مَسائلُ حديثيّةٌ (71):
ترجمةُ الإمامِ عليٍّ العلميّةُ
النقديّةُ!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ
بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
طلبَ أحدُ الإخوةِ الكرامِ
تعليقي على أحدِ المنشوراتِ، التي كتبها رجلٌ سنيٌّ، في تقويم شخصيّة الإمامِ
عليٍّ عليه السلام!
عندما قرأت المنشورَ؛
وجدته ينسجم مع مقرّراتِ أهل السنة المذهبيّة، ليس فيه جديد!
فرأيتُ من الأنسب؛ أن أكتب
على صفحتي منشوراً، يجنّبني المهاتراتِ، وتعليقاتِ العوامّ!
أقول وبالله التوفيق:
في كتابي (محاضرات في
تخريج الحديث ونقده) والمطبوع عام (1999م) ذكرتُ في الفصل الثاني منه (ص: 63) فما
بعدها؛ أنّ تراجمَ الأعلامِ والمشاهير، يمكن إخضاعُها إلى ثلاثةِ أنواعٍ من
الترجمة:
(1) الترجمة المعرفيّة:
وهي الترجمةُ التي تُعنى بالوقوفِ على شخصيّةِ المترجَمِ وهويته، وتؤكّد على ما
يميّزه عن غيره، ممن يشترك معه في الاسم، أو في الاسم واسم الأب، أو في الاسم
والنسب.
(2) الترجمة المَنقبيّةُ:
وهي الترجمة التي يتوخّى من ورائها رسمُ صورةٍ أكملَ للمترجَم.
فيضاف فيها على ما سبقَ في
الترجمة المعرفيّةِ جميعُ ما نقل عن هذا الشخص المترجَم من مزايا ومناقب وصفاتٍ
فريدةٍ، ويُستبعد فيها تسجيلُ أيّ جانبٍ من جوانب الخطأ أو القصور الطارئ على
شخصيّة المترجم!
مثال ذلك:
عندما يترجم واحدٌ من
المعاصرين لشيخٍ من شيوخه، ممن نعرفهم، وممّن قد لا نعرفهم؛ تجده يجعل شيخَه
الإمام العلم الأصوليّ الفقيه المفسر المحدث اللغوي الأديب...إلخ.
فيظنّ من لا يَعرف
المترجَمَ هذا؛ أنّه قادمٌ من عالم
الملائكة الذين (لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون)!
والحقيقةُ أنّ هذه الترجمة
كاذبةٌ قطعاً، إذ حتى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، عاتبه ربّه تبارك وتعالى
على قيامِه بأعمالٍ، غيرُها أليق بمقامه منها، في مرادِ الله تعالى!
بينما هؤلاء المترجِمون
المغفّلون يجعلون محبوبيهم فوق الملائكة وفوق الأنبياء!
واحدٌ من هؤلاء المشايخِ
الذين كيلت لهم أمثال تلك الألقاب جزافاً، هو شيخي أيضاً.
كان مديراً أو مشرفاً على
مدرسةٍ دينيّة، تمنح درجةَ الشهادةِ الثانويّةِ الشرعيّة، التي تمكّن حاملها من
الانتسابِ إلى الأزهر الشريف.
طُرِقَ بابي ذاتَ يومٍ،
فإذا بأحد الإخوة الزملاء، ومعه صبيّان يافعان ليس في وجهيهما شعرةٌ واحدة!
استقبلتهما بحفاوةٍ أكبر،
عندما علمتُ أنهما ولدا شيخنا المشترك (فلان).
في الأيّام التالية؛ عرفتُ
منهما أنّ والدهما شيخنا، أرسلهما إلينا لنساعدهما بالانتساب إلى جامعة الأزهر
الشريف!
سألت الكبير منهما عن
سنّه؟ فأخبرني أنه ابن خمس عشرة سنة!
وسألت الصغير منهما، فقال:
إنّ عمره ثلاث عشرةَ سنةً ونصف السنة!
سألتهما: في أيّ مستوىً
ستسجّلان في الأزهر؟
قالا: في المستوى
الجامعيّ!
قلت لهما: هل من الممكن
الاطّلاع على شهادةِ الثانويّة لكليكما؟
فأطلعاني على الشهادة
الثانوية، الصادرةِ عن المدرسة الدينية التي يشرف عليها شيخنا، وفي كشف الدرجات ما
يدلّ على النجاح المتميّز والدرجات العالية!
سألتهما: هل أنتما درستما
المنهاجَ المسجّلَ في كشف الدرجات هذا؟
قالا: لا لم ندرسه!
قلت لهما: كيف استجاز
شيخُنا أن يمنحكما شهادةَ الثانويّة وأنتما لم تدرساها؟
قالا: قريباً يأتي
الوالدُ، بإمكانك أن تسأله.
كانت مؤهّلات الشابّين
كلاهما؛ جودةُ تلاوتهما للقرآن الكريم، ولم يكونا متقنين للتلاوة أبداً، ولا شيء
وراء ذلك!
لأنني كنتُ أعرف شيخ الأزهر يومها، شيخنا
عبدالحليم محمود، ولأنه عاتبني بشأن مجموعة أخرى من مدرسة ثانيةٍ يشرف عليها شيخٌ
آخر لي؛ اعتذرت عن أيّ مساعدةٍ لهما للتسجيل في الأزهر، مع الترحيب بهما في بيتي في
كلّ وقتٍ وحين!
فالترجمة التي يترجمها
أولئك الذين يريدون أن يضخّموا أنفسهم بتعظيم شيوخهم؛ لا يمكن أن يذكروا مثل هذه
الخطيئةِ في ترجمة أحدِ شيوخهم!
(3) الترجمة العلميّة
النقديّة: والنقدُ ليس معناه النقضَ والتخريب والتشويه، إنما معنى النقد: التقويم
العلميّ الصحيح لهذا الشخصيّة، في جوانب الترجمة المعرفيّة، والترجمة المنقبيّة،
ويضاف إليهما الجوانب البشريّة القاصرة!
إذ لا يوجد شخصيّة لا
تشتمل على أخطاء وقصور بشريّ، إلّا أنّ من الناس مَن لا تُذكرُ عيوبه، كما يقول
سعيد بن المسيّب، رحمه الله تعالى.
وهذه الترجمة العلميّة، قد
يقوم بها نقّاد الحديث القدامى والمعاصرون، في ترجمة رواة الحديثِ النبويّ، لكنّهم
يُلجَمون متى كانت الترجمة لواحدٍ من الصحابة رضوان الله عليهم!
هاهنا لا مكان لغير
الترجمة المنقبيّة، التي تذكر المناقبَ ولو كانت بأسانيد ضعيفةٍ، وتسكت عن الأخطاء
البشريّة، وتضعّف رواتها أيضاً!
وفي
تصوير صعوبةِ الحصولِ على معلوماتٍ تاريخيّة دقيقةٍ تجاهَ أيّ شخصيةٍ أو حدثٍ من
أحداث التاريخ الإسلاميّ؛ يقول السيّد الشهيد محمد محمد صادق الصدر، رحمه الله
تعالى في كتابه تاريخ الغيبة الصغرى (1: 25): « طبيعةُ
التاريخ الإسلاميّ؛ أنّه كان غامضاً، مليئاً بالفجوات والعثرات، وذلك في نظره يعود
إلى أسباب، أبرز جوانبها:
- الجانب الأول: ما
يرجع إلى واقع التاريخ المعاش، حيث كان هذا التاريخ مقتضباً، غامضاً، مقيداً (ص:
19).
- الجانب الثاني:
ما يرجع إلى معرفتنا بذلك التاريخ، ومقدار اطلاعنا عليه، وهو يمثل الصورة التي
أعطاها المؤرخون في كتبهم عن تلك الفترات، وهل هي مطابقة للواقع أوْ لاً؟
وبأي مقدار كانت سعة الصورة، وقدرتها، وعمقها؟ وإلى أي مدى
كان فهم المصور المؤرخ، واستيعابه للأحداث، ولما وراءها من فلسفة، وعلل، ونتائج؟
(ص: 25).
وقد أشار السيد في تمهيد هذا الكتاب إلى أوجه الطعن الثلاثة
في الرواية التاريخية:
- الوجه الأول: أن
بين رؤية الحادثة، وتدوينها بعداً زمنياً، يجعل الرواية للحادثة جسداً بلا روح!
- الوجه الثاني: أن
المؤرخ مزيج من عواطف وغرائز ومسبقات ذهنية، وعادات، لا يمثل العقل والفكر منه إلا
بعض هذا المزيج، وهو لا يكتب تاريخه بعقله وفكره، وإنما يكتبه بمجموع عواطفه وسائر
مرتكزاته.
- الوجه الثالث:
طبيعة تدوين الوقائع في ضوء الملاحظة.
- فهناك الملاحظة
المنظمة التي يعتمد الباحث فيها النظر، ويتقصى الحقائق حول حادثة معينة حين
وقوعها.
- وهناك ملاحظة
عفوية مشوشة... مثالها رؤية التاجر، أو السائح لبلد زاره بغرض التجارة أو السياحة،
فإنه ما يخص قصد زيارته يكون أقرب إلى الانتباه والدقة، مما رآه عفو الخاطر، ومن
غير قصد (ص: 26).
والتاريخ - حسب رؤية السيد الصدر - مدون عادة بالنحو الثاني
من الملاحظة؛ لأن الأشخاص الذين كانوا يعيشون تلك الأزمنة، إنما عاشوها بصفتها حياة
عادية، لا يعيدون النظر فيها، ولا يتعمقون في أسبابها ونتائجها.
ثم
يأتي الراوي منهم ليعطي المؤرخ ما علق في ذهنه عن هذا الخضم الزاخر، مما قد مر
أمامه مروراً عابراً.
ثم
قال: «لا أريد أن أدخل في البحث عن هذه المشكلات، فإننا ينبغي أن نكون فارغين من
أجوبتها، قبل الدخول في البحث التاريخي، وإلا فالأولى لمن يؤمن بحرفية هذه
المشكلات وصدقها؛ ألا يحاول قراءة حرف من التاريخ!» (ص: 27)» وصدق السيّد
والله!
وتناول مشكلات تاريخ الإمامية الخاص (33 - 41) وأبرز نقاط
الضعف في تاريخ الإمامية - كما يراه السيد الصدر - يكمن في نقاط خمس:
- الأولى: اهتمام
المؤرخين الإماميين في إثبات الإمامة، وإغفال موقف الإمام من أحداثِ عصره.
- الثانية: التأكيد
على الجانب العقائدي في الروايات، واحتواء جزء صغير من أحداث التاريخ!
- الثالثة: إهمال
ذكر المكان والزمان، اللذين وقعت حوادث ما يؤرخون فيهما.
- الرابعة: التطويل
فيما ينبغي الاختصار فيه، والاقتضاب فيما ينبغي فيه البسط والتطويل.
فقد تجد كلاماً مُطوّلاً عن ترجمة راوٍ من الرواة عن
الإمام، لكنك تجد اقتضاباً مُخلّاً حيال مواقف الأئمة عليهم السلام، أو أصحابهم،
أو سفرائهم من الحوادث السياسية السائدة في عصرهم، من قِبَل ثَورة «الزِنج» أو «القرامطة»
أو رأيهم في تأسيس دولة الأندلس... إلخ.
- الخامسة: نقطة
إسناد الروايات، حيث إن المصنفين الإماميّة جمعوا في كتبهم كلَّ ما وصلهم من
الروايات عن الأئمة عليهم السلام، أو عن أصحابهم، بغض النظر عن صحتها أو ضعفها...
وعلماءُ الشيعة الإمامية الذين ألفوا في الرجال اقتصروا في
كل كتبهم على الترجمة لرواة الأحاديث الفقهية التشريعية، وأوْلَوْها العناية
الخاصة، بصفتها محلَّ الحاجةِ العملية في حياة الناس.
لكنّ هذه الكتُب
أهملَتْ إهمالاً تاماً ذكرَ الرجال الذين وجدت لهم روايات في حقول أخرى من المعارف
الإسلامية كالعقائد والتاريخ والملاحم، مما قد يربو عددهم على رواة الكتبِ
الفقهية.
فإذا وافق مِن حُسن الحَظِّ أن رُوي للراوي في التاريخ
والفقه معاً؛ وجدنا له ذكراً في كتبهم، أما إذا لم يَروِ شيئاً في الفقه؛ فإنه
يكون مجهولاً، وإن كان مِن خَير خلق الله علماً وعملاً، كما تدل عليه الرواياتُ
بالنسبة لعدد منهم (ص: 42 - 45) انتهى.
أقول:
هذا كلام مفيد حرصت على تسجيله باختصارٍ؛ لأنه يمثل نقداً ذاتياً لتاريخ الإمامية،
بغاية الموضوعية والصدق والتجرد.
ختاماً:
إنّ الفارق كبيرٌ جدّاً بين قيمةِ كتب الإماميّةِ، وكتب أهل السنة الروائيّة.
لأسبابٍ كثيرةٍ، قد يتبيّن
لنا بعضها في أثناء بقيّة الحلقاتِ التي سنكتبها في ترجمة الإمام عليّ عليه
السلام، إن بقي في العمر متسع، وقدّر الله تعالى لي القيامَ بذلك.
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق