الاثنين، 18 يوليو 2022

       مَسائلُ حَديثيّةٌ (45):

مَن قال ابن حجر فيه «مقبول» فحديثه حسن!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتب إليّ أحد الإخوة يقول: قرأتُ لك كلاماً قديماً ترفضُ فيه ما قاله بعضُ زملائك من أهل العلم: «مَن قال ابن حجر فيه في التقريب «مقبول» فحديثه حسن».

فهل ما زلتَ عند رأيِك هذا، أم تغيّر اجتهادُك في دلالةِ هذا المصطلح، الذي أكثر ابن حجر من استعماله في كتابه «تقريب التهذيب» خاصّة؟

أقول وبالله التوفيق:

أظنّ أنّني كتبت منشوراً في مصطلح «مقبول» هذا، أو تكلّمت عليه في بعض كتبي، لم أعد أتذكّرُ، وللأسف!

بيد أنني سألخّص ما كتبتُه في هذه السطور القليلة:

أوّلاً: من الشائع لدى كثيرين من أهل العلم؛ أنّ العالم إذا قال في مسألةٍ واحدةٍ قولين، وعُلِم المتأخّرُ منهما؛ فالمتأخّر الناسخ، والمتقدّم المنسوخ، ويعمّمون هذا في كلّ مسائل العلم، ويحشرون تحته جميع العلماء!

وفي هذا الكلام عندي نظر كبيرٌ!

لأنّ العالم ربما يكون حرّر مسألةً من المسائلِ تحريراً جيّداً، وتوصّل في نتيجتها إلى رأيٍ مؤيّد بالبرهان والدليل، ثمّ يطول به الزمان، فيُسأل عن  تلك المسألة ذاتها، فيجيب بجوابٍ مختلفٍ، ربما لأنّه تسرّع في الجواب، أو لأنّه لم يستحضر ما كان حرّره في تلكم المسألة، فلا ينبغي أن تكون قاعدة النسخ هذه شاملةً لكلّ العلوم، ولكلّ العلماء، وخاصّةً المكثرينَ من الكتابة منهم.

والذي أوجّه إليه بالنسبة إلى كتاباتي أنا الفقير؛ أن لا يسارع أولادي وتلامذتي بعد موتي؛ فيقدّمون ما في المنشوراتِ الثقافيّة المتأخّرة، التي أكتبها من رأس القلم؛ على الكتابات العلميّة المكنوزة في بطون المؤلّفاتِ والبحوث العلميّة، المطبوعة والمخطوطة، إنّما عليهم أن يقرؤوا المسألةَ ههنا وههنا، ثم يرجّحون ما هو الأليق بمنهجي العلميّ في تلك المسائل!

مع التذكير بأمرٍ مهم جدّاً، يتعلّق بالأرقام والتواريخ، فكلّ ما يتعلّق بالأرقام والتواريخ؛ فالمتقدّم هو الراجح، والمتأخّر هو المرجوح؛ لأنّ ذاكرتي ضعفت كثيراً عمّا كانت عليه منذ خمس سنواتٍ، وهي عمّا كانت عليه قبل عشر سنواتٍ أضعف!

على أنّ المقصودَ من التواريخ والأرقام؛ أخذ العبرةِ، لا ذات التاريخ والرقم، على كلّ حال.

مثال ذلك: ذكرت في أحد المنشوراتِ أنني حين ضربت على رأسي؛ كان عمري ستّة أشهر، وفي منشور آخر، قلت: كان عمري في حدود سنة ونصف!

وأنا الآن أحفظ بأنني ضربت، وأثر الضربة لا يزال في رأسي حتى اليوم، لكنني ما عدت أتذكّر متى كانت هذه الضربة المشؤومة.

ففي مثل هذه الحال؛ يُؤخَذ بالتاريخ الأقدم؛ لأنّ الذاكرة كانت أقوى وأضبط!

ثانياً: الحافظ ابن حجر عالمٌ موسوعيٌّ كبير، وليس محدّثاً شارحاً فحسب، كما يظنّ بعضُ المستهترين، وهو مكثرٌ من التأليف.

ومن كان هذا شأنه؛ فمن المحتمل أن تختلف أقواله المتقدمة والمتأخّرة؛ للأسباب التي ذكرتها قبل قليل!

ومنذ العام (1399 هـ) نبّهت إخواني طلبةَ العلم في جامعة أمّ القرى على خطئين شائعين بينهم:

الأوّل: اعتمادُهم على كتاب «تقريب التهذيب» وعدّه نهايةَ اجتهاداتِ ابن حجرٍ، في رواة الكتب الستّة.

والثاني: جعلهم اختصارات الذهبيّ لأحكام الحاكم النيسابوريّ موافقةً للحاكم، فيقولون: قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبيّ!

وهذا خطأٌ فاحشٌ، لا يقع فيه جميعُ من درس عليّ العلم، منذ ذلك التاريخ، وحتى اليوم!

وقد ذكرتُ لعميد كليّة الشريعةِ والدراسات الإسلامية، الدكتور الفاضل محمد بن سعد الرشيد أنّ هذا المنهج خطأ، ويقود إلى نتائج غير دقيقةٍ، وأحياناً غير صحيحة.

وفي مرحلة متأخّرة قدّمت تقريراً موسّعاً لرئيس قسم الدراسات العليا، أستاذنا السيّد سابق، تناولت فيه هاتين المسألتين.

ثالثاً: لم يحرّر الحافظ ابن حجر مصطلح «حسن» ولم يطبّقه تطبيقاً صحيحاً في تخريجاته أبداً، كما لم يحرّر مصطلح «مقبول» أبداً!

فهو يُدخل تحته ضعيف الحفظ والمستور ومجهول الحال والمستور، وغير هؤلاء ممّن يَقبلُهم هو في المتابعة والشاهد، وما كان ينبغي له أن يستعمل هذا المصطلح بتاتاً!

وإليك الأدلة على ذلك!

رابعاً: من قال فيه في التقريب «مقبول» وقال في موضع آخر عنه مجهول!

(1) جُمْهان الأسلمي مدني قديم، قال في التقريب «مقبول» (ق).

وقال في كتاب الدراية في تخريج أحاديث الهداية (2: 75): «مجهول».

(2) حَشْرج بن زياد الأشجعي، أو النخعي، قال في التقريب: «مقبول» (د س) بينما قال التلخيص الحبير (3: 222): «مجهول».

(3) حُكَيمُ بن عبدِالرحمن أبو غسان المصري، قال في التقريب: «مقبول» (قد) بينما قال في لسان الميزان (8: 268): «مجهول».

خامساً: مَن قال فيه في التقريب «مقبول» وقال في موضع آخر عنه: لا يُعرَف!

(1) بُرْمة الأسديّ، واسم أبيه ليث، في التقريب «مقبول» (بخ).

وفي اللسان (8: 230): «تابعي لا يعرف».

(2) بَشير بن ربيعة البجليّ الكوفي، في التقريب «مقبول» (عس).

وفي اللسان (9: 100): «لا يعرف» ولأنّه لا يعرف، فقد ترجمه هنا باسم محمد بن ربيعة!

(3) بَشيرُ بنُ المُحَرّر، حجازي، في التقريب «مقبول» (د) وفي اللسان (8: 235): «لا يعرف».

سادساً: مَن قال فيه في التقريب «مقبول» وقال في موضع آخر عنه: لا يُدرى من هو!

(1) جابان غيرُ مَنسوب، في التقريب «مقبول» (س) وفي اللسان (8: 245): «لا يُدْرَى مَن هو».

(2) عبد الله بن أبي رزين مسعود بن مالك الأسدي الكوفي، في التقريب «مقبول» (عس) وفي اللسان (8: 436): «وثقه ابن حِبّان، ولا يُدْرَى مَن هو».

(3) أبو أفلح الهَمْداني المِصري، في التقريب «مقبول» (د س ق) وفي اللسان (8: 220): «لا يُدْرَى مَن هو».

سابعاً: مَن قال فيه في التقريب «مقبول» وضعّفه في موضع آخر!

(1) حُبَيش بنُ شُرَيح الحَبَشيّ الشامي، في التقريب «مقبول، ووهم من ذكره في الصحابة (د) وفي الإصابة تمييز الصحابة (6: 378): «ضعيف».

(2) عُمَير بنُ إسحاق، أبو محمد مولى بني هاشم، في التقريب «مقبول» (بخ س) وفي المطالب العالية (4: 376): «ضعيف».

(3) مِصْدع أَبو يحيى الأعرج المُعَرْقَب، في التقريب «مقبول» (م 4) وفي موافقة الخُبر الخَبَر (2: 174) «ثقة تابعي» وفي التلخيص (2: 372): «ضعيف، وقد ثقه العجليّ».

ثامناً: مَن قال فيه في التقريب «مقبول» ووثّقه في موضع آخر!

(1) الحارثُ بن أسدٍ المحاسبي الزاهد المشهور، أبو عبد الله، في التقريب «مقبول» (تمييز) وفي النكت على علوم الحديث (2: 584): «من أئمة الحديث والكلام».

(2) حسّان بن عبدالله الأمويّ، مولاهم، المصريّ، في التقريب  «مقبول» (س) وفي فتح الباري (13: 291): «ثقة» وفيه أيضاً (13: 92): «أحد ثقات التابعين».

(3) عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي مولاهم الكوفي، في التقريب «مقبول» (خت د س) وفي نتائج الأفكار (2: 59): «ثقة» وفيه (2: 402): «هو حسن الحديث» كما قال الإِمام أحمد».

واختلاف أحكام الحافظ ابن حجرٍ؛ ليست في مصطلح «مقبول» فحسب، بل هي في سائر المصطلحات، لكنّها في مصطلح «مقبول» كثيرةٌ جدّاً؛ لعموميّة هذا المصطلح عنده، رحمه الله تعالى.

ختاماً: معظم الذين وصفهم الحافظ ابن حجر بمصطلح «مقبول» هم ممّن قال فيهم في مواضع أخرى: مجهول، لا يعرف، لا يدرى من هو، فيه جهالة.

لكنْ لأنّ علم نقد الحديثِ كلّه اجتهاديٌّ نسبيٌّ؛ لا أجازف فأقول: كلّ من قال فيه ابن حجر «مقبول» فهو مجهول، أو هو ضعيف، أو هو ضعيف الحديث.

إنما الواجب أن نطالعَ أقواله في الراوي محلّ البحث في كتبه الأخرى، ثمّ نوازن بين أقواله، مستعينين بأقوال المتقدمين من الحفّاظ، فهم أقعد بالنقد من ابن حجرٍ، ومن سائر المتأخّرين.

وقد قام عددٌ من الباحثين بجمع أقوال ابن حجر في الرجال، من كتبه، ومناهجهم في الجمع مختلفة.

لكنّ كتابَ «تُحفةُ اللَبيب بمن تَكَلّم فيهم الحافظ ابن حجر مِن الرواة في غير «التقريب» لمؤلّفه أبي عَمرو نور الدين بن عليّ بن عبد الله السدعي الوصابي» كتابٌ جيّد في بابه، وقد أفدتُ منه في كتابة هذا المنشور، ويسع كلَّ صديقٍ أن يقتنيه، فهو متاحٌ على الموسوعة الشاملة، ومتاح على شبكة الإنترنيت، جزى الله مؤلّفه خير الجزاء.

والله المستعان.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق