الجمعة، 10 يناير 2025

  مسائل حديثية:

مَنْ خلَقَ الله تَعالى؟!

بِسمِ الله الرَحمنِ الرَحيمِ

(رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

كتب إليّ أحدُهم يَقول: يبدو أنك - شيخَنا - آثرت الكلامَ في السياسةِ، وأعرضتَ عن المنشوراتِ العلميّة عامّةً، والحديثيّة النقديّة الممتعةِ خاصّةً!؟

ولأنني أعرف أنّك تجيبُ السائلَ؛ أسألُ عن حديثين غريبين جدّاً:

الأوّل: حديثُ مَنْ خلَقَ الله تَعالى؟!

والثاني: حديثُ (الوسوسة من الإيمان)؟

فهل هما صحيحان، وإذا كانا كذلك، فما معناهما، وهل قول أحدنا: (آمنت بالله) وقوله (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) جوابٌ يدفعُ ما في النفس، وهل يقنع المبتَلَى؟

أقول وبالله التوفيق:

من آدابِ العلمِ أنْ تقدّمَ الموعظةَ والنصيحةَ والفقهَ الأقربَ إلى النازلةِ أو الحدَث، ويدعى هذا (أدب الوقت)!

وقد مضى علينا معشرَ السوريين إحدى وستّون سنةً، ونحن مبتلَوْن بهذا النظام البعثيّ القُرمطيِّ المجرم، أفسدَ فيها أخلاقَ الناسِ، وحاول إبعادَهم عن دينهم وقيمهم ومكارمهم، أمضيت أنا منها خمسين سنةً في الغربة، ومضى عليَّ اثنان وعشرون عاماً، لم أرَ بناتي ولا أولاهم، فطبيعيٌّ أن تتوجّه اهتماماتي إلى هذا الجانب الذي كان مظلماً في حياتنا، والذي فقدنا فيه أكثر من عشرين شابّاً من أسرتنا الصغيرةِ (آل الحمش) منهم أخواي: الشهيد غازي، والشهيد غسّان.

ومنهم ولدي الشهيد عليّ بن عداب!

فالذي يحسب الفقيرَ عداباً مرتاحاً، يعيشُ حياةً طبيعيّةً سعيدةً؛ فهو واهمٌ!

أنا أحمدُ الله تعالى وأشكره حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، قبل أن أقول:

إنني وأسرتي الخاصّة - آل عداب - نعيش حياةً قاسيةً صعبةً، من جهةِ التشرّد في بقاع الأرض، ومن جهةِ وجود الأعمالِ المناسبةِ لمعاشنا ونفقاتنا!

ومن لطفِ الله تعالى بي؛ أنني أنسى هذا كلَّه، عندما أتوجّه إلى الكتابة، لكنْ لا بدّ من ظهورِ أثر الحزن والحدّةِ على كتاباتي!

إنّ تخريج الحديثِ الذي أضعه أمامك - أيها الأخُ الكريم - هو ملخّصُ جهدٍ مضنٍ، قد يستغرق تخريجُه ونقده أيّاماً، وقد أكتب فيه عشر صفحاتٍ أو أكثر!

ولتصوّر ذلك لديك؛ أخبرك بأنّ بين يديّ أطروحةً علميّة (دكتوراه) صفحاتها (948) صفحةً، درسَ فيها الباحثُ خمسةً وسبعين حديثاً، استغرقت ثلاثَ سنواتٍ من حياته.

أمّا الكتابات التوجيهية والإرشادية والاجتماعية؛ فلا يستغرقُ كتابةُ المنشورِ منّي أكثرَ من ساعةٍ، في معظم الأحايين!

بعد هذا أخرّج لك الحديثين:

أوّلاً: بإسنادي إلى الإمام البخاريّ في كتاب الاعتصام بالسنّة، باب ما يُكرَه من كثرة السؤال (7296) قال رحمه الله تعالى:

حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ: حَدَّثَنَا شَبَابَةُ: حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ الأنصاريِّ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ، حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ) ؟!

وأخرجه مسلم في كتاب الإيمانِ، باب الوسوسة من الإيمان (136) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ الْحَضْرَمِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ مُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ:

(إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يَزَالُونَ يَقُولُونَ: مَا كَذَا؟ مَا كَذَا؟ حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللهُ خَلَقَ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ) فجعله حديثاً قدسيّاً؟

وبإسنادي إلى الإمام البخاري في كتاب بَدْءِ الخلقِ، باب صفة إبليس (3276) قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا، مَنْ خَلَقَ كَذَا، حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ؛ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَلْيَنْتَهِ).

ومن حديثِ عروةَ بن الزبير عن أبي هريرة مرفوعاً؛ أخرجه مسلم من طرق عديدة، وبألفاظ متعددة أيضاً، سأتكلم عنها في المنشور القادم، إن شاء الله تعالى.

وبإسنادي إلى الإمام مسلمٍ في كتاب الإيمان، باب الوسوسة من الإيمان (136) قال: حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ سُهَيْلِ بنِ أَبي صالحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنا، مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ! قَالَ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟)

قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ).

وفي الكتاب والباب نَفْسيهما أخرج مسلم حديثَ عبدالله بن مسعود قال: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوَسْوَسَةِ؟

قَالَ: (تِلْكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ).

وأخرج ابن حبان في صحيحه (145، 136) حديثَ أبي هريرة، وحديثَ عبدالله بن مسعودٍ (149) وقال في شرحهما:

«إِذَا وَجَدَ الْمُسْلِمُ فِي قَلْبِهِ، أَوْ خَطَرَ بِبَالِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَحِلُّ لَهُ النُّطْقُ بِهَا، مِنْ كَيْفِيَّةِ الْبَارِي جَلَّ وَعَلَا، أَوْ مَا يُشْبِهُ هَذِهِ، فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَتَرَكَ الْعَزْمَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا؛ كَانَ رَدُّهُ إِيَّاهَا مِنَ الْإِيمَانِ، بَلْ هُوَ مِنْ صَرِيحِ الْإِيمَانِ، لَا أَنَّ خَطَرَاتٍ مِثْلَهَا مِنَ الْإِيمَانِ».

هذا التخريجُ هو الذي يقتصر عليه الذين يرون جميعَ ما في صحيحي البخاري ومسلم صحيحاً.

وسيكون التخريجُ العلميُّ في منشورٍ قادمٍ، متى أعانني الله تعالى على ذلك.

والله تعالى أعلم(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على نبيّنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق