الاثنين، 12 سبتمبر 2022

        مِنْ عِبَرِ التاريخِ (17):

ملكة بريطانيا من ذريّة الرسول!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

تواصلَ معي بعضُ الإخوةِ الأصدقاء، يسألون عن حقيقةِ ما أثاره ويثيره الدكتور علي جمعة، بشأنِ ملكة بريطانيا «اليزابيث الثانية» بزعمه أنّها من ذريّة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم؟

أقول وبالله التوفيق:

ليس لي غرضٌ في النيلِ من الدكتور «علي جمعة» فهو رجلٌ من علماء السلطان، وهو صاحب المقولة الشهيرة: «اضرب بالمليان»!

لكنّ هذه الدعوى باطلة، من جهتين:

الجهة الأولى: التاريخ!

فالتاريخ يُقرُّ بوجود شخصيّة امرأةٍ اسمها «زائدة» ارتدّت عن الإسلام، هي وأولادها من زوجها المسلم المأمور ابن المعتمد بن عبّاد.

المعتمد بن عبّاد لخميّ قحطانيّ، لا علاقة له بنسب قريشٍ البتّة!

وكَنّتُه «زائدة» التي تنصّرت مجهولة، لا يُعرَف حتى اسم أبيها، فضلاً عن أن تكون من ذريّة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم!

جاء في كتاب دولة الإسلام في الأندلس للمؤرخ محمد بن عبدالله بن عنان المصري (ت: 1406 هـ) (2: 345) ما نصّه:

«وعلى أي حال فقد زحف المرابطون على قرطبة، وبها حاكمها ولد المعتمد، الفتح الملقب بالمأمون، وكان قد اتخذ كل الأهبات الدفاعية الممكنة، وأرسل زوجه وأولاده وأمواله تحوطاً إلى حصن المُدَوّر، الواقع جنوب غربي قرطبة على ضفة نهر الوادي الكبير، لكي تبقى بمنجاة من الخطر، وحتى تستطيع أن تلوذ عند الضرورة بحماية ملك قشتالة، وقد كان هذا الإجراء فيما يبدو بإشارة المعتمد، أو بموافقته.

والواقع أن قرطبة لم تصمد طويلا، فقد اقتحمها المرابطون بعنف، وقتل الفُتح بن المعتمدِ بن عبّاد خلال الهجوم مدافعاً عنها، ورفع المرابطون رأسه على رمح.

وكان افتتاح المرابطين لقرطبة في اليوم الثالث من صفر سنة (484هـ) (26 مارس سنة 1091 م).

وهنا يجب أن نقف قليلا، لنتناول مسألة تاريخية هامة، غمرتها الأسطورة مدى عصور، ثم ألقى عليها البحث الحديث ضوءه المُقَنّع، تلك هي قصة «زائدة» الأندلسية.

لقد ذكرت الروايات الإسبانية النصرانية، المعاصرة واللاحقة، أن «ألفونسو» السادس قد تزوج من ابنةٍ للمعتمد بن عبّاد تُسمّى «زائدة» أو إنّه قد اتخذها خليلة، وأنجب منها ولده الوحيد «سانشو».

وقد استمرت التواريخ النصرانية تتناقل هذه الأسطورة عصوراً كأنها حقيقة لا ريب فيها، وتتحدث دائماً عن «زائدة» الأندلسية، وعن ذريتها النصرانية.

ونقول نحن: إنّه لا توجد بين هذه التفاصيل المغرقة، سوى حقيقة واحدة هي شخصية زائدة المذكورة، وأنها كانت حقيقةً زوجةً أو خليلةً لألفونسو السادس، وقد أنجب منها ولده سانشو الذي قتل طفلا في موقعة إقليش (501 هـ - 1108 م). ولكنها لم تكن ابنة للمعتمد بن عباد، ولم يُقدّمها المعتمد لألفونسو ثمناً لحِلْفه.

وهذا هو لب الأسطورة كلها، وهذا هو وجه الإغراق والتحريف.

ذلك أنه مما لا يسيغه العقل أن يرضى أمير عظيم مسلم كالمعتمد بن عباد، أن يزوج ابنته من أمير نصرانيّ، أو أن يقدمها له جارية وحظية، ومهما كان من استهتار المعتمد وتسامحه الديني، وإذا فرضنا أنه لم يكن يقيم في مثل هذا التصرف الشائن، وزناً للاعتبارات الدينية والشرعية، وهو في ذاته مما لا يقبله العقل؛ فمن المستحيل عليه ألا يحسب أعظم حساب لنتائجه السياسية، وخصوصاً في مثل هذه الظروف الدقيقة التي كانت تجوزها اسبانيا المسلمة يومئذ، وأقلها أن يضطرم شعبه المسلم بالثورة عليه، وأن يسحقه ويسحق أسرته، ومن جهة أخرى فإن المعتمد كان يرمي من جانب خصومه في الداخل وفي الخارج بألسنة حداد من أجل استهتاره وتهاونه الديني، ولم يكن من المعقول أن يُقدّم بمثل هذا التصرف إلى خصومه سلاحاً جديداً يضعه في صف المارقين والخوارج على الدين.

أما التفسير الحقيقي لهذه القصة، وهو ما كشفت عنه البحوث والنصوص الوثيقة، فهو أن زائدة هذه كانت حسبما تقدم زوجة للفتح بن المعتمد الملقب بالمأمون حاكم قرطبة، وأن المأمون حينما هاجم المرابطون المدينة، أرسل زوجته وولده وأمواله إلى حصن المدور، أو أنه حينما اقتحم المرابطون المدينة وقتل الفتح، استطاعت زائدة أن تلوذ مع أولادها بالفرار، وأن تلجأ إلى حصن المدور.

ثم التجأت إلى حماية ملك قشتالة، حينما اشتد خطر المرابطين على سائر تلك الأنحاء وربما كان ذلك بموافقة المعتمد.

ولما كانت «زائدة» على جانب كبير من الجمال، وكان الملك النصراني من جهة أخرى مزواجاً، كَلِفاً بالنساء، فقد انتهز فرصة التجائها إليه، واتخذها خليلةً، ثم تزوجها.

وتقول الروايات القشتالية في هذا الموطن، إنّ «زائدة» كانت تحب الملك النصراني بالسماع، وتتوق إلى الزواج منه، وأن المعتمد قد نزل لملك قشتالة في هذه المناسبة عن قونقة، ووبذة وإقليش وأوكانيا وكونسويجرا وغيرها من الأماكن، وهي التي كان قد افتتحها من مملكة طليطلة أيام بني ذي النون، وذلك كمهر لزائدة.

وقد يكون المعتمد قد نزل حقاً عن هذه الأماكن وغيرها لملك قشتالة، ولكن ذلك لم يكن سوى بعض ما تعهد به لملك قشتالة كثمن لحلفه وعونه.

ومتى تقرّر أن «زائدة» لم تكن ابنته؛ فإنه لا محل أن يقرن هذا التنازل من جانب المعتمد بقصة زواج «زائدة» من الملك النصراني.

ونقول تتمةً لقصة زائدة: إنها غدت خليلة أو زوجة لملك قشتالة، على الأرجح عقب سقوط قرطبة بقليل، في أوائل سنة 1092 م، وأنها بهذه المناسبة اعتنقت النصرانية وتسمت باسم «إيسابيل» وفي رواية باسم «ماريا» وتَنصّر أولادها من الفتح، ومن كان معها من الحشم، ورزق منها ألفونسو بولده الوحيد سانشو، وتوفيت زائدة عند مولد ولدها سانشو، ودفنت بدير ساهاجون، وذلك في سنة (1097) أو (1098م).

ولما اجتاح المرابطون أراضي قشتالة، في أوائل عهد الأمير علي بن يوسف بن تاشفين، وسار القشتاليون لمحاربتهم تحت أسوار قلعة إقليش، بعث ألفونسو بولده الصبي «سانشو» على رأس الجيش لكي يثير حماسة الجند، فقتل في الموقعة التي نشبت بين الفريقين، وقتل معه معظم أكابر الجيش وقادته، وذلك في سنة (501 هـ)  (1108 م) وتوفي ألفونسو على أثر ذلك غماً وحزناً.

ولم تذكر لنا الرواية الإسلامية اسم زائدة، ولا شيئاً من قصتها بطريق مباشر، ولكنها مع ذلك تقدم إلينا الدليل القاطع على حقيقةِ شخصيتها وصفتِها.

ولدينا في ذلك نصّان، كلاهما حاسم في تقرير هذه الحقيقة:

أوّلُهما: ما ورد في تاريخ ابن عذارى «البيان المغرب» في أخبار سنة (501 هـ).

وهي الموافقة لسنة (1108 م) عن الحملة التي أرسلها ألفونسو السادس ضد المرابطين لإنجاد قلعة إقليش، وقد جاء فيه:

«وفي خلال ذلك وصل إلى حصن «إقليش» وَلَدُ أذفونش شانجه - مِن زَوجِ المأمونِ بنِ عَبّاد، التي كانت تَنصّرت - بنحو سبعة ألاف فارس».

والثاني: نص أورده الونشريسي في كتابه: «المعيار المغرب والجامع المعرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب» وقد جاء فيه عن موضوع الخوف على الأبضاع والفروج ما يلي:

«ومنها الخوفُ مِن الفتنة على الأبضاعِ والفروج، ومَتى يأمنُ ذو زوجةٍ، أو ابنةٍ، أو قَريبةٍ وَضيئة؛ أن يَعثُر عليها وَضيءٌ مِن كلاب الأعداءِ، وخنازير البُعداء، فيُغِرَّها في نفسها، ويُغِرّها في دينها، ويَستوليَ عليها، وتُطاوعُه، ويُحالَ بينها وبين وَليّها بالارتدادِ في الدين، كما عَرض لِكَنّةِ المُعتمِد بن عبّاد، ومَن لها مِن الأولاد، أعاذنا الله من البلاء وشماتة الأعداء».

تلك هي الحقيقة حول أسطورة «زائدة بنت المعتمد بن عبّاد» وتقديم أبيها المعتمد إياها زوجة لألفونسو السادس، اكتساباً لمحالفته وعونه ضد المرابطين.

وهي أسطورة لبثت عصوراً تمثل في الروايات الإسبانية الكنسية وغيرها كأنها حقيقة لا ريب فيها.

وقد زاد من غموضها صمت الرواية الإسلامية المعاصرة واللاحقة.

والظاهر أن المؤرخين المسلمين قد شعروا بما يكتنف هذه القصة من دقة وإيلام للنفوس الكريمة، فآثروا الإغضاء عنها، باعتبارها حادثاً لا أهمية له، من الناحية التاريخية».

قال عداب: «زائدةُ» المرتدّة عن الإسلام هذه؛ مجهولةُ النسب، لا يُعرفُ عنها أكثرُ مما تقدّم!

وسواءٌ كانت الملكة «اليزابيث» من أحدِ أولادها الذين تنصّروا، أو كانت من ذريّة الطفل «شانجه» المقتول في المعركة؛ فمن أين جاء إلى «زائدة» المرتّدة النسب الهاشميّ؟

الجهة الأولى: الدين!

لو أنّنا سلّمنا جدلاً بأنّ «زائدة» جدّة الملكة «اليزابيث» هاشميّةً، ثمّ أحبّت «ألفونسو» القشتالي هذا، وتزوّجته، وارتدّت عن الإسلام، فماذا ينفعها هذا النسب يوم القيامة؟

قال الله تبارك وتعالى:

(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ؛ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101).

فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ؛ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102).

وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ؛ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103).

تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ، وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) [المؤمنون].

(وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ؛ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) [البقرة].

إنّ النسب الشريفَ قد يكون سبباً في شفاعة الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلم لذريّته يوم القيامة، إذا كانت ذرّيته مؤمنةً موحّدةً، سليمةَ المعتقد!

قال الله تعالى:

(إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ.

وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله؛ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) [النساء].

(وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ، إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) [الزخرف].

ولا ريب في أنّ الشركَ أبطلُ الباطل، وإنه لظلم عظيم!

والله تعالى أعلم

(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحمد لله على كلّ حال.

السبت، 10 سبتمبر 2022

       مَسائلُ حَديثيّةٌ (57):

الأحاديثُ المدلّسةُ في صحيح البخاريّ!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

علّق أحدُ تلامذتي الأحبّةِ العراقيين على منشور (56) بقوله: «قبل مدة كشف السيد كمال الحيدريّ عن أطروحة دكتوراه، لأحدِ طلبةِ العلم في علم الحديث، عنوانها «التدليس في مرويات البخاريّ» وخرَج الباحث بخلاصةٍ علميّة مفادها وجودُ أربعةِ آلافِ حديثٍ مدلّس، في صحيح البخاري، ما رأيكم؟).

أقول وبالله التوفيق:

جميعُ أحاديثِ صحيح البخاريّ مع التكرار (7563) حديثاً، وهي من دون تكرار (2560) حديثاً، فحسب!

بعضُ هذه الأحاديثِ كرّرها البخاريُّ في صحيحه أكثرَ من عشرين مرّةً، وبعضها لم يخرّجها في صحيحه سوى مرة واحدة.

ومن أوائل هذه الأحاديثِ التي لم يخرّجها سوى مرّة واحدةٍ في صحيحه (120، 127، 442، 470، 695).

فإذا نحن أردنا أن نفهم كلامَ هذا الباحثِ فهماً دقيقاً، بعيداً عن الاتّهام والمجازفة؛ فعلينا أن نقول: إنّ الحديثَ المدلَّسَ الذي أخرجه البخاريُّ في صحيحه في عشرين موضعاً؛ عدّه الباحثُ عشرين حديثاً.

فإنْ كان هذا ما فعله؛ فهو ليس بطالبِ علمِ حديثٍ أبداً، إنما يكون باحثاً أراد أن يصل إلى نتيجة مسبقةٍ، في التقليل من شأنِ صحيح البخاريّ، وهذا ليس سبيلَ أهل العلم!

إنّ من أبرز خصائص المحدّثين حقيقةً؛ أنهم يقولون في أحبابهم؛ مثلُ الذي يقولونه في خصومهم، مع وجود بعضِ المواقفِ المتحيّزةِ، من دون شكّ!

خذ هذا المثال:

ترجم الذهبيُّ سفيانَ بن سعيدِ بن مسروقٍ الثوريّ (ت: 161 هـ) في سير أعلام النبلاء (7: 229) فكان ممّا وصفه به «هُوَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ، إِمَامُ الحُفَّاظِ، سَيِّدُ العُلَمَاءِ العَامِلِيْنَ فِي زَمَانِهِ، أَبُو عَبْدِ اللهِ الثَّوْرِيُّ، الكُوْفِيُّ، المُجْتَهِدُ، مُصنِّفُ كِتَابِ «الجَامِعِ».

قُلْتُ: أَجَلُّ إِسْنَادٍ لِلْعِرَاقِيِّينَ: سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُوْرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيْمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ.

وَقَالَ شُعْبَةُ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَأَبُو عَاصِمٍ، وَيَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ، وَغَيْرُهُم:

سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ فِي الحَدِيْثِ».  

قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الآجُرِّيُّ: سَمِعْتُ أَبَا دَاوُدَ يَقُوْلُ:

لَيْسَ يَخْتَلِفُ سُفْيَانُ وَشُعْبَةُ فِي شَيْءٍ، إِلاَّ يَظفرُ بِهِ سُفْيَانُ، خَالَفَهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِيْنَ حَدِيْثاً؛ القَوْلُ فِيْهَا قَوْلُ سُفْيَانَ.

وَعَنْ يَحْيَى بنِ مَعِيْنٍ، قَالَ: مَا خَالَفَ أَحَدٌ سُفْيَانَ فِي شَيْءٍ؛ إِلاَ كَانَ القَوْلُ قَوْلَ سُفْيَانَ.

وقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: أَصْحَابُ الحَدِيْثِ ثَلاَثَةٌ: ابْنُ عَبَّاسٍ فِي زَمَانِهِ، وَالشَّعْبِيُّ فِي زَمَانِهِ، وَالثَّوْرِيُّ فِي زَمَانِهِ.

ونقل الذهبيّ عن معاصرٍ لسفيان قَالَ: قَدْ كَانَ سُفْيَانُ رَأْساً فِي الزُّهدِ، وَالتَّأَلُّهِ، وَالخَوْفِ، رَأْساً فِي الحِفْظِ، رَأْساً فِي مَعْرِفَةِ الآثَارِ، رَأْساً فِي الفِقْهِ، لاَ يَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، مِنْ أَئِمَّةِ الدِّيْنِ»!

هذا كلامٌ عالٍ راقٍ في حقّ سفيانَ الثوريّ، رحمه الله تعالى، فما ذا بعد؟

قال الذهبيّ: اغْتُفِرَ لَهُ غَيْرُ مَسْأَلَةٍ اجْتَهَدَ فِيْهَا، وَفِيْهِ تَشَيُّعٌ يَسِيْرٌ، كَانَ يُثَلِّثُ بِعَلِيٍّ، وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ بَلَدِهِ أَيْضاً فِي النَّبِيذِ، ويقال: رجعَ عن ذلك!

وَكَانَ يُدَلِّسُ فِي رِوَايَتِهِ، وَرُبَّمَا دَلَّسَ عَنِ الضُّعَفَاءِ».

وقال ابن حبّان في مقدمة كتابه المجروحين (1: 159): «الجنس الثاني من أجناس الضعفاء؛ أقوام كانوا يروون عن أقوام ضعفاء كذابينَ، ويكنونهم؛ حتى لا يعرفوا.

فربما أشبهَ كنيةَ كذّاب، فيتوهم المتوهم أن راوي هذا الخبر ثقةٌ، يتحمّلون عنه.

وليس ذلك الحديث من حديثه.

ومن أعملهم بمثل هذا، من هذه الأمة؛ الثوريُّ، رحمه الله.

كان يحدّث عن الكلبيّ ويقول: حدثنا أبو النضر، فيتوهم المستمعُ أنه أراد به سعيد بن أبي عروبة، أو جرير بن حازم، لا يجوز الاحتجاج بأخبارهم.

 فما لم يقل المدلس - وإن كان ثقة - حدثني أو سمعت؛ فلا يجوز الاحتجاج بخبره، وهذا أصل الشافعي رحمه الله ومن تبعه من شيوخنا» انتهى المراد.

إنّ سفيانَ الثوريّ مدلّسٌ إذن، فإذا قال: «عن» خشينا تدليسَه، وتوقفنا عن قبول حديثه حتى نجده صرّح بالسماعِ في موضعٍ آخر!

هذا الكلام على إطلاقه هكذا؛ لا يستقيم أبداً، إذ إنّه سبيلٌ إلى ردّ (90%) من روايات سفيان؛ لأنّ جميعَ المتقدّمين كانوا يقولون: «عن» المدلّسون وغيرُهم سواء!

أخرج البخاريّ في جامعه الصحيح من طريق سفيانَ الثوريّ (353) روايةً مكررة!

الحديث الأول برقم (34) كرره البخاري مرتين (2459، 3178).

الحديث الثاني برقم (68) كرره البخاري مرتين (70، 6411).

الحديث الثالث برقم (90) كرره البخاريّ أربع مرّات (702، 704، 6110، 7159).

فهؤلاء الأحاديث الثلاثةُ؛ هم أحدَ عشر حديثاً، من بنية صحيح البخاري مع التكرار.

علينا أن ننظر كيف خرّج البخاريّ هذه الأحاديث لسفيان؟

الحديث الأول (24) حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)

تَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ».

يعني تابعَ شعبةُ سفيانَ في روايته هذا الحديثَ عن الأعمش!

مكرّره (2459) حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا أَوْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ).

مكرّره (3178) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعُ خِلَالٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا).

لو أننّا كلّما رأينا «سفيان عن» عددنا هذا الحديثَ في صحيح البخاريّ مدلّساً، وضعّفناه بالتدليس؛ كنّا جاهلين بمنهج البخاريّ في التخريج للمدلسين، وكنا ظالمين للحديثِ النبويّ ذاته، إذ كنّا سنُخرج منه كثيراً من الأحاديث الصحيحة، بسبب جهلنا!

الإسناد الأول: سفيان عن سليمان بن مهران الأعمش، وسفيان مدلّس!

الإسناد الثاني: شعبةُ بن الحجّاج عن سليمان بن مهران الأعمش، وشعبة يقول: لأن يزني أحبّ إليه من أن يدلّس!

والإسناد الثالث: جَرِيرُ بن عبدالحميد الضبيّ عَنْ الْأَعْمَشِ، وجريرٌ لا يدلّس!

فتيقّنا بهذا من أنّ سفيان الثوريَّ - وإن قال في حديثه: «عن الأعمش» - لكنّه لم يدلّس ههنا.

الحديث الثاني (68) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا) فهذا حديث دلّسه سفيان بقوله: «عن الأعمش».

مكرره (70) حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ قَالَ أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا).

ففي هذا الإسنادِ لا وجودَ لسفيان الثوريّ، ولا لشيخِه الأعمش.

إنما رواه جرير بن عبدالحميد عن قرينِ الأعمش منصورِ بن المعتمر، عن أبي وائل شقيق بن سلمة!

مكرّره (6411) حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ قَالَ كُنَّا نَنْتَظِرُ عَبْدَ اللَّهِ إِذْ جَاءَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فَقُلْنَا أَلَا تَجْلِسُ قَالَ لَا وَلَكِنْ أَدْخُلُ فَأُخْرِجُ إِلَيْكُمْ صَاحِبَكُمْ وَإِلَّا جِئْتُ أَنَا فَجَلَسْتُ فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِهِ فَقَامَ عَلَيْنَا فَقَالَ أَمَا إِنِّي أَخْبَرُ بِمَكَانِكُمْ وَلَكِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهِيَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا).

في هذا الإسناد يقول حفص بن غياثٍ النخعيّ: حدّثنا الأعمش قال: حدثني شقيق!

فأثبت تصريح الأعمش بسماعه الحديثَ من شقيق بن سلمة.

فلم يعد في عنعنة سفيانَ هذا الحديثَ أيّ إشكالٍ أو توقّف.

هذا أنموذج لتخريج البخاريّ أحاديثَ المدلّسين في صحيحه!

فمن لا يعرف مثلَ هذا؛ فليربع على ظلعِه، وليسكت، فالبخاريّ أعظم أسطوانةٍ في علم الحديثِ النبويّ على الإطلاق!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

       مَسائلُ حَديثيّةٌ (56):

القيمةُ العلميّةُ للأحاديثِ الأفراد!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

المنشورُ السابق (55) أثارَ لديّ التساؤلَ الآتي:

كيف وقعَ عالمٌ بحجم صاحب المنشورِ، بهذه القسوةِ على الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلم، وهو الذي أرسله الله تعالى ليبيّن للناس ما أُنزل إليهم من ربهم؟

كيف يبيّن لهم ما أُنزل إليهم من لدن الله تعالى، وهو عرضةٌ لأن يخطئ في فهم ما أنزله الله إليه، حتى يكون في رعيّته وتلامذته من هو أنبهُ منه، وأحسنُ فهماً؟

وجدتُ الجوابَ، الذي أظنّه صحيحاً، وهو أنّ وجودَ الحديثِ في صحيح البخاريّ، أو في صحيح مسلمٍ؛ غدا يوحي للباحثين بأنّ هذا الحديثَ مقطوعٌ في صحّته، فتفريعُ الأحكام بعد ذلك عليه؛ أمرٌ مفروغ منه!

وهذا الكلام من أبطلِ الباطل، وأبعدِ شيءٍ عن الحقَّ!

(1)- ففي الصحيحين عددٌ قليل من الأحاديثِ المتواترة، التي يروي أحدَها أكثرُ من ستّة صحابةٍ عن الرسول صلّى اللهُ عليه وآله وسلّمَ، بأسانيد صحيحةٍ أو حسنةٍ لذاتها، ولنفترض أن نسبةَ صحّة هذه الأحاديث (100%).

(2) وفي الصحيحين عددٌ أكبرُ من الأحاديثِ المشهورةِ، التي يروي أحدها عن الرسول أربعةٌ من الرواة، بأسانيد صحيحةٍ أو حسنةٍ لذاتها.

ولنفترض أن نسبة صحة هذه الأحاديثِ (90%).

(3) وفي الصحيحين عددٌ يسيرٌ جدّاً من الأحاديثِ العزيزة، التي يروي أحدَها عن الرسول صحابيّان فحسب، بأسانيد صحيحةٍ أو حسنةٍ لذاتها.

ولنفترض أن نسبة صحة هذه الأحاديثِ (80%).

(4) وفي الصحيحين (3500) حديثٍ تقريباً؛ هي من الحديثِ الغريب، الذي لا يُروَى بإسنادٍ صحيح عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، إلّا من طريق صحابيٍّ واحدٍ، فحسب!

هذه الأحاديثُ الغرائبُ، التي تُكوّنُ جملةَ بِنيةِ الكتابين الصحيحين؛ ليست على درجة واحدةٍ من الصحة!

(أ) فلو نظرنا إلى جهة الرواة عن الصحابيّ؛ نجدُ بعضَ الأحاديثِ، رواها عن الصحابيّ عشرةٌ من تلامذته!

وبعضها رواه عن الصحابي، تسعةٌ، ثمانيةٌ، سبعةٌ، ستّة، خمسةٌ، أربعة، ثلاثة.

هذا موجودٌ من دون شكٍّ، حسب تخريجاتي للصحيحين، لكنه قليلٌ، بل قليلٌ جدّاً!

وأكثر الموجود من هذه الغرائب؛ هو الذي يرويه عن الصحابيِّ تابعيٌّ واحدٌ فحسب، وهذا الذي يُسمّى عند المحدّثين «الفردَ المطلقَ»!

وهذا الفردُ المطلق نفسه؛ تتفاوتُ درجات الصحة فيه، بحسب عددِ الرواةِ عن التابعيّ!

فبعضَ الأحاديثِ الأفرادِ المطلقةِ، رواها عن التابعيّ عشرةٌ من تلامذته!

وبعضها رواه عن التابعيّ، تسعةٌ، ثمانيةٌ، سبعةٌ، ستّة، خمسةٌ، أربعة، ثلاثة.

وبعضها لم يروه عن التابعيّ، سوى واحدٍ من أتباعِ التابعين.

فكم نعطي نسبةَ صحّةٍ لهذه الأفراد المطلقة؟

(ب) ولو نظرها إلى الأفراد المطلقةِ، من جهة نوعيّةِ الرواة ومنازلهم في الجرح والتعديل؛ رأينا أعداداً كبيرةً جدّاً منهم من أصحاب مرتبة الاعتبار «لا يُقبل من الواحد منهم، إلّا ما توبِع عليه» وهذا الذي توبع عليه؛ ما درجتُه؟

هل سنعطيه درجة صحيح لذاته؟

صحيح لغيره؟

حسن لذاتِه؟

كلّا وألفُ كلّا!

في كثيرٍ من الأحايين؛ سنعطيه درجة حسنٍ لغيره!

وهي مرتبةٌ لا يُبنى عليها إثباتٌ ولا نفيٌ، ولا حلالٌ ولا حرام، كما مرّ معنا مرّاتٍ كثيرةً على هذه الصفحة!

وكما قال ابن حجر في كتابه النكت على علوم الحديثِ لابن الصلاح (1: 402):

«فأمّا ما حرّرناه عن الترمذيِّ من أنّه يُطلق عليه اسم «الحسن» من الضعيف والمنقطع إذا اعتضد؛ فلا يتّجِه إطلاقُ الاتّفاق على الاحتجاج به جميعِه، ولا على دعوى الصِحةِ فيه، إذا أتى من طرق!

ويؤيد هذا قولُ الخطيب البغداديّ: «أجمع أهلُ العلم أنّ الخبرَ لا يجب قبولُه، إلا مِن العاقلِ الصدوقِ المأمونِ على ما يُخبر به».

وقد صرّح أبو الحسن ابنُ القَطانِ «الفاسيُّ» أحدُ الحفّاظِ النُقّاد من أهل المغرب في كتابه «بيان الوهم والإيهام» بأنّ هذا القسم «من الحسن» لا يُحتجّ به كِلِّهِ، بل يُعمل به في فضائل الأعمال، ويُتوقّف عَن العَمل به في الأحكام.

إلا إذا كَثُرَتْ طُرُقُه، وعضَدَه اتّصالُ عَمَلٍ، أو مُوافقةُ شاهدٍ صحيحٍ، أو عضده ظاهرُ القرآن.

وهذا حَسَنٌ قَويٌّ رائِقٌ، ما أظنُّ مُنصِفاً يأباه، والله الموفق».

فأنتَ - أيها الباحثُ المسلم - عندما تتناوَل أحدَ الأحاديثِ التي في الصحيحين؛ يجب أن تستحضر المعانيَ السابقةَ التي ذكرتُ لك، فلا تهجُم على الحديثِ، وكأنّه آيةٌ قرآنيّة مقدّسة!

لا يا أخي لا!

بين ثُبوتِ آياتِ القرآن العظيم، وثبوتِ الروايات الحديثيّة من القوّة، كما بين المشرقِ والمغربِ!

ويكفي أن تعرف بأنّ في رواة الصحيحين:

(200) راوٍ ترجمهم ابن حِبّان في كتابه المجروحين!

(143) راوٍ، قال فيهم ابن حجر: «مقبول» والمقبول من يُقبَل حديثه عند المتابعةِ في درجة «حسن لغيره».

(43) راوٍ، وصفهم الحفّاظ بالجهالة!

مئاتُ الرواةِ، وصفهم ابن حجر بقوله: «صدوق» وما يتفرّد به الصدوق، فمن دونه؛ يُعَدّ منكراً!

فإذا كنت لا تعرف هذه الأمور نظريّاً وتطبيقاً؛ فكيف تجوّز لنفسك أن تحتجَّ بحديثٍ في صحيح البخاريّ، أو صحيحٍ مسلمٍ، هكذا على سواء؟!

خِتاماً: أنصح إخواني طلبةَ العلمِ والمثقفين أن يَكُفّوا عن الطَعنِ في الصحيحين، وعن التعصّب للصحيحين معاً، فالطرفان في درجة الجهل بالصحيحين سواء!

ولا تلتفتوا إلى دعاوى الإجماعِ على صحّة ما في الصحيحين، فهي دعوى فارغة، لا تساوي حتى بصلة!

وقد خرّجت من صحيح البخاريّ (1394) حديثاً متسلسلةً، من أحاديثِ الأحكام، فكانت نسبة «الحسن» منها (63%).

ولستَ في حاجةٍ - أخي المسلم - إلى أن تُعرّض نفسَك إلى سخطِ الله تعالى، فتَشغل نفسك فيما لا تحسنه، ولا يحسنه شيوخُك ولا شيوخُ شيوخك أيضاً!

إنّ «علم نقدِ الحديثِ» علم مُغلقٌ مُقفَلٌ، لا يحسنه في كلّ عصرٍ إلّا أفرادٌ، أمضوا أعمارَهم في تعلّمه، والتنقير عن خباياه التي لا تنتهي!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

      والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

الخميس، 8 سبتمبر 2022

        مَسائلُ حَديثيّةٌ (55):

خطأُ الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم في فهم آية!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

أرسل إليّ أحد علماءِ الحديثِ الأفاضل منشوراً للشريف حاتم بن عارف العَوني، ينسب فيه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الخطأَ في فهم آيةٍ قرآنية وتطبيقها.

بينما كان عمر أحسنَ فهماً لها من الرسول!

وسألني هذا الفاضل: «ما رأيكم بكلام الشيخ العَونيّ»؟!

أقول: يحسن أن أخرّج هذا الحديثَ، ثم أنتقل إلى فهمه.

بإسنادي إلى الإمام البخاري في تفسير القرآن (4670) قال رحمه الله تعالى:

حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ؛ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ، يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ، فَأَعْطَاهُ.

ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، تُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللهُ، فَقَالَ: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) وَسَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ!

قَالَ عُمر: «إِنَّهُ مُنَافِقٌ»!

قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللهُ: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ).

أعاد البخاريُّ الحديثَ في الجنائز (1269) وفي التفسير (4672) وفي اللباس (5796).

وأخرجه مسلم في فضائل عمر (2400) وفي صفات المنافقين (2774) والترمذيّ في التفسير (3098) وقال: حسن صحيح.

قال الشريف حاتم: «القصة مليئةٌ بالفوائد والعِبَر، لكنْ استوقفني خطأ النبيّ صلّى الله عليه وسلم، في تفسير الآية (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) مع ظهور معناها، حتى إنّ عمر رضي الله عنه فهمها كما أراد الله تعالى.

لقد فهمها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على أنّ العددَ فيها مقصود، وأنّ الزيادةَ على سبعين استغفاراً قد تنفع، في حين أنّ المعنى في الآية ظاهر، وأنّ العدد جاء للتكثير والتعجيز، وليس مقصوداً، ولذلك اعترض عمر» إلخ كلامه المتهافتِ الذي يمكن للقارئ الكريم الرجوع إليه على صفحته!

مَدارُ حديثِ الباب على عبيدالله بن عمر العمري، رواه عنه جمعٌ من الثقات.

وهو يروي الحديثَ عن نافعٍ مولى عبدالله بن عمر، عن عبدالله بن عمر، عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

فالحديث بهذا اللفظ؛ فردٌ مطلقٌ غريبٌ، لم يروه عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إلّا عبدُالله بن عمر، ولا عنه إلّا نافعٌ، تفرّد به عبيدالله بن عمر العمريّ.

والمنطقُ العلميّ يقول: إذا كان في متن الحديثِ لفظٌ مستنكَر؛ فإننا نلصقه بأضعف راوٍ في السنَد، ولا نرتفع به إلى الصحابيّ ما أمكن، فضلاً عن رفعه إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم!

ونافعٌ هذا؛ مولىً من الموالي، وكان في لسانِه لُكنةٌ، وكان لحّاناً في العربيّة!

ترجمه الذهبي في تاريخ الإسلام (3: 328) فقال:

قَالَ ابن وهب: قَالَ مالك: كنتُ آتي نافعاً، وأنا حديث السنّ ومعي غلام لي، فيقعد ويحدّثني، وكان صغيرَ النفس، وكان فِي حياة سالمٍ لا يفتي شيئًا.

ورَوى مُطَرِّف بْن عَبْد اللَّه، عَنْ مالك قَالَ: كَانَ فِي نافع حِدَّة!

ثم حكى أَنَّهُ كَانَ يلاطفه ويداريه، وقيل: كَانَ فِي نافع لَكْنَةٌ.

وقَالَ إِسْمَاعِيل بْن أُمَّية: كُنَّا نرد عَلَى نافع اللَحْنَ، فيأبى.

أفمثلُ هذا الرجل الأعجميّ نقدّسُ روايتَه، ونخطّئ بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟

(سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)!؟

ولا أريد أن أرتفع إلى ابن عمر رضي الله عنهما، إذ لم يكن هو الآخر من النابهينَ، أقوياءِ الحفظ!

فقد أخرج البخاري في الحجّ (1776) ومسلم في الحج (1255) من حديث مجاهدٍ قال: دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَالِسٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَإِذَا نَاسٌ يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ صَلَاةَ الضُّحَى.

قَالَ مجاهدٌ: فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صَلَاتِهِمْ؟ فَقَالَ: بِدْعَةٌ!

ثُمَّ قَالَ لَهُ: كَمْ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟

قَالَ: أَرْبَعاً، إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ!

قال مجاهد: فَكَرِهْنَا أَنْ نَرُدَّ عَلَيْهِ!

قَالَ: وَسَمِعْنَا اسْتِنَانَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحُجْرَةِ، فَقَالَ عُرْوَةُ:

يَا أُمَّاهُ، يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ: أَلَا تَسْمَعِينَ مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ؟

قَالَتْ: مَا يَقُولُ؟ قَالَ: يَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرَاتٍ، إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ!

قَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، مَا اعْتَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ عُمْرَةً، إِلَّا وَهُوَ شَاهِدُهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ»!!

أفما كان الأليق بذكاء الشريف حاتم أن يلصق الخطأَ في فهم الآية - على حدّ تعبيره - بابن عمر، أو بتلميذه نافع، أو بهما معاً، بدلاً من تخطئةِ الذي لا ينطق عن الهوى؟

وبإسنادي إلى الإمام البخاريّ في صحيحه، كتاب الجنائز (1366) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا) الحديث.

وأعاده البخاريّ في التفسير (4671) بمثله في موضع الشاهد!

وأخرجه أحمد في مسنده (91) والنسائيّ في سننه (1966) والترمذي في جامعه (3097) جميعاً من حديث ابن شهابٍ الزهريّ عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة المسعوديّ، عن عبدالله بن عباس، عن عمر، به مثلَه، وقال الترمذيّ: حديث حسن صحيح غريب.

وهذا إسنادٌ فردٌ مطلقٌ أيضاً، لكنه خيرٌ من إسناد الحديثِ السابق!

فعمر بن الخطّاب؛ أوعى من ابنه عبدالله، وأذكى بأشواط، وكذلك عبدالله بن عباس ترجمان القرآن!

وعبيدُالله المسعودي؛ أحفظ من نافعٍ وأفقه، وهو عربيّ هُذَليّ!

قال أبو العباس القرطبيّ في المفهم في شرح صحيح مسلم (2: 741) بعد سياقته حديث عبدالله بن عمر: « والذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - أن البخاري ذكر هذا الحديث من رواية ابن عباس وساقه سياقةً هي أتقن من هذه، وليس فيها هذا اللفظ».

وقال أيضاً في الموضع نفسه: «قلت: وهذا مساق حسن وترتيب متقن، ليس فيه شيء من الإشكال المتقدّم، فهو الأولى

وقوله صلى الله عليه وسلم «في حديث ابن عمر»: (سأزيد على السبعين) وعد بالزيادة، وهو مخالفٌ لما في حديث ابن عباس، فإنّ فيه: (لو أعلم أني إن زدت على السبعين، غُفر له؛ لزدت).

وقد قلنا: إن هذا الحديث أولى.

وتخصيص اللهِ تعالى العددَ بالسبعين؛ على جهة الإعْياء، وعلى عادة العرب في استعمالهم هذا العدد في البعد والإعياء.

فإذا قال قائلهم: لا أكلمه سبعين سنةً؛ صار عندهم بمنزلة قولهم: لا أكلمه أبدًا.

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لو أعلم أني، إذا زدت، غفر له؛ لزدت) فقد علم أنه لا يغفر له».

ختاماً: في كلا الحديثين إشكالاتٌ، لكنّ الإشكالاتِ في حديث ابن عمر صارخة.

وإذ إنّ عمر فهم ما أراده الشريفُ العوني؛ فإنّ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ أعلم وأفهم وأبلغ من الشريف العونيّ، ومن نافعٍ الأعجميّ، ومن ابن عمر، ومن عمر أيضاً.

فكان الواجب على الشريف؛ أن لا يتسرّع هذا التسرّع القبيح، فينسب الخطأ إلى مَن أوتي جوامع الكلم، بدلاً من أن ينسبه إلى أعجميّ، كان يلحن، ويأبى أن يصوّب لحنَه، أو إلى عبدالله بن عمر المعروف بأنه ظلَّ عشرَ سنوات، حتى أنجز حفظ سورة البقرة!

أليس هؤلاء أولى بسوء الحفظ، من نسبة سوء الفهم إلى الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم؟

اللهم نعم وألف نعم!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

الاثنين، 5 سبتمبر 2022

       مِنْ عِبَرِ التاريخِ (15):

زيارَةُ الإمامِ الحُسَينِ عليه السلام !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتب إليّ يقول: يجب عليكم معاشِرَ العلماءِ أن تبيّنوا للناس بأنّ ما يدعوه الرافضة «زيارة الأربعين» وما يسوقونه من فضلِها؛ كلّه باطل، ما أنزل الله به من سلطان!

خاصّةً أولئك الجهّال الذين يعتقدون بأنّ ثوابَ زيارَةِ الحُسَين أعظم من ثوابِ الحجِّ إلى بيت الله تعالى؟

أقول وبالله التوفيق:

لا يَقولُ بأفضلِيّة زيارةِ قبرِ الإمامِ الحسين، عليه السلام عالمٌ من أهل السنّة، ولا عالم من الزيدية، ولا عالم من الإباضيّة، إنّما هذه الزيارةُ خاصّةٌ بالشيعة الإماميّة!

وفي سالِفِ الأيّام وجدَ علماءُ الإماميّةِ ضرورَةَ ابتداعِ أعيادٍ ومناسباتٍ وشعائرَ ومخالفاتٍ، للمحافظة على الطائفة، وهم يعلمون أنّها ليست من الدين في شيء!

وأنا لا أشكّ في أنّ جميعَ كتب الزياراتِ كذبٌ وافتراءٌ، وليس فيها نصّ واحد ثابتٌ عن أحدِ أئمةِ آل البيت عليهم السلام.

إذ لا يخفى على طالبِ علمٍ أنّه لا يوجد في الإسلامِ حِدادٌ ممتدٌّ على مدار تاريخ البشريّة!

وأقصى إحدادٍ هو إحدادُ المرأةِ المتوفّى عنها زوجها، وليس هو إحداداً للحزن والبكاء والعويل أبداً، إنّما هو إحدادٌ لبلوغِ اليقينِ من براءةِ رحم المرأةِ من الحملِ، وحتى تتخلّص جميع أجهزتها ومشاعرها من أيّ صلةٍ مع الزوجِ المتوفّى!

قال الله تعالى:

(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ.

وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ.

إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (228) [البقرة].

وقال الله جلّ وعزّ:

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا؛ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ؛ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) [البقرة].

استشهد ساداتنا الحمزة، وعبيدة بن الحارث، وجعفر بن أبي طالب، في حياةِ الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وحزن عليهم الرسول، وواسى أهلَهم، مثلما واسى أهاليَ غيرهم من شهداء الصحابةِ في حياة الرسول.

لكنْ لم يُنقَلْ إلينا أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم جعل ذكرى وفاةِ أيِّ واحدٍ من الشهداءِ عيداً، يزورون فيه أولئك الشهداء، ويمكثون عند قبورهم، ويجتمعون ثمّةَ يتلون أدعيةً مزعومةً ويعتقدون أنّ تلك الزيارةَ مطلوبةٌ شرعاً، وأنّ ثوابَها يفوق ثوابَ الحجّ إلى بيتِ الله الحرام.

إنّ مقتلَ الإمام الحسين فاجعةٌ عظمى، من دون شكٍّ، لكنّها ليست أعظمَ من وفاةِ الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلم، إذ إنّ الوحيَ قد انقطع عن تسديد الأمّة وتربيتها بوفاته.

ومع هذا؛ فالمسلمون جميعاً، سنّةً وشيعةً؛ لا يحتفلون بذكرى وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا بذكرى وفاةِ أيّ صحابيٍّ من صحابةِ الرسول وأهل بيته.

إنّ الشيعةَ الإماميّةَ يرون «الإمامةَ» ركنٌ من أركان الإيمان، بل يرونها أعظم أركانه، إذ لا يصحّ إيمان المسلم إلّا باعتقاده بها.

وليس لديهم على هذا الركنِ آيةٌ قرآنيّة واحدة، ظاهرة الدلالة عليها!

ومعنى أنّ الإمامةَ أهمّ ركنٍ من أركان الإيمان؛ أنّ بقيةَ الأركان لا تعرف إلّا عن طريق الإمام المعصوم!

وهذا يعني أنّ الجانب السياسيَّ في العقيدةِ الإماميّة؛ هو الجانب الأهم في مذهبهم!

ولأجل أن يحافظوا على وحدةِ هذه العقيدةِ السياسيّة؛ اخترعوا عقائدَ العصمةِ والإمامةِ والنصِّ والتعيين والرجعة والمهديّ!

ولك أن تستغرب أخي الفاضل، عندما تعلمُ أنّ الصلاةَ والزكاةَ من أركان الإسلام، وهما دون أركان الإيمان مرتبة عند المسلمين، ومع هذا تجد جملة (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) قد وردت في القرآن العظيم مرات، فوردت في سورة البقرة: (43، 83، 110) وفي سورة النساء (77، 103) وفي سورة الحجّ (78) وفي سورة النور (56) وفي سورة المجادلة (13) وفي سورة المزمّل (20).

ووردت بصيغة المضارعة (يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) مرّاتٍ أيضاً، ووردت بصيغةَ (أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ).

لكنّ ركنَ الإمامةِ المزعومَ هذا؛ لم يرد فيه آيةٌ قرآنيّة واحدة!

إنما وردت كلمة «الأئمّة» بمعنى القادة من الأخيارِ، والقادة من الأشرار.

قال الله تعالى في وصف الأنبياء عليهم السلام:

(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) [الأنبياء]. 

وقال الله تعالى عن فرعونَ وقومه:

(فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) [القصص].

وكما وصف الأنبياء بأنهم أئمّة وقادةٌ روحيّون؛ وصف بعضهم بأنّه ملك!

قال الله تعالى:

(وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) [البقرة:251].

(وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) [البقرة: 102].

ولو أنّنا نظرنا بعينِ الإنصافِ، بعيداً عن النصبِ والرفضِ والعواطف، فأين العلومُ التي تدلُّ على إمامة سيّدنا الحسن، وسيّدنا الحسين، بحيث يكونان أفضل حتى من الأنبياء جميعاً، سوى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم!

لم تَنْقُلْ كتبُ الشيعةِ، فضلاً عن كتبِ السنّة أنّ الحسن والحسين كانا من أئمّة الصلاةِ، ولا من خطباء الجُمَع، ولا من المعلّمين الرسميّين في مسجد المدينة!

وإمامتُهما هي إمامةُ قدوةٍ ذاتيّةٍ وسلوكٍ قويم، في المجتمع الذي كانوا يعيشون فيه، ليس غير!

ولم يكن الشيعةُ يحتفلون بذكرى وفاة الإمام الحسن عليه السلام!

حتى جاءَ العام (1444 هـ) الذي نحن فيه؛ رأوا من المناسبِ أن يجعلوا يوم السابعِ من صفرٍ موعداً يحييون فيه ذكرى استشهادِ الإمامِ الحسن، فيذهبون إلى النجف؛ ليعزّوا أمير المؤمنين عليه السلام بهذه الذكرى!

أيّ عقولٍ لدى هؤلاء القوم؟ لا أدري والله!

ختاماً: لا يثبتُ في فضلِ زيارةِ أيِّ قبرٍ من القبورِ آيةٌ قرآنيّةٌ، تكافئ هذه الدعاوى المزعومة، ولا أيُّ حديثٍ صحيح صريحٍ!

وسأتناول في المنشور التالي نقداً علميّاً لكتاب كامل الزيارات لابن قُولَويه القميّ (ت: 368 هـ) فهو أهمّ كتب الزيارات، عند الشيعة الإماميّة، إن شاء الله تعالى.

(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحمد لله على كلّ حال.