الخميس، 13 يونيو 2024

      مَسائلُ حَديثيّةٌ (102):

فَضْلُ صِيامِ يَومِ عَرَفةَ!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

سألني عددٌ من الإخوة والأصدقاء، عن الحديث الوارد في فضل صيام يوم عرفة؟

فقلت لجميعهم: خرّجت سابقاً هذا الحديثَ، وبيّنت ضعفه، فابحثوا عنه.

إلّا أن بعض الإخوة أصرّوا على أن أعيد نشر تخريج الحديث؛ تذكيراً به في هذه الأيام المباركة.

بإسنادي إلى الإمام مسلم في كتاب الصيام (1162) قال رحمه الله تعالى:

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ المِعوليّ «أنّه» سَمِعَ عَبْدَاللهِ بْنَ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيَّ «يحدّث» عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ صَوْمِهِ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!

فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وَبِبَيْعَتِنَا بَيْعَةً!

قَالَ أبو قتادة: فَسُئِلَ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ؟

فَقَالَ: (لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ) أَوْ (مَا صَامَ وَمَا أَفْطَرَ).

قَالَ: فَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ؟ قَالَ: (وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ)؟

قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: (لَيْتَ أَنَّ اللهَ قَوَّانَا لِذَلِكَ).

قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ؟ قَالَ: (ذَاكَ صَوْمُ أَخِي دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام).

قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ؟ قَالَ: (ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ) أَوْ (أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ).

قَالَ: فَقَالَ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صَوْمُ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ صَوْمُ الدَّهْرِ).

قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ: (يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ).

قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؟ فَقَالَ: (يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ).

قال الإمام مسلم: «فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، قَالَ أبو قتادة: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ؟ فَسَكَتْنَا عَنْ ذِكْرِ الْخَمِيسِ، لما نُرَاهُ وَهْماً.

وحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ: حَدَّثَنَا أَبَانُ الْعَطَّارُ: حَدَّثَنَا غَيْلَانُ بْنُ جَرِيرٍ، بهَذَا الْإِسْنَادِ، بِمِثْلِ حَدِيثِ شُعْبَةَ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ الِاثْنَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخَمِيسَ».

قال الفقير عداب:

مدار حديث الباب على غيلانَ بن جريرٍ المعوَليِّ الأزديّ، رواه عنه:

أبان بن يزيد العطّار، عند مسلم (1162).

حمّاد بن زيد، عند مسلمٍ (1162) وابن ماجه (1730، 1738) وأبي داود (4225) والترمذيّ (749، 752)

ومهدي بن ميمون الأزديّ، عند أبي داود (4225)

وأخرجه الإمام أحمد من طريق شيخه سُفْيَانَ بن عيينة قَالَ: سَمِعْنَاهُ مِنْ دَاوُدَ بْنِ شَابُورَ عَنْ أَبِي قَزْعَةَ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ أَبِي حَرْمَلَةَ «حرملة بن إياس» عَنْ أَبِي قَتَادَةَ.

قال عداب: وفي إسناده أبو حرملة هذا، اختلفوا في اسمه، أهو إياس بن حرملة، أم حرملة بن إياس، وهل حديثه مرفوع أم موقوف؟

وقال البخاريّ في التاريخ الكبير (3: 67): وهم، ولم يصحّ إسنادُه!

وقال الدارقطنيّ في أجوبته على سؤالات البرقانيّ (24): «لا يصح، وهو كثير الاضطراب، مرة يقول ذا، ومرة يقول ذا، لا يثبت».

وبهذا يبقى مدار حديث الباب على غيلان بن جرير.

وغيلان بن جرير من ثقات المحدّثين.

أمّا عبدالله بن معبد الزمّاني؛ فقد ترجمه ابن عديٍّ في كتاب الضعفاء (5: 372) وقال: «سمعتُ ابنَ حمّاد يقول: قال البُخارِيّ: عَبدُالله بن مَعبدٍ الزماني الأنصاري، يروي عَن أبي قتادة، لا يعرف له سماع من أبي قتادة» وساق ابن عديٍّ حديثَ الباب، ثم قال:

«وهذا الحديثُ؛ هو الحديث الذي أرادَ البُخارِيّ أنّ عَبدالله بن مَعبدٍ، لا يعرف له سماعٌ من أبي قتادة».

قال الفقير عداب: ليس للزّمانيّ هذا في الكتب الستّة، سوى هذا الحديثِ الواحد، وله رواية مقطوعةٌ عند مسلم (3030) على عبدالله بن عتبة المسعوديّ، في سبب نزول آية.

فيكون حكمي على الحديث؛ أنه حديثٌ فردٌّ مطلقٌ غريبٌ لا يُعرف إلّا من حديث عبدالله بن معبد الزمّاني عن أبي قتادةَ، تفرّد به عنه غيلان بن جرير.

وإسناده ضعيف؛ لأنه منقطعٌ، ولتفرّد هذا الزمّاني به، دون سائر أصحاب أبي قتادة المعروفين بالرواية عنه، ناهيك عن وجود إشكالات كثيرةٍ في متنه!

أمّا حديثُ أبي هريرة في نهي الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عن صيام يوم عرفة بعرَفة؛ فمداره على مهدي بن حربٍ العبديّ.

قال أحمد ابن حنبلٍ: لا أعرفه، وقال الذهبي في الميزان (4: 195): مجهول، فالحديث به ضعيف!

أمّا النهي عن صيام يومِ عرفةَ، إذا صادف يومَ السبتِ القادمِ؛ فقد ورد فيه حديث (لا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ، إِلَّا فِيمَا افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ.

فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا لِحَاءَ عِنَبَةٍ، أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ؛ فَلْيَمْضُغْهُ).

أخرج هذا الحديث جمع من المصنّفين، منهم أحمد ابن حنبل في مسنده (17686، 27075) والدارمي في سننه (1749) وابن ماجه في سننه (1726) وأبو داود في سننه (2421) وقال: هذا حديث منسوخ، والترمذي في جامعه (744) وقال: حديث حسن، وابن حبّان في صحيحه (3615).

أقول: صحّح هذا الحديثَ ابنُ السكن، وابن حبّان، والشيخ ناصر الأبانيّ، وحسّنه الترمذيّ، كما هو ظاهر.

بيد أنّ العلماء أعلّوه بالاضطراب، وقال مالك: هذا حديثٌ كذب!

وقد طوّل الإمام المزيّ في تحفة الأشراف في التحفة (4: 293) و (11: 344) و (12: 401) في توضيح هذا الاضطراب، فانظره.

وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (2: 469): قَالَ النَّسَائِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ.

وقال أيضاً: «هَذَا التَّلَوُّنَ فِي الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ بِالْإِسْنَادِ الْوَاحِدِ، مَعَ اتِّحَادِ الْمَخْرَجِ؛ يُوهِنُ رَاوِيَهُ، وَيُنْبِئُ بِقِلَّةِ ضَبْطِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْحُفَّاظِ الْمُكْثِرِينَ، الْمَعْرُوفِينَ بِجَمْعِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى قِلَّةِ ضَبْطِهِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ هُنَا كَذَا، بَلْ اُخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا عَلَى الرَّاوِي عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَيْضًا».

قال عداب: حديث النهي عن صيام يوم السبت؛ يحتاج تخريجاً نقديّاً خاصّاً، أرجو أن يتيسّر لي القيام به.

ويكفينا الآن قول النسائيّ: إنّه حديث مضطرب، وقول مالك: إنّه كذب!

ختاماً: يجوز صومُ يوم عرفةَ السبتَ المقبلَ للحاجّ وغير الحاجّ.

إنّما من دون اعتقاد أنّه يكفّر ذنوبَ سنةٍ أو سنتين، أو ذنوبَ يومٍ أو يومين.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

         مَسائل حديثية (101):

هل عذابُ القبر ثابت ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

مسألة عذابِ القبرِ ونعيمِه؛ من المسائلِ التي يجادلُ بها كثيرون، في أيّامنا هذه، وهذا ممّا أستغربه حقّاً؛ لأنّ على المؤمنِ أن يكونَ مستعدّاً لأيّ طارئٍ بعد الموت؛ لأنّ سعيَه الذاتيَّ قد انتهى بخروج روحه، فسواءٌ كان في القبر عذابٌ، أم كان العذاب بعدَ يوم الحساب؛ فهو إن لم ينجُ صائرٌ إلى العذاب!

وممّا يُستدلُّ به على وقوعِ العذابِ ببعضِ الظالمين في أثناء لحظات الموت وما بعده، قَولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:

)وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ، وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)[الأنفال: 51].

وَقَالَ تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ، وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ "} [الأنعام: 93].

وَقَالَ جلَّ وعلا فِي آلِ فِرْعَوْنَ: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر: 46].

قال البيهقيُّ في كتابه إثبات عذاب القبر (ص: 70): «حَكَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِضَرْبِ الْمَلَائِكَةِ وُجُوهَهَمْ وَأَدْبَارَهُمْ حِينَ تَتَوِفَّاهُمُ، وَإِنْ كُنَّا لَا نُشَاهِدُهُ.

وَبِمَا تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهُمْ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَسْمَعُهُ.

وَعَلَى آلِ فِرْعَوْنَ بِعَرْضِهِمْ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا، مَا دَامَتِ الدُّنْيَا، وَإِنْ كُنَّا لَا نَقِفُ عَلَيْهِ».

وسأقتصر في هذا المنشور على ذكرِ الإثبات العامّ لعذاب القبر، فأقول:

(1) أخرج البخاري في صحيحه (833) ومسلم في صحيحه (589) من حديث عائشةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا، وَفِتْنَةِ المَمَاتِ) الحديث.

وهذا الحديثُ من مشاهير حديثِ أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها رواه عنها عروة بن الزبير، ومسروق بن الأجدع، وأبو سلمة بن عبدالرحمن، وطاووس بن كيسان.

(2) وأخرج البخاريّ (2822) والترمذي (3567) من حديث سعدِ بن أبي وقاص أنّه كانَ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ الْكِتَابَةَ، وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُنَّ دُبُرَ الصَّلَاةِ:

اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ).

رواه عن سعدٍ عمرو بن ميمون الأودي ومصعب بن سعد بن أبي وقاص، وكلاهما ثقتان.

(3) وأخرج البخاريّ (2823) ومسلم (2706) من حديث أنس بن مالك قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ).

وهذا الحديث من مشاهير أحاديث أنس بن مالك، رواه عنه سليمان بن طرخان التيميّ، وعمرو بن ميسرة مولى المطّلب بن حنطب، وحميد بن أبي حميد، وقتادة بن دعامة السدوسيّ، وشعيب بن الحبحاب، وغيرهم.

(4) أخرج البخاريّ (1377) ومسلم (588) من حديث أبي هريرة قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ).

وهذا الحديث من مشاهير أحاديث أبي هريرة، رواه عنه أبو سلمةَ بن عبدالرحمن بن عوف، وعبدالرحمن بن هرمز الأعرج، وحميد بن عبدالرحمن بن عوف، ومحمد بن أبي عائشة، وطاوس بن كيسان، وغيرهم.

(5) وأخرج البخاريّ (1376) من حديث موسى بن عقبةَ عن أمة بنت خالد بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ؛ أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ (يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ).

وهذا حديث صحيح على شرط الشيخين، موسى بن عقبة إمام، وابنة خالدٍ صحابيّة رضي الله عنها.

هذه خمسةُ أحاديثَ نصّت على تعوّذ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من عذاب القبر.

فمن لا يكتفي بخمسةِ أحاديثَ لإثباتِ وجود عذابٍ في القبر، فلن يقتنع بسردِ سبعةٍ أو عشرة؛ لأنه يكون لديه رأيٌ مسبقٌ، أو عقيدةٌ مذهبيّة تقليديّة، والمسلمون أسرى المذهبيّة المفرّقةِ وللأسف!

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.  

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

الثلاثاء، 11 يونيو 2024

       التصوّف العليم (27):

هَلْ الصوفيّةُ جُهّال !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

قال لي عددٌ من الإخوةِ الأصدقاء على صفحة الفيسبوك: إنّ الصوفيّةَ قومٌ جهّالٌ، وهم يطيعون شيخَهم الجاهلَ أكثرَ بكثيرٍ من طاعتهم للعالم، ويعتقدون بشيخهم الجاهل من الولايةِ والكراماتِ والتأييد الغيبيّ؛ ما لا يعتقدونه بك أنتَ وبأمثالك من العلماء، فهل من سبيلٍ إلى إصلاح مثلِ هذا الفسادِ الفكريِّ لدى الصوفيّة؟) انتهى.

هذا كلام خطيرٌ، ينبغي تفكيكُه أوّلاً، ثم الإجابةُ عليه.

أوّلاً: شيوخ الصوفيّة جُهّال، وتلامذتهم يعتقدون بهم ويطيعونهم.

ثانياً: دراويش الصوفيّة جهّال، ويعتقدون بشيوخهم عقائدَ باطلةً غالية.

أقول وبالله التوفيق:

إنّ كلمة (الجهل) عندما تُطلق في دائرةِ الدين والتديّن؛ يرادُ بها أنّ المنتسبين إلى دوائرِ التصوّفِ ليسوا متخصصين بعلوم الشريعةِ الإسلاميّةِ، ولا يُرادُ بها أنّ الطريقةَ الصوفيّةَ الفلانيّة «شيخاً ومرشدين ومريدين» أُمّيين، لا يَعرفون من العلوم شيئاً.

فهذا باطلٌ من دون أدنى شكٍّ، إذْ في الطُرقِ الصوفيّة يوجد كثيرون يحملون درجة الدكتوراه في الطبّ والهندسةِ والقانونِ والإدارةِ، وشتّى التخصّصاتِ العلميّة الدائرةِ في المجتمعات الإسلامية.

وليس هذا فحسب، بل في دوائر الصوفيّة نوّابٌ ووزراءُ وقضاةٌ وقادةُ جيوش!

فمن الباطلِ الأكيدِ مجرّدُ الظنّ بأنّ كلمة (الصوفيّة جهّال) تعني خلوّهم من ثقافة عصرهم.

أمّا عن جهلِ شيوخِ الصوفيّةِ بعلوم الدين؛ فهذا أمرٌ نسبيٌّ أيضاً، وربما يوجَد لدى قلّةٍ قليلةٍ من شيوخِ التكايا الصوفيّة التابعةِ للطريقةِ العامّة.

ففي بلادنا (سوريا والعراق) دراساتٌ دينيّة نظاميّةٌ في الجامعاتِ، ودراسات دينيّة أهليّة متوارثة، يخضع لها طالبُ العلمِ سنواتٍ عديدةً، حتى يحصل على ما يُدعى (الإجازةَ العلميّة).

وشيوخي في التصوّف على حسب الترتيب الزماني:

الشيخ عبدالقادر عيسى الشاذليّ (إجازة جامعية + إجازة علمية).

الشيخ محمّد الحامد النقشبنديّ (ماجستير علوم إسلامية وقضاء + إجازة علمية).

الشيخ محمّد علي المراد النقشبنديّ (ماجستير علوم إسلامية وقضاء + إجازة علمية).

الشيخ محمود الشقفة الرفاعي (إجازة علميّة). 

الشيخ محمد الحافظ بن عبداللطيف سالم التجاني (إجازة علمية).

الشيخ علي أبو زيد الرفاعيّ (إجازة علمية).

الشيخ حاتم الدليميّ الرفاعيّ (إجازة علميّة).

الشيخ فَهد الشمّري الراوي (إجازة علميّة).

الشيخ (محمد أمين) بن زيد الجيلاني مفتي مدينة السلط (شهادة أزهرية + إجازة علمية).

الشيخ وحيد الدين البريفكانيّ القادريّ (إجازة علمية).

الشيخ محمّد عبدالكريم الكسنزان القادريّ (إجازة علميّة) رضي الله عنهم أجمعين.

وأنا ما زلتُ على التزامي بشيخي محمّد المحمّد، مؤمناً بصلاحِه وولايتِه، ولا أزكّيه على الله تعالى. 

ونحن عندما نقول: (الإجازة العلمية) فإنما نعني بها إجازةً بالعقائدِ الإسلامية والفقه الإسلاميّ، في الحدّ الأدنى.

فالقولُ بأنّ شيوخَ التصوّف جهّالٌ - بهذا الإطلاق - ظلمٌ، وإنْ قُصِدَ به عدمُ حصولهم على أعلى مراتب الدرس والبحث العلميّ؛ فهذا يَصدق على بعضهم، لكنّه ليس عائقاً أمامَ حصولِهم على مرتبةِ (المشيخةِ في التصوّف).

لأنّ الصوفيَّ يحتاجُ من العلم في سلوكِه إلى الله تعالى: مَعرفةَ الحلال والحرام، ومعرفة أحكام الطهارةِ والصلواتِ الخمسِ والصيامِ، ويحتاج إلى معرفة أحكام الزكاةِ إنْ كان من أهل المال، وعندما يعزم على الحجّ؛ يحتاجُ معرفة أساسيّات الحجّ.

وما وراءَ ذلك فإنّ الصوفيّ يتلقّى أحكامَ الأخلاق والسلوكِ الصوفيّ تطبيقيّاً وعمليّاً، وهذا أبلغُ من التلقّي النظريّ السماعي.

بيد أنّ العلمَ الدينيّ الصحيح المنقول؛ أصلُ العملِ الروحيّ والنوارانيّ لدى الدرويش السالك، وكلّما ازداد الدرويش علماً؛ كان عمله أقربَ إلى الصواب، وصدر عن معرفةٍ صحيحةٍ بأنّه من هدي الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

قال الله تعالى:

(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ.

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً (83).

(قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).

وممّا يدلُّ على اهتمامِ شيوخِ التصوّف بتعليمِ مريديهم، وتزويدهم بالمعارفِ العلميّة الدينيّة أمران:

الأمر الأوّل: أنّ جميع مشايخ بغدادَ كانوا يدعونني إلى إلقاءِ محاضراتٍ ومواعظَ في (تكاياهم) لا أستثني أحداً منهم على الإطلاق.

والأمر الثاني: توجيههم عدداً من مريدهم إلى دراسةِ الشريعةِ الإسلامية والتخصص بها، حتى إنّ سفيانَ بن شيخنا حاتم الرفاعي حصل على درجة الدكتوراه في الشريعةِ الإسلاميّة - تخصّص الفقه المقارن.

والأمر الثالث: عَقْد الدورات العلمية التي قد تصل إلى ستّةِ أشهر، يُدَرَّسُ فيها الدراويشُ ستَّ ساعاتٍ يوميّاً.

وطريقتنا (الكسنزانيّة) عقدت للمريدين أربعَ دوراتٍ علميّةً فيما مضى، وسنمضي في الدورة العلمية الخامسة، بعد عيد الأضحى المبارك مباشرةً، بإذن الله تبارك وتعالى.

والله تعالى أعلم.

    والحمد لله على كلّ حال.

الأحد، 9 يونيو 2024

 مَسائِلُ مِن الفِقْهِ والأُصولِ (21):

الشهادةُ الثالثةُ في الأذان

بين الابتداعِ والاتّباع!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

قال لي صاحبي: بصفتكَ محدّثاً تزعم أنّك من أعلم الخلقِ بالرواياتِ، وبصفتك  غدوتَ شيعيّاً، تركتَ مذهبَ آبائك وأجدادك وراء ظهرك، هل لديك في مذهبك الجديد رواياتٌ صحيحةٌ تُجيزُ أن نقول في شعيرةِ الأذان: أشهدُ أنّ عليّاً وليّ الله، أشهد أنّ عليّاً وأولادَه المعصومينَ حُججُ اللهِ؟

وهل يجوزُ نَصْبُ خلافٍ جديدٍ بين السنّة والشيعةِ، قد تُزْهَقُ بسببه أرواحٌ بريئةٌ بين الطرفين؟

أقول وبالله التوفيق.

لستُ أدري من أن يأتي بعضُ الناس بمعلوماتٍ عنّي، أنا لا أعرفها!

أوّلاً: أنا لست سُنيّاً، فأنا أخالف أهل السنّةِ في كثيرٍ ممّا هم عليه مجمعون!

وأنا لست شيعيّاً زيديّاً ولا إماميّاً ولا إسماعيليّاً، فأنا أخالف هذه الفرق الثلاثةَ في كثيرٍ ممّا هم عليه يختلفون!

ولو كنتُ شيعيّاً - جدلاً - فلن أكون شيعيّاً إماميّاً بحالٍ من الإحوال، وربما كنت زيديّاً، فالمذهب الزيديّ أفضل مذاهب الشيعة عندي بيقين!

وقولُ هذا الصَديق: تركتَ مذهبَ آبائك وأجدادك؛ صحيحٌ، فقد تركتُ مِن مذهبِ آبائي وأجدادي ما أراه تقليداً محضاً، واتّباعاً للسوادِ الأعظم، الذي لم يُحْمَدْ ولم يُمدَحْ في القرآن الكريم أبداً!

ثانياً: إنّ الفرق الإسلاميّة الثلاثَ الكبرى؛ حقيقةٌ قائمةٌ واقعةٌ، لا يلغيها عدمُ اعترافي بشرعيتها، أو بصوابها، أو بأحقّيتها.

وإذْ هي موجودة؛ فلا بدَّ من الرجوعِ إلى مصادرها، لمعرفة ما تقول هي تجاهَ مسألةٍ خلافيّةٍ مطروحة!

ثالثاً: في تهذيب الأحكام (1: 206) الأذان (الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهدُ أن محمّداً رسول الله.

حيَّ على الصلاةِ، حيَّ على الصلاةِ، حيَّ على الفلاحِ، حيَّ على الفلاحِ، حيَّ على خيرِ العَملِ، حيَّ على خير العمل، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله).

وهو كذلك في الاستبصار (1: 306) وفي من لا يحضره الفقيه (1: 290).

وقال هنا: (وقال مصنف هذا الكتاب رحمه الله: هذا هو الأذان الصحيح، لا يُزاد فيه ولا ينقص منه، والمفوّضةُ لعنهم اللهُ قد وضعوا أخباراً، وزادوا في الاذان: (محمد وآل محمد خير البرية) مرتين. وفي بعض رواياتهم، بعد أشهد أن محمداً رسول الله: (أشهد أن عليّاً وليُّ الله) مرتين، ومنهم من روى بدل ذلك: (أشهد أنّ عليّاً أمير المؤمنين حقاً) مرتين.

ولا شكَّ في أنّ عليّاً وليّ الله، وأنّه أميرُ المؤمنين حقّاً، وأن محمدا وآله صلوات الله عليهم خير البرية، ولكنْ ليس ذلك في أصل الأذان، وإنما ذكرت ذلك ليعرف بهذه الزيادة المتهمون بالتفويض، المدلسون أنفسهم في جملتنا) انتهى كلامُ الصدوق.

وأنا أقول ما قال الصدوق، رحمه الله تعالى: إنّ عليّاً عليه السلام وليّ الله تعالى، وولايته حقٌّ له في عنق كلِّ مسلم!

رابعاً: إذا كان الصدوق عدّ زيادةَ الشهادةِ الثالثةِ في الأذان بدعةً، ولَعَنَ مبتدعيها؛ فكيف يجوزُ لمسلمٍ أنْ يُلزم الناسَ بهذه البدعةِ ذاتها، بالقوّةِ والتهديدِ والوعيد؟

وما يذكره مراجع الشيعةِ في تسويغ هذه البدعةِ؛ إنما هو تسويغٌ عقليٌّ هدفه تكريس الطائفيّة والمذهبيّة، ولو بتكثير البدع والمحدثات، وما أكثرها لدى الإماميّة، من قبيل التحسين العقليّ.

خامساً: لا يجوزُ إلزامُ الناسِ بمحدَثٍ قال العلماءُ الكبارُ: إنّه بدعة، مهما كانت الأسباب السياسيةُ الدافعة إلى ذلك، وفاعلُ ذلك يتحمّل إثمَ وتبعةَ ما ينتج عن إكراه الناسِ على هذه البدعة، من حزَنٍ وألَمٍ وخِصامٍ واحترابٍ.

سادساً: لا يجوزُ تغييرُ مثلِ هذه البدعةِ بالقوّةِ، ولا يحلُّ لمن لا يراها مشروعةً؛ أنْ يؤجّج الصراعَ بين أفراد الشعبِ في الوطن الواحد، ولا يجوز إراقةُ محجمةِ دمٍ واحدةٍ في معارضةِ هذه البدعة؛ لأنها ليست بدعةَ ضلالةٍ، مخالفةً لمقرّراتِ الإسلام.

الإمامُ عليٌّ وليّ الله تعالى، ومَن لا يراه وليّاً لله تعالى؛ فليس من أمّة الإسلام.

وما دام الإمام عليٌّ وليّاً لله تعالى؛ فعلينا أن نُنْكِرَ إضافةَ هذه الجملةِ في شعيرةِ الأذانِ بالحسنى وحسب؛ لأنّ درء المفسدةِ؛ مقدّم على جلب المصلحةِ، ولا مفسدةَ اجتماعيّةً أكبرُ من أن يتنازع المسلمون ويتقاتلوا.

خِتاماً: زمانُ مظلوميّة الشيعةِ قد ولّى، فالشيعة اليومَ يحكمون إيرانَ والعراقَ وسوريّا واليمنَ ولبنانَ، وبدلاً من إكراهِ الناسِ على بدعةٍ أو بِدَعٍ؛ عليهم أنْ يخفّفوا من بدعهم التي تكادُ تخيّم على صفاءِ الإسلامِ، وتكادُ تغلبُ الثوابت!

وعليهم قبلَ ذلك وبعدَه أن يراعوا ترتيبَ الأولويّاتِ، وأُولى وأَوْلَى هذه الأولويّات هي تحبيبُ آل البيتِ عليهم السلام إلى الناس، وأوّلُ وسيلةٍ من وسائلِ تحبيب آل البيت إلى الناس؛ الاقتصارُ على هديِ آل البيتِ الثابتِ الصحيحِ، والابتعادُ التامّ عن ثقافة (بحار الأنوار) الفاسدة الضالّةِ المُضلّة!

ولا أدلّ على ضلال معلوماتِ (البحار) من حكم العلّامةِ الشيخ آصف محسني على (97%) من رواياتِ البحار بالضعف والنكارة والكذب!

أفيجوزُ في دين الإسلامِ طباعةُ مثل هذا الكتاب، فضلاً عن عدّه من أعظم كتب الإسلام، وتزيين باطله لدى عامّة الشيعة الإماميّة؟

اتّقوا الله تعالى يا مراجعَ الشيعةِ!

علّموا الشيعةَ الحقَّ والصوابَ؛ لأنّه حقّ وصوابٌ، وليس من أجلِ الغلبةِ والاحتراب!

والله المستعان

والحمد لله على كلّ حال. 

السبت، 8 يونيو 2024

      التصوّف العليم (26):

ثَروَةُ السادة الكسنزانِ الهائلة !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

عددٌ من الإخوةِ انفتحت شهيّتهم لانتقادِ الطريقةِ الكسنزانيّة، بعد أنْ علموا أنني الآنَ ضيفٍ على التكيةِ الكسنزانيّة في السليمانيّة، حتى إنّني قرأتُ لعددٍ منهم اتّهاماتٍ ماليّةً للطريقةِ وشيخِها الحاضر.

أقولُ وبالله التوفيق:

إذا عرفتَ أنّ الشيخ صالح بن عبدالله كامل رحمه الله تعالى موسر غنيٌّ؛ لا تتشنّج!

إذا عرفتَ أنّ الشيخ عبدالله المطوّع القناعيّ رحمه الله تعالى موسر غنيٌّ؛ لا تتشنّج!

إذا عرفتَ أنّ الشيخ الراجحي، أو الشيخ با سنبل، أو الشيخ با خيل أغنياء؛ فلا تتشنّج!

لماذا إذا عرفتَ عالماً موسراً، أو صوفيّاً غنيّاً تتشنّج؟

أنا والله لا أعرفُ إنْ كان السيّد الشيخ «محمّد نهرو» الكسنزان غنيّاً، أم مليونيراً، أم مليارديراً، أمْ كان مثلي، لا يملك شيئاً!

ولا أرى من الأدبِ، ولا من اللباقةِ، ولا من حقّي الشخصيِّ أن أسأَله مجرّد سؤالٍ عن ماليّته، بعد أن أتذكّر قول الله تعالى:

(اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاع).

(وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ؛ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ، إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ).    

حكمةُ الله تعالى اقتضتْ أن يكون عدابٌ فقيراً، لا يملك من هذه الدنيا قليلاً ولا كثيراً، والحكمة المقدسة ذاتها اقتضت أن يكون الشيخ صالح كامل رحمه الله تعالى مليونيراً!

ربما لو أعطاني الله تعالى مليونَ دولارٍ؛ لما احتمل عقلي وجودَ هذا المبلغ بين يديّ، وربما أنفقته بسنةٍ واحدة، من دون خبرةٍ استثماريّة، ولا كبيرِ نفعٍ للأمة!

بيد أنّ الذي حدّثني به شيخي السيّد محمّد الكسنزان، رضي الله عنه، أنّه عندما قرّر النزولَ إلى بغدادَ والمقامَ بها؛ لم يكن يملك من المالِ ما يشتري به سكناً يؤويه وعائلتَه؛ وأنّ «الدراويش» هم الذين اشتروا قطعةَ الأرض في بغداد، وبنوها بسواعدهم!

وهذا يعني أنّ الشيخ محمّد الكسنزان، في عام (1988) لم يكن يملك إلّا ميراثاً من الأرض، وبيتاً في كركوك، ورثه عن والده السيّد الشيخ عبدالكريم الكسنزان، رحمه الله تعالى.

السيّد محمد الكسنزان - كما يعلم جميع دراويشه وخلفائه - كان أميرَ الفرسان في كردستان العراق، وهذا يعني أنّه كان سياسيّاً، وليس شيخَ طريقةٍ صوفيّة فحسب!

ولا أرى من الجنايةِ عليه أن أقول: إنّ (السيّد محمد الكسنزان) زعيم دينيّ صوفيّ سياسيّ.

ولا يخفى على أحدٍ أنّ المنتسبَ إلى أيّ حزبٍ من الأحزاب، يجد مصلحتَه فيه؛ يدفع اشتراكاً شهريّاً لإدارة الحزب، في مقابل حمايته، ومراعاة مصلحتِه الاجتماعية والمالية والسياسيّة.

فلو نحن عددنا الطريقةَ القادرية الكسنزانيّة طريقة صوفيّة اجتماعيّة وسياسيّة، ووجدنا دراويشَ الطريقةِ وخلفاءها مقتنعين تماماً بزعامة السيّد الشيخ محمّد بن عبدالكريم الكسنزان؛ فهم لن يجدوا أدنى حرجٍ فيما لو فرضَ حضرةُ والدهم وشيخهم على كلّ فردٍ منتمٍ إلى هذه الطريقةِ (دولاراً) أمريكيّاً واحداً في الشهر!

هل ترون مثلَ هذا مرفوضاً عرفاً أو شرعاً؟

لا أظنّ أحداً يرى ذلك شاذّاً أو منبوذاً، فجميع الأحزاب السياسية والنوادي الاجتماعيّة والنقابات المهنيّة؛ تفرض رسوماً شهريّة على عناصرها، ولنعدّ الطريقةَ الكسنزانيّةَ تنهج المنهج ذاته!

والسادة الكسنزان في عام (1996) قدّروا أعدادهم في العراق وحده بخمسة ملايين مريدٍ، بين خليفةٍ ودرويشٍ ومريد!

فلو افترضنا أنّ (80%) من المنتسبين إلى الطريقة الكسنزانية فقراء مُعدِمين، لا يقدرون على دفع دولارٍ واحدٍ في الشهر، فيبقى مليونُ خليفةٍ ودرويشٍ يَقدرون على دفعِ مليونَ دولارً لإدارة الطريقةِ في كلّ شهرٍ، من دون أن يؤثّر ذلك على ماليّةِ المنتسبينَ ومعاشِهم!

أنا لم أسأل شيخنا المنتقلَ إلى رحمةِ الله تعالى شيئاً من هذه الأسئلةِ بتاتاً!

بيد أنني كنتُ أرى بعينيّ (الخليفةَ) رئيس التكيةِ في البصرة أو الموصلِ أو كركوك، يدخل إلى التكيةِ الكسنزانيّة في نفقِ الشرطة ببغدادَ، حاملاً «جونيّة نقود» يرميها بجانب حضرة الشيخ، ثم يقبّل قدَمَه، ثمّ يجلس خاشعاً مؤدّباً بين يديه!

وهذا يعني أنّ دراويش الكسنزان يقدّمون إلى شيخهم اشتراكاتٍ شهريّةً أو دوريّةً، وإنْ كنت لا أعلم عن تفاصيلها شيئاً.

والسؤال الآن: هل ينفق حضرةُ الشيخِ على نفسه وأسرته والتكيةِ الرئيسةِ في بغداد مليونَ دولار في الشهرِ؟

قطعاً هو لا يفعل ذلك!

فكيف لو نحن قدّرنا عدد أتباع الطريقةِ الكسنزانيّةِ بعشرين مليون نسمةٍ، أو خمسين مليون نسمة في العالم مثلاً؟

أرجو أن يكون بياني هذا واضحاً، في أنّ تمويلَ الطريقةِ الكسنزانيّة ذاتيٌّ (1000%) ولا يجوز أن يتطرّق الشكُّ وسوءُ الظنِّ إلى عقول وقلوبِ المسلمين، تجاهَ إخوانهم المسلمين (الكسنزان) أبداً.

هذه شهادتي المبنيّة على خبرةٍ قريبةٍ يسيرة (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ).

والله تعالى أعلم.

والحمدُ لله على كلّ حال.

 مَسائِلُ مِن الفِقْهِ والأُصولِ (20):

تَكبيراتُ العيدين؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

كتب إليّ أحدُ الإخوةِ من الجزائر يقول: «درجنا في الجزائر أن نكبّرَ صباحَ العيد جماعةً بهذه الصيغة: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله.. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.. لا حول ولا قوّةَ إلّا بالله) وهكذا إلى أن نقوم إلى الصلاة.

في هذا العام جاءنا إمام، زعم أنّ السنّة في صيغة التكبير؛ كما في بلاد الحرمين.

أفيدونا بما صحّ في هذه المسألة، ولكم الأجر» انتهى كلامه.

أقول وبالله التوفيق:

قال الله تبارك وتعالى:

(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

(لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا، وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ.

كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ، لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ، وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِين).

الآيةُ الكريمة الأولى تتحدّث عن تكبيراتِ ليلةِ عيدِ الفطرِ.

والآية الثانية تتحدّث عن تكبيرات عيد الأضحى وأيّام التشريق.

ولا يخفى على طلبةِ العلمِ؛ أنّ العلماءَ من الصحابةِ فمن بعدهم؛ اختلفوا في عدد تكبيراتِ خطبةِ العيدِ، واختلفوا في عدد تكبيراتِ صلاة العيد، مع اتّفاق جميعهم على أنّ صيغة التكبير واحدة (الله أكبر).

وإذْ إنّ الأمّة مذهبيّةٌ ضرورةً؛ فلست في حاجةٍ إلى عرضِ مذاهب العلماءِ فيما تقدّم، ولا في ترجيح بعضها على بعض.

وَقَدْ ذَكَرَ الإمامُ الْعَيْنِيُّ في كتابه «البُنايةُ في شرح كتاب الهداية» (2: 867) تِسْعَةَ عَشَرَ قَوْلاً فِي عَدَدِ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ، وَقَال: «الاِخْتِلاَفُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ كُلّ ذَلِكَ فَعَلَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأْحْوَال الْمُخْتَلِفَةِ، بمعنى أَنَّ كُلّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَوَى قَوْلَهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُل وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ رَوَى قَوْلَهُ عَنْ صَحَابِيٍّ».

وإذْ لا توقيفَ في ذلك عن الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فلا أحبُّ للمسلمِ أن يخالِفَ أهل بلدِه فيما اختاروه من صيغٍ للتكبيرات المسنونةِ أو المندوبة، قبلَ صلاةِ العيد.

  ففي الجزائر يقولون:

(سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله.. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.. لا حول ولا قوّةَ إلّا بالله) فليقلِ الجزائريُّ مثلَ ما يقوله قومُه في الجزائر.

وفي سوريا يقولون:

(الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلّا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.

اللهُ أكبرُ كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله وبحمده بكرةً وأصيلاً، وتعالى الله جبّاراً قديراً، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آلِه وسلَّم تسليماً كثيراً).

فلا حَرَجَ عليك - أخي المسلم - أنْ تُكبّرَ بأيّ صيغةٍ ما دام (اللهُ أكبر) موجوداً فيها.

بيد أنني لا أحبُّ الخلافَ في المندوباتِ، وأفضّل أن تلتزم بالصيغةِ التي يُكبّر بها المسجدُ أو الموضعُ الذي تصلّي العيدَ فيه.

والله تعالى أعلم.

والحمدُ لله على كلّ حال.

الجمعة، 7 يونيو 2024

       التصوّف العليم (25):

الصلاةُ الوصفيّة عند السادة الكسنزانيّة!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

اعتراضاتُ الناسِ على الطريقةِ الكسنزانيّة؛ كثيرةٌ، ومتنوّعةٌ، ومتعارضةٌ في أحيايين كثيرةٍ، فهذا يعترضُ على ضربِ الدفِّ مطلقاً، وذاك يعترض على ضرب الدفِّ مع ذكر الله تعالى، وذاك يجوّزه مع المديح والنشيد!

وذاك يصف شيخ الطريقة بابتداع صلواتٍ على الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وفي هذا المنشور؛ سأشرح وجهةَ نظر السادةِ الكسنزان في (ابتكارِ) الصلاة الوصفيّة المعتمدة لديهم شعاراً للطريقةِ، فأقول وبالله التوفيق:

من المقطوع به لدى السادةِ الكسنزان وغيرهم من الصوفيّة (السُنيّة) أنّ الصلاةَ على الرسولِ في التشهّدِ الأخير؛ هي الصلواتُ الإبراهيميّة الواردةُ في حديثِ كعبِ بنِ عُجرةَ أنّ الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم علّم الصحابة كيفيّة الصلاة عليه، فقال: (قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) أخرجه البخاري (3370) ومسلم (406) وهو مرويّ عن عددٍ من الصحابة.

وأهلُ السنّة أجمعون «الصوفية وغيرهم» يختصرون الصلوات الإبراهيمية، ويقتصرون خارجَ الصلاةِ على جُزءٍ منها، فيقولون: (صلّى الله عليه وسلّم) فإذا أرادوا أنْ يصلّوا على الآل؛ حشروا معهم الصحابةَ على طول الخطّ (صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم).

فأهل السنّة بعملهم هذا؛ أجازوا الاقتصارَ على بعضِ الصلوات الإبراهيمية المأثورة، وأجازوا الزيادةَ عليها.

وما داموا قد جوّزوا ذلك - بأيّ تأويلٍ لديهم - فليس من حقِّهم الاعتراضُ على السادةِ الكسنزان أن يُنقصوا من الصلواتِ الإبراهيميّة، أو يزيدوا عليها؛ لأنهم مشتركون بهذا التجويز!

على أنَّ أهلَ السنّةِ أجمعين - ومنهم السادة الكسنزان - لا يَستعملون صيغةً للصلاة والسلام على الرسولِ، ثابتةً في صحيح البخاريّ (3369) وصحيح مسلمٍ (407) من حديثِ أبي حُميدٍ الساعديّ أنّ الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ.

وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيد) لأنّ أهلَ السنّة درجوا في تاريخهم كلّه على عدمِ تخصيص ذريّة الرسولِ بأيّ امتياز!

وإذْ كنتُ أعرف دوافعَ أهلِ السنّة المعاصرينَ لنا؛ فإنني لا أفْهَم لماذا يعرضُ السادةُ الصوفية - ومنهم السادةُ الكسنزان - عن هذه الصيغة الصحيحة المباركة؟

وقِصّةُ الصلاةِ الوصفيّة الكسنزانيّة؛ بدأت معي أنا الفقير عداب!

ذاتَ ليلةٍ من ليالي الجمعةِ، من عام (1996) وبعد انتهاء مجلسِ الذكر العام؛ قال لي حضرةُ الشيخ محمّد بن عبدالكريم الكسنزان، رضي الله عنهما: يا سيّد بُلّغتُ بصيغةِ صلاةٍ على جدّك الرسول، هي (اللهم صلّ على سيّدنا محمّدٍ الوصفِ والوحيِ والرسالةِ والحكمة، وعلى آله وصحبه وسلِّمْ تسليماً) فيا ليت تَشرحُ للدراويشِ هذه الصيغةَ غداً في خُطبةِ الجمعة.

نظرتُ في هذه الصلاة الوصفيّة؛ فوجدتها شطرين:

الشطر الأوّل: متّفق عليه بين أهلِ السنة أجمعين:  (اللهم صلّ على سيّدنا محمّدٍ، وعلى آله وصحبه وسلِّمْ تسليماً) ما عدا الذين يتوقّفون عند لفظة التسويد.

والشطر الثاني: (الوصفِ والوحيِ والرسالةِ والحكمة) صفاتُ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:

- صاحب الوصفِ الأسمى (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

- (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَي).

- (يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

- (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ).

فشرحتُ الصلاةَ الوصفيّةَ هذه، في أربعِ خُطَبِ جمعةٍ متوالياتٍ، جمعتُ فيها ما فتح الله تعالى به عليّ من كمالاتِ سيّدنا رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم غدت هذه الصيغةُ شعارَ الكسنزانِ منذ ذلك التاريخِ وإلى يومنا هذا.

هذه هي الصلاةُ الوصفيّة، وهي متّفقةٌ تماماً مع المتداوَلِ لدى أهل السنّة أجمعين (اللهم صلّ على سيّدنا محمّدٍ، وعلى آله وصحبه وسلِّمْ تسليماً) مع إضافةِ تعظيمٍ وتكريمٍ مشروعَيْن تجاه الرسولِ الأعظم.

والسادة الكسنزان لا يقتصرون على الصلاة الوصفيّة أبداً، وليست هي بديلَ الصلاةِ المتداولة بين أهلِ السنّة، بل وليست هي صيغةَ الورد اليوميّ من الصلاة على الرسولِ، إنّما صيغةُ الورد اليوميّ لديهم:

(لا إله إلّا الله - محمد رسول الله - صلّى الله تعالى عليه وسلّم).

وأنا أقترح على السادةِ الكسنزان أنْ يجعلوا وِردهم من الصلاةِ على الرسول، هذه الصيغةَ المباركةَ الجامعة: (اللهم صلّ وسلّم وبارك على محمّد وآله وأزواجه وذريّته).

والله تعالى أعلم.

والحمد لله ربّ العالمين.

السبت، 1 يونيو 2024

     التصوّف العليم (24):

سُجودُ المُريدِ الصوفيّ لشيخِه!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

يُثير بعضُ الناسِ إشكالاتٍ على بعضِ السادةِ الصوفيّة، ومن أبرز هذه الإشكالاتِ؛ سجودُ المريدين لشيخهم!

وأعترف ابتداءً أنّ من الفقهاء الكبارِ القدامى مَنْ لم يفرّق بين المظهر الشركيّ «السجود لغير الله تعالى بقصد التحيّة والتعظيم» وبين الشرك نفسِه «السجود لغير الله تعالى بقصد العبادة»وعدّوا ذلك كلَّه شركاً، وأخرجوا فاعله من الملّة، سواءٌ كانت نيّته عبادَةَ المَسجودِ له، أم كانت نيّته تحيّةَ المسجود له وإكرامَه، وعلى هذا كثيرٌ من علماءِ السادةِ الحنفيّة!

بيد أنّ في هذا الإطلاقِ نظراً كبيراً، هذا بيانُه:

قال الذهبيّ في معجم شيوخه (1: 73): «أَلا تَرَى الصَّحَابَةَ فِي فَرْطِ حُبِّهِمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: أَلا نَسْجُدُ لَكَ؟ فَقَالَ: «لا»!

فَلَوْ أَذِنَ لَهُمْ؛ لَسَجَدُوا لَهُ سَجُودَ إِجْلالٍ وَتَوْقِيرٍ، لا سجود عبادة، كما سجد إخوةُ يوسفَ عليه السلام ليوسفَ

وكذلك القول في سجود المسلم لقبر النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التعظيم والتبجيلِ؛ لا يكفر به أصلاً، بل يكون عاصياً، فليُعرَفْ أنّ هذا مَنهيٌّ عنه، وكذلك الصلاةُ إلى القبر» انتهى كلام الذهبيّ.

قال الشوكاني في السيل الجرار: «اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام، ودخوله في الكفر؛ لا ينبغي لمسلمٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أَن يُقْدِم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار.

فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشر، لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام، ولا اعتبار بصدورِ فِعْلٍ كُفريٍّ لم يرد به فاعله الخروجَ عن الإسلام إلى ملة الكفر.

وأما قوله: «ومنها السجود لغير الله» فلا بد مِن تقييدِه بأن يكون سجودُه هذا قاصداً رُبوبيّةَ مَن سَجَدَ له، فإنّه بهذا السجود قد أشرك باللهِ عزّ وجلَّ، وأثبت معه إلهاً آخر.

وأما إذا لم يَقْصِدْ إلا مُجرَّدَ التَعظيمِ، كما يَقعُ كثيراً لمن دَخل على مُلوكِ الأعاجمِ؛ أنه يُقبّل الأرض تعظيماً له؛ فليس هذا من الكفر في شيء، وقد علم كل من كان من الأعلام أن التكفير بالإلزام من أعظم مزالق الأقدام» انتهى.

وقال البجيرمي في تحفة الحبيب: مجرد السجود بين يدي المشايخ لا يقتضي تعظيم الشيخِ كتعظيم الله عز وجل، بحيث يكون معبوداً، والكفر إنما يكون إذا قصد ذلك.

وقال الرملي في نهاية المحتاج: قال ابن الصلاح: ما يفعله عوام الفقراء من السجود بين يدي المشايخ فهو من العظائم، ولو كان بطهارة وإلى القبلة، وأخشى أن يكون كفراً. انتهى.

وعلق على ذلك الشرواني في حاشيته على تحفة المحتاج فقال: إنما قال ذلك ولم يجعله كفراً حقيقة؛ لأن مجرد السجود بين يدي المشايخ لا يقتضي تعظيم الشيخ كتعظيم الله عز وجل بحيث يكون معبوداً، والكفر إنما يكون إذا قصد ذلك. انتهى.

وقال النووي في المجموع وفي الروضة: ما يفعله كثير من الجهلة من السجود بين يدي المشايخ حرامٌ قطعاً بكل حال سواء كان إلى القبلة أو غيرها»

ختاماً: أجمع علماءُ أهل السنّة على أنّ السجودَ لمخلوقٍ بقصدِ العبادَةِ؛ يُخرج فاعلَه من الإسلام.

وأجمعوا على أنّ الساجدَ لمخلوقٍ بقصدِ تحيّته وتعظيمه بما دون العبادةِ؛ قد ارتكب معصيةً من المعاصي، وفعلاً من المحرّمات.

فأنهى إخواني من الصوفيّةِ السالكينَ إلى الله تعالى عن ارتكابِ هذه المعصيةِ في حقِّ وليٍّ صالحٍ مُتوفّىً، أو في حقّ عالمٍ أو مرشدٍ أو شيخِ الطريق؛ فإنّ المعاصي أكبرُ العوائقِ في الوصولِ إلى مرضاة الله تعالى.

والله تعالى أعلم

والحمد لله على كلّ حال.