السبت، 7 يناير 2023

  من عبر التاريخ [2023] (1):

خيانةُ عبدالله بن العبّاس رضي الله عنهما!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

استمعتُ إلى أحدِ فُجّار الرافضةِ - عليه من الله ما يستحقّ - يتّهم حَبرَ الأمّة الإمامَ عبدالله بن عبّاس بشتّى التهم الخبيثةِ التي هو وقَبيلُه أولى بها، والله !

حتى زعم أنّ أئمةَ الرافضةِ يصفونه بالخائن الخاسر!

وأفصح هذا الخبيثُ عن بغضه لعبدالله بن عبّاس وكراهيته له!

أقول وبالله التوفيق:

استدلّ هذا الرافضيّ اللعينُ بنصٍّ في نهج البلاغةِ، يوبّخ فيه أميرُ المؤمنين أحدَ وُلاتِه على غَصْبِه مالَ الأمّة الذي استأمنه عليه أمير المؤمنين عليه السلام.

وأنا سأسوق النصّ بتمامِه؛ لما فيه من بلاغةِ الإمام عليّ، وما فيه من الورع والتقوى والترهيب والترغيب، والقِيَمِ والمبادئ الإسلامية العالية، التي تليق بأمير المؤمنين، ويليق بها.

جاء في نهج البلاغة (ص: 499) ما نصّه:

ومن كتاب له «عليه السلام»  إلى بعض عماله:

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي كُنْتُ أَشْرَكْتُكَ فِي أَمَانَتِي([1]) وَجَعَلْتُكَ شِعَارِي وَبِطَانَتِي، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِي رَجُلٌ أَوْثَقَ مِنْكَ فِي نَفَسِي، لِمُوَاسَاتِي([2]) وَمُوَازَرَتِي([3]) وَأَدَاءِ الاَْمَانَةِ إِلَيَّ.

فَلَمَّا رَأَيْتَ الزَّمَانَ عَلَى ابْنِ عَمِّكَ قَدْ كَلِبَ([4]) وَالْعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ([5]) وَأَمَانَةَ النَّاسِ قَدْ خَزِيَتْ([6]) وَهذهِ الأُمّة قَدْ فُتِنَتْ وَشَغَرَتْ([7]) قَلَبْتَ لاِبْنِ عَمِّكَ ظَهْرَ الِمجَنِّ([8]) فَفَارَقْتَهُ مَعَ الْمُفَارِقِينَ، وَخَذَلْتَهُ مَعَ الْخَاذِلِينَ، وَخُنْتَهُ مَعَ الْخَائِنِينَ، فَلاَ ابْنَ عَمِّكَ آسَيْتَ([9]) وَلاَ الاَْمَانَةَ أَدَّيْتَ.

وَكَأَّنكَ لَمْ تَكُنِ اللهَ تُرِيدُ بِجِهَادِكَ، وَكَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ عَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّكَ، وَكَأَنَّكَ إِنَّمَا كُنْتَ تَكِيدُ([10]) هذِهِ الأُمّة عَنْ دُنْيَاهُمْ، وَتَنْوِي غِرَّتَهُمْ([11]) عَنْ فَيْئِهِمْ([12]) !

فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ الشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ الأُمّةِ؛ أَسْرَعْتَ الْكَرَّةَ، وَعَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ، وَاخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَصُونَةِ لأرامِلِهِمْ وَأَيْتَامِهِمُ، اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الأزَلِّ([13]) دَامِيَةَ([14]) الْمِعْزَى([15]) الْكَسِيرَةَ([16]) فَحَمَلْتَهُ إِلَى الْحِجَازِ رَحيِبَ الصَّدْرِ بِحَمْلِهِ، غَيْرَ مُتَأَثِّم([17]) مِنْ أَخْذِهِ، كَأَنَّكَ - لاَ أَباً لِغَيْرِكَ([18]) - حَدَرْتَ([19]) إِلَى أَهْلِكَ تُرَاثَكَ([20]) مِنْ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، فَسُبْحَانَ اللهِ! أَمَا تُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ؟ أَوَ مَا تَخَافُ نِقَاشَ([21]) الْحِسَابِ!

أَيُّهَا الْمَعْدُودُ - كَانَ - عِنْدَنَا مِنْ ذَوِي الاَْلْبَابَ، كَيْفَ تُسِيغُ([22]) شَرَاباً وَطَعَاماً، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَراماً، وَتَشْرَبُ حَراماً، وَتَبْتَاعُ الإمَاءَ، وَتَنْكِحُ النِّسَاءَ مِنْ مَالِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْـمُجَاهِدِينَ، الَّذِينَ أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِمْ هذِهِ الاَْمْوَالَ، وَأَحْرَزَ بِهِمْ هذِهِ الْبِلاَدَ؟!

فَاتَّقِ اللهَ، وَارْدُدْ إِلَى هؤُلاَءِ الْقَوْمِ أمَوَالَهُمْ، فإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ، ثُمَّ أَمْكَنَنِي اللهُ مِنْكَ لاَُعْذِرَنَّ إِلَى اللهِ فِيكَ([23]) وَلأضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلاَّ دَخَلَ النَّارَ!

ووَاللهِ لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ فعَلاَ مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ؛ مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ([24]) وَلا ظَفِرا مِنِّي بَإِرَادَة، حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا، وَأُزِيحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا.

وَأُقْسِمُ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَا أَخَذْتَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَلاَلٌ لِي، أَتْرُكُهُ مِيرَاثاً لِمَنْ بَعْدِي!

فَضَحِّ رُوَيْداً([25]) فَكَأنَّكَ قَدْ بَلَغَتَ الْمَدَى([26]) وَدُفِنْتَ تَحْتَ الثَّرَى([27]) وَعُرِضَتْ عَلَيْكَ أَعْمَالُكَ بِالمَحَلِّ الَّذِي يُنَادِي الظَّالِمُ فِيهِ بِالْحَسْرَةِ، وَيَتَمَنَّى الْمُضَيِّعُ الرَّجْعَةَ ]ﭥﭦﭧﭨ[ [سورةُ ص] ([28]) ! وَالسَّلامُ» انتهى الكتاب.

أورد المجلسيّ هذا الكتابَ في مواضع عديدة من بحار الأنوار، منها (33: 499) فما بعدها.

ونقل عن ابن أبي الحديد في شرح النهج ما نصّه:

«وقد اختلف الناس في المكتوبِ إليه هذا الكتابُ، فقال الأكثرون: إنّه عبدُالله بن العبّاس رحمه الله، ورووا في ذلك رواياتٍ واستدلّوا عليه بألفاظٍ من ألفاظِ الكتاب».

وساق ابن أبي الحديدِ القرائن التي استدلّ بها الرافضة على اتّهام ابن عبّاس بالخيانة، ثم قال:

«وقال آخرون - وهم الأقلّون - هذا لم يَكُنْ، و لا فارقَ عبدُالله بن عبّاس عليّاً عليه السلام، ولا بايَنَه، و لا خالفَه، و لم يَزَلْ أميراً على البصرةِ، إلى أن قُتِل عليّ.

قالوا: و يَدلُّ على ذلك ما رَواه أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهانيّ من كتابه الذي كتبه إلى معاوية من البصرةِ لمّا قُتِل عليٌّ عليه السلام.

قالوا: كيف يكون ذلك، و لم يخدعْه معاويةُ و يَجرَّه إلى جهته، وقد علمتم كيف اختدع كثيرينَ من عمّال أمير المؤمنين، و استمالهم إليه بالأموال، فمالوا، و تركوا أميرَ المؤمنين فما بالُ معاويةَ - وقد علم النَبوةَ التي حَدثَتْ بينَهما - لم يَستَمِلْ ابنَ عبّاس، ولا اجتذَبه إلى نفسِه؟

وكلُّ من قَرأ السيرَ، وعرفَ التَواريخَ؛ يَعرفُ مُشاقّةَ ابنِ عباسٍ لمعاويةَ، بعد وفاةِ الإمام عليّ  عليه السلام، وما كان يلقاه به مِن قوارعِ الكلامِ، وشديدِ الخصام، وما كان يُثني به على أمير المؤمنين، و يَذكرُ خصائِصَه وفضائِلَه، ويَصدع به مِن مَناقبه ومآثره!

فلو كان بينهما غُبارٌ أو كَدَرٌ؛ لما كان الأمرُ كذلك، بل كانت الحالُ تَكون بِالضدِّ لما اشتُهِر من أمرهما، وهذا عندي هو الأمثل و الأصوبُ».

قال الفقير عداب: هذا النصّ هكذا في شرح ابن أبي الحديد، غيرُ معلومِ المرسَلِ إليه.

فالرافضة الذين يبغضون جميع أصحاب الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأهلَ بيته أجمعين، سوى أهلِ الكساء؛ رجّحوا ترجيحاً أنّ الكتابَ من أمير المؤمنين إلى عبدالله بن العباس رضي الله عنهم.

وسبق أن نشرتُ منشوراً مطوّلاً، أوضحتُ فيه أنّ كتاب نهج البلاغة غير ثابتِ النسبةِ إلى أمير المؤمنين، عند الرافضة أنفسهم.

وقد بحث السيّد محمّد رضا السيستانيّ مسألة حجيّةِ نصوص نهج البلاغة في كتابه قبساتٌ من علم الرجال (2: 142 - 148) ثم ختم بحثَه بقوله:

«والحاصلُ أنْ ليس كلّ ما في نهج البلاغة، ممّا يُقطع بثبوته عن الإمام عليه السلام.

نعم هو على الإجمالِ يتضمّن خُطبه وكلامه عليه السلام.

وبذلك يظهر الخَدْشُ فيما ذكره بعض المخالفين، من أنّ نهج البلاغة قطعيُّ الثبوت عند الشيعة، فصار بصدد الاستدلال بما ورد فيه على خلافهم» انتهى.

ونحن - أهلَ الحديث - إنّما نثبتُ المتنَ الذي يصحّ إسنادُه، إذا خلا ذلك المتن عن المنكَر، وكلّ نصٍّ غريبٍ يتّهم أحد أئمّة المسلمين، جاءنا من غير إسنادٍ صحيح؛ لا يجوز لنا أن نتّهم ذلك الإمام بمضمونه، بل ولا نلتفتُ إلى ذلك النصّ أبداً.

والإمامُ عبدالله بن عبّاس رضي الله عنهما؛ أوثق عندنا من جميع شيعةِ أمير المؤمنين المعاصرين له، ومَن جاء بعده، هو والحسنان، رضي الله عنهم.

قال الإمام الذهبيّ في ترجمته من سير أعلام النبلاء (3: 331): «عَبْدُاللهِ بنُ عَبَّاسٍ البَحْرُ أَبُو العَبَّاسِ الهَاشِمِيُّ (ع) حَبْرُ الأُمَّةِ، وَفَقِيْهُ العَصْرِ، وَإِمَامُ التَّفْسِيْرِ، أَبُو العَبَّاسِ عَبْدُاللهِ بْنُ العَبَّاسِ عَمِّ رَسُوْلِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ شَيْبَةَ بنِ هَاشِمٍ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بنُ عَبْدِ مَنَافٍ بنِ قُصَيِّ بنِ كِلاَبِ بنِ مُرَّةَ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيِّ بنِ غَالِبِ بنِ فِهْرٍ القُرَشِيُّ، الهَاشِمِيُّ، المَكِّيُّ، الأَمِيْرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ».

فانظر إلى كلام الذهبيّ، الذي يتّهمونه بالنصبِ، وانظر إلى كلام الرافضةِ فيه، عاملهم الله تعالى بعدله، وهو المستعان على الظالمين الفاجرين.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.


 ([1]) أشركتك في أمانتي: جعلتك شريكاً فيما قمتُ فيه من الامر.

 ([2]) المُواساة: من آساه: إذا أناله من ماله عن كفاف لا عن فضل، أو مطلقاً، وقالوا: ليست مصدراً لواساه فانه غير فصيح، وتقدم للامام استعماله، وهو حجة.

 ([3]) الموازرة: المناصرة.

 ([4]) كَلِب: كفرح، اشتد وخشن.

 ([5]) حَرِبَ: كفرح، اشتد غضبه واستأسد في القتال.

 ([6]) خزيت: كرضيت، ذلت وهانت.

 ([7]) شَغَرَت: لم يبق فيها من يحميها.

 ([8]) المِجَنّ: الترس، وقلب ظهر المجن: مثلٌ يضرب لمن يخالف ما عهد فيه.

 ([9]) آسَيْت: ساعدت وشاركت فى الملمات.

 ([10]) كادَه عن الامر: خدعه حتى ناله منه.

 ([11]) الغرّة: الغفلة.

 ([12]) الفيء: مال الغنيمة والخراج، وأصله ما وقع للمؤمنين صلحاً من غير قتال.

 ([13]) الازَلّ: بتشديد اللام، السريع الجرْي.

 ([14]) الدامية: المجروحة.

 ([15]) المِعْزَى: أُختُ الضأن، اسم الجنس كالمعز والمعيز.

 ([16]) الكسيرة: المكسورة.

 ([17]) التأثّم: التحرّز من الاثم، بمعنى الذنب.

 ([18]) لاأبَا لغيرك: عبارة تقال للتوبيخ مع التحامي من الدعاء على من يناله التقريع.

 ([19]) حَدَرْتَ اليهم: أسرعت إليهم.

 ([20]) تراث: ميراث.

 ([21]) النقاش: بالكسر، المناقشة، بمعنى الاستقصاء في الحساب.

 ([22]) تُسيغ: تبلع بسهولة.

 ([23]) لاعْذرنّ إلى الله فيك: أي لاعاقبنك عقاباً يكون لي عذراً عندالله من فعلتك هذه.

 ([24]) الهَوَادَة: بالفتح، الصلح واختصاص شخص ما بميل اليه وملاطفة له.

 ([25]) ضَحِّ: من ضحيت الغنم: إذا رعيتها في الضحى، أي فارعَ نفسك على مهل.

 ([26]) المَدَى: بالفتح، الغاية.

 ([27]) الثرى: التراب.

 ([28]) لاتَ حين مناص أي: ليس الوقت وقت فرار.

الخميس، 5 يناير 2023

 مسائل فكريّة [2023] (1):

أنموذج من التعصّب الفكريّ لدى سلفنا الصالح!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

قال الإمام أبو عبدالله الحاكم النيسابوري (ت: 405 هـ) في كتابه معرفة علوم الحديث: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ صَالِحِ بْنِ هَانِئٍ (ت: 340 هـ) يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ (ت: 311 هـ)- صاحب الصحيح - يَقُولُ:

«مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ، قَدِ اسْتَوَى فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتِهِ؛ فَهُوَ كَافِرٌ بِرَبِّهِ، يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَأُلْقِيَ عَلَى بَعْضِ الْمَزَابِلِ، حَيْثُ لَا يَتَأَذَّى الْمُسْلِمُونَ وَالْمُعَاهَدُونَ بِنَتْنِ رِيحِ جِيفَتِهِ، وَكَانَ مَالُهُ فَيْئًا،  لَا يَرِثُهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، إِذِ الْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» «يوضَع مالُه في بيت المال».

قال الفقير عداب: محمد بن صالح بن هانئ ثقة ذو فضلٍ ومعرفة، فالإسنادُ عالٍ صحيح!

تأمّلوا كلامَ إمام الأئمة الذي يقول فيه تلميذه أبو حاتم ابن حبّان (ت: 354 هـ) عند ترجمته في الثقات (9: 156): «كَانَ رَحمَه الله أحدَ أَئِمَّةِ الدُّنْيا عِلماً وفِقهاً وحِفظاً وجمعاً واستنباطاً، حَتَّى إنّه تكلم فِي السّنَن بِأشياءَ لَا نعلم سَبقَ إِلَيْهَا غَيرُه من أَئِمَّتنا، مَعَ الإتقان الوافر، وَالدّين الشَّديد، إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله».

والله المستعان

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الأربعاء، 4 يناير 2023

 اجتماعيات [2023] (1):

غَدوتَ قليلَ العَطاء !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتبت إليّ إحدى بناتي «طالباتي» تقول: نحن نعلم يا والدي أنْ لا ينتابُك كسلُ ولا مللٌ...لكنْ!

عندما تغيبُ عن المدوّنة والفيس؛ ينتابنا خوفٌ شديدٌ، ونخشى عليك من طوارقِ الحِدْثانِ، لا قدّر الله تعالى.

فأرجو منك أنا وأخواتي أنْ لا تنقطع عن النت يوماً واحداً، ولو تكتب منشورَ اجتماعيات: السلام عليكم، فنطمئنّ عليك.

أقول وبالله التوفيق:

في العام (1971) علّمتُ في إحدى مدارس مدينة حماة شهراً واحداً في إحدى إعداديّات مدينة حماة للبنات، بديلاً عن أحدِ الأساتذة، الذي اضطرّ إلى إجراء عمليّة جراحيّة!

ومنذ ذلك التاريخ؛ أخاطب طالباتي «بناتي» وطالبتي «بنتي» وأفهمهنّ بطريق التلميح؛ أنّ من يخاطبُ تلميذاته ببناته؛ لا يحقّ له تربويّاً أن يكون زوجاً لواحدةٍ منهنّ، ولا يحقّ لواحدةٍ منهنّ أن تفكّر به، أو تشغِلَ قبلها بإمكانِ الزواج منه!

بل كنت أقول لهنّ: لا يجوز للتلميذةِ أن تملأ عينَها من أستاذها، امتثالاً لقول الله تبارك وتعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ (31) [النور].

وعلى هذا مضى عمري كلّه، لم أرتبط بواحدةٍ من تلميذاتي، ولا قبلت من إحداهنّ رغبتها الارتباطَ بي: في سوريا والأردنّ والعراق والسعوديّة.

وقد وجدتُ في هذا القرار الحاسمِ راحةَ ضميرٍ وصفاء قلب.

 ومع هذا؛ فأنا لم أتسمّح بلقائهنّ والجلوس معهنّ في ليلٍ أو نهارٍ، حتى بعد أنْ صرن في الستينات من العمر، أو قريباً منها.

بل لا أتذكّر أنني ضحكتُ معهنّ، أو تظرّفتُ، أو ألقيت نكاتٍ، معاذ الله من ذلك كلّه!

فأنا أتفهّم خوفهنّ عليّ، تماماً مثلَ خوف «بناتِ عداب» اللواتي يلهجن بالدعاء لي بطول العمر، مع العافية والعمل الصالح، ويخفن عليّ كثيراً من فاجعةِ الموت!

ومهما اختلفتُ معهنّ في بعض الأفكار السلفيّة أو الصوفيّة أو المذهبيّة، لكننا لم نخرج أبداً من دائرة الإخاء والتفاهم والإعذار!

إحدى طالباتي تقول لي: أُحسُّ بانّك يا والدي تخاف من النار كثيراً، بينما أنا لا أشعر بأدنى خوفٍ من النار، وأحسُّ بفيضٍ من حبّي لله تعالى، ومن حبّ الله تعالى إيّاي، فأنا مطمئنّة تماماً أنني من أهل الجنّة!

وإحدى طالباتي تقول: أنا لا أستطيع أن أتفهّم وجوداً (لا داخل العالم ولا خارجه) وما دام الله تعالى قال: إنّ له وجهاً، ويداً، وأنه ذو سمع وبصر، وأنه يجيء، وأنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إنّ الله في السماء، وأنّه ينزل عن عرشه إلى السماء الدنيا، وأنه يضحك ويرضى ويغضب؛ فلا أستطيع إلّا الاعتقادَ بظاهر قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (إنّ الله خلق آدم على صورته) متّفق عليه.

وكلّ واحدةٍ منهنّ لديَّ إشكالٌ في بعض معتقدها، وفي بعض فهومها حيالَ المرأة وقوامية الرجل، وتبعيّة المرأة له.

أجيب هذه، وأجيب تلك، وأقنعهنّ في لحظة الحوار بما أعتقد وأذهب، لكنّ بعضهنّ يرجعن إلى معتقداتهنّ الأولى، ويرفضن قولي بأدبٍ وتوقير!

وهكذا هم طلّابي أيضاً، أختلف معهم كثيراً وقليلاً، لكنّ رابطتنا لم تنقطع، إلّا مع عددٍ يسير لا يتجاوز ثلاثةَ طلّابٍ، فقد آثروا تغليبَ جانب الحقد الطائفيّ، والتقليدَ المذهبيّ، ونكرانَ الجميلِ، على روح الإخوّة والتسامحِ والتناصح، الذي لا قيام لأمة الإسلام إلّا بها!

وأقول لبناتي كلّهن معاً: قال الله تبارك وتعالى:

(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) [آل عمران].

(قُلْ: إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) [الجمعة].

(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) [الأحزاب].

( قُلْ: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ؛ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ (154) [آل عمران].

الموتُ قادمٌ لا محالةَ عليّ وعلى أسرتي، وعليكنّ وعلى أهليكنّ وذراريكنّ، فهذا واردٌ لا بدّ منه، وعلينا أن نفكّر بما بعدَه!

والذي أطلبه وأرجوه من بناتيّ كلهنّ - بناتٍ وطالباتٍ - أن يساهمن مع أولادي وطلّابي في تكميل وإخراج كتبي التي درسنها عليّ في الجامعة، وأنْ يصوّبن بعض أفكاري النسائيّة، فهنّ أدرى بدخائل المرأة منّي، حتى نقدّم للأمة علماً أقرب ما يكون إلى الحقيقةِ والنفع العامّ، ولا مانع لديّ أن تذكرَ أسماءُ المساهماتِ في تقويم تلك الكتبُ والأبحاث منهنّ.

وأرجو منهنّ أن لا ينسينني من تلاوةِ ربع حزبٍ من القرآن يوميّاً، مع سورة الفاتحة والصمد والمعوّذتين، فأنا أعتقد بوصول ثواب تلاوةِ القرآن العظيم إلى الموتى!

كما أرجو منهنّ أن يجعلنني في دعائهنّ، فأنا أحوج ما أكون إلى ذلك، في الحياةِ وبعد الممات.

بقيت مسألة «قلّة العطاءِ» العلميّ والفكريّ والاجتماعيّ، وهي واقع صحيح، من دون شكٍّ، لكني أحسب أنْ لا يدَ لي بها؛ لأمرين:

الأمر الأوّل: أنّ أمراضي كثيرةٌ حقّاً، والأدوية التي أتناولها في كلّ يومٍ كثيرةٌ أيضاً، وعندما يزورني الرشح المحترم؛ لا يفارقني بيسر وسهولة، إنما يطيب له معايشتي ومساكنتي شهراً أو شهرين أو أكثر!

وهو مع هذه المساكنة؛ يدعو أصدقاءه المقرّبين: التهاب الحلق، والبلغم، والتهاب الشعب التنفسيّة، ويساهمُ في زيادةِ الاكتئابِ والخمولِ والسآمة!

والأمر الثاني - وهو الأهم - أنّ التوفيق من الله تبارك وتعالى، وإذ أنا أراقب تحرّكاتي وتصرّفاتي؛ أجدني أعمل أكثرَ من عشر ساعاتٍ في بعض الأيّام، بينما لا أستطيع حتى تلاوة حزبي من القرآن في كثيرٍ من الأيّام، فماذا أصنع؟

ختاماً: أسألُ الله تبارك وتعالى أن يمدّني وجميع مرضى المسلمين بالعافية التامّة، وأن يأخذ بناصيتي إلى طاعته ومرضاته، والتفاني بعبادته وذكره وتمجيده، وأن يختم لي بالوفاة على الإسلام والإيمان والإحسان.

وأتوجّه إليه بأسمائه الحسنى، وبكلماته التامّات، وبرسوله الحبيب صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يغفر لي ما اجتهدتُ فيه، من دون استقصاءٍ وبذلِ غايةِ الوسع، فأنا لا أرتاب في أنّ بعضَ العوائقِ قد اعترضت بعض أقوالي وأفعالي؛ لأنّ التجرّد التامّ على الهوى والانحيازِ؛ أمرٌ عسير المنال في بعض الأحيان.

وأرجو من قرّائي وإخواني وطلّابي وطالباتي - وفيهم أبنائي وبناتي - أن يستغفروا لي العزيز الحكيم، فهم إن فعلوا؛ فالله الرحمن الرحيم أرحم منهم وأكرم وألطف!

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الثلاثاء، 3 يناير 2023

مَسائلُ حديثيّةٌ  [2023] (1):

عَددُ الأحاديثِ الصحيحة !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

منذ أيّامٍ كتبتُ منشوراً، حاولتُ فيه تقريبَ مفهوم أعدادِ الأحاديث المَهولةِ التي يذكر المحدّثون أنهم يحفظونها: مائة ألف حديث، مائتا ألف حديث، ستمائة ألف حديث!؟

فتواصل معي غيرُ واحدٍ يقولون:

كم عددُ الأحاديثِ الصحيحةِ في تقديرك أنت؟

وهل ضاع على الأمّة شيءٌ من الأحاديث الصحيحة؟

وإذا كان قد ضاع شيءٌ، ألا يتعارض هذا مع قول الله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) [الحِجْر].

أقول وبالله التوفيق:

أوّلاً: أنا الفقير ليس لي رأيٌ في هذه المسألة، ولو كان لي رأيٌ؛ فلا قيمةَ له لدى جماهير الأمّة، إذ إنّ الأمّةَ - كلَّ الأمة - سلفيّة أثريّة، تعتقد بأنّ المتقدمين أعلم منا وأتقى!

ثانياً: أنا لا أقول: ضاع من الروايات الحديثية، أو لم يضع منها شيءٌ، إنّما أقول: لم يضع آيةٌ من كتاب الله تعالى، بإهمالٍ، ولا بنسخ تلاوةٍ، ولا باختلاف قراءات قطعاً.

ولم يضع علينا سنّةٌ من سنن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، إنّما نُقلت سننه الشريفةُ نقلَ الكافّةِ عن الكافّة!

وقد بيّنت في منشوراتٍ سابقةٍ؛ أنّ السنّةَ النبويّة أخصّ عندي من الحديث، وأخصّ من الرواية الحديثيّة.

ثالثاً: لأيّ واحدٍ أن يتساءل: القرآن الكريم يشير إلى معاناةِ الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم الهائلةِ في مكّة المكرمة، بينما لا نجد في الروايات الحديثية الصحيحةِ إلّا أحاديثَ قليلةً، أكثرها مَرويٍّ عن صغار الصحابة الذين لم يدركوها أصلاً، لماذا؟

رابعاً: عاش الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في مكّة أكثرَ من عشر سنين، وكان يؤسس العقيدةَ والفكرَ والأخلاقَ، بينما لا يوجد لدينا (100) حديثٍ مكيّ، رواه صحابةٌ كبار، عاصروا تلك الأحداث، لماذا؟

خامساً: عاش الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في المدينة عشر سنين، وقد خطب أكثر من (500) خطبةِ جمعة، بينما ليس تحت أيدينا سوى (38) خطبةً، صحّحها بعضُ الإخوة الذين درسوها في أكثرَ من رسالةٍ علميّة، وبعضُها عندي لا يصحّ، لماذا؟

أنا ليس لديّ إجابةٌ مقنعةٌ لهذه الأسئلة العسيرةِ، سوى أنّ القادة السياسيين - بمن فيهم الإمام عليّ عليه السلام - لم يقوموا هم بتدوين تلك الروايات التي يفترَض أنها كثيرةٌ جدّاً، ولم يوضحوا لنا أسباب ذلك، والناس تبعٌ لقادتهم!

أمّا عن عدد الأحاديث الصحيحة الواردة عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، مما بين أيدينا من روايات؛ فإليكم جواب ذلك:

قال الأصوليّ الفقيه بدر الدين الزركشيّ في كتابه «النكت على علوم الحديث» (1: 181): «إنّ الأقدمين يطلقون الْعدَد من الْأَحَادِيث على الحَدِيث الْوَاحِد الْمَرْوِيّ بعدّة أَسَانيدَ، وعَلى هَذَا فيسهل الْخطبُ، فَرب حَدِيثٍ لَهُ مائَةُ طَرِيق وَأكْثرُ!

وَقد قَالَ الْفَقِيهُ نجمُ الدّين الْقَمُولِيُّ: إِن مَجْمُوع مَا صَحَّ من الحَدِيث أَرْبَعَة عشر ألف حَدِيث.

وَأوّلَ كَلَامَ البُخَارِيّ السَّابِق «أحفظ مائَة ألف حَدِيث صَحِيح» فَقَالَ: «مُرَاده بِمَا ذكره، وَاللهُ أعلمُ؛ تَعَدُّدَ الطّرقِ والأسانيدِ وآثارَ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَغَيرهم، فَسمى الْجَمِيع حَدِيثاً، وَقد كَانَ السّلفُ يطلقون الحَدِيث على ذَلِك!

قَالَ: وَهَذَا أولى من تَأْوِيله أَنّ البخاريَّ أَرَادَ الْمُبَالغَة فِي الْكَثْرَة، بل هُوَ مُتَعَيّنٌ، لَا يجوز الْعُدُولُ عَنهُ» انْتهى.

قال الزركشيُّ معقّباً: «وَهَذَا التَّأْوِيل يُؤَيّدهُ أَنه قد صَحَّ عَن جمَاعَة من الْحفّاظ أَن الْأَحَادِيث لَا تَنْتَهِي إِلَى هَذَا الْعدَد [كأنه يريد: أَرْبَعَة عشر ألف حَدِيث].

وَقد ذكر أَبُو الْعَرَب «محمد بن أحمد بن تميم (ت: 333 هـ)» التميميُّ فِي مُقَدّمَة كِتَابه «الضُّعَفَاء» عَن يحيى بن سعيد الْقطَّان أنّه سئل: كم جملَةُ الْمسند؟

فَقَالَ: حَصّل أَصْحَابُنا ذَلِك، وَهُوَ ثَمَانِيَةُ آلَافِ حَدِيث، وفيهَا مُكَرر!

قَالَ أبو العرب: وَسمعت إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه يَقُول: سَأَلت جمَاعَةً من أهل الْبَصْرَة عَن جملَة المُسنَد الَّذِي رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟

فَقَالُوا: سَبْعَةُ آلَافٍ ونيّف!

وَعَن غنْدر «محمد بن جعفر» قال: سَأَلت شُعْبَةَ عَن هَذَا؟ فَقَالَ: جملَة الْمسند أَرْبَعَة آلَاف ونيّف.

وناظَرَ عبدُالرَّزَّاقِ إِسْحَاقَ بنَ رَاهَوَيْه فِي ذَلِك، فَقَالَ إِسْحَاقُ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَقَالَ عبدالرَّزَّاق: أَقُول مَا قَالَه يحيى بن سعيدٍ القطّان: «الْمسند أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَأَرْبَعمِائَةٍ، مِنْها:

- ألفٌ ومائتان سُنَنٌ.

- وَثَمَانمِائَة حَلَالٌ وَحرَام.

- وَأَلْفَانِ وَأَرْبَعمِائَة فَضَائِل وأدب وتسديد.

وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: سِتَّةُ آلَافٍ، أَو خَمْسَةٌ.

وذُكرَ عَن ابْن الْمُبَارك أَنه قَالَ: السّنَن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحْو تِسْعمائَة حَدِيث!

فَقيل لَهُ: إِنّ أَبا يُوسُف قَالَ: هِيَ ألفٌ وَمِائَةُ؟

قَالَ: أَبُو يُوسُف أَخذ تِلْكَ الهَناتِ، من هُنَا وَمن هُنَا» يَعْنِي الْأَحَادِيث الضعيفة!

وَذُكِرَ عَن يحيى بن معِين أَنّ جُملَة الْمسنَد؛ أَرْبَعَةُ آلَافٍ ونيّف».

ونقل الحافظ ابن حجر في نكته على علوم الحديث لابن الصلاح (1: 299) عن الأئمّة نحواً مما ذكره الزركشيّ، ثم قال: «وقالَ كلٌّ منهم بحسب ما وَصل إليه. ولهذا اختلفوا».

نستخلص مما سبق كلّه؛ أنّ عددَ الأحاديثِ الصحيحةِ الواردة عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم غير معروف؛ لأنّ أحداً لم يقم بجمع وتخريج ونقد جميع المرويات من الحديث.

لكنْ تبيّن لنا من كلام يحيى القطّان؛ أنّ العلماء الماضين كانوا يميّزون بين السنن وبين الروايات الحديثيّة!

«الْمسند أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَأَرْبَعمِائَةٍ، مِنْها:

- ألفٌ ومائتان سُنَنٌ.

- وَثَمَانمِائَة حَلَالٌ وَحرَام.

- وَأَلْفَانِ وَأَرْبَعمِائَة فَضَائِل وأدب وتسديد».

وليس كما هو شائع من أنّ كلّ حديثٍ صحّ إسنادُه؛ فهو سنّة!

ختاماً: لو نحنُ فهمنا وطبّقنا كتابَ الله تعالى، وما في صحيح البخاريّ وصحيح مسلمٍ من الحديثِ الصحيح؛ لكنّا كما يريده الله تعالى منّا، ولسنا في حاجةٍ إلى التغنّي بكثرة المرويّات، ونحن لا نعملُ بما في الأربعين النوويّة من أحكامٍ وآدابٍ وأخلاق!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.