الخميس، 31 يناير 2013


بسم الله الرحمن الرحيم
إعادة صياغة العقل المسلم
في المرجعيات، والمصطلحات، والمصادر، والتاريخ
أولاً: المرجعيات الحاكمة:
مصادر التشريع عند أهل السنة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وما صدر عن الصحابي، والمصلحة، والاستحسان، على خلاف في بعض ذلك. ومن مصادر التشريع عند الإمامية حجية قول المعصوم (الإئمة الاثني عشر).
فضوابط حجية الكتاب تحتاج إلى مراجعة، فلا تكاد تجد قاعدة أو ضابطاً متفقاً عليه، وثبوت السنّة مشكلة تحتاج إلى حلّ، والأحكام المترتبة على تفاوت مراتب ثبوت الحديث تحتاج إلى حل، والإجماع .. هل هو إجماع أهل السنة، وهل إجماع الظاهرية ضروريّ، وهل خلاف الوهابية له اعتبار؟ وهل يشترط إجماع الفرق الأخرى؟ وهل هناك سوى الإجماع السكوتي في أي دائرة زعمنا فيها الإجماع؟
ثم أي قياس هذا الذي يُعتد به؟ هل هو الجلي، أو هو قياس ظاهر العلة، أو قياس الطرد والعكس والشبه؟ وما درجة الحكم الشرعي المنبثق عن قياس غير متفق على صلاحية مرجعيةً حاكمة، هل هو الواجب والحرام، أو المكروه والمندوب، أو الأولى وخلاف الأولى؟
وما صدر عن الصحابي؟ أي صحابي؟ فالحنفية يسمّون فقهاء الصحابة فلا يبلغون عندهم عشرة، وأحمد يقول: كل الصحابة فقهاء، ولا أحب مخالفة واحد منهم، وأنا أقول فقهاء الصحابة ثلاثة فقط: علي وابن عباس مطلقاً، وعائشة في أمور النساء، والباقون علماء ونقلة، وجماهيرهم عامّة، وليس بين أيدينا من علومهم شيء، فننظر فيه، رضي الله عنهم.
والأئمة المعصومون عند الشيعة: ما دليل عصمتهم أولاً، وما دليل تعيينهم أئمة للأمة، ليس في ذلك دليل ديني ظاهر، وهل كان عليّ معصوماً يوم أخطأ تلك الأخطاء القاتلة؟ وهل الحسن كان معصوماً يوم تنازل لمعاوية المحارب، وترك الأمة في دوامة القهر والتغلب؛ ليذهب فيواسي نساء الشهداء، يتزوج الواحدة يوماً، أو شهراً، فيغنيها لتتزوج بعد ذلك؟ وهل كان الحسين معصوماً يوم قدّم أطفال وشباب بني هاشم على منحر الطغاة؟ وهل كان معصوماً يوم حمل نساءه معه إلى معركة مجهولة؟ وهل كان معصوماً عندما صدّق أن خلافةً يمكن أن تقام بالمراسلة، من دون جهد تنظيمي وتعبويّ وإعداد طويل؟
الحقيقة أن أئمة أهل البيت لهم من نور النبوة، وطهارة الأصل، ونباهة الذكر؛ مزايا تؤهلهم ليكونوا منافسين كباراً في ساحة الشورى الإسلامية، التي لم تعمل بها الأمة مرة واحدة في تاريخها الطويل!
والحقّ أن عمر أول من تيقّن ذلك، فحرم آل البيت من الخُمس، حتى لا تنحصر السيادة في آل البيت وإلا فما معنى أن يشرع الله لهم حقّاً في الخمس، كما هو إجماع أهل السنة والشيعة؟
فالمرجعيات الحاكمة بدءاً من منهج الاستنباط من القرآن الكريم، وإلى نهايتها بحاجة إلى مراجعة محايدة جادّة!
ثانياً: المصطلحات:
إن كثيراً من المصطلحات حاكمة آسرة، لها أثرها البعيد في تشكيل العقل وتوجيه السلوك، فالشيعي، والإباضي، والمعتزلي؛ مصطلحات منبوذة مرفوضة في ساحة أهل السنة، وكل واحد من هؤلاء مصدر قلق عاطفي وفكري وديني للسنّي لكن أهل السنة أنفسهم لا يتفقون على دلالة مصطلح (شيعي) مثلاً، كما لا يتفقون على درجة انتمائه للإسلام، ولا يتفقون على الموقف منه.
ومصطلح شيعي: ليس مصطلحاً واضحاً في كتب أهل الحديث، وأحكامه ليست منضبطة عند الفقهاء، وكذلك الخارجي، والقدري، والجهمي، و آلاف المصطلحات العائمة الدلالات، كلها تحتاج إلى ضبط وحدود واضحة.
ثالثاً: المصادر التراثية:
لكل فرقة من فرق المسلمين كتبها التي تعدّ مصادر تشريعية وفكرية لها، فعند أهل السنة، مثلاً، صحيحا البخاري ومسلم، وعند الزيدية: مسند زيدٍ، وأمالي أبي طالب، وعند الإمامية: الكتب الأربعة الأصول: الكافي للكليني، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق، والتهذيب والاستبصار للطوسي، وعند الإباضية: مسند الربيع بن حبيب، والمدونة الكبرى لأبي غانم الخراساني.
وكل فرقة من هذه الفرق تتعصب لمصنفاتها، وتهتك ستر مصنفات الفرق الأخرى.
ولو عقل علماء الأمة؛ لسلّطوا الحاقدين من كل فرقة على كتب الفرق الأخرى لنقدها وتزييف ما فيها، ثم محاكمة ناتج النقد هذا بموضوعية، لأن عين البغيض ترى مالا تراه عين الحبيب!
المهم أنني درست هذه الكتب كلها دراساتٍ أوّلية تعريفية، وكتبت على كل واحد منها بحثاً علمياً موضوعياً، فلم أر شيئاً منها يستحق العصمة، ودعوى الإجماع على صحة كتابٍ منها؛ دعوى تهويلية!
ولو صدقت دعوى الإجماع؛ لدلّت على جهل المجمعين، وعلى تهافت حجيّة الإجماع من أصله!
ويكفينا في التدليل على بطلان هذه الدعوى أن صحيح البخاري الذي لا يدعى الإجماع على صحة كتاب؛ كما يدعى له؛ أخرج في صحيحه (160) حديثاً معلقاً، وجميعها ليست على شرطه في الصحة كما يقول ابن حجر، وأخرج في صحيحه (93) حديثاً مرسلاً، والحديث المرسل من قسم الضعيف، وأخرج في صحيحه (26) حديثاً منقطعاً، والمنقطع من الحديث الضعيف، والبخاري بكل تأكيد يعلم هذه الأحاديث في صحيحه، ويعلمها العلماء.
فالمطلوب إذاً: نقد هذه المصادر المؤسسة للفكر الطائفيّ؛ ضرورة حتمية، وتبني الحكومات الإسلامية، إن كان فيها خير؛ لتغيير هذه المعتقدات في قدسية تلك المصادر التي ألفها بشر غير معصومين.
رابعاً: كتب التاريخ وأحداثه:
إن الإمام أحمد قال: إن كتب المغازي والسير لا أصول لها، ولكن الإمام الشافعي قال: إذا اتفق أهل المغازي على واقعة؛ فهي أوثق عندي من أخبار الخاصة (خبر الواحد). وكتب التاريخ تأثرت إلى حد بعيد بالوسط الطائفي الذي كتبت فيه، وتصرّف كتّاب التاريخ بالنصوص كثيراً أو قليلاً، حتى لا يصادم المألوف.
وأصاب روايات التاريخ أسوأ مما أصاب روايات الحديث من تأخر التدوين؛ لأن سلطان الحكام الظلمة هيمن على منع تدوين التاريخ إخماداً لأسباب الفتن، حتى تتناسى مع الزمن، ومع هذا الخطّ العام، فلكل فرقة تاريخها الخاص الذي تورد فيه الوقائع على حسب تصورها هي، حتى لو كان مخالفاً للواقع مخالفة تامة.
والمطلوب أولاً: استخلاص وقائع التاريخ، وعبره الدموية من كتب السنن وتراجم الرجال، فهي أقرب إلى الحقيقة بوجه عام.
والمطلوب ثانياً: مقارنة روايات الواقعة الواحدة لدى جميع طوائف المسلمين للوقوف على توجهاتهم وتطلعاتهم.
والمطلوب ثالثاً: الاعتبار بوقائع التاريخ ومصائبه، وليس توظيفها للفتنة، وشتات الأمة.

فمن يعيد كتابةَ صياغةَ العقلِ المسلم، ولماذا؟
إن إعادة صياغة العقل المسلم تعني في أيسر ما تعنيه إعادةَ كتابة منهج التفكير الإسلامي؛ كتابةً يستشعر القائمُ بها مخافة الله عزّ وجلّ، ويعتقد في نفسه الحيادَ المطلق تجاه الطائفية والمذهبية والحزبية والإقليمية والقومية، إلى جانب امتلاكه أدوات الاجتهاد الأساسية من علوم العربية والأصول والقواعد والمقاصد، وإتقان تحرير النصوص والروايات المنقولة في جانب الاعتقاد والتشريع والسلوك، وفي جانب التاريخ الذي يدوّن حركة تعامل الناس مع الجانب الأول.
ذلك أنّ التحيز العاطفي، فضلاً عن الفكريّ؛ يجعل الكاتب قريباً من الخطأ، بعيداً عن الصواب، عرضةً لترجيح الهوى على المبدأ.
لقد أخطأ الناس يوم بويع أبو بكر؛ لأن بيعته كانت فلتةً، يعني اضطراراً، وعلى غير السنة؛ فتكرس ببيعته تلك مبدأ التغلّب الجماهيري القبليّ. وأخطأوا يوم بويع عمر بن الخطاب؛ لأنه تكرّس مبدأ ولاية العهد، وتوريث السلطة. وأخطأوا يوم كانت الشورى؛ لأنهم ضربوا مبدأ ولايةَ الأعلم والأفضل، فصار العالم والتاجر والفلاح والسقّا صالحين للخلافة، وأخطأوا يوم بويع علي للخلافة بعد مقتل عثمان؛ لأنه تكرست مشروعية انتزاعِ الحكم بالقوّة، وقتلِ السلطان من دون عقاب حقيقيّ للقتلة؛ تحت ذريعة درء الفتنة!
والجواب على كل ما سبق؛ أنهم اضطروا إلى هذا كله اضطراراً، فما الحيلة؟
وأقول: هذا كلّه كرّس سياسة الاضطرار، والأمر الواقع، وترك الأمة إلى هذا اليوم من غير منهاج سياسيّ إسلاميّ، إلا المنهج القائم على التغلب والاضطرار، فأمسى منهاجُ العرب في الجاهلية في انتقال السلطة؛ خيراً من المنهج الاسلامي، أو مثله!
إن كاتب صياغة العقل المسلم ينبغي أن لا يكون مذهبياً ولا سلفياً لأن السلفية تبعيةً ساذجةً لقومٍ كرامٍ، كانوا في بدايات العلم والحضارة، وينبغي أن يقرأ الاعتزال والتشيع بشقيه، والديانات القديمة واليهودية والنصرانية، ويعي أن جماهير الشعوب رعاع، وأن أصحاب السلطان الجهال الأقوياء؛ هم الذين يشكلون ديانات الناس وتوجهاتهم، يساعدهم في ذلك بعض رجال الدين رغباً ورهباً!
وينبغي أن يكون فكره الإسلامي مستقلاً ينظر إلى جميع أفكار الفرقاء بإشفاقٍ، وليس باحترام، فالتقليد لا يستحق الاحترام أبداً، وينبغي أن يختلف مع كل فرقة ببعض ما تذهب إليه بقيدين اثنين:
الأول: إعذار المجتهدين في اجتهادهم، مع الحب والتقدير.
الثاني: الإشفاق على المقلدين، والحزن على تعصبهم، وثورتهم مع الجهل.
وينبغي أن يمتلك من أدوات العلم والمعرفة ما يؤهّله للكتابة في منهج التفكير الإسلامي، إلى جانب الحياد الفكري المطلق!


الجمعة، 25 يناير 2013

الصحوة الإسلامية بين الحقيقة والوهم


في رحلة الحياة الإنسانيةِ؛ تصطرعُ حوافزُ الخير، ونوازعُ الشّر، وتتطامى نوازع الشّر وتشرئِبُّ، وقد تغمرُ حوافزَ الخير في الإنسان، وتتباهى بتغلّبها الموقوت!
إن انتصار حوافزِ الخير في الحياة الإنسانية؛ رَهنٌ بإيمان أهل الخير بخيرهم، واعتصامهم به، واستبسالهم في الذود عنه، بعد معرفتهم به المعرفةَ الصحيحة التي تجعلهم عن صراطه لا يحيدون، وعن سبيله لا ينحرفون.
وفي «عصر الصَّحْوة الإسلاميّة» التي نستروح إلى ذكرها، ونخدّر أعصابنا بتردادها، ونعقد المجالس المتكاثرة للمناظرة حول مظاهرها وظواهرها، ونشرب على شرفها المضيَّع أنخابَ الوهم والخيال، ونتجرّع غُصَص الحسرة والحرقة التي نباعد بينها وبين عقولنا وأحاسيسنا ما استطعنا.
أعتقد أن عصر «الصحوة الإسلامية» هذا؛ هو من أعنف عصورِ الصراع بين الحقّ
والباطل، وأخطرها على العقيدة الإسلاميّة، والصحوة الإسلامية بآن!
ذلك أن شراسة الباطل وقوّته، وتعدد أشكال الكيد وأدواته؛ كانت متساوقةً مع التطوّر الصناعي، وتقدّم الآلة، وبلوغ الإنسان مراتب سامِقة في مجال التقنين والاختراع.
كما كانت قدرةُ خصوم الإسلام هائلةً في جوانب التنظيم والتخطيط والدعاية والإعلان، والإعلام!
أما نحن أبناءَ الصحوة الإسلاميّة، فإننا قد سكرنا من كثرة ترداد هذا القول فقط!
واقتنعنا، أو كدنا؛ أن عزّ الإسلام منّا؛ قاب قوسين أو أدنى، ولم يعد بيننا وبين العيش في ظلّ الإسلام، وتحت رايته؛ إلا أن يقوم المتنفّذون في ديار الإسلام بإعلان «تطبيق الشريعة الإسلامية!» يعقبه إعلان آخر يعيش في خيال السكارى، ويحسونه على جدران عقولهم المغفّلة «الوحدة الإسلامية الكبرى» إن ما بين «مليار ونصف المليار» مسلم يعيشون في عصر الصحوة، وبين حقيقة الصحوة؛ مفاوزَ تُقطع دونها الأعناق! ولكنهم يعيشون عصر «الغربة الإسلاميّة!».
إن الإسلام بخير، وفي المسلمين خيرٌ كبير، وسيظلّ فيهم هذا الخير؛ ما بقي الدهر!
(إذا قال الرجل: هلك الناس؛ فهو أهلكَهم)([1]).
بيد أن الخير متباين المظاهر، شتيت المناحي، مبعثر الإمكانات، لا يستطيع أهله أن ينتفعوا به، ولا يقدروا على تنميته وتثميره.
ولو ذهب امرؤ ينظر في أحوال أولي الحَول والطول في العالم الإسلامي؛ لوجدهم منازعَ شتّى، وهياكلَ تستثيرُ الشكوى، وتجلبُ الأسى، وتبعثُ على القنوطِ، إلا من رَوح الله تعالى.
بين لاهٍ، وأبلَهٍ، وظلومٍ             وتَبيع، أما لهذا انتهاء!؟
ولو التفَتَ إلى قادةِ الصحوة الإسلاميّة، من علماء ومفكّرين وأدباء؛ لهاله ما يجد بينهم من فساد ذات البين (الحالقة!) وذَهُل لما يسمعه ويراه من خصومات لا تخدم إلا الشيطانَ وأعوانَه من الكبار والصغار!
مهاتراتٍ سخيفة، ومناوراتٍ صغيرة، ومؤامراتٍ رخيصة، ونفاقٍ ظاهر، وسذاجةٍ قَميئة، وغفلةٍ لا تجلب إلا الخرابَ والدّمار.
وما النجاة من هذا الأمر؟
الجواب حاضر عند الجميع، من غير مثنوية:
الإسلام هو الحلّ لمشاكل العالم كلّه.
العودة إلى صفاء الدّين ونقائه.
العودة بالمسلمين إلى كتاب اللّه وسنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
العودة إلى اقتفاء أثر السلف الصالحِ، الذين لا يضلّ من تبعهم، ولا يهتدي من خالفهم!
العودة، الأوبة، الرجوع...!؟
أجل! هذا صحيح، ولكن كيف؟!
هل تكون العودة إلى الدين الصحيح بالخطبِ، والمحاضرات، وأشرطة التسجيل؟
هل تكون العودةُ إلى كتاب الله وسنّة رسوله بإطلاق أيدي وألسنةِ الجهلة والعابثين؟
هل يكون اتبّاع السّلف الصالح بتمجيدِ الحاكم الجاهلِ الظالم، ومباركةِ آثامه وإعطائه الولاء والبيعة، وتسميته إمام المسلمين، أو أمير المؤمنين؟
هل الطريق الصحيح أن نوقع بعضَ المسلمين في شراك أحلافٍ وخيمة مع الطغاة؟
هل تطبيق شريعة الله تعالى؛ مرهون برضا الشرق أو الغرب الذي يسترضيه الدعاةُ المسلمون، ويستخذي بين يديه حكامُهم؟!
قامت في التاريخ المعاصر ندوات ومؤتمرات إسلاميّة كثيرة، ودوائر للفتوى عديدة، وقد بحثَتْ جميعُها في موضوعات جيّدة نافعة، بيد أن كثيراً مما كانت تنعقد المؤتمرات لأجله؛ لا يعدو مناقشة وقائع عاديّة بسيطة، لا تحتاج إلى كبير عناء.
أما كيف الخلاص؟ وطريقة النجاة، ووضع الخطط المرحليّة لذلك، فهذا وذاك لا يقترب منه كثيرٌ من علماء المسلمين.
وإن وافقَ أن اقتربوا؛ فلا يكون اقترابهم في كثير من الأحيان إلا في مباحث نظريّة تعقِبُها توصياتٌ ومقترحاتٌ يتلهّون بها، وليس الطغاة منها بسبيل؟!
فما الصحوة الإسلامية هذه، وما أبعادها؟
إن كان المعنيُّ بالصحوة الإسلامية كثرةَ عدد المصلّين، والصائمين، والحجاج والمزكيّن، والممتنعين عن الزنا، وعن معاقرة الخمرة، وعن أكل مال الربّا؛ فهذا صحيح!
ففي المسلمين، اليومَ؛ مئاتُ الملايين ممن ينطبق عليهم مصطلح «الصحوة الإسلاميّة» بهذا المعيار! ولكنّهم (غثاء كغثاء السّيل) تأثيراً في وجهة الحياة الإسلامية.
وإن عُني بالصحّوة الإسلامية أنّ المسلمين اليومَ أقربُ إلى تحكيم شرع الله في مجتمعاتهم، وأنهم ينطلقون في قوانينهم ونظمهم وأحكامهم من شرع الله وأحكامه؛ فهذا جدّ بعيد! والتخدير الذي يتولاّه الإعلامُ يحاول الخلطَ بين هذا وذاك.
فبهذا المعيار الثاني؛ أننا على مقربةٍ من الحياةِ الكريمةِ في ظلّ الإسلام! فغير صحيح!
سواءٌ على مستوى الحكومات، وغير صحيح على مستوى الجماعات، وغير صحيح على مستوى المفكرين والعلماء والأدباء، ولا حاجة بنا إلى الخوض في التفاصيل.


([1]) من حديث أبي هريرةt أخرجه مسلم في البر والصلة (2623). 

الأربعاء، 26 ديسمبر 2012

التصوف العليم


في عصور الجهل والتقليد؛ انبهر بعض المسلمين بكل وافد، حتى صاروا يستدلون على وجود ربهم تبارك وتعالى بطريقة الفلسفة اليونانية التي أضلت أهلها ولم توصلهم إلى يقين ولا إلى توحيد؛ زاعمين أنهم يقتدون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما نسب إليه: (الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها؛ فهو أحق بها) أخرجه الترمذي وضعفه بقوله: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وعلى هذا المنهج الكلامي والتقليد الأعمى؛ عظّم كثيرٌ من المتصوفة ما يقوله شيوخهم وكأنه الوحي المنزّل، فتركوا يسرَ الإسلام وصفاء الإسلام، وتكلموا في وحدة الوجود والظاهر والباطن وانبهروا بالكشوف والفتوح التي أكرم الله بها بعضهم، فقدسوهم، إلخ!
فالتصوف الذي نرفضه؛ هو إعطاء الشيخ تلك القدسية التي لا تكون إلا لله، ولعلها تزيد أضعافاً على استحقاق أفضلهم.. بل لعلها تزيد على ما كان أصحاب رسول الله الكريم يتعاملون بها معه!
والتصوف الذي نرفضه؛ هو هجر الأذكار والأوراد الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتمسك بأذكار وأوراد اخترعها شيخٌ قد يكون جاهلاً أصلاً لا يحسن نطق تلك الأذكار! وكتاب الأذكار للإمام النووي مهجور ولا يعرفه الكثيرون!
ولذا فإني إذا طلب أحد الشباب مني وِرداً أجزته بكتاب الأذكار، وإذا طلب مني كتاباً في الأخلاق والسلوك أجزته بكتاب رياض الصالحين؟!
والتصوف الذي نرفضه هو الدعوى أو الاعتقاد بالحلول، والاتحاد، ووحدة الوجود، وسقوط التكاليف، فمن يؤمن بواحدة من هذه المعتقدات كما هي عند أهلها الذين نقلناها عنهم انبهاراً؛ فهو كافرٌ كفراً ناقلاً عن الملة.
والتصوف الذي نرفضه هو ذلك الاتّجار باسم الطريق، فترى الشيخ منعماً مترفاً، وتلامذته جياعٌ لا غذاء ولا دواء ولا مسكن لهم، وهمّهم الأكبر إرضاء ذاك الشيخ وتقديسه وتقديس أولاده.
والتصوف الذي نرفضه هو ادّعاء اختصاص الصوفيه بالحقائق واختصاص العلماء بالرسوم وما اجمل أن يكون العالم صوفياً؛ لأنه يعرف ما يأتي وما يذر.
التصوف العليم الذي ندعو إليه هو القيام لله تعالى في مرتبة الإحسان، والتفاني في طاعته وتبليغ دينه لعباده على المحجة البيضاء (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) وبهذا المفهوم الشرعي للتصوف؛ ذهب شيخنا العلامة السيد عبدالله بن الصديق الغماري رحمه الله تعالى إلى وجوب سلوك التصوف على كل مسلم، وما لم يسلك أولئك الجفاة الغلاظ منهج التصوف العليم هذا، فمن أين تأتيهم رقة الطبع، ومن أين تنور قلوبهم ووجوههم، ومن أين يتذوقون كتاب الله عز وجل؟
نحن ندعو لاتباع التصوف العليم؛ ونرجو ألا نأكل اللقمة حتى نتحقق حلّها، ولا نقول الكلمة حتى نتحقق مشروعيتها، وما نحن بمعصومين من خطأ غير مقصود، والله وليّنا، نعوذ بالله من الخذلان.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.

الجمعة، 30 نوفمبر 2012

المجتمعات الاسلامية المعاصرة.. بين الاسلام والطائفية


الإسلام بمعناه الشامل: هو الدين الذي ارتضاه الله تعالى لعبادته، فهو دين آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام. والإسلام في صورته الأخيرة الخاتمة: هو الدين الذي بعث به الله تعالى رسوله محمّداً صلى الله عليه وآله وسلّم، والمسلمون هم الذين يدينون لله تعالى بهذا الدين.
ودين الإسلام له ثلاث شعبٍ كبرى هي: شعبةُ الإسلام، وشعبة الإيمان، وشعبة الإحسان.
فشعبة الإسلام: وهي المرقاة الأولى في هذا الدين، تشمل النطقَ بالشهادتين، وإقامَ الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحجّ إلى البيت الحرام. فمن قام بأركان الإسلام هذه؛ فهو مسلم.
وشعبة الإيمان: وهي المرقاة الثانية الأعلى في هذا الدين وتشمل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر. فمن يعتقد بأركان الإيمان هذه؛ فهو مؤمن إن شاء الله تعالى. وأما الإيمان بالقدر فقد اختلف المسلمون في فهم كيفيّة الاعتقاد به على مذاهب كثيرة:
فأهل السنة لهم مذاهب متعددة في مفهوم القدر؛ فالأشاعرة يؤمنون بما يسمونه الكسب، ومعناه منحُ الله تعالى العبد قدْراً من الحرية يمكّنه من اكتساب أفعاله، مع خضوع كسـبه لإرادة الله تعالى، ويوافقهم الإباضية في نظرية الكسب.
وأكثر الصوفية وأهل الحديث جبرية (رفعت الأقلام، وجفّت الصحف)، والمعتزلة يرون أنّ الله تعالى أقدرَ العبدَ على خلق أفعال نفسه، وللعبد الحرية المطلقة في الاختيار، ويوافقهم الزيدية والإمامية المعاصرة على هذا. وجميع هذه الفرق؛ تعتقد بتدخّل اللطف الإلهيّ لتدارك العبد المسلم.
وقد كانت فِرق الجبرية والأشاعرة والمعتزلة والزيدية والإمامية والخوارج حاضرةً في القرن الرابع الهجريّ، عصر نضوج الثقافة وتشكّل المدارس الإسلامية، وجميعها كانت معاصرة لأواخر عصر السلف، فقبل المحدثون روايةَ الإماميّ والزيدي والقدري والمرجئ، ولو كان هؤلاء كفّاراً؛ لما جاز قَبولُ رواياتهم في الدين!
ثمّ تأسست في القرن الرابع فرقة الأشاعرة، وفرقة الماتريدية، وهاتان الفرقتان تكوّنان اليوم (90%) من أهل السنة بالمصطلح السياسيّ، وإن كان الأشاعرة يضلّلون المثبتةَ من الحنابلة، والحنابلة يضللون بقيةَ أهل السنة الذين هم جمهور الأمة الأعظم!
وشعبةُ الإحسان: وهي ذروة مقام العبودية السامي، فهي الرقابة الذاتيّة لكلّ مسلم (أن تعبدَ اللهَ كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك) وهي السمو في مراتب كمال العبودية لله تعالى وحده. وشعبة الإحسان هي بالضبط «تزكية النفس الإنسانية» وتكون بتحقيق الشعب الثلاثِ الآتية:
تلاوة القرآن مع التدبّر.
والصلوات المفروضة والمندوبة، وأهمّ المندوبة؛ السنن الراتبة وقيامُ الليل.
الأذكار والأوراد الثابتة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم.
ويجمع آليّات القيامِ في مرتبة الإحسان؛ قول الله تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت : 45]، فَمَن يقوم لله تعالى بهذه الشعب الثلاث، وَفق منهج إسلاميّ صحيح؛ فهو من المحسنين الصالحين، إن شاء الله تعالى. والخلاف بين طوائف الأمة الإسلامية الأربع؛ هو اختلافٌ سياسيّ في أصله، ثمّ علّقنا على هذا الخلاف السياسيّ أحكاماً عقديّةً وفقهيّة، تأتي بعد أركان الدين الإسلامي التي تقدمت. وتوضيح ذلك بمثالٍ عمليّ؛ أنفع..
فمسألة الصحابة؛ هي مسألة سياسيّة، وليست ركناً من أركان الإيمان أو الإسلام أو الإحسان. إنّ الصحابة رضي الله عنهم اضطُروا في سقيفة بني ساعدة أن يسارعوا في اختيار خليفةٍ للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، وكان الظرف مواتياً لاختيار أبي بكر ر ضي الله عنه، دون أن يكون أحدٌ من بني عبد مناف قادةِ قريشٍ وسادتها موجوداً، ولا ريب في أنّ أبا بكرٍ عظيم كبير كريم، لكن اختياره لم يكن بناءً على مشورة قيادات الأمة، كما هو منهج اختيار الحاكم عند أهل السنة، ولا كان اختياره وفق الأعراف العربية التي كانت سائدةً قبل الإسلام وبعد الإسلام في انتقال الزعامة والسيادة، ففريق من المسلمين قالوا: ما دام أبو بكر كفؤاً كريماً، وما دام كثيرٌ من الناس قد بايعوه، ونقض بيعتهم يعني نقضهم العهد، وهذا محال في عرف العرب المسلمين في ذلك العصر، فلتمض الأمور على هذا الاتجاه. وأدخلوا فيما بعدُ إرادةَ الله في المسألة، بمعنى أن إرادته تعالى تدخّلت في سياقة الأمور لتخلص إلى هذه النتيجة، وأكثر أهل السنة على هذا!
وفريق رأوا أن تلك الطريقة في الاختيار ستكرّس مبدأ التغلّب، وبالتالي فهي خطأ وما تولّد عن الخطأ فهو خطأ، وبالتالي فبيعة أبي بكر غير صحيحة عندهم.
وفريق ثالث من زعماء قبائل العرب الذين يرون استحقاق القيادة لذي الشرف الأسمى وذي الكرم وذي القوة والشجاعة والقُرب من القائد المتوفى، وكانت تلك الصفات وافرةً في عليّ أكثرَ من أي شخصية أخرى في المسلمين، ناهيك عن كونه هو خليفةَ والده سيّد قريشٍ قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم. فلو لم تكن الرسالة قد حصلت؛ لكان عليّ هو سيد قريش وهو بالتالي سيد العرب وفارسهم، وجميع فرسان العرب تعترف بهذا، ولا تعترف به لأيٍّ من الصحابة سواه على الإطلاق! ولا أريد أن أسترسل في هذه المسألة أكثر من هذا؛ لأنّ الهدف توضيح سبب الافتراق السياسيّ بين من رضي بما حصل اضطراراً، ومن رفض ذلك؛ لأنه خلاف الأصول والمتعارف عليه. وتوالت الأخطاء في اختيار الخليفة، حتى كان اختيار عليّ نفسه تحت تهديد الثوار قَتلةِ عثمان الشهيد رضي الله تعالى عنه.
وحين خرجَ معاوية بن أبي سفيان على إمام عصره عليّ بحجة مساهمته بقتل عثمان أو تخاذله عن نصرته، وعدم القصاص من قتلته؛ كانت الأمةُ كلها مع عليّ لقتال الباغي معاوية الخارج على الإمام الحقّ، وعدّوه ظالماً لعليّ، متطاولاً على ما ليس له بحقّ.
وفي فتنة التحكيم؛ رفض كثيرٌ من أصحاب عليّ قَبوله التحكيم، وخرجوا على قيادته وكوّنوا لأنفسهم جماعةً يقودها عبدالله بن وهب الراسبي، وهو من جيل الصحابة وحصلت ظروف اضطُرّ عليّ إلى قتالهم واستئصالهم في معركة النهروان. فانشقّ عن جيشه جماعةٌ منه تألّماً لقتل أقاربهم وقرّائهم الذين لم يخالفوا عليّاً لا في عقيدة ولا في فقه ولا في أخلاق، إنما خالفوه في مسألة سياسية! هؤلاء يوالون أبا بكر وعمر ويجلّونهما، لكنهم يكفّرون عثمان كفر شركٍ ناقلٍ عن الملّة لتغييره أحكام الله في نظرهم، ويكفّرون عليّاً كفر نعمة؛ لاعتقادهم أنه ظالم آثم في رضاه بالتحكيم، ثم في قتل جماعتهم.
فأنت ترى أنّ أسباب الاختلاف هي مسألة سياسية؛ تمخّض عنها فرقة كبيرةٌ تماشي الحاكم حتى لو كان ظالماً متغلّباً؛ حفاظاً على الدين واستمرار وحدة الأمة، فيما رأى علماؤها المرضيّ عنهم من السلطان، وهذه الفرقة هي التي اصطلح على تسميتها أهل السنة. وفرقة تطوّرت أفكارها وازدادت أحقادها مع استمرار مناصرة عامة المسلمين (أهل السنة) للحاكم المتغلب، بأي صورة كان تغلبه، وكردّة فعل عنيفة للاضطهاد الذي عاشوه في ظلّ الحكام الذين غلبوا على أهل السنة؛ صار هؤلاء يكرهون أبا بكر عمر؛ لأنهما هما اللذان تسرعا، وسنّا في هذه الأمة سنة الغلبة، فحرما آل البيت من حقهم في قيادة الأمة. وكرها عثمان لأنه غيّر وبدّل في اجتهادهم المدعوم بأدلتهم، وهذه الفرقة هم الشيعة ثم هم أنفسهم انقسموا على فرقتين كبيرتين هما: الشيعة الجعفرية الإمامية، وهي الفرقة الأكثر عدداً، والشيعة الزيدية، وهم الذين يقولون: إنّ عليّاً هو أحقّ الأمة بالخلافة، لكنه تنازل عن حقّه لمصلحة الأمة، وأطاع أبا بكرٍ وعمر، وقبل أعطياتهما فهما أخطآ في أخذ البيعة من غير مشورة، لكنه خطأٌ غير مقصود لإقصاء عليّ، وإنما كان اضطراراً، فهو خطأ مغفور إن شاء الله تعالى.
أما الخوارج؛ فقد عدّوا أبا بكر وعمر هما أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكنهم يخالفون أهل السنة والشيعة في موقفهم من عثمان وعليّ؛ ولذلك كانت لهم فرقتهم الخاصة بهم. والملاحظ أن اختلافهم جميعاً؛كان مبنياً على اجتهادٍ ساغ لدى قادتهم، وصارت كل طائفة تعتقد أنها على الحقّ، وأن غيرها على خطأٍ أو باطل!
وأهل السنة هم الجمهور الأعظم؛ يعتقدون أنهم هم أهل الحق، ولهذا يطلقون على أنفسهم اسم الفرقة الناجية، وأنّ غيرهم مبتدعةٌ ضالّون!
ومع الزمن صار التشيّع تهمةً ينفيها عن نفسه كلّ إنسانٍ يعيش بين أهل السنة؛ خوفاً من تصفيته، أو تهميشه وإهانته، ونتيجة التشنج الطائفيّ؛ صار كلّ باحثٍ يخالف الإطار العام الذي صاغه حكّام أهل السنة؛ يعدُّ مبتدعاً، ويوصف بالتشيع والرفض والزندقة، خصوصاً إذا شمّوا منه رائحة ميلٍ إلى آل البيت، وانتقادٍ لأمر ما مما جرى في عصر الصحابة، وهذا ظاهر واضح في اتّهامهم عشراتٍ من علماء الحديث بالتشيع والرفض بل والزندقة، وهم من خيار عباد الله تعالى، والشيعة لا يعرفونهم ولا يعترفون بهم ولا يعدّونهم من علمائهم، من مثل الحافظ عبدالرحمن ابن خراش (283 هـ) والنسائيّ (301 هـ) والحاكم النيسابوري (405 هـ) وغيرهم كثير!
أما الشيعة؛ فقد جاوزوا الحدّ في خصومتهم وتشدّدهم، فمنهم من يكفّر الصحابةَ كلّهم بعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلا عدداً محدوداً، لا يتجاوز في أكبر إحصائية لهؤلاء سبعةً وعشرين صحابياً!
ومنهم من كفّر أبا بكر وعمر وعثمان وجميع من خرج على عليّ من كبار الصحابة أمثال طلحة والزبير وابن الزبير، ثم معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وسمرة بن جندب ونفرٍ آخرين، وأطلقوا على أتباعهم لقب العامّة؛ لأنهم أتباع الظالمين بالترغيب والترهيب، والعامة عندهم ليسوا بكافرين، لكنهم أعوان الطغاة.
والخوارج قد انقرضوا، ولم يبق منهم سوى فرقة الإباضية الصغيرة نسبيّاً، وأظنّ عددهم لا يتجاوز ثلاثةَ ملايين نسمة في العالم.
أما الشيعة الزيدية؛ فقد يصل عددهم إلى خمسة عشر مليوناً، ويُقدّر عدد الإمامية بمائتي مليون نسمة في العالم. والسؤال الضروريّ اليوم: هؤلاء جميعهم يؤمنون بأركان الإيمان وأركان الإسلام وبالإحسان التي يسميها أهل السنة التزكية، ويسميها جماهيرهم التصوّف، ويسميها الإمامية (العرفان)، أقول: إذا كان هؤلاء يعتقدون بهذه العقائد كلّها، والصحابة جميعهم بمن فيهم عليّ ليسوا من أركان الإسلام والإيمان والإحسان، وإن كانوا من حملتها والناشرين لها والمدافعين عنها، وإذا كان لكلّ فرقة من هذه الفرق أدلّتها، أو شبهاتها على الأقل؛ فنحن لا يجوز لنا التكفير والتفسيق في الجملة، كما لا يجوز لنا ادّعاءُ الحقّ المطلق في جميع شؤون الحياة العقدية والفكرية والفقهية والأخلاقية والسياسية. وإنّ الذي أراه أنّ الأمة متّفقة على أركان الإسلام والإيمان والإحسان، وما وراء ذلك يكون اختلافها في التطبيقات والفروعيات، التي لا تتجاوز (5%) على أقصى تقدير باستثناء المسائل السياسية وما تفرّع عنها.
نعم يمكن ادّعاءُ أنّ أهل السنة أكثر الفرق الإسلامية حقّاً في مسائل الخلاف، لكنّ هذا لا يسوّغ لنا ذلك العداء الذي يقودنا إليه الحكّام الظلمة على مدار التاريخ؛ لنبقى وَقود نارهم، وقرابين فداءٍ لعروشهم الظالمة لنا قبل غيرنا من الفرق الأخرى.
فالدين الإسلامي: هو أركان الإسلام وأركان الإيمان والإحسان، والفرق الإسلامية جميعها متّفقةٌ عليها، وبالتالي فهي فرق مسلمة مؤمنة، ومذهب سلف الأمة؛ العذر بالجهل، والعذر بالاجتهاد.
فهذه جملة ما ينبغي إدراكه وفهمه في واحدة من أشهر مسائل الخلاف، ليتسنى للمسلمين أن يوحدوا صفوفهم ويعيشوا في إخاء وسلام.

الخميس، 29 نوفمبر 2012

امة الاسلام واحدة

قال الله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : 92] وانظر [المؤمنون:52]


وقال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: (الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ) أخرجه أبو داود (2751) وهذا لفظه، والنسائي (4734) وأصله عند البخاري (1870) ومسلم(1370).
والمسلمون في اجتهادي: كلّ من ينتسب إلى الإسلام انتساباً حقيقياً، ويعتزّ بهذا الانتساب، حتى لو كان فكره منحرفاً.
والحكم عليه بأنه غير مسلمٍ؛ لانحرافه؛ قضاء يقوم به أهل العلم المجتهدون الأحرار الذين يحبون المسلمين ويرحمونهم، ويشفقون عليهم من عذاب الله تعالى ومن النار... نحن دعاة إلى الله تعالى، وإلى الحق، فمن قال لنا: أنا مسلم؛ قبلنا قوله من دون تردد ولا تشكيك، ثم استفسرنا منه عن مفهومه للدين، فإن كان ما لديه من مفهوم صحيحاً باركنا له ذاك الفهم الصحيح، وإن كان ما لديه خطاً؛ بيّنا له خطأه من القرآن العظيم ومن مواضع اجماع الأمة التواضعي فقط، وأرشدناه إلى الصواب.
إذا كنا أتباع من بعثه الله رحمةً للعالمين؛ فيجب أن نكون أولاً رحمةً للمؤمنين الذين ينتمون إلى هذا الدين، ولا ينتمون إلى غيره، مهما كانوا مخطئين، ومهما كانوا جاهلين! فالمسلم الذين يظن نفسه مسلماً، ولا يعلم لنفسه ديناً سوى الإسلام، وكان نشأ في بيئة منحرفة في فهم الإسلام أو في بعض مفاهيمها عن الإسلام، فهل واجبنا الأخذ بيده إلى ساحة الحق لننقذه من مصيره الحزين يوم القيامة، أو واجبنا أن نقول له: أنت كافر، أنت ضالّ، أنت ملحد! فنزيده ضلالاً إلى ضلاله، ونزيده استمساكاً بباطله الذي لا يعرف غيره؟
والقواسم المشتركة بين المسلمين كثيرة جداً، فلا يختلف المسلمون بجميع فرقهم على أنّ فرائض الإسلام العملية هي: الشهادتان والصلاة والصيام والزكاة والحج، والجهاد لدفع الصائل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكلهم يعتقدون بذلك.
وجميع المسلمين يعتقدون أن أركان الإيمان المتفق عليها هي المجموعة في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً) [النساء : 136]، الجميع يعتقدون بذلك، ويعتقدون أن من يكفر بواحد من هذه الأركان؛ فقد خرج من الملة بعد إقامة الحجة عليه.
ويعتقد جميع المسلمين بوجوب الصدق والأمانة والحفاظ على ضروريات الإسلام (حفظ النفس والدين والنسل والعرض والمال)، جميعهم يعتقدون بوجوب ذلك وأنه من المعلوم من الدين بالضرورة.
ويعتقد جميع المسلمين بحرمة الزنا والخمر والكذب والغش والغيبة والنميمة والخيانة والجاسوسية، وسائر المناهي الكثيرة جداً والواردة في كتاب الله تعالى، فلا أعلم عالماً من المسلمين أجاز واحدة من هذه المناهي في الأحوال الطبيعية.
والإسلام نظم كثيرة، فهناك نظام الإسلام العقدي، ونظام الإسلام العبادي، ونظام الإسلام الأخلاقي، ونظام الإسلام الجنائي، ونظام الإسلام الاقتصادي ونظام الإسلام السياسي... وغيرها كثير. والمسلمون يتفقون على معظم أسس الأنظمة السابقة باستثناء النظام السياسي، فيجب أن يعذر بعضنا بعضاً، وأن نقرأ بهدوء وروية تاريخنا الإسلامي في العصر الراشدي فقط؛ لنرى حسن النية من الجميع، وحرص الجميع على أمة الإسلام، لكن لنحصر (أخطاء السقيفة وآثارها) و(أخطاء أبي بكر وآثارها) و(أخطاء عمر وآثارها) و(أخطاء عثمان وآثارها) و(أخطاء عليّ وآثارها) ثم ننظر في ظروف أخطاء كل واحدٍ من هؤلاء وأسبابها، ومنها حجمه الحقيقي من العلم الشرعي ومن العلم السياسي، ثم لنرصد نسبة الآثار المؤلمة لكل واحد منهم على حدة، ثم لنجمع هذه الأخطاء بعضها مع بعض، فسنرى كمّاً كبيراً جداً من الأخطاء، إن كان يُعذر به كل واحدٍ منهم على حدته فلا يجوز بحالٍ من الأحوال أن نسوّغ هذه الأخطاء، فضلاً عن أن نصوب فاعلها، كما لا يجوز أن نتبناها ونجعلها من ضمن المنهج السياسي الإسلامي.
فإن نحن فعلنا هذا، وليأخذ ما شاء من الوقت؛ فسيصبح لدينا معيار واضح لمعرفة سبب الخطأ الأكبر في مسيرة الراشدين، وهو عدم اكتشافهم أو اكتشاف أكثرهم لمنهج القرآن السياسيّ، ثم تأتي مسألة جواز ولاية المفضول مع وجود الأفضل والأعلم، ثم تأتي مسألة مراعاة البيئة في الاختيار... فأمة الإسلام في ذلك الوقت كانت لا تزال تعظم الشجاعة والقوة، وتعظم العلم والتقوى، وتعظم النسب والرفعة، وتعظم القرب من الحاكم السابق، ولا ترى من حاجة إلى إخراج السلطان من عشيرته ما دام فيها الكفء القادر... والمسلمون لم يراعوا في السقيفة هذه الأمور كلها؛ لأن السقيفة كلها كانت فلتة، لكن وقى الله شرها كما قال عمر... لكن أنا أقول: وقى الله شرها مؤقتاً، ثم كانت تداعياتها السلبية وآثارها مدمرة للنظام السياسيّ الإسلامي على الأقل في اختيار الخليفة وصلاحيات الحاكم والتأبيد في خلافته!
فلتطلعوا على أهم ما كتب في الموضوع، لا للطعن على أحد من الراشدين رضي الله عنهم، لكن لتتحققوا من صحة كلامي هذا أوّلاً، ثم لتتجاوزوا تاريخ الراشدين السياسي (الاضطراريّ كله) ولتنظروا في معالم النظام السياسي في القرآن العظيم بتجرد وموضوعية؛ بعيداً عن الأحكام المسبقة.
ولتنتبهوا إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي أنّ صفات حكام الأقاليم غير الخليفة الأعظم فهذا عليّ نفسه ولى عبدالله بن عباس على البصرة وكان عالما وداهية وسياسياً، لكنه ولى الأشتر النخعي لفروسيته وبطولته، ولم يكن عالماً، ولا عشر عالم، وغيره من ولاة علي ممن هم على شاكلته عديدون.
فلو نحن اشترطنا في الخليفة الاجتهاد، فهل نشترطه في (مرسي، والمرزوقي والمالكي؟) مثلاً!!؟
وإذا لم يمكنا جمع الأمة في دولة واحدة، أو في عشر دول، فهل نكون كفرنا، أو فسقنا، أو ضللنا، أوليس علي هو أوّل من أرسل إلى معاوية يقول له ما معناه: (لقد تفانى الناس، ورأيت من حرصك على الدنيا والإمارة ما سيحاسبك عليه الله تعالى يوم تلقاه، وأنت من الطلقاء الذين لا تحلّ لهم الخلافة، وقد رأيت رأيا أرجو أن يكون فيه صلاح أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلك الشام وما وراءها، ولي العراق والحجاز وما وراءهما) معنى هذا أورده الطبري في تاريخه مسنداً، لكنني لم أحقق في سنده لا على منهج المحدثين ولا على منهج المؤرخين؟ فانظروا في واقعية هذا الطرح، واعلموا أنه مذهب الزيدية والإباضية.
الذي أريد أن أخلص إليه هو ضرورة فهم (مفهوم الحاكمية في القرآن) و(مفهوم الحاكم في القرآن) و(مفهوم الشورى في القرآن) و(مفهوم العدل في القرآن) ومفهوم (وحدة الأمة في القرآن) هل هي وحدة سياسية اندماجية؟ أو هي وحدة توافقية تنسيقية في أمور السياسة، وهي وحدة فكرية وعقدية، أو هكذا يجب أن تكون؟
والله من وراء القصد
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين


الأحد، 14 أكتوبر 2012

التقريب بين المذاهب الإسلامية


التقريب بين المذاهب الإسلامية:
هذا العنوان خطأ منذ ولادته قبل قرن من الزمان، وكان الشيخ حسن البنا من أبرز شخصياته.
وهو خطأ اليوم، رغم كثرة المؤتمرات التي عقدت لهذا الغرض في عواصم عديدة من البلاد العربية والإسلامية.
ذلك أن جميع المؤتمرين من شتى المذاهب؛ يعتقدون أنّ مذهبهم هو الحقّ، والمذاهب الأخرى كلها فيما تخالفه فيه على باطل.
فإذا كانت هذه القاعدة مترسخة في قلوب المؤتمرين جميعاً، فكيف يتمّ التقريب؟ هذه واحدة!
والثانية: إنّ جميع المذاهب الإسلامية تعتمد على الروايات الإسنادية في أدلتها للفروع الفكرية والفقهية، وتكون هذه الروايات نسبة (90%) من أدلة الفقه المنقول.
والإباضية يزعمون أن (مسند الربيع الإباضي) أصحّ كتاب بعد كتاب الله تعالى.
والزيدية يزعمون أنّ (مسند الإمام زيد بن علي) صحيح النسبة إلى زيد رضي الله عنه، وهو يمثل فقه آل البيت!
وكتب الشيعة الإمامية الأربعة (الكافي للكليني، ومن لا يحضره الفقية للصدوق، والتهذيب والاستبصار للطوسي) يعدّها الأخباريون من الشيعة أصح كتب الرواية، والأصوليون وإن كانوا يضعفون كثيراً من رواياتها نظرياً، لكنهم لا يكادون يميزون رواية من أخرى في الاستدلال خصوصاً في مواضع خلافهم مع المذاهب الأخرى.
وأهل السنة يعتقدون أن هذه الكتب كلها ليس فيها أسانيد يعتمد عليها، ويجب أن يعرض جميع ما فيها على الكتب المسندة عندنا فإذا وجد متن الحديث في صحيح البخاري؛ فهو يأخذ درجة صحيح البخاري وإذا لم يوجد الحديث الوارد فيها إلا في معجم الطبراني، أو تاريخ بغداد، أو تاريخ دمشق مثلاً؛ فإنه يحصل على درجة الإسناد الموجود في هذا الكتاب المسند أو ذاك من كتبنا؛ لأنه لا ثقة بأسانيد هذه الكتب كلها عند أهل السنة كما أسلفت.
فكيف يكون هناك تقارب أو تقريب بين المذاهب وهذه هي منطلقات الجميع؟
لقد حضرت واحداً من هذه المؤتمرات، واقترحت عليهم المقترحات الآتية:
المقترح الأول: رصد مواضع الإجماع الفكرية والفقهية بين المذاهب الإسلامية جميعها وهي كثيرة جداً.
المقترح الثاني: أن يتفق المؤتمرون على منهج لعرض روايات كتب الحديث عليه؛ إذ لا يمكن أن يتحقق أيّ تقريب ما لم يظهر أن دليل هذا المذهب هو الأقوى فيأخذ به الجميع، ويتنازل كلّ منهم عن دليله الروائيّ، ويعده ضعيفا لا يصلح للاحتجاج به.
المقترح الثالث: الوصول إلى نتيجة في موضوعات أصولية أساسية:
أ) عدالة الصحابة.
ب) حجية قول الصحابي.
ج) قبول مرسل الصحابي.
د) حجية قول الفقيه.
هـ) عصمة أئمة الشيعة.
و) حجية قول الإمام الشيعيّ.
ز) حجية الإجماع الطائفيّ.
فقال لي أحد المنظمين لذلك المؤتمر على انفراد: أنت من كلّ عقلك تظنّ أنّ هذا المؤتمر من أجل التقريب؟
قلت: إذا لماذا تنفقون على المؤتمر كل هذه الأموال؟
قال: هكذا يريد الساسة، والمسألة إعلامية فقط!
أنا أرى أن دعوة التقريب من أساسها فاشلة وكاذبة من جميع الأطراف، وقد عرضت تجربتي مع الحسينيات حيث أنني زرت أكثر من عشرة منها في بغداد وكربلاء والنجف، وما رأيت فيها شركاً، ولا سباً للصحابة ولا استغاثة بغير الله تعالى.
أنا ادعو قومي إلى الأدب مع المسلمين، وإلى الشرف في الخصومة وترك الكذب والافتراء من بعضنا لبعض، ولا أدعو مطلقاً إلى التقريب بين المذاهب،
أنا لا أدعو إلى التشيع الإمامي ولا التشيع الزيدي؛ لأنني لو كنت أعتقد أنهما أو أحدهما هو المذهب الصحيح؛ لوجب عليّ الانتقال إليه فوراً. لكنني أدعو إلى الصدق والإنصاف والتوثيق والأدب.
فمن يعتقد ويقول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) هو أقرب إليّ من كلّ كافر بهذه الشهادة.
أسأل الله الهداية والإنصاف للمسلمين جميعاً والله المستعان