعادَه، حتى لا يتطور الأمر بينهما؛ لأن عداباً استاء من دخول أبي صفوان إلى مَنْزلي أصلاً، ولم يستقبله الاستقبالَ اللائقَ أبداً!

وعقبَ خروج عداب بلحظات؛ طُرق الباب، فقلت لهم: رجع الشيخ عداب؛ لأنه لا توجد دكاكين تُفتح الآن!

قال الشيخ مروانُ: لما نظرت من العين السحرية؛ فوجئت بأنّ «مصطفى جيرو» على البابِ، ففتحتُ له، ودخلت معه إلى غرفة خاصة، وقلت له: هل أوصلتَ ما طلبتُه منك إلى أصحابه؟ قال: لا، لم أتمكن!

قال الشهيد مروان: فوقع في قلبي شيءٌ، فقلت: يعني هل يمكن أن تكون الرسائلُ وصلتْ للأمن؟ فقال «جيرو»: ممكن، والله أعلم؟

قال الشيخ: وكان الرجل قلقاً مُرتبكاً، ثم استأذن للانصراف، قال الشيخ: فقلت له: انتظر حتى نضيفك؟!

قال: لا.. الآن ليس وقت ضيافة.. أنا مُستعجلٌ أريدُ أن أصل إلى القطعة العسكرية «موضع خدمته» قبل الدوام، فقد اتصلوا بي، وقالوا: اقطع إجازتك فوراً.

قال الشهيد مروان: ولما وصلنا إلى باب الشقة؛ أخرج إحدى رجليه، وأبقى الأخرى داخل العتبة، وصار يكلمني، وأنا مستغرب من موقفه، فقد كان في داخل المنـزلِ مُستعجلاً.

وما هي إلى لحظات حتى جاء عدد من رجال الأمن، فضربوا الباب، وأطلقوا رصاصةً أو رصاصات للإرهاب، واحتضنوني، وضربني أحدهم على رأسي، فأُغميَ عليّ، فلم أفق إلا في السجن».

قال عداب: وقد تيقّن تلامذةُ الشهيد مروان من هذا الأمر، وقتلوا الخائن «مصطفى جيرو» شر قتلة، عَلَيْهِ من الله ما يستحقّ.

هذه هي قصّةُ اعتقالي، واعتقال شيخنا الشهيد مروان في صباح (30) حزيران من شهور عام (1975) وهي الحقيقةُ الوحيدةُ الصادقة، والله تعالى هو الشهيد الرقيب.

والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق