الجمعة، 27 ديسمبر 2024

  اجتماعيّات:

المجتمعُ النصيريّ كما عرفتُه (2)!

بسم الله الرحمن الرحيم

تحدّثت في المنشور السابق عن النواحي التعليميّة والسياسيّة التي عايشتها في مدينة وادي العيون، في جبال النصيريّة.

وسأتجدّث في هذا المنشور عن النواحي الدينيّة والاجتماعيّة التي عرفتها بنفسي، من دون نقلٍ عن أحدٍ.

أوّلاً: عندما صدّر أستاذي عبدالكريمِ العطريّ أمر تكليفي بالتعليم في وادي العيون، وكان الحمويّون لا يرغبون أبداً بالتعليم هناك؛ كلّفني بتعليم (24) ساعة تدريسيّة!

ويعدّ هذا التكليف كبيراً جدّاً لطالبٍ في السنة الثانية من كليّة الشريعة!

ثانياً: لم يسبق لي حتى العام (1972) أنْ زرتُ جبلَ العلويين أبداً، إنما كنت أمرُّ به عندما نسافر إلى مدينة بانياس، مروراً وحسب.

ذهبت إلى كراج السيارات، قرب جامع المسعود، وسألتُ عن سيّارةٍ تُقلّني إلى وادي العيون، فقيل لي: تريد سيارة خاصّة بك؟ قلت: لا!

قالوا: يوجد سيارة إلى مصياف، ومن هناك تركب سيّارة إلى وادي العيون!

قلت: أجد هناك سيّارات إلى وادي العيون بالتأكيد؟ طمنوني بيقين ذلك!

وصلنا إلى مصياف، ثمّ إلى وادي العيون، وأوصلني السائق إلى باب المدرسةِ، فأكرمته بدريهماتٍ، كما أكرمني.

ثالثاً: كانت الزيارةُ الأولى هذه، قبل دخول شهر رمضان بيومين، أو ثلاثة أيّام.

سلّمت المدير خطاب التكليف، فكتب لي مباشرةً من اليوم نفسه.

قلت له: أحتاج بضعة أيّام، حتى أستطيع الدوام؟

قال: الأسبوع الأوّل عادةً لا يداوم الطلاب، إلّا قليلاً، وأنت ستعلّم مادّة الديانة، وتبسّم!

فهمت أنا أنّ مادّةَ الديانةِ ليست ذات قيمةٍ عند أكثر زملائنا من أهل حماة، فطبيعيّ أنْ لا تكون ذات قيمة عند النصيريّة!

سألته: أريد أن أستأجر بيتاً، أسأل مَنْ؟

نادى على خادم المدرسة، ونسميه في سوريا (الآذن) وقال له: اصحب الأستاذ عذاب إلى الحاج «أبو نبيل» وأوصه بالأستاذ، وصلنا إلى دكّان «أبو نبيل» وهي أكبر دكّان في سوق وادي العيون.

سلّمنا عليه، وقال له الآذن: الأستاذ يريد بيتاً صغيراً، يسكن فيه، لعلك تجد له بيتاً، وانصرف!

رحّب بي أبو نبيلٍ رحمه الله تعالى كثيراً، وسألني عن اسمي ونسبتي، ومن أيّ أحياء حماة أنا، ثم قال: عفواً أستاذ، أنت شابٌّ صغير، هل أنت متزوّج، أو نزوّجك من عندنا؟ (وضحك)!

فهمتُ منه أنّ تأجيرَ المتزوّج أيسر من تأجيرِ الشابّ العازب!

قلت له: قد تزوّجت منذ أسبوعٍ فحسب!

استبشر الرجل خيراً، ونادى على عاملٍ لديه، وطلب منه أن ينوب عنه، وصحبني إلى داره، وصَعِدَ بي إلى الطابقِ الثاني، وأطلعني على شقّةٍ صغيرةٍ فيها غرفة كبيرة ومطبخ وحمّام، وأمامها سطح يزيد عن (100) مربّع، قال: هذه الشقة مع السطح، كلّهما لك!

سألته عن الساكنِ في الشقةِ المجاورة لهذه الشقة، فقال: هو الأستاذ سليمان، يعلّم معك في ثانويّة وادي العيون، قلت له: هل يمكن أن أسلّم عليه؟

طرق البابَ، فخرج الأستاذ سليمان، فتعرفت إليه، وكان يبدو عليه الطيبةُ والأدب، ويزيد عمره عن خمسين سنة!

أبى إلّا أن نزورَه في بيته، فاستأذن أبو نبيلٍ، وذهب إلى عمله، ودخلت أنا معه، فقدّم إلي الشايَ وأقراصاً من «المعمول» وتبادلنا أطراف الحديثِ، وسألني عن المواد التي سأدرّسها؟

قلت له: سأدرّس التربية الدينية لجميع الصفوف، وسأدرّس اللغة العربية للمتوسطة!

قال: أنا أيضاً أدرس اللغة العربية للمرحلة الثانوية، تشرفنا بمعرفتك وجيرتك، وسنكون لك أهلاً، ولا ترى منا ما يسوؤك أبداً، والعمّ أبو نبيل رجل متديّن فاضل، هو الوحيد الذي حجّ العام الماضي!

قلت له: حجّ إلى أين؟ قال: إلى مكّة المكرمة، إلى بيت الله الحرام!

كان وقتُ الظهر قد دخل، استأذنته لأتوضّأ وأصلي!

توضّأتُ، ولما رجعتُ؛ وجدته وضع لي سجّادةَ الصلاةِ باتّجاه القبلةِ!

قلت له: ما شاء الله، تصلّون أنتم أيضاً؟ قال: أحياناً نصلّي، ونقرأ القرآن الكريمَ أكثر!

لم أناقشه بشيءٍ، إنّما صليتُ واستأذنت، وذهبت إلى أبي نبيل، الذي سأصبح جاره في منزل هو يملكه.

قلت له: الشقة صغيرة، لكنها مناسبة لي، رغبةً في جوارك الكريم، قال: أنا عندي بنت صبيّة، أخاف عليها كثيراً، وقد رفضت إيجار الشقة مرّاتٍ عديدةً، ويشرفني أن تجاورني فيها.

قلت له: كم أجرتها في الشهر؟

قال: نحن وأنتم بخير يا عمي، سكناك عندنا بركة وسعادةٌ لنا، هذه أجرتها، وأنا سأفرشها لك اليوم، وغداً تجدها جاهزةً ومعطّرة أيضاً، لكنْ أحضر معك بنتي زوجتك (وضحك).

استحييتُ منه كثيراً، لكنّ السمعةَ السيئة المغروسةَ في نفوسنا عن النصيريّة؛ جعلتني ألحّ عليه بالإفصاح عن الأجرة، وخشيتُ أن أسكن عنده، ثم يقول لي في آخر الشهر؛ الأجرة (100) ليرة مثلاً!

قال: كم تريد أن تدفع؟ قلت له: كنت استأجرت شقّة، فيها غرفتان وصالة ومنتفعات في حماة بثلاثين ليرة في الشهر، فأدفع لك عشرين ليرةً في نهاية كلّ شهر، وليس في أوّله!

قال: لا لا عشرون ليرةً كثير، نأخذ منك خمس عشرة ليرةً في الشهر فحسب!

استأذنته لأعودَ إلى حماةَ، فرفض رفضاً قاطعاً حتى أتغدى!

وضعت زوجته العجوز الطعامَ، وخرجَت، وكان الطعامُ من الرزّ والفاصولياء، وفيها لحم.

سألته: أفي البيت لبن؟ فأحضر لي لبنا ممتازاً جدّاً، فتغديت عنده رزّاً ولبنا، ولم أتناول شيئاً من الفاصولياء؛ لأنها ممزوجة لمرق اللحم!

كأنّه فهم مقصدي، فلم يَعترض بشيءٍ أبداً، وعقب الغداء استأذنت وانصرفت شاكراً ومقدّراً.

رجعتُ إلى وادي العيون ومعي زوجتي في ثاني يومٍ من رمضان، فوجدنا الشقّة مفروشة ومطيّبةً بالبخور فعلاً!

في اليوم الثالث من رمضان؛ ذهبت إلى الدوام، وحصل ما ذكرته في المنشورِ السابق!

إذْ إنّ منزلي كلّه غرفةٌ واحدةٌ، فلم يكن يزورني في بيتي هذا أحد، إنّما كان لأبي نبيل غرفة لها باب على الشارع العام، كنت إذا ضجرتُ؛ نزلتُ وسهرت معهم قليلاً، فيم تأتي ابنتُه إلى زوجتي، وكانتا في سنّ واحدةٍ تقريباً.

ومضى شهر رمضان كلّه، ولم أتعرّف إلى شيخ من شيوخهم!

كنت أؤذّن أوقاتَ الصلاةِ من على السطح المقابلِ لشقتي، من قبيلِ التحدّي، يغفر الله لي، ما عدا أذان الظهر، فأؤذّن في المدرسة!

لم يعترض علي أحدٌ في السوق، ولا في المدرسة أبداً!

سألتُ أبا نبيل: كم عدد سكان وادي العيون؟ قال: لا أدري بالضبط، لكن ربما بين عشرين إلى ثلاثين ألفاً!

قلت: ألم تقل لي: إنكم مسلمون مثلنا؟ قال: بلى نحن مسلمون، وأنا حججت العام الماضي، وأصلّي أكثر الأوقات!

قلت له: لماذا ليس عندكم مسجد؟ قال: المسجد مهمة الدولة، والناس لا يهتمون بهذا!

قلت: لماذا لا يهتمون بهذا؟ قال: الصوم والصلاة عندنا ليستا بواجبتين، إنما من شاء يصلي ومن شاء يصوم؟

قلت له: من أين جئتم بهذا؟ قال: مشايخنا يقولون: العبادات لا تفرض فرضاً، إنما يجب أن تنبع الإرادة من القلب، وصلاة الجماعة ليست بواجبة أيضاً، فلماذا المسجد؟

قلت له: وأين يكون شيوخكم هؤلاء، لم أر واحداً منهم؟

قال لهم منطقة خاصة، تدعى «دويرة الشاخات»!

سافرتُ إلى حماةَ قبيلَ عيد الفطر بأيّام قليلة، ورجعتُ وحدي بعد العيد!

ذهبتُ إلى أبي نبيلٍ، وقلت له: زوجتي مريضة، لم أحضرها معي، فهل تأذن لي أن أقيم في الشقة وحدي؟ رحّب بي الرجل، وقال كلاماً طيّباً كثيراً!

في واحدٍ من تلك الأيّام؛ طرق باب شقّتي ولدٌ في العاشرة من عمره تقريباً، وقال: بيي يريدك لتذبح لنا الجَدي!

ذهبت معه إلى دكّان الجزّار الوحيد في سوق وادي العيون!

قال: نريد أن تبارك لنا الذبيحة يا سيّد، وأعطاني السكين، فجهرت ببعض الأوراد التي علّمنا إياها أهلنا، ثم ذبحت الجدي، وأعطيته السكين!

شكرني الرجل كثيراً، وذهبتُ، فتبعني ولده وقال: يقول بيي كم تريد من اللحم، فقلت له ما أريد، ثمّ غدوت أنا في كلّ اثنين وخميس أذبح لهم الجدي!

ظللت شهراً كاملاً بعد رمضان؛ أنزل كلّ يوم بعد الدوام، وأعود في اليوم التالي صباحاً، إذ كانت محاضراتي تبدأ في الساعة التاسعة، ولم أكن أدخل شقّتي إلّا من أجل الوضوء والصلاة!

قال لي أبو نبيل: الشاخات يريدون أن يزوروك ويتعرفوا إليك؟

قلت له: عندما أرجع في أوّل الأسبوع؛ أتعرّف إليهم.

يتبع إن شاء الله تعالى.

والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق