التَصَوُّفُ العَليمُ (17):
هل أنت
عِرفانيٌّ !؟
بسم الله
الرحمن الرحيم
أحدُ الإخوةِ مستغرباً قال لي: (السيد كمال
الحيدريّ؛ مضطهَدٌ ومضيّق عليه، وقد فسّقه قومه، وما شاهدتُ لك منشوراً دافعتَ فيه
عنه)؟
قلت له: السيد كمال الحيدريّ شيعيٌّ عِرفانيٌّ،
عندما توصّل إلى أنّ النظرية المهدويّةَ تخريفٌ فاحش؛ لم يجرؤ على إنكار شخصيّة
(المهديّ المنتظر) فزعم أنّه يثبت وجودَه عن طريق العرفان، وأنّ ظهور المهديّ يمكن
أن يكون في الحياة البرزخيّة، قبيلَ يوم القيامة!
وهذا كلّه عندي وهم عريضٌ، وباطلٌ عربيد!
فأخشى إنْ دافعتُ عن السيّد الحيدريّ، برفضي الإرهابَ
الفكريّ الرافضيّ الممارَس عليه؛ أنْ يُظنَّ بأنني من أنصاره، وأنني أقرّ بإمكان
إثباتِ اعتقاداتٍ عن طريق العرفانِ الفلسفيّ الباطل عندي، جملةً وتفصيلاً!
قال صاحبي: (وهل العرفانُ شيءٌ آخر سوى التصوّف؟
حبّذا لو شرحتَ لنا بإيجازٍ مفهوم (العِرفان) ثمّ
بيّنتُ لنا لماذا تنكره أنت، وشكراً لكم).
أقول وبالله التوفيق:
العرفان: مصدر عَرَف يَعرِفُ معرفةً وعِرفاناً: سكن
واطمأنّ، قاله ابن فارس.
وقال الراغب: العرفان: إدراكُ الشيءِ بتفكّرٍ
وتدبُّرٍ لأثره، وهو أخصّ من العلم.
تقول: فلان عرف الله تعالى، ولا تقول: عَلِمَ اللهَ
تعالى؛ لأنّ معرفةَ البشر لله تعالى تكون بتدبّر آثاره، دون إدراك ذاته.
وتقول: الله تعالى يعلم كذا وكذا، ولا تقول: الله
يعرف كذا وكذا؛ لأنّ المعرفة تستعمل في العلم القاصر المتوصَّلِ إليه بتفكُّرٍ» وعلم الله
تعالى صفة كاملة من صفات ذاته.
والعِرفان مصطلح خاصٌّ بالتصوّف الفلسفيّ عند أهل
السنّة، والشيعةُ يعدّون (العرفان) عِلْماً أعلى من الفلسفة العقليّة؛ لأنّه يجمع
بين الفلسفةِ وبين التألّه والاجتهاد بالعبادةِ على نحوٍ مبالَغٍ فيه.
ويُعَدُّ صدر الدين الشيرازيّ شيخ العرفانيين
الإماميّة، والمنظِّرَ لهذا اللونِ من الفلسفة!
ومن العرفانيين المعاصرين: العلامة السيد
الطباطبائي صاحب الميزان، والسيد روح الله الخمينيّ، والشيخ محمّد تقي بهجت، والسيد
محمّد محمد صادق الصدر، والسيد كمال الحيدريّ، وغيرهم.
وفي تقديري الشخصيّ: إنّ جميعَ آثارِ مصطحات: الكشف
والفتح والعروج والكرامة والعرفان؛ آثارٌ ظنيّة، يختلط فيها الكرامةُ بالوهمِ
وحديثِ النفس وأمانيّها، ولذلك فليست هذه الأمور جميعُها من مصادر المعرفة والعلم
في الدين الإسلاميّ!
بمعنى أكثر وضوحاً: كنت جالساً أذكر الله تعالى،
فطرأ على قلبي أنّ فلاناً سيموتُ غداً، ثمّ مات هذا الإنسانُ غداً حقّاً.
هذا إلهامٌ مسدَّدٌ، من دون ارتيابٍ، لكنّ هذا لا
يعني أنّ كلّ ما يخطر على بالي - وأنا أذكر الله تعالى - سيكون إلهاماً مسدّداً،
يمكنني أن أبني عليه رؤيةً، أو أعتقد اعتقاداً!
والعرفان بابٌ يَستطيع أن يدخلَه كلُّ أحدٍ،
ويستطيع أن يدّعي كلُّ إنسانٍ بعدَ ذلك ما يريد، ويَطلَعَ علينا بنظريات جديدةٍ،
مستندها هذا (العرفان) مثلما زعم لنا السيّد كمال الحيدريّ وجود (المهدي المنتظر)
عرفانيّاً، وزعم أنّ ظهورَه مقدمّة ليوم القيامةِ في عالم البرزخ!
وإليكم هذه الحكاية:
يومَ تُوفّي جدّي السيد إبراهيم الحمش، عام (1968) زارَ
مجلسَ العزاء شيخٌ صوفيٌّ، كان سَكنَ في حيّنا قريباً، فألقى موعظةً في مجلس
العزاء، ورغا على الحاضرين بكلامٍ فوق الأساطيح!
في اليوم التالي، حدّثت شيخنا محمّداً الحامد -
رحمه الله تعالى - بما قال ذاك الرجلُ، وهو جارُه الأدنى!
قال لي شيخي: هو لا بدّ أن يأتي غداً، فبمجرّد أن
يدخلَ إلى بيتِكم؛ أعطني خبراً!
حضر في اليوم التالي فعلاً، وبدأ بالكلامَ، فانسللت
بسرعة، وأخبرت الشيخ الحامد بحضور ذلك الشيخِ، فجاء مسرعاً.
وبعد أنْ سلّم على الحاضرين؛ قلت له: لو أتحفتنا
بكلمةٍ سيّدي؟
شرعَ الشيخُ محمدٌ الحامد بكلمته، ثم قال: بلغني
أنّ أحداً قال في مجلس العزاء هذا؛ إنّه التقى بالحبيب المصطفى صلّى الله عليه
وآله وسلم يقظةً، وشربَ معه الشايَ، وحدّثه بكذا وكذا؟
هذا كلامٌ كلّه باطلٌ وكذِبٌ، وهو خليطٌ من الوهم
وحديثِ النفسِ وأمنياتِها!
وعلى قائل ذلك أن يتوب إلى الله تبارك وتعالى،
وإلّا رددنا شهادتَه، وأسقطنا عدالته.
خِتاماً: أنا الفقير لا أضعُ موقفَ الآخرِ منّي عند
تقويم شخصيّته موضع اهتمامٍ!
فلو كان إنسان يبغضني، أو حتّى يكفّرني؛ لا يكون
تقويمي شخصَه متأثّراً بتكفيره إيّاي أبداً!
إنّما يكون تقويمي إيّاه وَفقَ المعطياتِ العلميّة
التي بين يديّ، وإنْ كنت أغضبُ من إنسانٍ كفّرني، أو لعنني، أو افترى عليّ.
والله تعالى أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق