مسائلُ فكريّةٌ:
ارْحَموا العامّةَ أيّها العوامّ!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ أشدَّ ما يحزنني أنْ يحاكمني عاميٌّ، لا يقبَل خلافاً
لرأيه، ولا يَعذُر أهلَ العِلمِ باجتهادهم!
ليس في هذه الأمّة مجتهدون:
هذا صحيح تماماً، السنيُّ مقلّد، والشيعيُّ مقلّد، والإباضيّ مقلّد!
الحنفيّ مقلّد، والمالكيّ مقلّد، والشافعيّ مقلّد، والحنبليّ
مقلّد!
الصوفي موغلٌ في التقليدِ، والسلفيُّ موغلٌ في التقليد،
والمشايخيُّ موغل في التقليد!
وأتباع الأحزاب جميعُهم متعصّبون، يندُر أن تجدَ فيهم واحداً
يعذُر مخالفَه!
وجمهورُ الأمّة جاهلٌ، لا يعرف ما معنى السنيّ، ومعنى الشيعيّ،
ومعنى الناصبيّ، ومعنى الرافضيّ، وما الفوارق بين أفكارهم، ولا الأحكام الفقهيّة
المترتبة على اعتقاداتهم ومواقفهم!
هؤلاء العامّةُ هم الذين يكوّنون العقلَ الجمعيَّ للمجتمعات
المسلمة، وهم ليسوا مستعدّين أبداً لإعذار العالم، فضلاً عن أن يسيروا هم وراءه!
وجميعُهم تدفعهم طائفيّتهم ومذهبيّتهم وعنصريّتهم وعواطفهم
وثاراتهم، والدين آخر مُؤثّرٍ في حياتهم!
يتجلّى الانقسامُ الطائفيُّ في العراق؛ أكثر منه في سوريّا
بمرّاتٍ كثيرة!
تجد بطوناً من بني تميمٍ من أهل السنة، وبطوناً منهم من الشيعة!
تجد بطوناً من الدُليم من أهل السنّة، وبطوناً منهم من الشيعة،
وهم أبناءُ جدٍّ واحدٍ!
ثمّ هم يُبغضُ بعضهم بعضاً، ويكفّر بعضهم بعضاً، ويقتل بعضُهم
أبناء عمومته!
وكأنْ كان للشيعيّ خيارٌ في أن يكون شيعيّاً، وكأنْ كان للسنيّ
أن يكون حنفيّاً أو شافعيّا!
وكلُّ واحدٍ منَ الفرقاء يظنُّ أنّه على الحقّ، وأنّ مخالفَه
على الباطل، ويقفُ كلّ فريق من الفرقاء مواقفه، بناءً على ما سمعه من أبيه وأمّه
ووعّاظ المسجد الذي يصلي فيه، وليس أثراً من آثار بحوثِه ودراساتِه العلميّة!
إنّ هذا العاميَّ لا يحترمُ العالمَ الذي لا يغذّي طائفيّته،
وينصر مذهبَه، ويؤيّد تصرفاتِ قادتِه الموثوقين لديه.
جميع الشيعة الإمامية تقريباً؛ يعتقدون بأنّ (المراجع العظامَ!!)
مجتهدون!
وكثيرٌ من أبناء أهل السنّة؛ يعتقدون بأنّ الوعّاظ والمتحدّثين
على القنواتِ والتلفاز علماء، وليس في هؤلاء وهؤلاء عالمٌ واحدٌ، إذا كان العالمُ
عندنا هو المجتهد!
فلا السيد السيستاني مجتهد، ولا السيّد محمد سعيد الحكيم مجتهد،
ولا السيّد كمال الحيدريّ مجتهد!
ولا الدكتور أحمد الحسن الددّوا مجتهد، ولا الدكتور عدنان
إبراهيم مجتهد، ولا الدكتور محمد راتب النابلسيّ مجتهد!
