الأحد، 30 أكتوبر 2022

 أفراد الإمام البخاريّ (5):

النَهيُ عن رفعِ الصوتِ في المسجِدِ !؟

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

بإسنادي إلى الإمام البخاريّ في الصلاة، بابُ رَفْعِ الصَّوْتِ في الْمَسَاجِدِ (470) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنا عَليُّ بْنُ عَبْدِاللهِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْجُعَيْدُ بنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَني يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنْتُ قَائِماً في الْمَسْجِدِ، فَحَصَبَني رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَأْتِني بِهذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا.

قَالَ: مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ - أَوْ: مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ - قَالاَ: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ!

 قَالَ عُمَر: «لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ؛ لأَوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا في مَسْجِدِ رَسُولِ الله e» !؟([1]).

مَدارُ حديثِ عمر رضي الله عنه في البابِ على يحيى بن سعيد القطان، رواه عنه:

عبيدالله بن عمر الجُشَمي عند البيهقي (20052).

وعلي بن عبدالله المديني عند البخاري (470) والبيهقي (4143).

وقد أخرج الحديثَ الزبيرُ بن بكّار في كتاب «المدينة» من حديث عبدالعزيز بن محمّد الدراورديّ عن الجعيد بن عبدالرحمن، والمفترضُ أن نرفع المدار إلى الجعيد!

بيد أنّ في الإسناد محمد بن الحسن بن زبالَة، اتُّهم بالكذب ووضع الحديث، فلا قيمةَ لروايته، وانظر في ترجمته الكامل لابن عديّ (7: 372) وتقريب التهذيب (5815).

والجعيد بن عبدالرحمن - واسمه جعد - ثقة، كما في تقريب التهذيب (925).

ويزيد بن عبدالله بن خُصَيفة الكندي، المدني، وقد ينسب إلى جَدّه.

لم يترجمه الذهبي في الميزان، ولخّص حاله في الكاشف (6326) فقال: «ثقة ناسكٌ،  وأمّا أحمد فقال: منكر الحديث».

وترجمه ابن حجر في تهذيبه (9022) ونقل توثيق جماعة من النقاد له، منهم: ابن معين وابن سعد، وقولَ أحمد: منكر الحديث. ولخّص حاله في التقريب (7738) فقال: «ثقة».

وقال ابن حجر في الهدي (ص: 453): «هذه اللفظة (منكر الحديث) يطلقها أحمد على من يُغرب على أقرانه بالحديث، عُرف ذلك بالاستقراء من حاله، وقد احتجّ بابن خُصيفة مالكٌ والأئمة كلُّهم».

قال عداب: هذا الكلام ليس على إطلاقه، لكن يزيدَ ثقةٌ هنا ؛ لأنّ الأثرم روى عن أحمد أنه قال في يزيد ابن خصيفة: ثقة، وانظر ترجمته في تهذيب الكمال (33: 172).

الحكم على إسناد الأثر:

أثر عمر في الباب؛ لم يروه عنه سوى السائب بن يزيد، ولم يروه عن السائب، سوى يَزِيدَ بْنِ عبداللهِ بنِ خُصَيْفَةَ، ولا عنه سوى الْجُعَيْدِ بنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، تفرّد به عنه يحيى القطّان.

فالأثر فردٌ مطلق صحيح غريب، حسب تعريف الحديث الصحيح عند المحدّثين.

(هو الحديثُ الذي يرويه عدلٌ ضابط عن مثله، من أوّل السند إلى منتهاه) وأوّل السند هو المدار.

 لكنني لا أصحح إسناداً فرداً مطلقاً في أربعِ طبقاتٍ، إنما هو إسناد حسن غريب!

قال ابن حجر في الفتح (2: 403): «وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي النَّهْيِ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسَاجِدِ، لَكِنَّهَا ضَعِيفَة أخرج ابن مَاجَهْ بَعْضَهَا» من حديث واثلةَ بن الأسقع أنّ النبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم (750) قال: (جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ، وَخُصُومَاتِكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ، وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ، وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ، وَاتَّخِذُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ، وَجَمِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ) فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَيْهَا» قال عداب: هذا الحديث من أفراد ابن ماجه عن بقية التسعة، وفي إسناده عُتبة بن يقظان: ضعيف، والحارث بن نبهان: متروك، وقال ابن رجبٍ في فتح الباري (3: 397): إسناده ضعيفٌ جدّاً.

وقال في الموضع نفسه أيضاً: «قَوْلُهُ: «بَابُ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ» أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ.

- فَقَدْ كَرِهَهُ مَالِكٌ مُطْلَقاً، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْعِلْمِ، أَمْ فِي غَيْرِهِ.

- وَفَرَّقَ غَيْرُهُ بَيْنَ مَا يَتَعَلَّقُ بِغَرَضٍ دِينِيٍّ، أَوْ نَفْعٍ دُنْيَوِيٍّ، وَبَيْنَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ.

وَسَاقَ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ أثَرَ عُمَرَ الدَّالَّ عَلَى الْمَنْعِ هذا، وَحَدِيثَ كَعْبِ بن مالكٍ (471) أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبي حَدْرَدٍ دَيْناً كانَ لَهُ عَلَيْهِ، في عَهْدِ رَسُولِ اللهِ e في الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، حَتَّى سَمِعَهَا([2]) رَسُولُ اللهِ e وَهُوَ في بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رَسُولُ اللهِ e حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، وَنَادَى: (يَا كَعْبُ([3]) بنَ مَالِكٍ! يا كَعْبُ!) ولم ينههما عن رفعِ أصواتهما.

«إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْمَنْعَ يَكونُ فِيمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، وَعَدَمِهِ فِيمَا تُلْجِئُ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ».

وللإمام ابن رجبٍ الحنبليّ في فتح الباري (3: 398) كلامٌ طيّب في شرح هذا الحديث، فارجع إليه.

واللهُ تَعالى أعلَمُ. 

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.



([1]) من حديث يحيى بن سعيد القطانِ عن الجُعيد بن عبدالرحمن الكِنديّ، به موقفاً؛ انفرد به البخاري عن بقيّة التسعة،  وأخرجه عبدالرزاق في المصنف (1712) والزبير بن بكار في كتاب المدينة، كما في كتاب إتحاف الزائر وإطراف المقيم لأبي اليمن ابن عساكر (ص: 113) والبيهقي في السنن الكبير، في الحيض، باب كراهية إنشاد الضالة في المسجد، وغير ذلك مما لا يليق بالمسجد (2: (4346) وفي آداب القاضي، باب ما يستحب للقاضي من أن لا يكون قضاؤه في المسجد (10: (20052) وانظر «التحفة» [10442].

 

([2]) في بعض النسخ: سمعهما.

([3]) في [ب، ك]: يا كَعْب بن مالِك، فقط، انظر السلطانية ص (127) حاشية (9).

السبت، 29 أكتوبر 2022

 أفراد الإمام البخاريّ (4):

ضَعفُ حالِ أصحابِ الصُفَّةِ !؟

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

بإسنادي إلى الإمام البخاريّ في كتاب الصلاةِ، باب نوم الرجال في المسجدِ (442) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى «المَرْوَزيُّ» قَالَ: ثَنا «محمّد» بنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ «فُضيلِ بن غزوانَ الضَبيِّ» عَنْ أَبي حَازِمٍ «سلمانَ مولى عزّةَ الأشجعيّة» عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ:«رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ، مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ، إِمَّا إِزَارٌ، وَإِمَّا كِسَاءٌ، قَدْ رَبَطُوا في أَعْنَاقِهِمْ([1]) فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْنِ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ، فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ، كَرَاهِيَةَ أَنْ تُرَى عَوْرَتُهُ»([2]).

مدار حديثِ أبي هريرةَ في هذا الباب على فُضيلِ بن غَزوانَ، رواه عنه:

الفضلُ بن موسى، عند ابن حبّان (682).

ومالكُ بن مِغوَلٍ، عند الحاكم في المستدرك (4292).

ومحمّد بن فُضيلٍ، عند البخاريّ (442) والبزار (9771) وابن خزيمة في صحيحه (764) الطبراني في الأوسط (3268) وغيرهم.

و وكيع بن الجرّاح، عند ابن أبي شيبة في المصنّف (3192) وأحمد في الزهد (32) وأبي نعيم في الحلية (1: 340) وغيرهم.

قال الفقير عداب:  هذا الأثر، لم يروه عن أبي هريرة، سوى أبي حازمٍ الأشجعي - وقد أجمعوا على أنّه ثقة - تفرّد به فُضيل بن غزوانَ، لم يترجمه الذهبيّ في الميزان، وترجمه المزيّ في تهذيب الكمال (23: 301) ونقل توثيقه عن أحمد ابن حنبلٍ ويحيى بن معين.

وقد أخرج له البخاريّ في صحيحه أحاديثَ، منها حديث الباب (442)  ومنها (1739، 2613، 3798، 4889).

وأخرج له مسلم أحاديثَ، منها (158، 1013، 1055، 1224، 1538).

وحسب تعريفِ الحديث الصحيح، عند المحدّثين؛ فهذا الأثر فردٌ مطلقٌ غريبٌ صحيح.

وإذْ إنني لا أصحّحُ الأحاديثَ الأفرادَ المطلقة؛ فالحديثُ حسن غريب، وهو منسجمٌ مع طبيعةِ أبي هريرةَ، التي كانت موغلةً بأثر الفقر والحاجة عليها!

وقد روَّج الحكّامُ الطغاةُ لأحاديثِ الزهدِ والفقر، حتى يخدّروا بها جماهيرَ شعوبهم الجاهلة؛ ليتنعّموا ويبطروا هم بمال الأمّة، وقد انطلى تحبيذ الفقر على الغنى، حتى جعله الصوفيّةُ منهاجاً لحياتهم!

قَالَ الْحَاكِمُ النيسابوريّ معقّباً على أثر الباب هذا: «تَأَمَّلْتُ هَذِهِ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَوَجَدْتُهُمْ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَرَعاً وَتَوَكُّلاً عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمُلَازَمَةً لِخِدْمَةِ اللهِ، وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

اخْتَارَ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ مَا اخْتَارَهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ، وَالتَّضَرُّعِ لِعِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَرْكِ الدُّنْيَا لِأَهْلِها.

وَهُمُ الطَّائِفَةُ الْمُنْتَمِيَةُ إِلَيْهُمُ الصُّوفِيَّةُ، قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، فَمَنْ جَرَى عَلَى سُنَّتِهِمْ وَصَبْرِهِمْ عَلَى تَرْكِ الدُّنْيَا وَالْأُنْسِ بِالْفَقْرِ، وَتَرْكِ التَّعَرُّضِ لِلسُّؤَالِ؛ فَهُمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ بِأَهْلِ الصُّفَّةِ مُقْتَدُونَ، وَعَلَى خَالِقِهِمْ مُتَوَكِّلُونَ».

والحقُّ أنّ الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لم يكن فقيراً قطُّ، بل كان يعطي عطاءَ مَن لا يخشى الفقر!

أخرج الإمامُ ابن حبّانَ حديثَ أنس بن مالك (3579) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (لَا تُوَاصِلُوا) قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ؟

قَالَ الرسول: (إِنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى) وأخرجه البخاري (1961) ومسلم (1104).

قال ابن حبّان معلّقاً على حديث أنس:

«هَذَا الْخَبَرُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَخْبَارَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ وَضْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ؛ هِيَ كُلُّها أَبَاطِيلُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا الْحُجَزُ، لَا الْحَجَرُ، وَالْحُجَزُ: طَرَفُ الْإِزَارِ!

إِذِ اللهُ جَلَّ وَعَلا كَانَ يُطْعِمُ رَسُولَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْقِيهِ إِذَا وَاصَلَ، فَكَيْفَ يَتْرُكُهُ جَائِعاً مَعَ عَدَمِ الْوِصَالِ، حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى شَدِّ حَجَرٍ عَلَى بَطْنِهِ، وَمَا يُغْنِي الْحَجَرُ عَنِ الْجُوعِ»؟

وقد كتب أخونا الدكتور السيّد عبدالفتّاح السمّان الدمشقي أطروحته للحصول على درجة الدكتوراه بعنوان (كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مليونيراً، ولم يكن فقيراً) وهي رسالةٌ ماتعةٌ، جزاه الله بها خيراً.

واللهُ تَعالى أعلَمُ. 

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.


([1])  معاني الغريب في هذا الحديثِ: الرِداء: ثوبٌ سابغٌ يستر أعلى جسم الإنسان، والإزار: ثوب يستر نصفَ الإنسان الأسفلَ، ولا يزال يستعمل هذه النوع من الثياب في اليمنِ خاصّةً، ويُدعى «الوَزْرة» بإبدال الهمزة واواً، والكساء: هو الثوب الذي يُلبَس، أو يلفّ على هيئة الملبوس، والمقصود هنا: ثوبٌ قصير لا يستر سائرَ الجسم، وربطوا: أي الأكسيةَ.

([2]) من حديث فُضيلِ بن غزوان عن أبي حازمٍ الأشجعيّ، عن أبي هريرةَ  انفرد به البخاري عن بقيّة التسعةِ، وأخرجه وابن أبي شيبة في مصنفه (1: 348) وأحمد في الزهد (ص: 13) والبزّار في مسنده (17: 159) وابن خزيمة في الصلاة، باب عقد الإزار على العاتقين إذا صلى المصلي في إزار واحد ضيق (764) وابن حبان في الرقائق، باب الفقر والزهد والقناعة، ذكر الإخبار عن وصف أصحاب الصفة (682) والطبراني في الكبير (19: (626) وفي «الأوسط» (3269) والحاكم في الهجرة (3: (4292) وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأبو نعيم في الحلية (1: 340) والبيهقي في السنن الكبير (4: (3447) والبغوي في شرح السنة (4081) وانظر التحفة [10: 13424] والإتحاف [15: 18824].

 

الجمعة، 28 أكتوبر 2022

  أفراد الإمام البخاريّ (3):

أنموذجٌ من ظلمِ عربِ الجاهليّة للمرأة!؟

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

بإسنادي إلى الإمام البخاريّ في الصلاةِ، بابُ نَوْمِ الْمَرْأَةِ في الْمَسْجِدِ (439) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ «القُرَشيُّ» قَالَ: ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ «حمّادُ بنُ أسامةَ القرشيُّ» عَنْ هِشَامِ «بنِ عُروةَ»  عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّ وَلِيدَةً كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَعْتَقُوهَا، فَكَانَتْ مَعَهُمْ.

قَالَتْ: فَخَرَجَتْ صَبِيَّةٌ لَهُمْ، عَلَيْهَا وِشَاحٌ أَحْمَرُ مِنْ سُيُورٍ، قَالَتْ: فَوَضَعَتْهُ، أَوْ وَقَعَ مِنْهَا، فَمَرَّتْ بِهِ حُدَيَّاةٌ، وَهْوَ مُلْقًى، فَحَسِبَتْهُ لَحماً، فَخَطِفَتْهُ.

قَالَتْ: فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، قَالَتْ: فَاتَّهَمُوني بِهِ، قَالَتْ: فَطَفِقُوا يُفَتِّشُونَ([1]) حَتَّى فَتَّشُوا قُبُلَهَا! قَالَتْ: وَاللهِ إِنّي لَقَائِمَةٌ مَعَهُمْ، إِذْ مَرَّتِ الْحُدَيَّاةُ، فَأَلْقَتْهُ، قَالَتْ: فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ.

قَالَتْ: فَقُلْتُ: هَذَا الَّذي اتَّهَمْتُمُوني بِهِ - زَعَمْتُمْ - وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ، وَهُوَ ذَا هُوَ.

قَالَتْ: فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ([2]) e فَأَسْلَمَتْ.

قَالَتْ عَائِشَةُ: فَكَانَ لَهَا خِبَاءٌ في الْمَسْجِدِ، أَوْ حِفْشٌ، قَالَتْ: فَكَانَتْ تَأْتِيني، فَتَحَدَّثُ عِنْدي، قَالَتْ: فَلاَ تَجْلِسُ عِنْدي مَجْلِساً إِلاَّ قَالَتْ:

وَيَوْمُ الْوِشَاحِ مِنْ أَعَاجِيبِ([3]) رَبِّنَا * أَلاَ إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَاني

قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ لَهَا: مَا شَأْنُكِ، لاَ تَقْعُدِينَ مَعي مَقْعَداً، إِلاَّ قُلْتِ هَذَا؟

قَالَتْ: فَحَدَّثَتْني بِهَذَا الحديث».

وأعاده البخاريّ في كتاب المناقب، باب أيّام الجاهليّة (3835) فقال: حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ: أنا عَلِيُّ بنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها قَالَتْ: أَسْلَمَتِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ لِبَعْضِ الْعَرَبِ، وَكَانَ لَهَا حِفْشٌ فِي الْمَسْجِدِ، قَالَتْ: فَكَانَتْ تَأْتِينَا فَتَحَدَّثُ([4]) عِنْدَنَا، فَإِذَا فَرَغَتْ مِنْ حَدِيثِهَا قَالَتْ:

وَيَوْمُ الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا ... أَلاَ إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي

فَلَمَّا أَكْثَرَتْ؛ قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: وَمَا يَوْمُ الْوِشَاحِ؟ قَالَتْ: خَرَجَتْ جُوَيْرِيَةٌ لِبَعْضِ أَهْلِي، وَعَلَيْهَا وِشَاحٌ مِنْ أَدَمٍ، فَسَقَطَ مِنْهَا، فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِ الْحُدَيَّا([5]) وَهْيَ تَحْسِبُهُ لَحْماً، فَأَخَذَتْهُ([6]) فَاتَّهَمُونِي بِهِ، فَعَذَّبُونِي، حَتَّى بَلَغَ مِنْ أَمْرِي أَنَّهُمْ طَلَبُوا فِي قُبُلِي.

فَبَيْنَا هُمْ حَوْلِي - وَأَنَا فِي كَرْبِي - إِذْ أَقْبَلَتِ الْحُدَيَّا، حَتَّى وَازَتْ بِرُؤُوسِنَا([7]) ثُمَّ أَلْقَتْهُ، فَأَخَذُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: «هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ، وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ» ([8]).

مدارُ حديثِ عائشة رضي اللهُ عنها؛ على هشامِ بن عُروةَ بن الزبير، رواه عنه:

- إسماعيل بن أبان الورّاق، عن ابن الأعرابيّ في معجمه (685)

- حمّاد بن أسامة، عند البخاري (439) وابن خزيمة في صحيحه (1332) وابن حبّان (1655) وغيرهم.

- وعليّ بن مُسهر الكوفيّ، قاضي الموصل عند البخاريّ (3835)

ومحمّد بن خازم أبو معاوية الضرير، عند أبي بكر بن أبي الدنيا، في كتاب الفرج بعد الشدّة (87) وعند ابن المقرئ في معجمه (803) والبيهقيّ في الآداب (765) وغيرهم.

قال الفقير عداب: هشام بن عروةَ بن الزبير؛ ترجمه ابن حبّان في الثقات (5: 502) وقال: « وَكَانَ حَافِظًا مُتقناً ورعاً فَاضلاً» وترجمه في المشاهير (583) وقال: «من حفاظ أهل المدينة ومتقنيهم وأهل الورع والفضل في الدين».

وانظر ترجمته في تذكرة الحفّاظ (1: 108) والنبلاء (6: 34) والميزان (3: 647) ثلاثتها للذهبيّ.

وقال ابن حجر في مقدمة فتح الباري (ص: 448): «هِشَام بن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام، من صغَار التَّابِعين، مجمع على تثبته، إِلَّا أَنه فِي كِبَره تَغيَّر حِفظُه، فَتغيّر حَدِيثُ مَن سمع مِنْهُ فِي قَدمتِه الثَّالِثَة إِلَى الْعرَاق.

قَالَ يَعْقُوب بن شيبَة: هِشَام ثَبتٌ ثِقَةٌ، لم يُنكر عَلَيْهِ شَيْءٌ، إِلَّا بعد مَا صَار إِلَى الْعرَاقِ، فَإِنَّهُ انبسط فِي الرِّوَايَة عَن أَبِيه، فَأنْكر ذَلِك عَلَيْهِ أهل بَلَده.

وَالَّذِي نرَاهُ أَنه كَانَ لَا يحدث عَن أَبِيه إِلَّا بِمَا سمع مِنْهُ، فَكَانَ تساهله أَنه أرسل عَن أَبِيه مَا كَانَ يسمعهُ من غير أَبِيه، عَن أَبِيه». قال ابن حجر: قلت: هَذَا هُوَ التَّدْلِيسُ.

وَأما قَول ابنِ خرَاشٍ: «كَانَ مَالك لَا يرضاه» فقد حُكِيَ عَن مَالك فِيهِ شَيْء أَشد من هَذَا، وَهُوَ مَحْمُول على مَا قَالَ يَعْقُوب، وَقد احْتج بِهِشَام جَمِيع الْأَئِمَّة».

قال الفقير عداب: روى مالك عن هشام بن عروة، عن أبيه أكثرَ من مائةِ رواية في موطئه، منها: (8، 59، 61، 71، 77).

فكلامُ مالك فيه ليس لهذا، إنّما لأنّ هشاماً صدرت عنه كلماتٌ قبيحةٌ، ما كان مالك يترخّص بمثلها.

والكلام في هشامِ بن عروةَ كثيرٌ، خلاصتُه؛ أنّ ما رواه عنه أهل الحجاز؛ فهو فيه ضابط، وما تفرّد به عنه أهل الكوفةِ؛ ففي بعضه تدليسٌ وقلّةُ ضبط، وهذا رأي تلميذه يحيى بن سعيد القطّان، وانظر طرفاً من أخباره غير الحسنة، في قَبولِ الأخبار للكعبيّ (1: 398 - 400).

ورواةُ هذا الحديثِ عن هشامٍ، كلّهم كوفيّون عراقيّونَ، فماذا نصنع؟!    

خلاصةُ الحكم على هذا الأثر: هذا أثرٌ موقوفٌ على أمّ المؤمنين عائشة، ترويه عن أمةٍ أو امرأةٍ مجهولةٍ، لم تسمّها لنا، ولم نعرفها نحن!

لم يروه عنها؛ إلّا ابنُ أختها عروةُ بن الزبير، تفرّد به عنه هشامُ بن عروة، فهو فردٌ مطلقٌ غريب، من حديثِ هشامِ بن عروةَ الكوفيّ، لم يروه عنه أحدٌ من أهل الحجاز فيما وقفت عليه، فإذا نحن طبّقنا نظريّةَ قَبولِ حديثه الحجازيّ، وعدم قَبول حديثه العراقيّ؛ فهو أثرٌ ضعيفٌ!

لكنّ الأئمّة لم يلتفتوا في هشامٍ إلى هذا الكلام أبداً، بل أخرجوا من رواية الكوفيين عن هشامِ بن عروة، فأكثروا، وناهيكَ بصنيع البخاريّ ومسلم دليلاً على ذلك!

انظر عند البخاريّ الأحاديثَ (20، 130، 147، 228، 262، 317، 320).

وانظر عند مسلم الأحاديثَ (38، 123، 134، 205، 286، 286، 291) وعشراتِ الأحاديثِ الأخرى، جميعها من رواية رواةٍ كوفيين عن هشام بن عروة.

ختاماً: هذا أثرٌ موقوفٌ على عائشةَ، أخرجه البخاريّ في كتاب المساجدِ؛ وهو يبيّن أنواعاً متعدّدةً من أحكامها، فهذا الحديث أخرجه تحت باب «نوم المرأة في المسجدِ» وبعده مباشرةً (440) أخرج حديثَ ابن عمر، تحت بابِ «نوم الرجال في المسجد» وأعاده في باب أيّام الجاهليّة، مستشهداً به على قُبحِ تلك الأيامِ وقسوتها.

وقد أخرج البخاريّ قبله في الباب نفسه (3834) قصّة امرأة أخرى اسمها زينب، كان لها قصّة أخرى أيضاً.

وبعد حديث عائشةَ في الباب ذاته (3836) أخرج حديث ابن عمر، الذي فيه أنّ قريشاً في الجاهليّة، كانت تحلف بآبائها، فنهى الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يحلفوا بآبائهم!

قال ابن حجر في الفتح (2: 353): «وَفِي الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ الْمَبِيتِ وَالْمَقِيلِ فِي الْمَسْجِدِ، لِمَنْ لَا مَسْكَنَ لَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ، وَإِبَاحَةُ اسْتِظْلَالِهِ فِيهِ بِالْخَيْمَةِ وَنَحْوِهَا.

وَفِيهِ الْخُرُوجُ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْمَرْءِ فِيهِ الْمِحْنَةُ، وَلَعَلَّهُ يَتَحَوَّلُ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ، كَمَا وَقَعَ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ.

وَفِيهِ فَضْلُ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ، وَإِجَابَةِ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ، وَلَوْ كَانَ كَافِراً؛ لِأَنَّ فِي السِّيَاقِ أَنَّ إِسْلَامَهَا كَانَ بعد قدومها الْمَدِينَة، وَالله أعلم».

قال الفقير عداب: لا يتصوّر أحدٌ أنّ الكوخَ الصغير الذي كان لهذه الجاريةِ السوداء - إن صحّ الأثر - كان في مصلّى المسجد، إنّما كان في زاوية من زوايا ساحة المسجد الملحقة بالمصلّى!

يدلّ عليه ما أخرجه البخاريّ في كتاب الوضوء (174) من حديث عبدالله بن عمر قال: «كَانَتِ الكِلاَبُ تَبُولُ، وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي المَسْجِدِ، فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ» فليس من المعقول أنّها كانت تبول في مصلّى المسلمين؛ لأنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر بتطهير المساجد وتنظيفها وتطييبها، كما هو معلوم.

خِتاماً: سواءٌ صحّت هذه القصّة عن عائشةَ، أم لم تصحّ؛ ففيها بعض التوجيهات التربويّة التي أشار إليها الحافظ ابن حجر، وليس فيها شيءٌ منسوبٌ إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكلّ ما لم يُنسَبْ إلى الرسولِ؛ فليس بتشريع!

واللهُ تَعالى أعلَمُ. 

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.



([1]) في بعض النسخ: يفتشوني.

([2]) في بعض النسخ: النبيّ.

([3]) في بعض النسخ: تعاجيب.

([4]) في بعض النسخ: تَتَحَدّثُ.

([5])  لغوي

([6]) في بعض النسخ: فأخذَتْ.

([7]) معاني الغريب في هذا الأثرِ بروايتيه:

الوليدة: الأمةُ المملوكة، الوشاح: ما تستر به المرأة شعرها، وقد يكون للزينة، والوشاح المقصود هنا: قطعةٌ من أَدَمٍ، الأدم: الجلدُ، وهي قطعةٌ رقيقةٍ مزيّنة بالجواهر، أو بالأحجار الكريمة، ونحو ذلك، الحُدَيّاة: تصغير حِدَأَةٍ، هي طائرٍ من الجوارح، طفقوا: شرعوا بتفتيشها وواصلوا، الخِباءُ: الخيمةُ الصغيرة التي تستتر بها النساء عادةً، الحِفْش: الكوخ الصغير من طوبٍ خفيفٍ أو قصب.

([8]) من حديثِ هشامِ بن عروةَ بن الزبير، عن أبيه، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: انفرد به البخاريّ عن بقيّة التسعة، وأخرجه ابن خزيمة في جماع أبواب صلاة التطوع في السفر، باب الرخصة في ضرب الخباء واتخاذ بيوت القصب للنساء في المسجد (1332) وابن حبان في الصلاة، باب المساجد، ذكر إباحة الأخبية للنساء في المسجد (1655) والبيهقيّ في الآداب (765) وغيرهم، وانظر التحفة [12: 16830] والإتحاف [17: 22452].

  أفراد الإمام البخاريّ (2):

كِتمانُ العلمِ الذي يستصعبه الناس!؟

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

بإسنادي إلى الإمام البخاريّ في كتاب العلم، بابٌ من خصّ بالعلم قوماً دونَ قومٍ كراهيةَ أن لا يفهموا (127) قال رحمه الله تعالى: وَقالَ عَلِيٌّ: حَدِّثوا النّاسَ بِما يَعْرِفونَ، أتُحِبّونَ أنْ يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسولُهُ؟([1]).

 حَدَّثَنا([2]) عُبَيْدُاللهِ بنُ موسى عَنْ مَعْروفِ بنِ خَرَّبوذَ([3]) عَنْ أبي الطُّفَيْلِ، عَنْ عَلِيِّ([4]) بِذَلِكَ([5]).

ليسَ للحَديثِ مُكرّراتٌ.

مدار حديثِ الإمام عليّ عليه السلامُ على مَعروفِ بن خرّبوذَ المكيّ، رواه عنه:

عبدالله بن داود الخُريبيّ، عند آدمَ بن أبي إياسٍ الخراسانيّ، في كتاب العلم له، كما في فتح الباري (1: 471) وعند الخطيب البغداديّ، في موضح أوهام الجمع والتفريق (2: 481) ونسبه ثمّة معروف بن أبي معروف، ونصّ الخطيب هناك على أنّه هو هو.

وعبيدالله بن موسى العبسيّ، عند البخاريّ (127) والبيهقيّ في المدخل إلى السنن (610) وابن عبدالبَرّ في جامع بيان العلم وفضله (1318) وأبو عليّ الوَخشيُّ في الجزء الخامس من الوخشيّات (16) والسمعاني في أدب الإملاء والاستملاء (ص: 59) والحافظ عبدالغني المقدسيّ في نهاية المُرادِ من كلام خير المراد (168) والمزي في تهذيب الكمال (28: 265).

قال الفقير عداب: كان حقّ مدارِ الحديثِ أن يكون على عبيدالله بن موسى، رواه عنه البخاريّ، وقرينُه أحمد بن حازم بن أبي غرزة الغِفاريُّ الكوفيّ، ترجمه ابن حبان في الثقات (8: 44) وقال: «كان متقناً».

إلّا أننا رفعنا المدار، فجعلناه على معروفٍ؛ لأنّ إسنادَ الخطيبِ في الموضح؛ صحيحٌ إلى عبدالله بن داود الخُريبيّ، باستثناء الراوي عنه إبراهيمُ بن أحمد بن النعمان الأزدي.

فقد ترجمه الخطيب في تاريخه (6: 489) ولم يؤرّخ لوفاته، ولم يذكره بجرح أو تعديل.

وترجمه الذهبيّ في تاريخ الإسلام (6: 284) وأرّخ وفاته بين (261 - 270) ولم يذكره بجرح أو تعديل.

وذكره المزيّ في ترجمتي اثنين من شيوخه في تهذيب الكمال (2: 208) و(17: 70) وفي كلتا الترجمتين كان من طبقة البخاريّ، بل أقدم منه، فقد روى عن عبدالله بن داود مباشرةً، بينما البخاريّ لم يروِ عن عنه، إلّا بواسطة، فروى في صحيحه عنه بواسطة شيخه مسدّد بن مسرهد (132، 712، 3798، 5956) وروى عنه بواسطة شيخه نصر بن علي الجهضميّ (4552) وروى عنه بواسطة شيخه عمرو بن عليٍّ الفلّاس (6782). 

وقد تابعه عن عبدالله بن داود  الخريبيّ آدمُ بن أبي إياسٍ، في كتابه «العلم» كما في فتح الباري (1: 272).

ومثل هذا الراوي المعروف النسبِ، والذي يروي عن شيوخِ البخاريّ، وعن بعض شيوخ شيوخه، وقد توبع متابعةً تامّة عن شيخه؛ يُقبل في المتابعات، إن شاء الله تعالى.

أمّا معروف بن خرّبوذ المكيّ، الذي دار عليه الحديث؛ فقد ترجمه الباجي في التعديل والتجريح (694) ونَقل عن ابن معين قوله: ضعيف، وعن أبي حاتم الرازيّ قوله: يكتب حديثه.

وترجمه ابن حجر في مقدمة فتح الباري (ص: 444): «مَعْرُوف بن خَرَّبُوذ الْمَكِّيّ من صغَار التَّابِعين، ضعّفه يحيى بن معِين، وَقَالَ أَحْمد: مَا أَدْرِي كَيفَ هُوَ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم يكْتب حَدِيثه، وَقَالَ السَّاجِي صَدُوق.

قال ابن حجر: قلت: مَا لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى مَوضِع فِي الْعلم».

قال عداب: لمعروفِ بن خرّبوذَ هذا حديثُ الباب عند البخاريّ وحده من التسعة.

وله حديث آخر، أخرجه مسلم (1275) وابن ماجه (2949) وأبو داود (1879) وأحمد في مسنده (22682).

وروى عن خالد بن معدان قصّةً طويلةً، انفرد بها الدارميّ في مقدمة سننه (91) حدثت بين عبدالله بن الأهتم الشاميّ، وعمر بن عبدالعزيز، في أيّام خلافته.

ومثل هذا الراوي المُقلّ؛ لا يتسنّى سَبْرُ حديثه؛ ليعرف ضبطه بدقّة، ويمكن أن يكون صدوق اللهجة كما قال الساجي، لكنّه ليس ممّن يُقبَل ما يتفرّد به!

ثمّ إنّ الحديثَ - في نظري - معارضٌ لقول الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ، وَلَا تَكْتُمُونَهُ (187) [آل عمران].

ولحديث عائشة أمّ المؤمنين الطويلِ، عند مسلمٍ في الإيمان (177) وفيه: (قَالَتْ عائشة: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِمًا شَيْئاً مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ؛ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهً!

وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ، وَتَخْشَى النَّاسَ، وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ (37) [الأحزاب].  

   وإذا كان جميعُ غير المتخصّصين في علوم الشريعةِ عندنا؛ هم من العوامّ، والمتخصّصون لا تصل نسبتهم إلى (0001%) فهذا يعني أنْ لا شأنَ للعالم إلّا بالوعظ والإرشاد العامِّ، والعِلْم إنما يُعلَّم للمتخصّصين في مجالس العلم الخاصّة!

وفي شيوع ذلك؛ استمرارُ جهل الأمّةِ، وعدم ارتقاء مستواها العلميّ.

وفي الواقعِ المشاهَد؛ وجدنا كثيراً من غير المتخصّصين الشرعيين؛ أكثرَ فهماً واستيعاباً ومحاكمةً من بعض المتخصّصين.

وعلى الذين لا يستوعبون الكلامَ؛ أن يرتقوا هم بمداركهم ومعارفهم، لا أن يُكتمَ العلمُ الحقيقيُّ، حتى لا يعرفَه إلّا حفنةٌ يسيرة من الناس!

ألا تلاحظُ - أخي القارئ - كيف يتعصّب عامّة الشيعة لكتاب «الكافي» حتى إنهم يقولون عنه «الكافي المقدّس» وهو من الناحية العلمية لا يحصل من الصحة على درجة (20%) يعني هو كتابٌ ساقط الاعتبار علميّاً!

ألا تلاحظ - أخي القارئ - كيف يتعصّب عامَة أهل السنّة لكتاب البخاريّ، فيقولون: كلّه صحيحٌ، ويحتجّ به «علماؤهم العوامّ» مطلقاً، من دون النظر في أسانيده ومتونه؟

لهذا وذاك؛ لا أرى أبداً أن يقتصر العلم التخصّصيّ على دارسي العلوم الشرعيّة، ما دام الناس جميعاً مطالبين بهذا الدين.

ختاماً: حديثُ الباب موقوفٌ، ضعيف الإسنادِ، منكر المتن، ولو صحّ إسنادُه؛ فيكون وجهةَ نظرٍ للإمامِ عليٍّ عليه السلام، في وسط مجتمعٍ أميٍّ، كان يتبعون أمراءَ قبائلهم من دون نظر إلى حقٍّ أو باطلٍ.

وقد تطوّرت المجتمعاتُ البشريّةُ، فما عادت تقبلُ وصايةَ الملوك والأمراء العقليّة، لا في السياسة، ولا في أمور الدين.

واللهُ تَعالى أعلمُ.  

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.


([1]) قال في «الفتح» (1: 470): «كذا وقع في رواية أبي ذر، وسقط كله من روايته عن الكشميهني، ولغيره بتقديم المتنِ، ابتدأ به مُعلَّقاً فقال: وقال علي ... إلخ، ثم عقّب بالإسناد.

وزاد آدم بن أبي إياس الخراسانيّ - شيخ البخاريّ -  في كتاب «العلم»  له عن عبدالله بن داود عن معروف في آخره «ودعوا ما ينكرون» أي: يشتبه عليهم فهمه، وكذا أبو نعيم في المستخرج على صحيح البخاريّ، وفيه دليلٌ على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة» قال عداب: ستأتي مناقشة ذلك.

([2]) في بعض النسخ: حدثنا به.

([3]) في بعض النسخ بضم الخاء. انظر السلطانية (1: 37) حاشية (22) فائدة: كذا في الفرع مصروف، وقال الباجي: بضم الخاء وعياض بفتحها.

([4])  في (ت): « بن أبي طالب ».

([5]) من حديثِ معروفِ بن خرّبوذَ  عن أبي الطفيل الليثيّ، علي بن أبي طالب، موقوفاً؛ أخرجه البيهقي في المدخل للسنن الكبرى، باب لا تحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم (497) والخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، باب ذكر ما يستحب في الإملاء روايته لكافة الناس، وما يكره من ذلك خوف دخول الشبهة فيه والإلباس (2: 107) وفي موضح أوهام الجمع والتفريق (2: 481) والمزيّ في تهذيب الكمال (28: 265) وغيرهم، و انظر الجمع بين الصحيحين للحميديّ رقم (138) وتحفة الأشراف [7: 10153] ولم أجده في الإتحاف!