الأربعاء، 1 يناير 2025

  بعيداً عن الساسة اللعينة:

المجتمعُ النُصيريُّ كما عَرفتُه (3)!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

في ختام المنشور السابق (2) ذكرتُ أنّ العمَّ أبا نيبل قال لي: إنّ شيوخَ وادي العيون يريدون أن يزوروك، ويتعرّفوا إليك؟

قلت له: عندما أعودُ إليكم في أوّل الأسبوع القادم؛ ألتقيهم وأتعرّف إليهم.

رجعتُ صبيحةَ يوم السبتِ، بسيّارة خاصّةٍ من حماةَ إلى وادي العيون، إذ كانت زوجتي أمّ محمودٍ بصحبتي، ومعنا لوازم وحاجاتٌ ضروريّة!

أوصلت زوجتي إلى شقّتنا، وذهبتُ إلى دوامي في المدرسة.

شعرتُ بحرجٍ شديدٍ؛ أن ألتقيَ شيوخ البلد في مضافةِ العمّ «أبو نبيل» وعقب انتهاءِ الدوام؛ سألتُ تلميذي النجيب عن بيتٍ مستقلٍّ؟

قال: لدينا فيلّا مستقلّة لها إطلالةٌ رائعةٌ على الوادي، عندما تجلس لتشرب القهوة على شرفتِها؛ يمرّ السحاب بين يديك وتحتك!

عندما سمعتُ كلمةَ «فيلا» قلت في نفسي: مرتّبي كلُّه لا يكفي أجرةَ فيلا!

فقلت له على الفور: لا لا حبيبي، ماذا أعمل بالفيلا، أريد شقة صغيرة غرفتين وصالة وحسب!

قال: هو كذلك، نحن نقفل جميع غرف الفيلا، ونبقي لك ما طلبتَ مع المنتفعات!

الفيلا لخالي، أو قال: لابن خالي، وهو ضابطٌ كبيرٌ في الجيش، يسكن دمشق، وأهله وأولاده لا يحضرون إلّا في تموّز، بعد انتهاء أيّأم الدراسة!

ذهبتُ معه، ودخلنا إلى الفيلا، فسرح خيالي إلى جنّة عدن، وقلت من دون شعور: سبحان الله العظيم!

أظنّ الصالةَ تتجاوز ستين متراً مربّعا، حيطانها من حجر المرمر، وفيها مقاعد جميلة جدّاً وجديدة!

سألته: كم أجرتها في الشهر؟

قال: أنا كلمتُ صاحبها، من دون أن تعرف أنت؛ لأننا نرغب بزيارتك ومؤانستك، ليس من المعقول أن تعيش وحدك، كأنّك غريب، بينما نحن أهلك وطلّابك!

وخالي لا يريد منك أجرةً سوى الدعاء!

دعوتُ لخاله ولأسرته بالهداية والحفظ، وقلت له: هذا شيءٌ لا أقبله البتّة، اسأل خالك: كم يريد، فإن كان باستطاعتي؛ سكنت بيتَه، وإلّا فأنا ساكن ونبحث عن بيتٍ أوسع!

قال: كم تريد أن تدفع أجرة ما تريد أن تشغله من الفيلا؟

قلت له: أدفع ثلاثين ليرة سوريّة! قال: ممتاز، قبلنا، وتوكلنا على الله تعالى!

كتبتُ عقداً بيني وبينه لمدّة ستة أشهر، وذهب معي إلى بيتي، ونقلنا أغراضنا القليلةَ جدّاً.

واستأذنت أبا نبيلٍ، وأفهمته السبب، فرحّب باختياري، وزارني في بيتي مرّات عديدةً، تعبيراً عن رضاه.

قلت لأبي نبيل: الجوّ ماطرٌ والثلج يحيط بنا من كلّ جانب، ولا أظنّ أنني سأنزل إلى حماةَ طيلةَ هذا الشهر، فادع المشايخ على العشاءَ يوم الخميس، وأخبرني عن عددهم قبل يومٍ واحد!

كانت زوجتي صغيرة، لا تعرف شيئاً من شؤون البيت، فعلّمتها حتى غدت من أفضل نسائنا في تجهيز الطعام والضيافة!

طبختُ للضيوف ما نويتُ أن أكرمهم به، حتى إذا حضروا قبيلَ المغرب؛ أذّنت للمغرب وأقمتُ، فاصطفّوا ورائي وكانوا ثلاثةَ شيوخٍ والمختار.

تعشينا، ثم دار بيننا حوار طويل، افتتحه شيخ هَرِمٌ جدّاً، ربما يزيد سنّه على التسعين، يدعى أبا حيدر!

قال: أنتمُ السنّة تظلموننا، تقولون عنّا: كفّار ومشركون ومرتدون، ونحن - والله - مسلمون على مذهب أهل البيت عليهم السلام!

قلت له: وهل لأهلِ البيت مذهب خاصّ بهم؟ قال نعم!

قلت: ما هي عقيدة أهل البيت؟ قال: عقيدة أهل البيت أربع كلمات:

- التوحيد: شهادةُ أنْ لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله.

- والعدل: الذي يعني أنّ الله تعالى لا يكلّف عباده إلّا ما يطيقون، ولا يحاسبهم إلّا على أعمالهم الاختياريّة.

- والنبوّات: وتعني الإيمان بأنبياء الله تعالى أجمعين، وخاتمتهم رسولنا الأعظم صلوات الله عليه وآله.

- والمعاد: ويعني يوم الحشر والنشر والحساب، ومن ورائه الجنة أو النّار!         

لم تكن كليّةُ الشريعةِ بجامعةِ دمشقَ تدرّس مادّة العقيدةِ التقليديّة في تلك الأيّام، وعندما سألت شيخنا الدكتور محمد سعيد رمضان البوطيّ عن سبب ذلك؟

فقال: نحن في الكليّةِ منسجمون مع مذهبِ أهل السنّةِ والجماعةِ، الاعتقادُ لا يكون بالتقليد، إنما يكون بالاختيار والاجتهاد، فعندما يبلغ طالب العلم مبلغاً ما من العلم؛ يستطيع عندئذٍ أن يختارَ ويستدلّ لما يختار.

في تلك الأيام لم أكن أعرف عن مذهب «النصرية» إلّا كلاماً عامّاً، خلاصته أنهم مرتدون، وأنهم أشدّ كفراً من اليهودِ والنصارى، وأنهم عملاء لأعداء الإسلام، وأنهم «يدخلون مع الستّ، ويخرجون مع الجارية» بمعنى أنّهم منافقون، لا يستعملون التقيّة فحسب، إنّما يتلوّنون في كلّ مجلسٍ باللون المناسب!

فقلت للشيخ «أبو حيدر»: وما يدريني يا شيخ أنّ ما تقوله هو عقيدتك في الحقيقة، أنتم تستعملون التقيّة مع كلّ محاورٍ لكم، وتبقى الحقيقة في صدوركم!

قال: معاذ الله أن نفعلَ هذا، يا سيّد، نحن قد نتّقي عند الخوفِ على النفسِ أو العرضِ، وحضرتكم لست مهدّداً لنا في نفسٍ ولا عرضٍ ولا مال.

طيّب يا سيّد عداب: أنت بماذا تعتقد؟ ذكرتُ لهم أركان الإيمان، وأركان الإسلام، فأخرج من جيبه الأيسر عند قلبه مصحفاً أوراقه صغيرة الحجم، فلما رآه الباقون وقفوا، ووقفت معهم!

فتح يدَه اليمنى ووضع عليها المصحف، وقال: ضعوا أيمانكم فوق يدي، فوضعوا أيمانهم، ثم ثال لي: ضع يدك فوق أيدي الجميع يا سيّد، فوضعت يدي اليمنى، ثم قال:

يا سيّد: أنتم تقولون بالقدَر، ونحن نقول بالعدلِ واللطفِ الإلهيّ، ما عدا هذا؛ فردّدوا معي:

اللهم إنّا نشهدك ونشهد ملائكتك المقرّبين، ونشهد القرينَ والموكّلين أننا جميعنا نعتقد بما يعتقد به عبدك وابن عبدك السيّد عداب.

اللهم اجعل غضبك ومقتلك ولعنتك على الكاذبين، اللهم آمين.

قلت له: هذا لا يكفي يا سيد أبا حيدر! قال: ماذا تريد بعد؟

قلت له: قال لي أبو نبيل: إنّكم ترون الصلاةَ والصيام والحجّ سنناً اختياريّة، ولا ترونها فرائض!

قال: المهمّ أننا نراها مشروعةً، ومن دين الإسلام، إذ يرى علماؤنا أنّ العبادةَ الحقّة هي التي يؤديها المؤمن بدافع حبّه لله تبارك وتعالى، ولا يؤدّيها كرهاً عنه!

قلت له: أنتم تؤلّهون الإمامَ عليّاً رضي الله عنه قال أبو حيدر: هذا كلام ساقطٌ لا يقوله عاقلٌ أصلاً!

ألم يُقتلْ جدّك الإمامُ؟ قلت: بلى!

ألم يدفن في النجف الأشرف؟ قلت: بلى.

إذنْ من هو قيّوم السمواتِ والأرضِ، وممسك السماء أن تقعَ على الأرض؟ قلت: الله تبارك وتعالى قبل علي وفي حياته وبعد استشهاده! قال: كيف نعبدُ من يموتُ إذنْ؟

قلت له: إذنْ ماذا تقولون في الإمام عليٍّ؟ قال: نقول: إنّه عبدالله وأخو رسوله صلّى الله عليه وآله ووصيّه على أمّته من بعده، ونعتقد أنّ ما كان يجري على يديه من الخوارق؛ ليس في قدرة البشر، إنّما يتجلّى الله تعالى عليه باسمه المقتدر، فيهزم كلَّ من يحاربه.

قلت لهم: اشهدوا عليّ أنني أؤمن بما آمنتم به بخصوص الإمام عليّ رضي الله عنه أمّا أن تقولوا: إنّ العباداتِ ليست مفروضةً؛ فهذا مخالفٍ لإجماع المسلمين سوالكم.

قال أبو حيدر: لا بأس ليكن ذلك كذلك، لكن هل يكفر الإنسان بالعمل أم بالاعتقاد؟

نحن نعتقد بأنّ الطهارة والصلاة والصيام والزكاة والحجّ عبادات مشروعة، فاجعل خلافنا في فرضيّتها كأي خلافٍ بين الحنفية والشوافع مثلاً!

أذّنتُ لصلاة العشاءِ، وقدّمت السيد أبا حيدر ليصلي بنا، ولم يكن قصدي سوى الاختبار، على أن أعيدَ الصلاةَ بعد ذلك، حتى لو نويتُ المفارقة، بيد أنّ أبا حيدرٍ والباقين رفضوا أن يتقدّم منهم أحدٌ رفضاً قاطعاً، وعلّلوا ذلك بتعليلاتٍ لم أقتنع بها.

عقدنا موعداً أسبوعيّاً يزورونني به، وجعلناه لتلاوةِ القرآن الكريم، وقراءةِ الأربعين النووية وشرحها، ولم يكن فيهم أحدٌ يحسن تلاوةَ القرآن الكريم على الإطلاق، وكان عشراتٌ من طلّابي في ثانوية «وادي العيون» أفضلَ منهم في تلاوة القرآن الكريم!

في أثناءِ زياراتِهم لي؛ كانوا يسألونني أسئلةً رموزيّةً، لم أعرف جوابَ سؤالٍ واحدٍ منها، من مثل:

ما هي سبعة في سبعة في سبعة في سبعة!

ما المقصود من الرقم (19) في قوله تعالى (عليها تسعة عشر) وغير ذلك كثيرٌ مما لم أحفظه!

وكنت أقول لهم في كلّ مرة: هذه أسئلة علمها لا يفيد، والجهل بها لا يضرّ.

ختاماً: أشهدُ الله تعالى شهادةَ حقّ؛ أنني عشت بينهم طيلةَ تلك المدة من (أيلول - آذار) لم يؤذونني بكلمةٍ، لا في المدرسةِ، ولا في الشارع، ولا في المجتمع، حتى الأساتذة والطلّاب الحزبيّون كانوا مؤدّبين معي!

اللهم إلّا طالباً واحداً تصايحتُ معه، فضربني بقبضته على وجههي، فأشبعتُه ضرباً وركلاً، ولم ينتصر له أحد البتة!

هؤلاء القومُ أحوجُ إلى التعليم والتوجيهِ والعطفِ واللطفِ؛ منهم إلى التأنيب والتوبيخَ الإهانة والتكفيرِ!

والله تعالى أعلم.

والحمدُ لله على كلِّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق