الثلاثاء، 11 يونيو 2024

       التصوّف العليم (27):

هَلْ الصوفيّةُ جُهّال !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

قال لي عددٌ من الإخوةِ الأصدقاء على صفحة الفيسبوك: إنّ الصوفيّةَ قومٌ جهّالٌ، وهم يطيعون شيخَهم الجاهلَ أكثرَ بكثيرٍ من طاعتهم للعالم، ويعتقدون بشيخهم الجاهل من الولايةِ والكراماتِ والتأييد الغيبيّ؛ ما لا يعتقدونه بك أنتَ وبأمثالك من العلماء، فهل من سبيلٍ إلى إصلاح مثلِ هذا الفسادِ الفكريِّ لدى الصوفيّة؟) انتهى.

هذا كلام خطيرٌ، ينبغي تفكيكُه أوّلاً، ثم الإجابةُ عليه.

أوّلاً: شيوخ الصوفيّة جُهّال، وتلامذتهم يعتقدون بهم ويطيعونهم.

ثانياً: دراويش الصوفيّة جهّال، ويعتقدون بشيوخهم عقائدَ باطلةً غالية.

أقول وبالله التوفيق:

إنّ كلمة (الجهل) عندما تُطلق في دائرةِ الدين والتديّن؛ يرادُ بها أنّ المنتسبين إلى دوائرِ التصوّفِ ليسوا متخصصين بعلوم الشريعةِ الإسلاميّةِ، ولا يُرادُ بها أنّ الطريقةَ الصوفيّةَ الفلانيّة «شيخاً ومرشدين ومريدين» أُمّيين، لا يَعرفون من العلوم شيئاً.

فهذا باطلٌ من دون أدنى شكٍّ، إذْ في الطُرقِ الصوفيّة يوجد كثيرون يحملون درجة الدكتوراه في الطبّ والهندسةِ والقانونِ والإدارةِ، وشتّى التخصّصاتِ العلميّة الدائرةِ في المجتمعات الإسلامية.

وليس هذا فحسب، بل في دوائر الصوفيّة نوّابٌ ووزراءُ وقضاةٌ وقادةُ جيوش!

فمن الباطلِ الأكيدِ مجرّدُ الظنّ بأنّ كلمة (الصوفيّة جهّال) تعني خلوّهم من ثقافة عصرهم.

أمّا عن جهلِ شيوخِ الصوفيّةِ بعلوم الدين؛ فهذا أمرٌ نسبيٌّ أيضاً، وربما يوجَد لدى قلّةٍ قليلةٍ من شيوخِ التكايا الصوفيّة التابعةِ للطريقةِ العامّة.

ففي بلادنا (سوريا والعراق) دراساتٌ دينيّة نظاميّةٌ في الجامعاتِ، ودراسات دينيّة أهليّة متوارثة، يخضع لها طالبُ العلمِ سنواتٍ عديدةً، حتى يحصل على ما يُدعى (الإجازةَ العلميّة).

وشيوخي في التصوّف على حسب الترتيب الزماني:

الشيخ عبدالقادر عيسى الشاذليّ (إجازة جامعية + إجازة علمية).

الشيخ محمّد الحامد النقشبنديّ (ماجستير علوم إسلامية وقضاء + إجازة علمية).

الشيخ محمّد علي المراد النقشبنديّ (ماجستير علوم إسلامية وقضاء + إجازة علمية).

الشيخ محمود الشقفة الرفاعي (إجازة علميّة). 

الشيخ محمد الحافظ بن عبداللطيف سالم التجاني (إجازة علمية).

الشيخ علي أبو زيد الرفاعيّ (إجازة علمية).

الشيخ حاتم الدليميّ الرفاعيّ (إجازة علميّة).

الشيخ فَهد الشمّري الراوي (إجازة علميّة).

الشيخ (محمد أمين) بن زيد الجيلاني مفتي مدينة السلط (شهادة أزهرية + إجازة علمية).

الشيخ وحيد الدين البريفكانيّ القادريّ (إجازة علمية).

الشيخ محمّد عبدالكريم الكسنزان القادريّ (إجازة علميّة) رضي الله عنهم أجمعين.

وأنا ما زلتُ على التزامي بشيخي محمّد المحمّد، مؤمناً بصلاحِه وولايتِه، ولا أزكّيه على الله تعالى. 

ونحن عندما نقول: (الإجازة العلمية) فإنما نعني بها إجازةً بالعقائدِ الإسلامية والفقه الإسلاميّ، في الحدّ الأدنى.

فالقولُ بأنّ شيوخَ التصوّف جهّالٌ - بهذا الإطلاق - ظلمٌ، وإنْ قُصِدَ به عدمُ حصولهم على أعلى مراتب الدرس والبحث العلميّ؛ فهذا يَصدق على بعضهم، لكنّه ليس عائقاً أمامَ حصولِهم على مرتبةِ (المشيخةِ في التصوّف).

لأنّ الصوفيَّ يحتاجُ من العلم في سلوكِه إلى الله تعالى: مَعرفةَ الحلال والحرام، ومعرفة أحكام الطهارةِ والصلواتِ الخمسِ والصيامِ، ويحتاج إلى معرفة أحكام الزكاةِ إنْ كان من أهل المال، وعندما يعزم على الحجّ؛ يحتاجُ معرفة أساسيّات الحجّ.

وما وراءَ ذلك فإنّ الصوفيّ يتلقّى أحكامَ الأخلاق والسلوكِ الصوفيّ تطبيقيّاً وعمليّاً، وهذا أبلغُ من التلقّي النظريّ السماعي.

بيد أنّ العلمَ الدينيّ الصحيح المنقول؛ أصلُ العملِ الروحيّ والنوارانيّ لدى الدرويش السالك، وكلّما ازداد الدرويش علماً؛ كان عمله أقربَ إلى الصواب، وصدر عن معرفةٍ صحيحةٍ بأنّه من هدي الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

قال الله تعالى:

(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ.

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً (83).

(قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).

وممّا يدلُّ على اهتمامِ شيوخِ التصوّف بتعليمِ مريديهم، وتزويدهم بالمعارفِ العلميّة الدينيّة أمران:

الأمر الأوّل: أنّ جميع مشايخ بغدادَ كانوا يدعونني إلى إلقاءِ محاضراتٍ ومواعظَ في (تكاياهم) لا أستثني أحداً منهم على الإطلاق.

والأمر الثاني: توجيههم عدداً من مريدهم إلى دراسةِ الشريعةِ الإسلامية والتخصص بها، حتى إنّ سفيانَ بن شيخنا حاتم الرفاعي حصل على درجة الدكتوراه في الشريعةِ الإسلاميّة - تخصّص الفقه المقارن.

والأمر الثالث: عَقْد الدورات العلمية التي قد تصل إلى ستّةِ أشهر، يُدَرَّسُ فيها الدراويشُ ستَّ ساعاتٍ يوميّاً.

وطريقتنا (الكسنزانيّة) عقدت للمريدين أربعَ دوراتٍ علميّةً فيما مضى، وسنمضي في الدورة العلمية الخامسة، بعد عيد الأضحى المبارك مباشرةً، بإذن الله تبارك وتعالى.

والله تعالى أعلم.

    والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق