مَسائلُ حَديثيّةٌ (102):
فَضْلُ صِيامِ يَومِ عَرَفةَ!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
سألني عددٌ من الإخوة
والأصدقاء، عن الحديث الوارد في فضل صيام يوم عرفة؟
فقلت لجميعهم: خرّجت سابقاً
هذا الحديثَ، وبيّنت ضعفه، فابحثوا عنه.
إلّا أن بعض الإخوة أصرّوا على
أن أعيد نشر تخريج الحديث؛ تذكيراً به في هذه الأيام المباركة.
بإسنادي إلى الإمام مسلم في
كتاب الصيام (1162) قال رحمه الله تعالى:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
الْمُثَنَّى وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى -
قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ غَيْلَانَ
بْنِ جَرِيرٍ المِعوليّ «أنّه» سَمِعَ عَبْدَاللهِ بْنَ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيَّ
«يحدّث» عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ صَوْمِهِ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!
فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ
رَسُولًا، وَبِبَيْعَتِنَا بَيْعَةً!
قَالَ أبو قتادة: فَسُئِلَ
الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ؟
فَقَالَ: (لَا صَامَ وَلَا
أَفْطَرَ) أَوْ (مَا صَامَ وَمَا أَفْطَرَ).
قَالَ: فَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ
يَوْمَيْنِ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ؟ قَالَ: (وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ)؟
قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ
يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: (لَيْتَ أَنَّ اللهَ قَوَّانَا لِذَلِكَ).
قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ
يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ؟ قَالَ: (ذَاكَ صَوْمُ أَخِي دَاوُدَ عَلَيْهِ
السَّلَام).
قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ
يَوْمِ الِاثْنَيْنِ؟ قَالَ: (ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ)
أَوْ (أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ).
قَالَ: فَقَالَ الرسول صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صَوْمُ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانَ
إِلَى رَمَضَانَ صَوْمُ الدَّهْرِ).
قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ
يَوْمِ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ: (يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ).
قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ
يَوْمِ عَاشُورَاءَ؟ فَقَالَ: (يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ).
قال الإمام مسلم: «فِي هَذَا
الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، قَالَ أبو قتادة: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ
يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ؟ فَسَكَتْنَا عَنْ ذِكْرِ الْخَمِيسِ، لما
نُرَاهُ وَهْماً.
وحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ
سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ: حَدَّثَنَا أَبَانُ
الْعَطَّارُ: حَدَّثَنَا غَيْلَانُ بْنُ جَرِيرٍ، بهَذَا الْإِسْنَادِ، بِمِثْلِ
حَدِيثِ شُعْبَةَ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ الِاثْنَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ
الْخَمِيسَ».
قال الفقير عداب:
مدار حديث الباب على غيلانَ بن
جريرٍ المعوَليِّ الأزديّ، رواه عنه:
أبان بن يزيد العطّار، عند
مسلم (1162).
حمّاد بن زيد، عند مسلمٍ
(1162) وابن ماجه (1730، 1738) وأبي داود (4225) والترمذيّ (749، 752)
ومهدي بن ميمون الأزديّ، عند
أبي داود (4225)
وأخرجه الإمام أحمد من طريق
شيخه سُفْيَانَ بن عيينة قَالَ: سَمِعْنَاهُ مِنْ دَاوُدَ بْنِ شَابُورَ عَنْ
أَبِي قَزْعَةَ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ أَبِي حَرْمَلَةَ «حرملة بن إياس»
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ.
قال عداب: وفي إسناده أبو
حرملة هذا، اختلفوا في اسمه، أهو إياس بن حرملة، أم حرملة بن إياس، وهل حديثه
مرفوع أم موقوف؟
وقال البخاريّ في التاريخ
الكبير (3: 67): وهم، ولم يصحّ إسنادُه!
وقال الدارقطنيّ في أجوبته على
سؤالات البرقانيّ (24): «لا يصح، وهو كثير الاضطراب، مرة يقول ذا، ومرة يقول ذا،
لا يثبت».
وبهذا يبقى مدار حديث الباب
على غيلان بن جرير.
وغيلان بن جرير من ثقات
المحدّثين.
أمّا عبدالله بن معبد
الزمّاني؛ فقد ترجمه ابن عديٍّ في كتاب الضعفاء (5: 372) وقال: «سمعتُ ابنَ حمّاد
يقول: قال البُخارِيّ: عَبدُالله بن مَعبدٍ الزماني الأنصاري، يروي عَن أبي قتادة،
لا يعرف له سماع من أبي قتادة» وساق ابن عديٍّ حديثَ الباب، ثم قال:
«وهذا الحديثُ؛ هو الحديث الذي
أرادَ البُخارِيّ أنّ عَبدالله بن مَعبدٍ، لا يعرف له سماعٌ من أبي قتادة».
قال الفقير عداب: ليس
للزّمانيّ هذا في الكتب الستّة، سوى هذا الحديثِ الواحد، وله رواية مقطوعةٌ عند
مسلم (3030) على عبدالله بن عتبة المسعوديّ، في سبب نزول آية.
فيكون حكمي على الحديث؛ أنه
حديثٌ فردٌّ مطلقٌ غريبٌ لا يُعرف إلّا من حديث عبدالله بن معبد الزمّاني عن أبي
قتادةَ، تفرّد به عنه غيلان بن جرير.
وإسناده ضعيف؛ لأنه منقطعٌ،
ولتفرّد هذا الزمّاني به، دون سائر أصحاب أبي قتادة المعروفين بالرواية عنه، ناهيك
عن وجود إشكالات كثيرةٍ في متنه!
أمّا حديثُ أبي هريرة في نهي
الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عن صيام يوم عرفة بعرَفة؛ فمداره على مهدي بن
حربٍ العبديّ.
قال أحمد ابن حنبلٍ: لا أعرفه،
وقال الذهبي في الميزان (4: 195): مجهول، فالحديث به ضعيف!
أمّا النهي عن صيام يومِ
عرفةَ، إذا صادف يومَ السبتِ القادمِ؛ فقد ورد فيه حديث (لا تَصُومُوا يَوْمَ
السَّبْتِ، إِلَّا فِيمَا افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ.
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ
إِلَّا لِحَاءَ عِنَبَةٍ، أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ؛ فَلْيَمْضُغْهُ).
أخرج هذا الحديث جمع من
المصنّفين، منهم أحمد ابن حنبل في مسنده (17686، 27075) والدارمي في سننه (1749)
وابن ماجه في سننه (1726) وأبو داود في سننه (2421) وقال: هذا حديث منسوخ،
والترمذي في جامعه (744) وقال: حديث حسن، وابن حبّان في صحيحه (3615).
أقول: صحّح هذا الحديثَ ابنُ
السكن، وابن حبّان، والشيخ ناصر الأبانيّ، وحسّنه الترمذيّ، كما هو ظاهر.
بيد أنّ العلماء أعلّوه
بالاضطراب، وقال مالك: هذا حديثٌ كذب!
وقد طوّل الإمام المزيّ في
تحفة الأشراف في التحفة (4: 293) و (11: 344) و (12: 401) في توضيح هذا الاضطراب،
فانظره.
وقال ابن حجر في التلخيص
الحبير (2: 469): قَالَ النَّسَائِيُّ:
هَذَا حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ.
وقال أيضاً: «هَذَا
التَّلَوُّنَ فِي الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ بِالْإِسْنَادِ الْوَاحِدِ، مَعَ
اتِّحَادِ الْمَخْرَجِ؛ يُوهِنُ رَاوِيَهُ، وَيُنْبِئُ بِقِلَّةِ ضَبْطِهِ، إلَّا
أَنْ يَكُونَ مِنْ الْحُفَّاظِ الْمُكْثِرِينَ، الْمَعْرُوفِينَ بِجَمْعِ طُرُقِ
الْحَدِيثِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى قِلَّةِ ضَبْطِهِ، وَلَيْسَ
الْأَمْرُ هُنَا كَذَا، بَلْ اُخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا عَلَى الرَّاوِي عَنْ
عَبْدِاللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَيْضًا».
قال عداب: حديث النهي عن
صيام يوم السبت؛ يحتاج تخريجاً نقديّاً خاصّاً، أرجو أن يتيسّر لي القيام به.
ويكفينا الآن قول
النسائيّ: إنّه حديث مضطرب، وقول مالك: إنّه كذب!
ختاماً: يجوز صومُ يوم عرفةَ
السبتَ المقبلَ للحاجّ وغير الحاجّ.
إنّما من دون اعتقاد أنّه
يكفّر ذنوبَ سنةٍ أو سنتين، أو ذنوبَ يومٍ أو يومين.
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا
محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.