جميع مَن ذكرتهم لا يجيدون علم نقدِ الحديثِ، الذي لا يكون ثمّ
اجتهادٌ من دون إتقانه!
أنا الفقيرُ أعذرُ جميعَ شيوخي، وأعذر أتباعَهم وتلامذتهم، إذْ ليس
فيهم مجتهدٌ بيقين!
وأعذرُ مشايخَ الشيعةِ، وأعذر أتباعهم وتلامذتهم، إذْ ليس فيهم
مجتهدٌ بيقين!
وأنا لا أجدُ فرقاً أبداً بين (السيّد حسن نصر الله) الأمين
العام لحزبِ الله اللبنانيّ.
وبين «أبو بكر البغدادي» إمامِ دولةِ العراق والشام الإسلاميّة «داعش»!
قولوا لي: ما الفرق بين هذا وذاك؟
هذا قائد فصيلٍ دمويٍّ يستحلّ قتل مخالفيه، وهذا مثلُه، وقِسْ
على ذلك.
طبعاً قد يقول لي قائل: إنّ أهل السنّة على الحقّ، وإنّ
مخالفيهم على الباطل، وأنا أسلّم بها وبنقيضه إذا كان قائل ذلك مجتهداً، أمَا والجميعُ
مقلّدةٌ عوامٌّ، لا يحسنون التمييز بين صحيح مذهبهم وخطئه؛ فلا فرق عندي البتّة!
عند جميع الطائفيين - والجميع طائفيّون - لا يَصحّ أنت تعذُرَ
مخالفاً، إنما يجب أن تنتصرَ لطائفتك المحقّة، وأن تحاربَ في سبيلِ نصرتها على
خصومها المارقين الضالّين!
هذا الكلام واقعٌ تماماً، لكن عند مَنْ؟
عند الساسةِ الذين يطوّعون الدينَ والأخلاقَ لتحقيق مآربهم،
واستقرار مجتمعهم!
وعند الحزبيّين الذين أكبرُ همومهم أن يصلوا إلى السلطةِ
السياسيّةِ، إمّا تحقُّقاً بشهوة الحكم والسلطان، أو لتحقيق برنامج فكريٍّ
وسلوكيٍّ يرونه الحقَّ الذي لا حقّ سواه!
أمّا موقفُ العلماءِ؛ فيجب أن يكون مختلفاً تماماً!
ما الفرقُ بين أن أعذرَ سنيّاً حزبيّاً بقتلِه العشراتِ
والمئاتِ من أهل السنّة؛ لأنهم خالفوه في منهجه، أو خالفوه في رؤيته، أو رفضوا
الانضمامَ إلى فصيلِه، والخضوع لسلطانه؟!
وبين شيعيٍّ قتلَ العشراتِ والمئاتِ من أهلِ السنة؛ لأنهم
خالفوه في منهجه، أو خالفوه في رؤيته، أو رفضوا الانضمامَ إلى فصيلِه، والخضوع
لسلطانه؟!
إذا كان الثاني مُجرماً؛ فإنّ الأوّلَ مجرم أيضاً!
وإذا كان الأوّلُ متأوّلاً ، يرى المقاصدَ الشرعيّة لا تتحقّق
إلّا بالقتالِ والقتلِ؛ فإنّ الثاني متأوّلٌ أيضاً، فما الفرق؟
الفارق الوحيدُ هو أنّ قتلَ السنيِّ للسنيّ ضرورة، في نظر من
يجوّزه!
بينما قتلُ الشيعيّ للسنيِّ، أو قتل السنيِّ للشيعيِّ؛ اعتداءٌ
صارخٌ مرفوض على مقام الطائفةِ المقدّس!
أنتَ ترى - أخي القارئ الكريم - أنّ العلماءَ معذورون، عندما لا
يكتبونَ ولا ينشرون آراءهم على الملأ، خوفاً من أن يغضبَ من كلامهم عاميٌّ ويثور،
فيتقرّب إلى الله تعالى بقتلِ أحدهم، أو إهانته!
بحث علماؤنا السابقون مسألةَ (كفّار التأويلِ) وَاخْتُلفوا
في مَن هم على أَرْبَعَة أَقوال:
الأول: أَنّهم مِن أهل الْقبْلَةِ، ولا يكفرون
بتأوّلهم غيرَ الحقِّ، لأنّ التَّكْفِير والتفسيق بالتأويل؛ لَا يُفِيد إِلَّا
الظَّنَّ !
الثَّانِي: مَن ذهب إِلَى مَذْهَبٍ، وَهُوَ فِيهِ
مُخطئٌ، بِشُبْهَةٍ يُعلَم بُطْلَانهَا بدلَالَةٍ صريحةٍ من الدّين.
الثَّالِث: مَن ذهب إِلَى الْخَطَأ بِشُبْهَةٍ، وصريح
القرآنِ بِخِلَافِهِ.
الرَّابِع: مَن ورد فِيهِ عَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَآله وسلّم أَنّه كَافِرٌ، وصريحُ القرآن بِخِلَافِهِ!
ولماذا سمّي هؤلاء جميعاً كفّارَ التأويل؟
لأَنّ أصلَ الْكفْر؛ هُوَ التَّكْذِيبُ الْمُتَعَمّدُ
لشَيْءٍ من كتب الله تَعَالَى الْمَعْلُومَةِ، أَو لأحدٍ مِن رسله عَلَيْهِم
السَّلَام، أَو لشَيْء مِمَّا جاؤوا بِهِ، إِذا كَانَ ذَلِك الْأَمرُ المُكذَّب
بِهِ مَعْلُوماً بِالضَرورَةِ مِن الدّين.
وَلَا خلافَ في أَنّ هَذا القَدْرَ كُفْرٌ، وَمَن
صدر عَنهُ؛ فَهُوَ كَافِرٌ، إِذا كَانَ مُكَلّفاً مُخْتاراً، غيرَ مُختَلِّ الْعَقلِ
وَلَا مُكْرَهٍ!
وكفّار التأويل: لا يسمّون بهذا الاسم إذا كانوا
متعمّدين، إنّما يكونون كفّارَ تأويلٍ باجتهادهم، لقيامِ شبهاتٍ منعتهم من الوصول
إلى الحقّ اليقين.
ولذلك قال علماؤنا: القَتلُ جريمةٌ عظمى، لكنّ
القاتلَ لا يكون كافراً، إلّا باستحلالِ القتلِ، والخمرة حرام، لكنّ متعاطيها لا
يكفر إلّا باستحلالها.
بقيت مسألةٌ أخيرةٌ: هل قتالُ المبتدعة وكفّار التأويلِ يدخلُ
ضمن قتال (الفتن) أو إنّ قتال الفتنة يكون بين أصحاب المذهب الواحد؟
بمعنىً آخر: إذا قاتل الدواعشَ أحرار الشامِ، وذبح بعضهم بعضاً،
فهذا قتال فتنةٌ، إذا تصالحوا فيما بينهم تساقطت الدماء؛ لأنهم جميعاً من أهلِ
السنّة.
وهذا الذي أفتى به وطبّقه عمليّاً أمير المؤمنين عليٌّ عليه
السلام، في وقائع الجمل وحطّين والنهروان.
فماذا عن قتالِ أهلِ السنّة للشيعةِ، وعن قتالِ الشيعة لأهل
السنّةِ، هل تتكافأُ دماؤهم، ويُعَدُّ اقتتالُهم قتالَ فتنة، فتتساقط الدماء عند
انتصارِ أحدِ الفريقين على الآخر، أو لا بدّ للمنتصرِ أن يقتصَّ من المنهزم؟
يُترَك هذا إلى المبتلى به، فهو لن يستمع إلى
كلامنا، وسيحاسبه الله تعالى على قدر فهمه واجتهاده.
والله تعالى أعلم.
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق