اجتماعيّات:
المجتمعُ النصيريّ كما عرفتُه (1)!
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم:
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ/ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ، وَلَا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ
قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) [سورة
المائدة].
انطلاقاً من هذا المبدأ القرآنيّ، ضرورةِ العدلِ؛
أقصّ عليكم معرفتي بالمجتمع العلويّ.
أوّلاً: أنا رجل من آل بيت الرسولِ صلّى الله عليه
وآله وسلّم، وعشيرتي (آل كنعان) جميعهم سنيون، طيلةَ وجودهم في مدينة حماة، إلى
اثني عشر جدّاً!
وكانوا قبل ذلك في مدينة الموصل الحدباء، ومنهم
علماء شافعيّة، يغلب عليهم التصوّف الخلوتي القادريّ.
ولم يحدثْ أن تزوّج أحدٌ من أسرتنا في حماة امرأة
علويّة، سوى رجلٍ واحدٍ من آل كنعان، من أبناء عمومة جدّنا محمّد «الحمش»
فنبذته العائلة، وإذا ذُكر في مجلس؛ قالوا: هو منّا، لكنّ أولادَه ليسوا منّا!
ثانياً: قتل الجيش النصيريّ الملعون من أسرتي
في هذه الثورة عشرةَ شبابٍ، واثنين من أولاد عمّاتي، منهم أخي الشهيد غازي، وولدي
الشهيد عليّ.
فلعنة الله على هذا الجيشِ، من قوّاده إلى خدمه
أجمعين!
ثالثاً: هربتُ من أيدي أجهزة الأمن، يوم (30)
حزيران، من شهور سنة (1975) وخرجت من سوريّا بطريقةٍ غير قانونية، بتاريخ (14)
تمّوز (1975) وإلى هذا اليوم أنا خارج سوريّا.
ولم أكن - والله - منتظماً في جماعة الإخوان
المسلمين، ولا في جماعة الطليعة المقاتلة، ولا في أيّ حزبٍ موالٍ للنظام الملعون،
أو معارضٍ له.
جريمتي كلّها أنّ أستاذي وشيخي الشهيد مروان حديد،
طلب مني أن أزوره قبل سفري إلى ليبيا، بيومين أو ثلاثة، حتى تأنسَ زوجته حبيسة
بيتها، بزميلتها زوجتي.
لبّيت طلبَه، وزرته مع أخي عصر يوم السبت (28)
حزيران، على أن أنطلق صباح الإثنين إلى مطار دمشق، حيث تقلع الطائرة في الساعة
الثانية عشرة ظهراً.
داهمت أجهزة الأمن الشقّة، وكنت خارج المنزل، أحضر
لوازم طعام الفطور، فاعتقلني رجال الأمن على باب الشقّة، واقتادوني إلى أسفل
العمارة.
وإذ كان هدفهم اعتقالَ الشهيد مروان؛ استغفلتهم،
وهربت من بين أيديهم، ونجوت!
هروبي من بين أيديهم؛ جعلني لدى هذا النظام مطلوباً
حيّاً أو ميتاً، وأعلنوا مكافأةً ضخمة تلك الأيّام، لمن يدلُّ عليّ، وقد مضى خمسون
عاماً، وأنا بعيد عن وطني وأهلي.
فليس لدى هذا النظام المجرم، ولا لحاضنته «النصيريّة»
أيُّ كرامةٍ عندي، ولا أدنى قيمة!
وستكون شهادتي من قَبيلِ (العدل) الذي أمرنا
الله تعالى به.
رابعاً: في شهر أيلول من عام (1972) الموافق
للثالث من رمضان المبارك؛ التحقت بثانويّة وادي العيون، من جبال العلويين.
دخلتُ إلى غرفة المدير، فوجدته وسائر الأساتذة
في المدرسة يدخّنون ويحتسون الشاي والقهوة، وكان فيهم أستاذان ليسا بعلويين:
أحدهما: من مدينة السلمية، واسمه مصطفى بكّور،
كان يعلّم اللغة الانجليزيّة في المدرسة.
والآخر: فلسطينيّ ملحدٌ من غزّة، قال لي: متى
أعادُ الله تعالى إلينا فلسطين، أعبده، أمّا الآن فليس عندي ما يثبت وجود هذا
الإله، أو قال: (ليس لديّ ما يجعل هذا الإله، يستحقّ أن أعبده، وكان هذا الأستاذان
لا يصليان ولا يصومان، ويحتسيان الخمرةَ حتى في نهار رمضان!
قلت للمدير: أنا قادمٌ لتدريس الدين في
ثانويّة، مديرها وأساتذتها من دون دين؟ لعنة الله عليكم أجمعين!
احتملني الأساتذة للأمانة، ولم يردّ عليّ أحدٌ
بشيءٍ، ولو ردّ علي واحدٌ بكلمةٍ واحدة؛ كنت مهيّاً نفسياً أن أقتل كلّ واحدٍ منهم
برصاصةٍ، على عدد الرصاص الذي كان بحوزتي!
ولم أكن في تلك الأيام أحسب أدنى حسابٍ للموتِ
أو للحياة!
ثمّ لم أدخل غرفةَ المدير، حتى انتهى شهر رمضان
المبارك، في تلك السنة!
خامساً: كان الكلام على شهر رمضان في كتاب الدين،
الذي كان يدعى (التربية الإسلامية) في منتصفه تقريباً.
لكنني بدأت تدريس عبادةَ (الصوم) في أوّل محاضرة في
رمضان، وتوسّعت في الكلام على فرضيّة الصيام وفضائله، حتى إنني أمضيت شهر رمضان
كلّه أعلّم أحكام الصيام، وكانت المحاضرات متشابهة، من الصفّ السابع حتى الصفّ
الثاني عشر!
فرضتُ على الطالبات الحجابَ، والطالباتُ موجوداتٌ
في المرحلة المتوسطة فحسب (السابع والثامن والتاسع) ولم يكن في المرحلة الثانويّة
سوى بنت واحدةً في الثاني عشر، كانت معيدةً للمرة الثالثة.
التزمت جميع الطالباتِ بالحجابِ في دروسي، ما عدا
واحدةً قالت: إنّ والدها لواء ركن في الجيش، رفضت الحجاب، فطردتها من الفصل
الدراسيّ، فانتقلت إلى مدرسةٍ في قريةٍ قريبة مجاورة.
وحدّثني طلّابي - ولا أتذكّر واللهِ - أنني قلت
لهذه الطالبة: لو جاء حافظ الأسد، وأراد أن أعفي ابنتَه من الحجاب في درسي؛ كنت
قلت له: أنت رئيس البلاد، وأنا رئيس قاعة الدرس، لا تتدخّل في مسؤوليّتي!
بعد منتصف شهر رمضان؛ أصبحت جميع قاعات دروسي فيها
عددٌ من البنات الصائمات، لكن لم يصم سوى طالبٍ واحدٍ، أحبّني كثيراً، اسمه
(محفوظ) أوجّه إليه التحية.
سألتُ الطلّاب: لماذا لا تصومون أنتم؟
فلم يردّ عليّ أحد، حتى استأذنت طالبة، اسمها
(هيام) وكانت أكثرَ طالبات المدرسة التزاماً بالحجاب، فقالت لي: يا أستاذ، أنت
تعلّمنا الدين، ونحن نشكرك على هذا، فقد فتحت عيوننا على شيءٍ اسمه دين، واسمه إسلام.
لكن قبلَ أن تطالبوننا بالتمسّك بالدين؛ خلّصونا من
هذه البيئة الموبوءة الفاسدة!
نحن ليس عندنا شيءٌ اسمه دين، لا صلاة ولا صوم ولا
أيّ شيء!
والمرأة بالذات ليس لها دينٌ عند العلويين، ليس
هناك فرق بين المرأةِ وأيّ دابّة مربوطة في الزريبة، وبكت حفظها الله تعالى.
في نهاية شهر رمضان؛ نزلت إلى مدينة حماة، وزرت
شيخي الشهيد مروان، ودار حوارٌ طويلٌ بيني وبينه، حتى قلت له: يا شيخي، أنا لا أستجيز قتال النصيريّة ولا قتلهم ولا
تكفيرهم، هؤلاء قومٍ لا يعرفون عن الدين شيئاً (أيّ دين).
بدلاً من أن نقاتلهم ونقتلهم؛ يجب علينا دعوتهم
وتعليمهم الدين!
قال شيخي مروان: ألا تسمعون يا شباب، حتى الشيخ
عداب أمسى من الحكماء!
لم أردّ شيئاً، لكنني استأذنت وانصرفت!
في اليوم الثاني - وكان يوم جمعةٍ - زرت شيخي
مروان، فقال لي: تفكّرت في كلامك أمسِ، فاقتنعت بوجهة نظرك، ولا بدّ من دعوة جميع
الناس، وأوّلهم أهل السنّة!
مَن هو الملتزم بدينه من أهل السنة في حماة، كم
واحد؟ (5%) (10%) أنا لا أظنّ هذه النسبة موجودةً أصلاً، لكنْ على الأقلّ هم
موحّدون، وحسبنا الله ونعم الوكيل!
سادساً: يوم (8) آذار كان عطلةً رسميّة، لكن يكون
هناك احتفال بالثانوية، وأنا لم أتذكّر أنّ ذاك اليوم هو (8) آذار من عام (1973) فدخلت المدرسة، فوجدتها مزيّنةً ومضاءة حتى في
النهار، وواحدٌ من ضبّاط الفتوّة يلقي كلمةً عن حزب البعث وانتصاراته وأهدافه...إلخ،
فرجعتُ إلى بيتي، ولم أشاركهم احتفالهم هذا.
بعد ساعتين تقريباً، سمعت جلبةً وصراخاً، وكنت
أسكنُ الطابق الثاني، فأطللتُ من على سطح المنزل، فسمعتهم يهتفون: (بدنا نحكي
عالمكشوف رجعية ما بدنا نشوف)
(بدنا نحكي عالمكشوف، إخوانجي ما بدنا نشوف) وبدأوا
بإطلاق الرصاص تخويفاً لي، ثم تطاولوا أكثر، فصاروا يضربون باب بيتنا بعنف بالغ!
صعد إليّ الأستاذ مصطفى بكّور، ورجاني أن ألبس
ثيابي وأنزل معهم إلى موقع الاحتفال الحزبيّ!
قلت له: تعال انظر معي، قلت له: لدي (200) طلقة،
ومسدس بروننغ وخمس قنابل ميلز، انزل وقل لهم: هم قد يقتلونني ولا بأس، لكنهم لن يقتلوني
حتى أقتل منهم مائة كلب!
قال: تمام هذا ممكن، لكن ماذا سيحدث لزوجتك؟
ههنا أحبطتُ وخمدت ناري!
قلت له: اذهب وقلْ لهم: أنا أذهب إلى موقع
الاحتفال، شريطةَ أن يسمحوا لي بإلقاء كلمةٍ في الاحتفالِ.
نزل وعاد بالموافقة.
لبست ثيابي، ولقّمت مسدسي، وحملت معي قنبلتين
ونزلت!
عندما وصلنا الموقع؛ خطب مدير المدرسة، وقال كلاماً
طيّباً تجاه الوطنية والتعايش.
ثمّ خطب الضابط قائد الفتوّة، وكان مما قال: حزب
البعث حزب قومي ماركسيّ يساريّ، لا شأنَ
له بالأديان، تعبد الله، تعبد الحجر، نحن لا نمنعك من هذا، إنما لا تجاهر بدينك، ولا
تتحدانا!
المهمّ أنهم لم يسمحوا لي بإلقاء كلمةٍ، وخسرت تلك
الجولة على الحقيقة، بيد أنني غدوتُ أكثر احتراماً من أكثر طلابي غير البعثيين،
ولا أدري لماذا، وقد خسرت!
سادساً:
بعد هذا الحدثِ بمدّة لا أتذكّرها؛ جاءني
الأستاذ السنيّ الوحيد في الثانوية معي، وكان اسمُه «مصطفى بكّور» من مدينةِ السلَميّة، وقال
لي: إنّ البعثيين في هذه المدينة خطّطوا لاغتيالكَ، فغادر وادي العيون؛ حذِراً، من
غير الطريق العام!
بعد مَغادرته منزلي؛ ناديت على
واحدٍ من تلامذتي المخلصين، الذين تأثّروا كثيراً بي، وكان حزبيّاً، وعضوَ اتّحاد
الطلبة، فسألته: ما لديك من الأخبار؟
قال: أنا حزبيٌّ، هذا صحيحٌ، لكنك
أستاذنا الذي علّمنا خيراً كثيراً، وفتح أبصارنا على واقعنا البائس، ورأيي يا شيخي
أن تغادر الآن، قبل أن يأتي الليل، وفي نهاية الأسبوع أجمع لك جميعَ أغراضك في
البيت، وأوصلها إليك في حماة!
ضحكت، وتجاهلت أن يكون لديّ علمٌ
بشيءٍ، فقلت له: ولماذا تريدني أن أغادر، مم تخاف عليّ.
قال: يا أستاذ! الجماعة في الحزب
والمدرسةِ، اتّخذوا قراراً بتصفيتك الليلةَ، وأظنهم حَصلوا على موافقةٍ من جهاتٍ
عليا!
قلت: أنا لا يُهمّني هذا الأمر، لكن
يُهمّني مَن يوصل زوجتي إلى حماة، حتى أريَهم قيمتَهم في ديارهم!
قال: يا أستاذ بالله عليك، وبحق جدك
الرَسولِ، وجدك الإمام علي؛ لا تعرّض نفسك لغدرهم ولؤمهم، فلن تستطيعَ فعلَ شيءٍ
معهم، سوى مناوشةٍ يسيرة، ثم يقتلونكَ ونبقى نحن تلامذتك في حسرةٍ دائمة!
وبالتأكيد، سيكون لهذا أثره الكبير
على العلاقة بين وادي العيون وحماة!
يا أستاذ: هم واللهِ حَمقى؛ إذ لم
يعرفوا قدرك وقيمتك، فكن أنت العاقل الناظر بمصلحته، ومصلحة تلاميذه، ومصلحة وطنه.
قلت له: خيراً إن شاء الله، سأحاول
فعلَ ما يرضيك!
خرجتُ إلى سوقِ وادي العيون الصغير،
فلم أشاهد شيئاً خلافَ المعتاد، وزرت جاري السابق «أبو نَبيل» في دكّانه، وكان
يُكنّ لي كلّ احترام!
سقاني كأساً من الشاي، وقال لي:
أستاذ أبو محمود، أنت تعرف كم أنت عزيزٌ عليّ، وكم بنتي زوجتك عزيزة علينا جميعاً؟
وتالله، وبالله، ووالله عليك؛ تقوم
الآن تسافر إلى حماة؛ لأنّ الجماعة الذين ضربتَهم وأذللتَهم أمام بعضهم، وأمام
الطلاب في عقر دارهم؛ لن يسكتوا، يريدون أن يردّوا اعتبارهم، ويأخذوا ثأرهم منك
الليلةَ، فاخرج إني لك من الناصحين!
في هذه اللحظة نادوا عَلَيْهِ من
خارج الدكان، فإذا بسيّارة شاحنة تحمل شِحنةَ «اسمنت» يريد سائقها أن يفرغوها له
بسرعة!
نظرتُ إلى السائق، فرأيت كأنني
أعرفه، فسلّمت عَلَيْهِ، وسألته عن اسمه؟
فقال: أنت الشيخ عداب؟ أنا أعرفك!
أنا ابن عمّ صهرك عبدالعزيز، أنا فارس الفارس!
فدعوتُه إلى البيت، وأشرتُ إلى «أبو
نَبيل» أن يخبرنا متى انتهوا من تفريغ الحمولة!
حين أخبرته بالذي حصل؛ انتخى وقال:
يخسأ الكلاب، والله لا يصلون إليك، ما دمت على قيد الحياة!
قلتُ له: أخبرَني بذلك ثلاثةٌ منهم
أبو نَبيل، فماذا ترى أنت؟
قال: أرى أنهم يريدونك أن ترحل من
بينهم، فأنت تعكرّ عَلَيْهِم عيشتهم، وهذا المكان والله لا يناسبك يا ابن العمّ،
أرى أن تجهّز نفسك، وتنْزل في السيارة معي!
واستأذن، وتركني لأتمكن من اختيار
الضروري من أغراض البيت، وانصرفَ ليتابعَ تفريغ حمولة السيارة.
ناديتُ على تلميذي المجاور لي، فقلت
له: أرسل أختك وخطيبتك لمُساعَدَة زوجتي في تهيئة حاجياتنا للسفر، وهيّأتُ أنا
كتبي التي هي أعزّ شيءٍ في ذلك البيت عليّ.
وحين انتهى العمال من تفريغ
السيارة؛ طلب منهم أن يغسلوها بالماء، ففعلوا، ثم أحضرهم إلى بيتنا، فحملوا
الأغراض، وودعنا بعض كرام الحيّ، وانصرفنا إلى حماةَ، من دون أيّ إعاقةٍ، أو
اعتراض!
هذا عن الجانب التاريخيّ والسياسيّ،
أمّا الجانب الدينيّ والاجتماعيّ؛ فسأخصص له منشوراً تالياً، إنْ شاء الله تعالى.
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق