في سبيل العلم (14):
لماذا كان يبغضك البوطيّ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
سأل هذا السؤال عددٌ من الإخوةِ قديماً وحديثاً،
وإذْ إنّ الكلامَ عن الدكتور محمد سعيد بن رمضان البوطيّ محتدماً في هذه الأيّام؛
فلا بأسَ من ذكر ذلك، بصفته موقفاً من تاريخ حياتي.
ألستم تطالبونني بكتابةِ مذكراتي دائماً؟ هذا
المنشور واحدٌ من عشراتٍ، تناولت في كلّ واحدٍ منها موقفاً من مواقفي في الحياة.
معرفتي بالدكتور محمد سعيد بن رمضان البوطي، رحمهما
الله تعالى؛ ترجع إلى صيفِ عام (1968م).
في هذا الوقتِ حصلت مشادّةٌ كلاميّةٌ بيني وبين
عددٍ من الشبابِ السفلةِ، الذين يطارودون الفتياتِ في شوارعِ مدينة حماة.
تحوّلت المشادّة الكلاميّةُ إلى خصامٍ وتلاحمٍ
وضربٍ بالسكاكين، وحُمل جميع المتخاصمين إلى المشفى الوطني في حماة، ودماؤهم تسيل،
وكنت أنا فاقدَ الوعي!
عرف أهلي بما حدثَ، فجاؤوا إلى المشفى الوطنيّ
سرّاً، ونقلوني إلى مشفى الدكتور «فيصل الركبي» حتى لا
تعرف الشرطةُ من أكون، في ظنهم !
ظللتُ في مشفى فيصل الركبي ثمانيةَ عشر يوماً،
حتى غدوت قادراً على مشي السلحفاة!
كلما جاءت الشرطة لتحقق معي؛ أتظاهر بالإغماءِ،
وكان الدكتور فيصل يؤكّد على ذلك فيصدقونه!
في اليوم الثامن عشر؛ هرّبوني من المشفى إلى
دمشق مباشرةً، ونزلتُ ضيفاً على ابن خالتي الفاضل عبدالرحمن بن محمّد كريجٍ
الحمويّ، وقد كان ضامناً «فندق الحرمين» قربَ ساحةِ المرجة.
صوّروني في دمشق، واستخرجوا لي من حماة هوية
باسم عبدالرزاق بن محمد كريج، شقيق عبدالرحمن، رحمهم الله تعالى، صرت أتنقّل بها
في دمشق!
كنتُ أحبّ الصلاةَ في المسجد الأمويّ كثيراً،
وكنت أصلّي عدداً من الأوقات فيه، وأصلّي بقية الأوقات في مسجد «التوبة» غالباً.
كان أولاد عمّتي محمّد وفايز ومختار أبناء
محمود البظّ الحمويّ، يعملون في دمشق، فأخبرني بعضهم بأنّهم يحضرون على الدكتور
محمد سعيد رمضان خطبَ الجمعةِ في «جامع الرفاعي» في غالب ظني، فذهبت معهم، وحضرت
له خطبةً أعجبتني، وإنْ لم يكن في نظري خطيباً مفوّهاً!
وغدوت أحضر خطبَ الجمعة له، ودروسَه في جامع «تنكز»
وقبل جامع تنكز؛ كان يلقي دروسه في مسجد آخر، نسيتُ اسمه.
صافحتُ الشيخَ محمد سعيد، وشكرته على خطبته،
فسألني عن اسمي ومن أيّ البلاد أنا؟
فأخبرته أنني من تلامذة الشيخ محمد الحامد،
المواظبين على دروسه منذ أواخر العام (1962) ففرح بذلك، وأثنى على شيخنا الحامد
كثيراً، رحمه الله تعالى.
ثمّ حضرت له خطبةً بصحبة شيخنا الشهيد مروان
حديد، الذي كان يحثنا على الإفادة من الشيخ محمد سعيد رمضان.
نصح الشيخ محمد سعيد شيخنا مروان بالابتعادِ عن
العنف، وعلّل ذلك بأنّ مشكلة المسلمين أخلاقيّة التزاميّة، وما لم تَسُدْ أخلاق
الإسلام في المجتمع؛ لا يمكن تغيير السلطة السياسيّة الظالمة!
تقبّل الشيخ مروان نصيحةَ الشيخ محمد سعيد،
وشكره على ذلك.
واستمرّت علاقتي بشيخي محمد سعيد طيّبةً طيلةَ
وجودي في دمشق!
فلمّا حُلّت مسألةُ «ضرب السكاكين» التي تكلّمت
عنها؛ رجعت إلى مدينة حماة، وحضرت جلسةَ محكمة واحدةٍ في حماة، كان محاميَّ فيها
محام بارز من (آل علي حور) نسيت اسمه، رحمه الله تعالى.
بيد أنّ المحكمة حكمت عليّ بثلاثةِ أشهر سجن مع
وقفِ التنفيذ؛ لأنني اعترفتُ بأنني ضُربتُ بالسكين، فضربتُ بالسكين!
في (16/ 1/ 1970م) كانَ أوّلَ يومٍ داومتُه في
السنة الأولى من كليّة الشريعةِ، وكان الدوام إلزاميّاً.
وكانت المحاضرة الأولى في «السيرة» للدكتور
محمد سعيد رمضان البوطي.
في أثناء المحاضرةِ؛ خرقت طائرةٌ حربيّة
سوريّةٌ «جدارَ الصوتِ» فأحدثت صوتاً مرعباً، وتكسّر زجاجُ قاعةِ المحاضرة، فهُرع
الطلّاب والطالباتُ باتّجاه باب القاعة، فوقع بعضهم، وغدا بعضهم فوق بعض!
اعترتني الغيرةُ على البناتِ، فصرت أحمل الطلاب،
وأرميهم بعيداً عن البناتِ، بقسوةٍ بالغة!
عقب انتهاء هذه العمليّة الحزينةِ؛ التفتّ إلى
الوراء؛ فرأيت شخصاً معمّما يركض على مقاعد الدراسة، ظننته والله زميلي من «آل
البيانوني الحلبي» وكان يجلس بجواري في القاعة!
صرخت عليه قائلاً: «العمَى حتى أنت تركضُ مثلَ
القرد» ارجع من حيث جئت!
استدار الدكتور محمد سعيد، ورجع يمشي على
المقاعد بذهولٍ، حتى جلس على كرسيّه خلف طاولةِ المعلّم!
عندما جلس؛ تيقّنت أنني أخطأتُ التقدير، فصعدتُ
إلى حيث هو، وطلبت يده لأقبّلها، فرفض!
اعتذرتُ إليه وإلى طلاب القاعة، التي كانت تضمّ
مئاتٍ كثيرةً من الطلّاب، وقلت لهم جميعاً: والله يا شيخنا ظننتك زميلي البيانونيّ
هذا، فسامحني!
قال بغضبٍ شديد: «رُح اجلس مكانك» وظلّ طيلةَ
المحاضرةِ صامتاً، لم يتفوّه بكلمة واحدة!
كلّمت الدكتور «محمد أديب الصالح» رحمه الله
تعالى، بأن يشفع لي لدى الدكتور البوطيّ ليسامحني، لكن الدكتور البوطيّ رفض!
ثمّ كلّمه شيخي محمد لطفي الفيومي رحمه الله تعالى،
فرفض!
ثمّ كلمه الشيخ مروان حديد، فرفض قبول اعتذاري،
وقال له: هذا طالب جلفٌ عنيف، كان يلقي زملاءه الطلاب، كما يلقي أحدنا رغيفَ خبز!
هذا لا يصلح لأن يكون عالماً، وجّهوه ليتطوّع
في الجيش، فهناك يفيد كثيراً بالتأكيد!
غضب الشهيد مروان منه، وقال له - كما حدّثني -
شيخنا تعني أنه لا يصلح لطلب العلم إلّا الضعفاء الجبناء، ما هذا الكلام؟
هذه هي الإساءة الوحيدةُ، التي أسأتُ بها إلى
أستاذي الدكتور محمّد سعيد، من دون قصدٍ مني، شهد الله العظيم!
بقيَت هذه الحادثةُ في نفسه، سنين متطاولةً،
وأظنها ظلّت معه حتى استشهُد، رحمه الله تعالى!
ولا يظنّن أحدٌ من قرّائي الكرام؛ أنّ الشيخ
البوطيَّ وحده هكذا، فوالدتي السيدة خديجة بنت محيّ الدين بن فارس الأيوبيّة،
رحمهم الله تعالى، كانت كرديّةً أيضاً، وكانت تردّد دائماً «الأسى لا يُنسى»
وقالت مرّات: «الذي يؤذيني قد أسامحُه، لكنّني
أتذكّر إساءَته كلّما رأيتُه، ولا يمكن أن يصفح عنه قلبي».
أحدُ صِغار مشايخي الحمويين - في السنّ -
اختلفتُ معه في مسألةٍ، نقلها إليه عني واشٍ!
جاء إليّ في منزلي بالقاهرة، وقرع الباب
بطريقةِ «المخابرات» ففتحت له الباب مسرعاً، فهجم عليّ يرغي ويزبد ويصرخ ويوبّخني
على تلك المسألةِ المنقولةِ إليه!
فاعتذرتُ إليه بأنْ لا عِلمَ لي بالذي يقوله،
وأقسمتُ بالله على ذلك، وكان عندي الأستاذ سيف الإسلام بن حسن البنا، رحمهما الله
تعالى!
فتدخّل وقال له: الرجل يحلف لك بالله العظيم؛
أنْ لا علمَ له بشيءٍ مما توبّخه عليه، ومن حلف لكم بالله فصدّقوه!
ظلّ يصرخُ ويصرخ، حتى أمسكت بيديه، وقلت له:
اسمع يا شيخ فلان، لولا أنّك شيخي؛ لمسحت بك الأرض الآن، وأنت تعرف هذا جيّداً،
ليس من حقّك هذا التصرّف الفجّ حتى لو كنتُ قلتُ هذا الكلامَ عنك!
كان عليك أن تستفسر مني، فإن كنتُ أخطأتُ في
حقّك؛ أعتذر منك، وليس لك عندي سوى الاعتذار، إذا لم تهدأ؛ سأرميك خارجَ بيتي، فخرج
من البيت غاضباً.
بعد شهر من الزمان تبيّن له أنّ الواشيَ كان
يمزح معه ويكذب عليه، فجاء إليّ معتذراً عمّا بدر منه، وقال لي بالحرف الواحد
تقريباً: «سامحني ياشيخ عداب، كنت أنا متسرّعاً مخطئاً، وأنت والله خير مني، لكنْ
أنت من طريقٍ وأنا من طريق، فأنا لا أستطيع أنْ أصفحَ عن إنسانٍ تعكّر قلبي عليه»!
تبسّمت في وجهه، وقلت له: لك ما تشاء يا شيخي،
لكنْ نحن إخوةٌ في الإسلام، ونحن من الإخوان المسلمين، وكان من حقّك أن تأخذ هذا
الموقف، لو أنني أخطأتُ، وأنت تقرّ بأنك أنت المخطئ، وقد هجمتَ عليّ في بيتي،
ووبّختني بالباطل وتحمّلتك؟
قال: «لا داعي إلى التفاصيل، هذا قراري، والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته» وانصرف!
خِتاماً: لست أدري ما أقول حِيالَ مثل هذه المواقف،
وهل الشخصيّة الكرديّة هي هكذا حقّاً، إذا غضبَ أحدهم لا يرضى حتى يموت؟
أرجو من الإخوة الأكراد جينيّاً - لا لساناً
وثقافةً - أن يخبرونا بالحقيقة، فهم أدرى وأعلم.
والله المستعان.
والحمدُ لله على كلِّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق