الجمعة، 10 يناير 2025

  مَسائل فكريّة:

المُحْكمُ والمتشابه في القرآن الكريم!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتب إليّ يقول: (قرأتُ لك مرّةً كلاماً قلت فيه: «ليس في القرآن كلامٌ لا يُفهم، وما كان الله تعالى ليخاطِبَ عباده بكلام يتعبّدهم بتلاوته، وهم لا يفهمونه» مع أنّ  القرآن الكريم ذاته ينصّ على وجود المحكم والمتشابه فيه، حبّذا لو تشرح لنا هذا الكلام، خاصّةً وأنّ السلفيّة يعتقدون بظاهر الأحاديث المرويّة في الصفات، وفي ظواهر بعضها تجسيم محضٌ وتشبيه واضح) انتهى.

أقول وبالله التوفيق: تَبيّن لي بعد هذا العمر العلميِّ الطويلِ؛ أنّ الأمّةَ كلّها «سلفيّة» وليس الحنابلة وحدَهم سلفيين، فالجميعُ لهم أسلافٌ يعظّمونهم!

والكاتبُ إذا عبّر عن رأيِه بكلامٍ ينقلُه عن متقدّمٍ في الزمان؛ يتقبّله الناسُ أكثرَ ممّا لو صاغه هو بأسلوبه وبيانه.

وقد اطّلعتُ على أكثرِ التفاسير المطبوعةِ، وقرأتُ عدداً منها، فأعجبتُ منذ العام (1976) بكتابِ «مفاتيح الغيب» المشهور بتفسير الرازي، وهو أوّل تفسيرٍ قرأته كاملاً في ذلك العام والذي يليه، عندما كتبتُ كتابي «القرآن الكريم ودعاوى النسخ فيه».

وقد مضى قُرابةُ خمسينَ سنةً على هذا التاريخ، وما يزال هذا التفسيرُ ضمنَ التفاسير الخمسةِ الأوائلِ، اعتماداً مني!

عند تفسير قول الله تبارك وتعالى:

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ:

مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ، هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ.

وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ.

فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ؛ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ، ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ، وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ.

وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ.

وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.

وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) [سورة آل عمران]. 

قال الإمام محمدُ بن عمر الرازي (ت: 606 هـ) رحمه الله تعالى في تفسيره مفاتيح الغيب (7: 137): « فَبَيَّنَ اللهُ تَعالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُحْكَمٍ، وَعَلَى مُتَشَابِهٍ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْمُتَشَابِهَاتِ؛ غَيْرُ جَائِزٍ، فَهَذَا مَا يتعلق بكيفية النظم، وهو فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالِاسْتِقَامَةِ.

اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ مُحْكَمٌ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ مُتَشَابِهٌ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُ مُحْكَمٌ، وَبَعْضَهُ مُتَشَابِهٌ.

(1) أمّا ما دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ مُحْكَمٌ؛ فَهُوَ قَوْلُهُ تعالى:

(ألَرَ تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) [يُونُسَ: 1] و(ألَرَ كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) [هُودٍ: 1]. فَذَكَرَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ؛ أَنَّ جَمِيعَهُ مُحْكَمٌ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْمُحْكَمِ بِهَذَا الْمَعْنَى، كَوْنُهُ كَلَاماً حَقّاً، فَصِيحَ الْأَلْفَاظِ، صَحِيحَ الْمَعَانِي.

وَكُلُّ قَوْلٍ وَكَلَامٍ يُوجَدُ؛ كَانَ الْقُرْآنُ أَفْضَلَ مِنْهُ، فِي فَصَاحَةِ اللَّفْظِ، وَقُوَّةِ الْمَعْنَى.

وَلَا يَتْمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ إِتْيَانِ كَلَامٍ يُسَاوِي الْقُرْآنَ، فِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ.

وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي الْبِنَاءِ الْوَثِيقِ وَالْعَقْدِ الْوَثِيقِ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ حَلُّهُ؛ مُحْكَمٌ.

فَهَذَا مَعْنَى وَصْفِ جَمِيعِهِ بأنه محكم.

(2) وَأَمَّا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ مُتَشَابِهٌ؛ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) [الزُّمَرِ: 23].

وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضاً فِي الْحُسْنِ، وَيُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ؛ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النِّسَاءِ: 82].

أَيْ: لَكَانَ بَعْضُهُ وَارِداً عَلَى نَقِيضِ الْآخَرِ، وَلَتَفَاوَتَ نَسَقُ الْكَلَامِ فِي الْفَصَاحَةِ وَالرَّكَاكَةِ.

(3) وَأَمَّا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُ مُحْكَمٌ، وَبَعْضَهُ مُتَشَابِهٌ؛ فَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ، هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ، وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ).

 وَلَا بُدَّ لَنَا مِنْ تَفْسِيرِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ، ثُمَّ مِنْ تَفْسِيرِهِمَا فِي عُرْفِ

الشَّرِيعَةِ:

أَمَّا الْمُحْكَمُ «في اللغة» فَالْعَرَبُ تَقُولُ:حَاكَمْتُ وَحَكَّمْتُ وَأَحْكَمْتُ بِمَعْنَى رَدَدْتُ، وَمَنَعْتُ، وَالْحَاكِمُ يَمْنَعُ الظَّالِمَ عَنِ الظُّلْمِ وَحَكَمَةُ اللِّجَامِ الَّتِي هِيَ تَمْنَعُ الْفَرَسَ عَنِ الِاضْطِرَابِ، وَبِنَاءٌ مُحْكَمٌ: أَيْ وَثِيقٌ يَمْنَعُ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ.

وَسُمِّيَتِ الْحِكْمَةُ حِكْمَةً؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي.

وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ «في اللغة» فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ مُشَابِهًا لِلْآخَرِ، بِحَيْثُ يَعْجِزُ الذِّهْنُ عَنِ التَّمْيِيزِ بَينَهما، قَالَ اللهُ تَعَالَى «حكايةَ قول بني إسرائيل لموسى»: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) [الْبَقَرَةِ: 70] وَقَالَ فِي وَصْفِ ثِمَارِ الْجَنَّةِ: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) [الْبَقَرَةِ: 25].

 أَيْ مُتَّفِقَ الْمَنْظَرِ، مُخْتَلِفَ الطُّعُومِ، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) [الْبَقَرَةِ: 118] وَمِنْهُ يُقَالُ: اشْتَبَهَ عَلَيهِ الْأَمْرَانِ، إِذَا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا».

ثُمَّ لَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُتَشَابِهَيْنِ؛ عَجْزُ الْإِنْسَانِ عَنِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا، سُمِّيَ كُلُّ مَا لَا يَهْتَدِي الْإِنْسَانُ إِلَيْهِ بِالْمُتَشَابِهِ، إِطْلَاقاً لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ، وَنَظِيرُهُ الْمُشْكِلُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَشْكَلَ، أَيْ دَخَلَ فِي شَكْلِ غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَهُ وَشَابَهَهُ.

مِن ثَمَّ يُقَالُ لِكُلِّ مَا غَمُضَ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غُمُوضُهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ - مُشْكِلٌ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ أَنَّ الْحَقَّ ثُبُوتُهُ أَوْ عَدَمُهُ، وَكَانَ الْحُكْمُ بِثُبُوتِهِ مُسَاوِيًا لِلْحُكْمِ بِعَدَمِهِ فِي الْعَقْلِ وَالذِّهْنِ، وَمُشَابِهًا لَهُ، وَغَيْرَ مُتَمَيِّزٍ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِمَزِيدِ رُجْحَانٍ، فَلَا جَرَمَ سُمِّيَ غَيْرُ الْمَعْلُومِ بِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ.

فَهَذَا تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ.

وقال أيضاً: «النَّاسُ قَدْ أَكْثَرُوا مِنَ الْوُجُوهِ فِي تَفْسِيرِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْوَجْهَ الْمُلَخَّصَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ، ثُمَّ نَذْكُرُ عَقِيبَهُ أَقْوَالَ النَّاسِ، فِيهِ فَنَقُولُ:

اللَّفْظُ الَّذِي جُعِلَ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِغَيْرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُحتمِلاً.

فَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مَوْضُوعاً لِمَعْنىً، وَلَا يَكُونُ مُحْتَمِلاً لِغَيْرِهِ؛ فَهَذَا هُوَ «النَّصُّ».

وَأَمَّا إِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِغَيْرِهِ، فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ احْتِمَالُهُ لِأَحَدِهِمَا رَاجِحًا عَلَى الْآخَرِ. وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، بَلْ يَكُونُ احْتِمَالُهُ لَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ.

فَإِنْ كَانَ احْتِمَالُهُ لِأَحَدِهِمَا رَاجِحاً عَلَى الْآخَرِ؛ سُمِّيَ ذَلِكَ اللَّفْظُ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّاجِحِ ظَاهِراً، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرْجُوحِ مُؤَوَّلًا.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ احْتِمَالُهُ لَهُمَا عَلَى السَّوِيَّةِ؛ كَانَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا مَعاً مُشْتَرِكاً.

وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى التَّعْيِينِ؛ مُجْمَلاً

فَقَدْ خَرَجَ مِنَ التَّقْسِيمِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ؛ أَنَّ اللَّفْظَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَصّاً، أَوْ ظَاهِراً، أَوْ مُؤَوَّلاً، أَوْ مُشْتَرِكًا، أَوْ مُجْمَلاً.

أَمَّا النَّصُّ وَالظَّاهِرُ؛ فَيَشْتَرِكَانِ فِي حُصُولِ التَّرْجِيحِ، إِلَّا أَنَّ النَّصَّ رَاجِحٌ مَانِعٌ مِنَ الْغَيْرِ، وَالظَّاهِرُ رَاجِحٌ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ الْغَيْرِ، فَهَذَا الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ المسمى بالمحكم.

وَأَمَّا الْمُجْمَلُ وَالْمُؤَوَّلُ؛ فَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَيْهِ غَيْرُ رَاجِحَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَاجِحاً؛ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَرْجُوحٍ، وَالْمُؤَوَّلُ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ رَاجِحٍ؛ فَهُوَ مَرْجُوحٌ، لَا بِحَسَبَ الدَّلِيلِ الْمُنْفَرِدِ، فَهَذَا الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ الْمُسَمَّى المتشابه؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْفَهْمِ حَاصِلٌ فِي

الْقِسْمَيْنِ جَمِيعاً.

وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى مُتَشَابِهاً: إِمَّا لِأَنَّ الَّذِي لَا يُعْلَمُ؛ يَكُونُ النَّفْيُ فِيهِ مُشَابِهاً لِلْإِثْبَاتِ فِي الذِّهْنِ، وَإِمَّا لِأَجْلِ أَنَّ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ التَّشَابُهُ؛ يَصِيرُ غَيْرَ مَعْلُومٍ.

فَأُطْلِقَ لَفْظُ الْمُتَشَابِهِ عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ إِطْلَاقُه لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ.

فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْمُحَصَّلُ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ» انتهى كلامه، رحمه الله تعالى.

أنا أعلمُ أنّ المحكمَ والمتشابهَ من مباحثِ أصول الفقه، بيد أنني آثرت نقلَ كلام الرازيّ؛ لأنّه مفسّرٌ أصوليّ.

ومشكلةُ سلفيّةِ اليومِ؛ لا تكمنُ في جعل ما سبقَ إلى فهم العوامّ في اللغةِ نصّاً وظاهراً فحسب، إنّما هي متعدّدة الجوانبِ:

الجانبُ الأوّلُ: إنّ السلفَ الصالح - وحتى أحمدُ ابنُ حنبلٍ - لم يقولوا أبداً أبداً أبداً: إنّ الكلامَ الواردَ في الحديثِ؛ يُفهم على ظاهره المتبادَر للعوامِّ وغير العوامّ!

إنّما قالوا: «أمّرها كما جاءت» و«أمرّوها كما جاءت» و«قراءتها تفسيرها» وعن أحمدَ نفسه: «هي كما جاءت ولا كيف ولا معنى» كما في إبطال التأويلات، رقم (9)!

وهذا يعني أنّ مذهبَ السلفِ عدمُ تفسيرِ هذه الأحاديثِ، وعدُّها من المتشابه!

الجانبُ الثاني: أنّ سلفَ الحنابلة ضعفاءُ في الحديثِ، حتى أحمدُ نفسُه لم يكن في الطبقة الأولى من نقّاد الحديث، باعتراف نفسه!

فقد قال ابن حبّان في مقدمة المجروحين (1: 52) ونقله ابن رجبٍ في شرحه على علل الترمذيّ (1: 486): (130) سمعت علي بن أحمد الجرجاني بحلب يقول: سمعت حنبل بن إسحاق بن حنبل يقول: سمعت عمي أحمد بن حنبل يقول: أحفظنا للمطوّلات الشاذكوني، وأعرفنا بالرجال يحيى بن معين، وأعلمنا بالعلل علي بن المديني، وكأنه أومأ إلى نفسه أنه أفقههم».

وقد صحّح الإمامُ أحمدُ أحاديثَ؛ لا تصحّ بحالٍ من الأحوال!

ويكفي أنّه يذهبُ إلى القولِ بأنّ الله تعالى يقعد نبيّه محمّداً صلى الله عليه وآله وسلّم معه على العرش يوم القيامة!

وليس في هذا حديثٌ صحيح مرفوعٌ، ولا أثرٌ موقوفٌ، إنّما هو قولٌ يُنسب إلى مجاهد بن جبرٍ (انظر كتاب السنة لأبي بكر الخلّال (1: 211).

والناظرُ في كتابِ السنّة لعبدالله بن أحمدَ؛ يجد بلايا وطامّات، وأقبح منه كتاب «إبطال التأويلات» لأبي يعلى الفرّاء القاضي، فقد أورد فيه أحاديث منكرةً وموضوعة!

الجانب الثالث: أنّ أكثرَ الأحاديثِ الواردةِ في الصفاتِ، رُويت بالمعنى الذي فهمه الراوي، وما دامت الرواية بالمعنى كانت هي السائدةَ، حتى لدى أكثرِ الصحابة رضي الله عنهم، فكيف نعتقد بما نقلوه، وأكثرهم ليسوا بعلماءَ ولا فقهاء، وفي أمورِ الاعتقاد؛ يتعيّن أن يكون ناقلُها حافظاً وفقيهاً بآنٍ واحد؟

وإلّا فما معنى تأكيدِ الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم على ضرورةِ نقلِ كلامه بلفظه؟

حيث قال: (نَضَّرَ اللهُ امْرَأً، سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا، فَحَفِظَهُ، حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَإِنَّهُ رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ، لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ، إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (21590) من حديث زيدِ بن ثابتٍ مرفوعاً، وإسناده صحيح، وشاهده عند أحمد أيضاً (4157) من حديثِ عبدالله بن مسعود، وينظر تخريجهما ثمّة.

الجانب الرابع: أنّ الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم أفصحُ العربِ، وهو قد استعمل المجازَ والكناية في كلامِه، من مثل قوله: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ) أخرجه البخاريّ (2887).

لا يخفى على مسلمٍ أنّ المسلمَ لا يعبد الدينارَ ولا الدرهمَ ولا القطيفةَ، إنّما المعنى أنّ هؤلاء حريصون على متاع الدنيا وزينتها.

ومن ذلك ما أخرجه البخاري (4510) ومسلم (1090) عن عديّ بن حاتم الطائيّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ: مَا الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ، مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، أَهُمَا الْخَيْطَانِ؟

قَالَ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا، إِنْ أَبْصَرْتَ الْخَيْطَيْنِ)!

 ثُمَّ قَالَ: لَا، بَلْ هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ، وَبَيَاضُ النَّهَارِ).

ولفظ مسلم: (إنّ وِسادك لعريضٌ) وكلا اللفظين كنايةٌ عن الغفلةِ والغباوة وقلّةِ الفطنة، كما في فتح الباري (4: 133).

قال الحافظ ابن حبّان في خطبة المجروحين: «الجنس الرابع: الثقة الحافظ إذا حدث من حفظه وليس بفقيه؛ لا يجوز عندي الاحتجاج بخبره، لأن الحفّاظ الذين رأيناهم أكثرُهم كانوا يَحفظون الطرقَ والأسانيدَ دون المتون، ولقد كنا نجالسهم برهة من دهرنا على المذاكرة، ولا أراهم يذكرون من متن الخبر إلا كلمة واحدة يشيرون إليها، وما رأيت على أديم الأرض من كان يحسن صناعة السنن ويحفظ الصحاح بألفاظها، ويقوم بزيادة كل لفظة زاد في الخبر ثقة، حتى كان السنن كأنها نصب عينيه إلا محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمة الله عليه فقط!

فإذا كان الثقة الحافظ، لم يكن بفقيهٍ، وحدث من حفظه؛ ربما قلب المتن وغير المعنى حتى، يذهب الخبر عن معنى ما جاء فيه، ويُقلَب إلى شيء ليس منه وهو لا يعلم!

فلا يجوز عندي الاحتجاج بخبر من هذا نعته إلا أن يحدث من كتاب أو يوافق الثقات فيما يرويه من متون الأخبار.

والجنس الخامس: الفقيهُ إذا حدّث من حفظه وهو ثقة في روايته، لا يجوز عندي الاحتجاج بخبره؛ لأنه إذا حدث من حفظه فالغالب عليه حفظ المتون دون الأسانيد، وهكذا رأينا أكثر من جالسناه من أهل الفقه كانوا إذا حفظوا الخبر لا يحفظون إلا متنه، وإذا ذكروا أوّل أسانيدهم؛ يكون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يذكرون بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا.

فإذا حدث الثقةُ الفيهُ من حفظه؛ ربما صَحّف الأسماءَ وأقلَبَ الإسناد، ورفع الموقوف وأوقف المرسل، وهو لا يعلم؛ لقلة عنايته به، وأتى بالمتن على وجهه.

فلا يجوز الاحتجاج بروايته إلَّا من كتابٍ، أو يُوافق الثقاتِ في الأسانيد.

وإنما احترزنا من هذين الجنسين؛ لأنّا نقبل الزيادةَ في الألفاظِ، إذا كانت من الثقات، وهذه مسألة طويلةٌ، غيرُ هذا الموضعِ بها أشْبَهُ» انتهى كلامه.

وإذْ إنّ الإدارةَ السياسيّةَ في بلدنا سوريّا، تنتهج المنهج السلفيَّ؛ فيتعيّن عليّ أن أوضحَ لهم ولكم أنّ مذهبَ الحنابلةِ في صفاتِ الله تعالى خاصّةً؛ ليس هو المنهجُ الأفضل، حتى لا يشدّوا على الناسِ في سوريّا؛ باعتقادهم أنّ هذا هو الحقُّ، الذي لا حقَّ سواه.

واللهُ تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق