السبت، 8 يونيو 2024

      التصوّف العليم (26):

ثَروَةُ السادة الكسنزانِ الهائلة !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

عددٌ من الإخوةِ انفتحت شهيّتهم لانتقادِ الطريقةِ الكسنزانيّة، بعد أنْ علموا أنني الآنَ ضيفٍ على التكيةِ الكسنزانيّة في السليمانيّة، حتى إنّني قرأتُ لعددٍ منهم اتّهاماتٍ ماليّةً للطريقةِ وشيخِها الحاضر.

أقولُ وبالله التوفيق:

إذا عرفتَ أنّ الشيخ صالح بن عبدالله كامل رحمه الله تعالى موسر غنيٌّ؛ لا تتشنّج!

إذا عرفتَ أنّ الشيخ عبدالله المطوّع القناعيّ رحمه الله تعالى موسر غنيٌّ؛ لا تتشنّج!

إذا عرفتَ أنّ الشيخ الراجحي، أو الشيخ با سنبل، أو الشيخ با خيل أغنياء؛ فلا تتشنّج!

لماذا إذا عرفتَ عالماً موسراً، أو صوفيّاً غنيّاً تتشنّج؟

أنا والله لا أعرفُ إنْ كان السيّد الشيخ «محمّد نهرو» الكسنزان غنيّاً، أم مليونيراً، أم مليارديراً، أمْ كان مثلي، لا يملك شيئاً!

ولا أرى من الأدبِ، ولا من اللباقةِ، ولا من حقّي الشخصيِّ أن أسأَله مجرّد سؤالٍ عن ماليّته، بعد أن أتذكّر قول الله تعالى:

(اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاع).

(وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ؛ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ، إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ).    

حكمةُ الله تعالى اقتضتْ أن يكون عدابٌ فقيراً، لا يملك من هذه الدنيا قليلاً ولا كثيراً، والحكمة المقدسة ذاتها اقتضت أن يكون الشيخ صالح كامل رحمه الله تعالى مليونيراً!

ربما لو أعطاني الله تعالى مليونَ دولارٍ؛ لما احتمل عقلي وجودَ هذا المبلغ بين يديّ، وربما أنفقته بسنةٍ واحدة، من دون خبرةٍ استثماريّة، ولا كبيرِ نفعٍ للأمة!

بيد أنّ الذي حدّثني به شيخي السيّد محمّد الكسنزان، رضي الله عنه، أنّه عندما قرّر النزولَ إلى بغدادَ والمقامَ بها؛ لم يكن يملك من المالِ ما يشتري به سكناً يؤويه وعائلتَه؛ وأنّ «الدراويش» هم الذين اشتروا قطعةَ الأرض في بغداد، وبنوها بسواعدهم!

وهذا يعني أنّ الشيخ محمّد الكسنزان، في عام (1988) لم يكن يملك إلّا ميراثاً من الأرض، وبيتاً في كركوك، ورثه عن والده السيّد الشيخ عبدالكريم الكسنزان، رحمه الله تعالى.

السيّد محمد الكسنزان - كما يعلم جميع دراويشه وخلفائه - كان أميرَ الفرسان في كردستان العراق، وهذا يعني أنّه كان سياسيّاً، وليس شيخَ طريقةٍ صوفيّة فحسب!

ولا أرى من الجنايةِ عليه أن أقول: إنّ (السيّد محمد الكسنزان) زعيم دينيّ صوفيّ سياسيّ.

ولا يخفى على أحدٍ أنّ المنتسبَ إلى أيّ حزبٍ من الأحزاب، يجد مصلحتَه فيه؛ يدفع اشتراكاً شهريّاً لإدارة الحزب، في مقابل حمايته، ومراعاة مصلحتِه الاجتماعية والمالية والسياسيّة.

فلو نحن عددنا الطريقةَ القادرية الكسنزانيّة طريقة صوفيّة اجتماعيّة وسياسيّة، ووجدنا دراويشَ الطريقةِ وخلفاءها مقتنعين تماماً بزعامة السيّد الشيخ محمّد بن عبدالكريم الكسنزان؛ فهم لن يجدوا أدنى حرجٍ فيما لو فرضَ حضرةُ والدهم وشيخهم على كلّ فردٍ منتمٍ إلى هذه الطريقةِ (دولاراً) أمريكيّاً واحداً في الشهر!

هل ترون مثلَ هذا مرفوضاً عرفاً أو شرعاً؟

لا أظنّ أحداً يرى ذلك شاذّاً أو منبوذاً، فجميع الأحزاب السياسية والنوادي الاجتماعيّة والنقابات المهنيّة؛ تفرض رسوماً شهريّة على عناصرها، ولنعدّ الطريقةَ الكسنزانيّةَ تنهج المنهج ذاته!

والسادة الكسنزان في عام (1996) قدّروا أعدادهم في العراق وحده بخمسة ملايين مريدٍ، بين خليفةٍ ودرويشٍ ومريد!

فلو افترضنا أنّ (80%) من المنتسبين إلى الطريقة الكسنزانية فقراء مُعدِمين، لا يقدرون على دفع دولارٍ واحدٍ في الشهر، فيبقى مليونُ خليفةٍ ودرويشٍ يَقدرون على دفعِ مليونَ دولارً لإدارة الطريقةِ في كلّ شهرٍ، من دون أن يؤثّر ذلك على ماليّةِ المنتسبينَ ومعاشِهم!

أنا لم أسأل شيخنا المنتقلَ إلى رحمةِ الله تعالى شيئاً من هذه الأسئلةِ بتاتاً!

بيد أنني كنتُ أرى بعينيّ (الخليفةَ) رئيس التكيةِ في البصرة أو الموصلِ أو كركوك، يدخل إلى التكيةِ الكسنزانيّة في نفقِ الشرطة ببغدادَ، حاملاً «جونيّة نقود» يرميها بجانب حضرة الشيخ، ثم يقبّل قدَمَه، ثمّ يجلس خاشعاً مؤدّباً بين يديه!

وهذا يعني أنّ دراويش الكسنزان يقدّمون إلى شيخهم اشتراكاتٍ شهريّةً أو دوريّةً، وإنْ كنت لا أعلم عن تفاصيلها شيئاً.

والسؤال الآن: هل ينفق حضرةُ الشيخِ على نفسه وأسرته والتكيةِ الرئيسةِ في بغداد مليونَ دولار في الشهرِ؟

قطعاً هو لا يفعل ذلك!

فكيف لو نحن قدّرنا عدد أتباع الطريقةِ الكسنزانيّةِ بعشرين مليون نسمةٍ، أو خمسين مليون نسمة في العالم مثلاً؟

أرجو أن يكون بياني هذا واضحاً، في أنّ تمويلَ الطريقةِ الكسنزانيّة ذاتيٌّ (1000%) ولا يجوز أن يتطرّق الشكُّ وسوءُ الظنِّ إلى عقول وقلوبِ المسلمين، تجاهَ إخوانهم المسلمين (الكسنزان) أبداً.

هذه شهادتي المبنيّة على خبرةٍ قريبةٍ يسيرة (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ).

والله تعالى أعلم.

والحمدُ لله على كلّ حال.

 مَسائِلُ مِن الفِقْهِ والأُصولِ (20):

تَكبيراتُ العيدين؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

كتب إليّ أحدُ الإخوةِ من الجزائر يقول: «درجنا في الجزائر أن نكبّرَ صباحَ العيد جماعةً بهذه الصيغة: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله.. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.. لا حول ولا قوّةَ إلّا بالله) وهكذا إلى أن نقوم إلى الصلاة.

في هذا العام جاءنا إمام، زعم أنّ السنّة في صيغة التكبير؛ كما في بلاد الحرمين.

أفيدونا بما صحّ في هذه المسألة، ولكم الأجر» انتهى كلامه.

أقول وبالله التوفيق:

قال الله تبارك وتعالى:

(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

(لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا، وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ.

كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ، لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ، وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِين).

الآيةُ الكريمة الأولى تتحدّث عن تكبيراتِ ليلةِ عيدِ الفطرِ.

والآية الثانية تتحدّث عن تكبيرات عيد الأضحى وأيّام التشريق.

ولا يخفى على طلبةِ العلمِ؛ أنّ العلماءَ من الصحابةِ فمن بعدهم؛ اختلفوا في عدد تكبيراتِ خطبةِ العيدِ، واختلفوا في عدد تكبيراتِ صلاة العيد، مع اتّفاق جميعهم على أنّ صيغة التكبير واحدة (الله أكبر).

وإذْ إنّ الأمّة مذهبيّةٌ ضرورةً؛ فلست في حاجةٍ إلى عرضِ مذاهب العلماءِ فيما تقدّم، ولا في ترجيح بعضها على بعض.

وَقَدْ ذَكَرَ الإمامُ الْعَيْنِيُّ في كتابه «البُنايةُ في شرح كتاب الهداية» (2: 867) تِسْعَةَ عَشَرَ قَوْلاً فِي عَدَدِ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ، وَقَال: «الاِخْتِلاَفُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ كُلّ ذَلِكَ فَعَلَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأْحْوَال الْمُخْتَلِفَةِ، بمعنى أَنَّ كُلّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَوَى قَوْلَهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُل وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ رَوَى قَوْلَهُ عَنْ صَحَابِيٍّ».

وإذْ لا توقيفَ في ذلك عن الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فلا أحبُّ للمسلمِ أن يخالِفَ أهل بلدِه فيما اختاروه من صيغٍ للتكبيرات المسنونةِ أو المندوبة، قبلَ صلاةِ العيد.

  ففي الجزائر يقولون:

(سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله.. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.. لا حول ولا قوّةَ إلّا بالله) فليقلِ الجزائريُّ مثلَ ما يقوله قومُه في الجزائر.

وفي سوريا يقولون:

(الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلّا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.

اللهُ أكبرُ كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله وبحمده بكرةً وأصيلاً، وتعالى الله جبّاراً قديراً، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آلِه وسلَّم تسليماً كثيراً).

فلا حَرَجَ عليك - أخي المسلم - أنْ تُكبّرَ بأيّ صيغةٍ ما دام (اللهُ أكبر) موجوداً فيها.

بيد أنني لا أحبُّ الخلافَ في المندوباتِ، وأفضّل أن تلتزم بالصيغةِ التي يُكبّر بها المسجدُ أو الموضعُ الذي تصلّي العيدَ فيه.

والله تعالى أعلم.

والحمدُ لله على كلّ حال.

الجمعة، 7 يونيو 2024

       التصوّف العليم (25):

الصلاةُ الوصفيّة عند السادة الكسنزانيّة!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

اعتراضاتُ الناسِ على الطريقةِ الكسنزانيّة؛ كثيرةٌ، ومتنوّعةٌ، ومتعارضةٌ في أحيايين كثيرةٍ، فهذا يعترضُ على ضربِ الدفِّ مطلقاً، وذاك يعترض على ضرب الدفِّ مع ذكر الله تعالى، وذاك يجوّزه مع المديح والنشيد!

وذاك يصف شيخ الطريقة بابتداع صلواتٍ على الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وفي هذا المنشور؛ سأشرح وجهةَ نظر السادةِ الكسنزان في (ابتكارِ) الصلاة الوصفيّة المعتمدة لديهم شعاراً للطريقةِ، فأقول وبالله التوفيق:

من المقطوع به لدى السادةِ الكسنزان وغيرهم من الصوفيّة (السُنيّة) أنّ الصلاةَ على الرسولِ في التشهّدِ الأخير؛ هي الصلواتُ الإبراهيميّة الواردةُ في حديثِ كعبِ بنِ عُجرةَ أنّ الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم علّم الصحابة كيفيّة الصلاة عليه، فقال: (قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) أخرجه البخاري (3370) ومسلم (406) وهو مرويّ عن عددٍ من الصحابة.

وأهلُ السنّة أجمعون «الصوفية وغيرهم» يختصرون الصلوات الإبراهيمية، ويقتصرون خارجَ الصلاةِ على جُزءٍ منها، فيقولون: (صلّى الله عليه وسلّم) فإذا أرادوا أنْ يصلّوا على الآل؛ حشروا معهم الصحابةَ على طول الخطّ (صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم).

فأهل السنّة بعملهم هذا؛ أجازوا الاقتصارَ على بعضِ الصلوات الإبراهيمية المأثورة، وأجازوا الزيادةَ عليها.

وما داموا قد جوّزوا ذلك - بأيّ تأويلٍ لديهم - فليس من حقِّهم الاعتراضُ على السادةِ الكسنزان أن يُنقصوا من الصلواتِ الإبراهيميّة، أو يزيدوا عليها؛ لأنهم مشتركون بهذا التجويز!

على أنَّ أهلَ السنّةِ أجمعين - ومنهم السادة الكسنزان - لا يَستعملون صيغةً للصلاة والسلام على الرسولِ، ثابتةً في صحيح البخاريّ (3369) وصحيح مسلمٍ (407) من حديثِ أبي حُميدٍ الساعديّ أنّ الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ.

وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيد) لأنّ أهلَ السنّة درجوا في تاريخهم كلّه على عدمِ تخصيص ذريّة الرسولِ بأيّ امتياز!

وإذْ كنتُ أعرف دوافعَ أهلِ السنّة المعاصرينَ لنا؛ فإنني لا أفْهَم لماذا يعرضُ السادةُ الصوفية - ومنهم السادةُ الكسنزان - عن هذه الصيغة الصحيحة المباركة؟

وقِصّةُ الصلاةِ الوصفيّة الكسنزانيّة؛ بدأت معي أنا الفقير عداب!

ذاتَ ليلةٍ من ليالي الجمعةِ، من عام (1996) وبعد انتهاء مجلسِ الذكر العام؛ قال لي حضرةُ الشيخ محمّد بن عبدالكريم الكسنزان، رضي الله عنهما: يا سيّد بُلّغتُ بصيغةِ صلاةٍ على جدّك الرسول، هي (اللهم صلّ على سيّدنا محمّدٍ الوصفِ والوحيِ والرسالةِ والحكمة، وعلى آله وصحبه وسلِّمْ تسليماً) فيا ليت تَشرحُ للدراويشِ هذه الصيغةَ غداً في خُطبةِ الجمعة.

نظرتُ في هذه الصلاة الوصفيّة؛ فوجدتها شطرين:

الشطر الأوّل: متّفق عليه بين أهلِ السنة أجمعين:  (اللهم صلّ على سيّدنا محمّدٍ، وعلى آله وصحبه وسلِّمْ تسليماً) ما عدا الذين يتوقّفون عند لفظة التسويد.

والشطر الثاني: (الوصفِ والوحيِ والرسالةِ والحكمة) صفاتُ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:

- صاحب الوصفِ الأسمى (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

- (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَي).

- (يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

- (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ).

فشرحتُ الصلاةَ الوصفيّةَ هذه، في أربعِ خُطَبِ جمعةٍ متوالياتٍ، جمعتُ فيها ما فتح الله تعالى به عليّ من كمالاتِ سيّدنا رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم غدت هذه الصيغةُ شعارَ الكسنزانِ منذ ذلك التاريخِ وإلى يومنا هذا.

هذه هي الصلاةُ الوصفيّة، وهي متّفقةٌ تماماً مع المتداوَلِ لدى أهل السنّة أجمعين (اللهم صلّ على سيّدنا محمّدٍ، وعلى آله وصحبه وسلِّمْ تسليماً) مع إضافةِ تعظيمٍ وتكريمٍ مشروعَيْن تجاه الرسولِ الأعظم.

والسادة الكسنزان لا يقتصرون على الصلاة الوصفيّة أبداً، وليست هي بديلَ الصلاةِ المتداولة بين أهلِ السنّة، بل وليست هي صيغةَ الورد اليوميّ من الصلاة على الرسولِ، إنّما صيغةُ الورد اليوميّ لديهم:

(لا إله إلّا الله - محمد رسول الله - صلّى الله تعالى عليه وسلّم).

وأنا أقترح على السادةِ الكسنزان أنْ يجعلوا وِردهم من الصلاةِ على الرسول، هذه الصيغةَ المباركةَ الجامعة: (اللهم صلّ وسلّم وبارك على محمّد وآله وأزواجه وذريّته).

والله تعالى أعلم.

والحمد لله ربّ العالمين.

السبت، 1 يونيو 2024

     التصوّف العليم (24):

سُجودُ المُريدِ الصوفيّ لشيخِه!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

يُثير بعضُ الناسِ إشكالاتٍ على بعضِ السادةِ الصوفيّة، ومن أبرز هذه الإشكالاتِ؛ سجودُ المريدين لشيخهم!

وأعترف ابتداءً أنّ من الفقهاء الكبارِ القدامى مَنْ لم يفرّق بين المظهر الشركيّ «السجود لغير الله تعالى بقصد التحيّة والتعظيم» وبين الشرك نفسِه «السجود لغير الله تعالى بقصد العبادة»وعدّوا ذلك كلَّه شركاً، وأخرجوا فاعله من الملّة، سواءٌ كانت نيّته عبادَةَ المَسجودِ له، أم كانت نيّته تحيّةَ المسجود له وإكرامَه، وعلى هذا كثيرٌ من علماءِ السادةِ الحنفيّة!

بيد أنّ في هذا الإطلاقِ نظراً كبيراً، هذا بيانُه:

قال الذهبيّ في معجم شيوخه (1: 73): «أَلا تَرَى الصَّحَابَةَ فِي فَرْطِ حُبِّهِمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: أَلا نَسْجُدُ لَكَ؟ فَقَالَ: «لا»!

فَلَوْ أَذِنَ لَهُمْ؛ لَسَجَدُوا لَهُ سَجُودَ إِجْلالٍ وَتَوْقِيرٍ، لا سجود عبادة، كما سجد إخوةُ يوسفَ عليه السلام ليوسفَ

وكذلك القول في سجود المسلم لقبر النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التعظيم والتبجيلِ؛ لا يكفر به أصلاً، بل يكون عاصياً، فليُعرَفْ أنّ هذا مَنهيٌّ عنه، وكذلك الصلاةُ إلى القبر» انتهى كلام الذهبيّ.

قال الشوكاني في السيل الجرار: «اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام، ودخوله في الكفر؛ لا ينبغي لمسلمٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أَن يُقْدِم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار.

فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشر، لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام، ولا اعتبار بصدورِ فِعْلٍ كُفريٍّ لم يرد به فاعله الخروجَ عن الإسلام إلى ملة الكفر.

وأما قوله: «ومنها السجود لغير الله» فلا بد مِن تقييدِه بأن يكون سجودُه هذا قاصداً رُبوبيّةَ مَن سَجَدَ له، فإنّه بهذا السجود قد أشرك باللهِ عزّ وجلَّ، وأثبت معه إلهاً آخر.

وأما إذا لم يَقْصِدْ إلا مُجرَّدَ التَعظيمِ، كما يَقعُ كثيراً لمن دَخل على مُلوكِ الأعاجمِ؛ أنه يُقبّل الأرض تعظيماً له؛ فليس هذا من الكفر في شيء، وقد علم كل من كان من الأعلام أن التكفير بالإلزام من أعظم مزالق الأقدام» انتهى.

وقال البجيرمي في تحفة الحبيب: مجرد السجود بين يدي المشايخ لا يقتضي تعظيم الشيخِ كتعظيم الله عز وجل، بحيث يكون معبوداً، والكفر إنما يكون إذا قصد ذلك.

وقال الرملي في نهاية المحتاج: قال ابن الصلاح: ما يفعله عوام الفقراء من السجود بين يدي المشايخ فهو من العظائم، ولو كان بطهارة وإلى القبلة، وأخشى أن يكون كفراً. انتهى.

وعلق على ذلك الشرواني في حاشيته على تحفة المحتاج فقال: إنما قال ذلك ولم يجعله كفراً حقيقة؛ لأن مجرد السجود بين يدي المشايخ لا يقتضي تعظيم الشيخ كتعظيم الله عز وجل بحيث يكون معبوداً، والكفر إنما يكون إذا قصد ذلك. انتهى.

وقال النووي في المجموع وفي الروضة: ما يفعله كثير من الجهلة من السجود بين يدي المشايخ حرامٌ قطعاً بكل حال سواء كان إلى القبلة أو غيرها»

ختاماً: أجمع علماءُ أهل السنّة على أنّ السجودَ لمخلوقٍ بقصدِ العبادَةِ؛ يُخرج فاعلَه من الإسلام.

وأجمعوا على أنّ الساجدَ لمخلوقٍ بقصدِ تحيّته وتعظيمه بما دون العبادةِ؛ قد ارتكب معصيةً من المعاصي، وفعلاً من المحرّمات.

فأنهى إخواني من الصوفيّةِ السالكينَ إلى الله تعالى عن ارتكابِ هذه المعصيةِ في حقِّ وليٍّ صالحٍ مُتوفّىً، أو في حقّ عالمٍ أو مرشدٍ أو شيخِ الطريق؛ فإنّ المعاصي أكبرُ العوائقِ في الوصولِ إلى مرضاة الله تعالى.

والله تعالى أعلم

والحمد لله على كلّ حال.

الجمعة، 31 مايو 2024

التصوّف العليم (20):

دورة الكسنزان العلميّة الخامسة

بسم الله الرحمن الرحيم

عتب بعضُ الإخوةِ عليَّ أنْ علموا أنني في رحاب «التكية العليّة القادرية الكسنزانيّة» وهدف الزيارة الأسمى؛ هو إقامةُ دورة علميّة في القرآن والحديثِ والفقه، لخلفاء الطريقة الكسنزانيّة.

ويعلم أولادي وتلامذتي أنني كنت عمدةَ (دورة الكسنزان العلميّة الأولى) في بغداد، عام (1996) تلك الدورة العلمية المكثّفة التي استمرّت ستّة أشهرٍ متواليّة، والتي خرّجنا فيها ثلاثةً وتسعين طالبَ علمٍ، من خلفاء الكسنزان.

وقد دعاني حضرة شيخ الطريقةِ الكسنزانيّة الدكتور «محمد نهرو» بن السيّد الشيخ محمد الكسنزان الحسينيّ إلى العراقِ، للقيام بهذه الدورة العلميةِ، التي نسأل الله تعالى أن يتمّها الرحمان الرحيم على خيرٍ، وأن يعينني على القيام بها، وأن ينفعَ المشاركين فيها.

وقد طلب مني حضرة الشيخ «محمد نهرو» تفاصيل الموادّ المطروحةِ في هذه الدورة، فأرسلتُ إليه هذه المسوّدةَ بحروفها:

(بسم الله الرحمن الرحيم

منهاج دورة الكسنزان الصيفيّة الخامسةِ لعام (2024).

الحمد لله ربّ العالمين، القائل في محكم كتابه الكريم: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) [سورة القيامة].

والقائل جلّ وعزّ: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً، فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ، لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) [سورة التوبة].

والقائل تباركت أسماؤه: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) [سورة النساء].

والصلاة والسلام على حبيبنا رسول الله محمّد بن عبدالله القائل: (خَيركم مَن تعلّم القرآن وعلّمه) أخرجه البخاري (5027) والترمذيّ (2907) وقال: حسن صحيح.

والقائل في دعائه لابن عباس: (اللهم فقّهه في الدين، وعلّمه التأويل) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2274) من حديث سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

والقائل: (يُوشِكُ بِالرَّجُلِ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يُحَدَّثُ بِحَدِيثِي فَيَقُولُ: (بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، مَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ؛ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ؛ حَرَّمْنَاهُ.

أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ؛ هُوَ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللهُ) أخرجه الدارميّ في سننه (586) وهذا لفظه، والترمذيّ في جامعه (2664) وقال: حديث حسن غريب.

أوّلاً: مدّة الدورة العلمية الكسنزانية الصيفيّة؛ أربعون يومَ عملٍ تامّة، في كلّ يومٍ ستُّ ساعاتٍ تدريسيّة عمليّة.

ثانياً: تجرى مقابلةٌ شفويّة للمتقدمين إلى هذه الدورة، ويتمّ قَبولُ أصحابِ الدرجات العليا.

ثالثاً: يجرى اختبار تحريريّ في يومٍ،واختبار شفويّ في يومٍ آخر، بعد تمام عشرين يوماً عمليّاً، كما يجرى الاختبار النهائيّ، بعد تمام عشرين يوماً أخرى، ويكون الاختبار النهائيّ، بعد تمام الدورة.

رابعاً: حُضورِ طلّاب الدورةِ في مركز التكية؛ إلزاميّ.

خامساً: يمنح المركز الثقافي الكسنزاني للطلاب الناجحين شهادةً علميّة، وللمتفوقين شهادةَ تقديرٍ أيضاً.

ويمنح الدكتور المحاضر السيّد عداب الحمش ثلاثَ إجازاتٍ علميّة، مُسندةً بالقدر التي حضره الطلّاب عليه، مع إجازةِ روايةٍ، شاملةً جميعَ كتب الإسلام المسندة، لدى أهل السنّة والشيعة الإماميّة.

ثانياً: البرامج العلميّة للدورة تقتصر على ثلاثِ موادَّ دراسيّة علميّة، تشتمل كلّ مادّةٍ على علوم متعدّدة على النحو الآتي:

(1) مادة علوم القرآن وتشتمل:

(أ) على تلاوةِ حزبِ المفصّل من (سورة الحجرات) حتى آخر (سورة الناس) مع قراءة فواتح السور وخواتمها، وتلاوة الكلمات المستصعبة التلاوة من دون شيخٍ معلّم، في جميع سور القرآن الكريم.

(ب) تعلّم أحكام التجويد، وسأختار كتاباً صغيراً، يتناسب مع دورة قصيرة؛ لأنّ الأهمّ هو التطبيق العمليّ.

(ت) تعلّم الوقف والابتداء.

(ث) تفسير الكلمات المستصعبة في حزب المفصّل، من كتابٍ جيّد مختار.

(2) مادّة الحديث النبويّ، وتشتمل على العلوم الآتية:

(أ) تعليم كتاب (نزهة النظر) للحافظ ابن حجر، أو (اختصار علوم الحديث) حسب قدرة الطلّاب، وللدكتور المحاضر عداب بن السيّد محمود الحمش؛ شرح وجيزٌ على كلّ واحدٍ من هذين الكتابين.

(ب) شرح وإقراءُ وتخريج الأربعين حديثاً النوويّة.

(ت) تعريف الطالب بمناهج صحاح أهل السنّة الأربعة (صحاح البخاري ومسلم وابن خزيمة وابن حبّان) وتعريفهم بمسند الإمام زيدٍ والربيع بن حبيب الإباضيّ والكتب الأربعة الإمامية: الكافي للكليني، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق، والتهذيب والاستبصار لشيخ الطائفة الإماميةِ أبي جعفر الطوسي.

وللمحاضر الدكتور عداب كتابان في هذا الجانب.

(ث) متطلّبات إجازة الرواية الحديثيّة العامّة، ويتعلّم الطالب فيها القراءةَ الحديثيّة العلميّة لعشرةِ كتبٍ من كتب السنّة المطهّرة: (موطّا مالك - مسند الشافعيّ - مسند أحمد - سنن الدارمي - صحيح البخاريّ - صحيح مسلم - منتقى الأحكام لابن الجارود - صحيح ابن خزيمة - صحيح ابن حبّان - مستدرك الحاكم.

وللمحاضر الدكتور عداب كتاب في هذا الجانب، عنوانه (الأمالي العراقيّة) سبق علّمته لطلابي في العراق عام (2000 - 2002).

 (3) مادّة الفقه الإسلامي: وتشتمل:

(أ) على كتاب (متن الغاية والتقريب) للإمام أبي شجاع الأصبهانيّ، بتحقيق وضبط الدكتور عداب.

(ب) شرح الغزّي على متن أبي شجاع.

(ت) التذهيب في أدلّة متن الغاية والتقريب، للدكتور مصطفى ذيب البغا.

(ث) المسائل التي خالف فيها أبو شجاعٍ الراجح في المذهب الشافعيّ، للدكتور محمود بن إبراهيم السقّا المصريّ.

(ج) تخريج الأحاديثِ ونقدها، وبيان أثر ذلك على بعض المسائل الفقهية، للدكتور عداب.

هذه هي مناهجُ الدراسة في دورة الكسنزان الخامسة، ونسأل الله تعالى التوفيقَ والرشادَ.

فهل يُلام السيد الشيخ «محمد نهرو» على إقامةِ هذه الدورةِ العلميّة، أو يُشكر، ونسأل الله تعالى له المثوبة، والأجرَ العميم.

وهل يُلامُ الفقير عدابٌ على تحمّله مشاقّ القيام بهذه الدورة العلميّة، ستّ ساعاتٍ يوميّاً لمدّة أربعين يوماً متواصلةً، وهو ابن سبع وسبعين سنة؟

ما لكم كيف تحكمون أيّها الناس، أليس لديكم خوف من الله تعالى، ورحمةٌ بإخوانكم المسلمين؟

والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات.

الخميس، 30 مايو 2024

         مَسائل حديثية (100):

هل أعرض البخاريّ عن تخريجِ حديثِ بريدةَ في ولاية عليّ عمداً !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

من المسلَّم لدى أهلِ الحديثِ؛ أنّ حديثاً لا يخرّجه البخاريُّ ومسلمٌ أو أحدهما، في بابٍ يَحتاج إلى الحديث؛ يكون في هذا الحديثِ عِلّةٌ في إسناده أو متنه!

وقد أخرج البخاريّ طرفاً من حديثِ بريدةَ هذا، في فضل الإمام عليٍّ، وأعرض عن سائره، فلِمَ فَعَل هذا؟

بإسنادي إلى الإمام البخاريّ في المغازي، باب بعثِ عليٍّ وخالدِ بن الوليد إلى اليمن (4350) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ مَنْجُوفٍ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ « بُرَيْدَةَ » رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا إِلَى خَالِدٍ لِيَقْبِضَ الْخُمُسَ.

وَكُنْتُ أُبْغِضُ عَلِيًّا - وَقَدْ اغْتَسَلَ - فَقُلْتُ لِخَالِدٍ: أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا؟

فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ!

فَقَالَ يَا بُرَيْدَةُ: (أَتُبْغِضُ عَلِيًّا)؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ!

قَالَ: (لَا تُبْغِضْهُ، فَإِنَّ لَهُ فِي الْخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ).

قال عداب: روايةُ علي بن سعيد بن منجوفٍ هذه، أخرجها أحمد في موضعين في مسنده (21958) قال: حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ مَنْجُوفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لِيَقْسِمَ الْخُمُسَ وَقَالَ رَوْحٌ مَرَّةً لِيَقْبِضَ الْخُمُسَ قَالَ فَأَصْبَحَ عَلِيٌّ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ قَالَ فَقَالَ خَالِدٌ لِبُرَيْدَةَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا يَصْنَعُ هَذَا لِمَا صَنَعَ عَلِيٌّ

قَالَ وَكُنْتُ أُبْغِضُ عَلِيًّا قَالَ فَقَالَ يَا بُرَيْدَةُ أَتُبْغِضُ عَلِيًّا قَالَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَلَا تُبْغِضْهُ قَالَ رَوْحٌ مَرَّةً فَأَحِبَّهُ فَإِنَّ لَهُ فِي الْخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.

وأعاده أحمد في مسنده (21979) سنداً ومتناً.

وسياقة أحمد لمتن هذه الرواية قريبة من سياقة البخاريّ، لكنها أوضح منها.

ولم يخرّج البخاريّ أيَّ روايةٍ أخرى من رواياتِ هذا الحديثِ الكثيرة.

بينما ساقه الإمام أحمد من أربع طرقٍ، سوى الطريق المشتركة مع البخاريّ.

(1) مسند أحمد (22961) حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ قَالَ لَمَّا قَدِمْنَا قَالَ كَيْفَ رَأَيْتُمْ صَحَابَةَ صَاحِبِكُمْ قَالَ فَإِمَّا شَكَوْتُهُ أَوْ شَكَاهُ غَيْرِي قَالَ فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَكُنْتُ رَجُلًا مِكْبَابًا قَالَ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ احْمَرَّ وَجْهُهُ قَالَ وَهُوَ يَقُولُ مَنْ كُنْتُ وَلِيَّهُ فَعَلِيٌّ وَلِيُّهُ).

وهذا حديثٌ إسناده صحيح، وقد صرّح الأعمش بالتحديث!

(2) مسند أحمد (21934) حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنِي أَجْلَحُ الْكِنْدِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ بُرَيْدَةَ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثَيْنِ إِلَى الْيَمَنِ عَلَى أَحَدِهِمَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَلَى الْآخَرِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَقَالَ إِذَا الْتَقَيْتُمْ فَعَلِيٌّ عَلَى النَّاسِ وَإِنْ افْتَرَقْتُمَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا عَلَى جُنْدِهِ قَالَ فَلَقِينَا بَنِي زَيْدٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَاقْتَتَلْنَا فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَتَلْنَا الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَيْنَا الذُّرِّيَّةَ فَاصْطَفَى عَلِيٌّ امْرَأَةً مِنْ السَّبْيِ لِنَفْسِهِ قَالَ بُرَيْدَةُ فَكَتَبَ مَعِي خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ فَلَمَّا أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعْتُ الْكِتَابَ فَقُرِئَ عَلَيْهِ فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا مَكَانُ الْعَائِذِ بَعَثْتَنِي مَعَ رَجُلٍ وَأَمَرْتَنِي أَنْ أُطِيعَهُ فَفَعَلْتُ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَقَعْ فِي عَلِيٍّ فَإِنَّهُ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَهُوَ وَلِيُّكُمْ بَعْدِي وَإِنَّهُ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَهُوَ وَلِيُّكُمْ بَعْدِي.

وهذا إسناد صحيح بغيره، أجلح الكنديّ وإن قال بعضهم فيه: صدوق، إلّا أنّه ضبط حديثَه تماماً، كما ضبطه الثقات!

(3) مسند أحمد (23028) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى مَجْلِسٍ وَهُمْ يَتَنَاوَلُونَ مِنْ عَلِيٍّ فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِي نَفْسِي عَلَى عَلِيٍّ شَيْءٌ وَكَانَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ كَذَلِكَ فَبَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ عَلَيْهَا عَلِيٌّ وَأَصَبْنَا سَبْيًا قَالَ فَأَخَذَ عَلِيٌّ جَارِيَةً مِنْ الْخُمُسِ لِنَفْسِهِ فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ دُونَكَ قَالَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلْتُ أُحَدِّثُهُ بِمَا كَانَ ثُمَّ قُلْتُ إِنَّ عَلِيًّا أَخَذَ جَارِيَةً مِنْ الْخُمُسِ قَالَ وَكُنْتُ رَجُلًا مِكْبَابًا قَالَ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَغَيَّرَ فَقَالَ (مَنْ كُنْتُ وَلِيَّهُ؛ فَعَلِيٌّ وَلِيُّهُ).

وهذا إسناد صحيح، وقد صرح الأعمش بالتحديث!

(4) مسند أحمد (23057) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ كُنْتُ وَلِيَّهُ فَعَلِيٌّ وَلِيُّهُ) وهذا الإسناد هو السابق، ويبدو أنّ وكيعاً اختصره.

وليست هذه الطرقُ جميع رواياتِ حديث بريدة، إنما هي طرق روايةٍ واحدة فحسب، وسيأتي في تخريجي حديثَ بريدةَ أنّه حديثٌ مشهورٌ عنه!

وقد كان مسندُ أحمدَ بين يدي البخاريّ، وأحمدُ شيخُه، وهذه رواياتٌ أقوى من كثيرٍ من بعض رواياتِ البخاريّ في صحيحه.

فيكون البخاريّ تعمّد إهمالَ تخريج بعض هذه الرواياتِ، لما يعلم من دلالتها على ما لا يرغب بتقريره!

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.   والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

الخميس، 2 مايو 2024

          مَسائل حديثية (98):

كيف يخرّجُ البُخاريُّ ومسلمٌ عن كذّابين؟

إسماعيلُ ابن أبي أويسٍ نموذجاً!!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

في حوارٍ من بعضِ أولئك الذين يَدْعون الناسَ إلى الاقتصار في أمور الدينِ على القرآن الكريم وحسب؛ قال: كيف آمَن البخاريَّ ومسلماً على الدِين، وهما يَرويان عن كذّابين ووضّاعين؟

قلت له: اُذْكُر لي رجُلاً واحداً من أولئك الوضّاعين، حتى أُجيبَكَ إجابةً علميّة؟

قال: إسماعيل ابن أبي أويس، ابن أخت مالك بن أنس، فقد ملأ البخاريّ صحيحَه من رواياتِه، وكذلك أخرج له مسلم - وإنْ كان أقلَّ - وهما سيّدا المحدّثين عندكم!

أقول وبالله التوفيق:

اختيارُ مُحاوري اسمَ ابن أبي أُويسٍ، ضَربَةُ معلّم كما يقولون؛ لأنّ البخاريّ أكثرَ عنه فعلاً، على خلاف ما وهم البخاريّ، فقال: إنّه لم يخرّج عنه إلّا القليل!

وقبل أن أتكلّمَ على مرويّات ابن أبي أويسٍ هذا؛ يحسن أن أنقلَ إليكم منزلَتَه عند علماء الجرح والتعديل، وأبدأ بكتب الضعفاء:

(1) ترجمه العقيلي (ت: 322 هـ) في كتابه الضعفاء الكبير (1: 87) وقال:

«إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ ابنِ أَبِي أُوَيْسٍ الْمَدِينِيُّ:

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: أَبُو أُوَيْسٍ «عبدالله» وَابْنُهُ ضَعِيفَانِ.

وَحَدَّثَنِي أُسَامَةُ الدَّقَاقُ - بَصْرِيٌّ - يَقُولُ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: يَسْوَى فَلْسَيْنِ».

وترجم لوالده عبدالله في الضعفاء (2: 270) ونقل تضعيفه عن العلماء.

(2) ترجمه ابنُ عديّ (ت: 365 هـ) في ضعفائه (1: 525) وقال:

«إسماعيلُ بنُ أبي أُوَيسٍ: واسم أبي أويس: عَبدُاللهِ بن عَبدِاللهِ بن أبي أويس بن أبي عامر الأصبحي، وَهو ابن أختِ مالك بن أنس، مِن أهل المدينة، يُكَنَّى أبا عَبدِاللهِ».

ثمّ نقل أقوال علماء الرجال فيه على النحو الآتي:

- عثمان بن سَعِيد الدارميّ قالَ: قُلتُ ليحيى بن مَعِين: ابن أبي أويسٍ، يعني إسماعيل؟ قَال: لاَ بأس به.

- أحمد بن حنبل يقول: إسماعيلُ ابن أبي أويس: ليس به بأس، وأبوه ضَعِيفُ الْحَدِيثِ.

- يَحْيى بن مَعِين يقول: ابن أبي أويس وأبوه: يسرقان الحديث.

- النضر بن سلمة المروزي يقول: ابن أبي أويس كذاب، كان يحدث عن مالك بمسائل عَبداللهِ بن وهب.

- وقال النسائي: ضعيف.

وساق ابنُ عديّ من طريقه عدداً من الأحاديث عن خاله مالك وغيرِه، وضعّفها، ثم ختم ترجمته بقوله: «هَذَا الْحَدِيثُ مُنْكَرٌ عَنْ مَالِكٍ، لا أَعْرِفُهُ إِلا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْهُ.

وَابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ هَذَا؛ رَوَى عَنْ خَالِهِ مَالِكٍ أَحَادِيثَ، غَيْرَ أَنَّهُ لا يُتَابِعُهُ أَحَدٌ عَلَيْهَا.

وَروى عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلالٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ شُيُوخِهِ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ النَّاسُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ابْنُ مَعِين وَأَحْمَدُ.

وَالْبُخَارِيُّ، يُحَدِّثُ عَنْهُ الْكَثِيرَ، وَهو خَيْرٌ مِنْ أَبِيهِ أَبِي أُوَيْسٍ».

وترجمه ابن الجوزيّ (ت: 597 هـ) في ضعفائه (395) وقال: «قَالَ يحيى بنُ معين: ابْن أبي أويس وَأَبوهُ يسرقان الحَدِيث، وَأَبوهُ لَا يُسَاوِي نواة:

وَقَالَ النَّضر بن سَلمَة الْمَروزِي: إسماعيلُ  كَذَّاب.

وَقَالَ النَّسَائِيّ: ضَعِيف.

وَعَن يحيى بنِ معينٍ رواية أخرى قال: «لَا بَأْس بِهِ».

وترجمه المزيُّ (ت: 743 هـ) في تهذيبه (3: 124) ونقل ما تقدّم من أقوال العلماء، وزاد:

قَال أَبُو بَكْر بْن أَبي خيثمة عَن يحيى بْن مَعِين قال: إسماعيلُ صدوق ضعيف العقل، ليس بذاك، يعني أنه لا يحسن الْحَدِيث، ولا يَعرف أن يُؤديَه، أو يَقرَأ من غيرِ كتابه.

وَقَال إِبْرَاهِيم بْن عَبداللهِ الجنيد عن يحيى بن معين: مُخَلّط، يكذب، ليس بشيءٍ!

وَقَال أَبُو حاتم الرازيّ : محله الصدق، وكَانَ مُغفّلاً!

ورمز المزيّ إلى أنّ الأئمة الستة (خ م د ت ق) أخرجوا له، سوى النسائيّ!

وترجمه الذهبيّ (ت: 748 هـ) في ميزان الاعتدال (811) ونقل أقوال المتقدّمين السابقة، وزاد: «استوفيت أخباره في تاريخ الإسلام» (5: 534) وهناك زاد:

قال الدَّارَقُطْنيّ: ليس أختاره في الصّحيح.

قال الفضل بن زياد: سَمِعْتُ أحمد بن حنبل وقيل له: مَن بالمدينة اليوم؟ قال: ابن أبي أويس؛ هو عالم كثير العِلْم، أو نحو هذا.

وقال أحمد بن حنبل مرّة: هو ثقة. قام في أمر المحنة، مقامًا محمودًا.

وقال البَرْقَانيّ: قلت للدَّارَقُطْنيّ: لِم ضعّف النَّسائيّ إسماعيل بن أبي أُوَيْس؟ فقال: ذكر محمد بن موسى الهاشميّ، وهو إمام كان النَّسائيّ يخصّه بما لم يخصّ به ولده، فقال: حكى لي النَّسائيّ أنّه حكى له سَلَمَةُ بن شَبِيب عنه، قال: ثمّ توقف أبو عبد الرحمن النَّسائيّ، فما زلت أداريه أن يحكي لي الحكاية، حَتّى قال: قال لي سَلَمَةُ: سَمِعْتُ إسماعيل بن أبي أُوَيْس يقول: ربّما كنت أضع الحديث لأهل المدينةِ، إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم، فقلت للدَّارَقُطْنيّ: من حكى لك هذا عن محمد بن موسى؟ فقال: الوزير، يعني ابن حنزابة، وكتبتها من كتابه.

وختم الذهبيّ ترجمته بقوله: «قلت: استقرّ الأمرُ على توثيقه وتجنُّب ما يُنكر له».

وترجمه الذهبيّ في النبلاء (10: 391) وقال: « الإِمَامُ الحَافِظُ الصَّدُوْقُ».

ونقل الأقوال السابقة وقال: «الرَّجُلُ قَدْ وَثَبَ إِلَى ذَاكَ البِرِّ، وَاعتَمَدَهُ صَاحِبَا الصَّحِيْحَيْنِ، وَلاَ رَيْبَ أَنَّهُ صَاحِبُ أَفرَادٍ وَمَنَاكِيْرَ تَنْغَمِرُ فِي سَعَةِ مَا رَوَى؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَوْعِيَةِ العِلْمِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ عَبْدِاللهِ كَاتِبِ اللَّيْثِ!

وَكَانَ عَالِمَ أَهْلِ المَدِيْنَةِ، وَمُحَدِّثَهُم فِي زَمَانِهِ، عَلَى نَقْصٍ فِي حِفْظِهِ وَإِتْقَانِه، وَلَوْلاَ أَنَّ الشَّيخَينِ احْتَجَّا بِهِ؛ لَزُحْزِحَ حَدِيْثُهُ عَنْ دَرَجَةِ الصَّحِيْحِ إِلَى دَرَجَةِ الحَسَنِ، هَذَا الَّذِي عِنْدِي فِيْهِ».

وأختم ترجمتَه بقولِ من تعامل مع أحاديثِه الكثيرة عند البخاري تطبيقيّاً فيه.

قال الحافظ ابن حجر (ت: 852 هـ) في هدي الساري (2: 357): «احْتجّ بِهِ الشَّيْخَانِ (خ م) إِلَّا أَنَّهُمَا لم يكثرا من تَخْرِيج حَدِيثه، وَلَا أخرج لَهُ البُخَارِيّ مِمَّا تفرد بِهِ سوى حديثين.

وَأما مُسلم فَأخْرج لَهُ أقلَّ مِمَّا أخرج لَهُ البُخَارِيّ، وروى لَهُ الْبَاقُونَ سوى النَّسَائِيِّ، فَإِنَّهُ أطلق القَوْل بضعفه، وروى عَن سَلمَة بن شبيب مَا يُوجب طرح رِوَايَته.

وروينا فِي مَنَاقِب البُخَارِيّ بِسَنَد صَحِيح أَن إِسْمَاعِيل أخرج لِلبخاريِّ أُصُوله وَأذن لَهُ أَن ينتقي مِنْهَا، وَأَن يُعلِّم لَهُ على مَا يحدث بِهِ ليحُدّث بِهِ، ويُعرِض عَمَّا سواهُ!

وَهُوَ مُشْعر بِأَنّ مَا أخرجه البُخَارِيّ عَنهُ؛ هُوَ من صَحِيح حَدِيثه؛ لِأَنَّهُ كَتَبَه من أُصُوله.

وعَلى هَذَا؛ لَا يُحْتَج بِشَيْء من حَدِيثه، غيرَ مَا فِي الصَّحِيح؛ من أجل مَا قدح فِيهِ النَّسَائِيّ وَغَيرُه، إِلَّا إنْ شَاركهُ فِيهِ غَيره، فَيعْتَبر بِهِ».

وقال في التقريب (460): «صدوقٌ أخطأ في أحاديث من حفظه».

قال الفقير عداب: حرصتُ في نقل ترجمته على التتبّع التاريخي، ولم أرتّب أقوال العلماء على طرفي التعديلِ والتجريح.

وخلاصةُ حال هذا الراوي:

أنّه مقرئٌ، وإنْ لم يتصدّر للإقراء كثيراً.

أنّه فقيه من فقهاء عصره في المدينة.

أنّه حافظ، في حفظه لين.

أنّ بعضَ العلماء بالغَ في الحطّ عليه، فاتّهمه بوضع الحديثِ بإقراره، ثمّ تاب من ذلك!

اختلف فيه قول  يحيى معين، فقال: لا بأس به حيناً، وضعّفه أحياناً!

وقوّى أمره الإمام أحمد، ووصفه بالعلم والثبات!

ويرى الذهبيّ حديثَه في مرتبة الحسن، إلّا ما حكم العلماء بنكارتِه وضعفه!

وفي الحلقاتِ التالية؛ نرصد الجانب التطبيقيّ لأحاديثه عند مسلمٍ أوّلاً - لقلّة أحاديثِه عنده - ثم عند البخاريّ الذي أخرج عنه رواياتٍ كثيرة!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.  

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.