مسائلُ فقهيّةٌ:
إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَراً !؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الإسلام دين الله تبارك وتعالى، مَصْدَرُه الوحي
الإلهيُّ المتمثّل بالقرآن الكريم.
والسنة النبويّة الشريفةُ تطبيقٌ نبويٌّ لدلالات
القرآن العظيم.
والإجماع ليس بمصدرٍ تشريعيٍّ، إنّما هو كاشفٌ عن
الدليل ومشير إليه، بوجه من وجوه الاستدلال.
والقياس والاستحسان؛ عَمَلُ العالم المجتهد، وما
نتج عن فهم كتاب الله تعالى وسنّة رسولِه صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ هو الفقه.
ولاختلافِ قدراتِ العلماءِ العلمية واللغوية
والأصوليّة؛ كثر الاختلافُ في الفقه.
ومن وراء شيوع هذا الاختلاف الكثير في الاجتهاد؛
ظهرت لدينا موازينُ ترجيحيّة يَعتمدها العلماء وأتباعُهم، صيانةً لأنفسهم عن
الانحراف في العبادة والسلوك والأخلاق!
من هذه الموازين: (قاعدة الاحتياط) و(قاعدة سدّ
الذرائع) و(قاعدة الخروج من الخلاف) وجميعها - في نظري - تصبُّ في جانبِ براءةِ
الذمّة!
ولنأخذ مسألةَ (مصافحةِ المرأة الأجنبية) التي غدت
حديثَ الناس على وسائل التواصل الاجتماعيّ، في هذه الأيّام.
اختلف العلماء في مصافحة المرأة الأجنبيّة، بين
مبيحٍ، وكارهٍ، ومحرّم، والأئمّة الأربعة
على تحريم مصافحة المرأة الشابّة!
ولم يقل أحدٌ من العلماءِ بأنّ مصافحة المرأة
الأجنبيّة؛ مندوبٌ إليها، فضلاً عن كونها سنّةً، بلْهَ أن تكون واجبةً.
فالذين لم يروا مصافحةَ المرأة الأجنبيّة مشروعةً؛
احتجّوا بالقرآن الكريم، وبالأثر والقياس.
أمّا من القرآن الكريم:
قال الله تبارك وتعالى: (يَانِسَاءَ النَّبِيِّ:
لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ، إِنِ اتَّقَيْتُنَّ!
فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ، فَيَطْمَعَ الَّذِي
فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً) [سورة الأحزاب].
وَجهُ الاستدلال: لمّا نهى الله تعالى نساءَ الرسول
صلّى الله عليه وآله وسلّم عن تلطيفِ الكلامِ وتنعيم الصوتِ؛ كان النَهيُ عن
الملامسةِ والمصافحةِ من بابِ أولى!
وليس هذا الخطابُ خاصّاً بنساء الرسول، إنّما
خاطبَهنّ نيابةً عن جميع نساء المسلمين، من بابةَ خطابِ الأعلى (لَسْتُنَّ
كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) الذي يشملُ مَن هنّ دونهنّ منزلةً بأنفسهنّ، وبمنزلةِ
رجالهنّ أيضاً.
بمعنىً أوضح: إنّ (الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) يطمعُ
بغير أزواج الرسولِ؛ أكثرَ بكثيرٍ من طمعه بهنّ رضي الله عنهنّ، واللمسُ أبلغُ من
الكلام!
وقال الله تبارك وتعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى
طَعَامٍ، غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ، وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ؛ فَادْخُلُوا،
فَإِذَا طَعِمْتُمْ؛ فَانْتَشِرُوا، وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ؛ إِنَّ
ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ، فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ، وَاللَّهُ لَا
يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ!
وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً؛
فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ
وَقُلُوبِهِنَّ، وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا أَنْ
تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً، إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ
اللَّهِ عَظِيماً (53) [سورة الأحزاب].
وَجْهُ
الدليلِ أنَّ جميعَ الرجالِ المؤمنين ذووا غيرة ومروءة، فإذا كان مكوثُ الضيوف
بعدَ تناول طعامهم، استئناساً بحديثٍ، يؤذي النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فهو
يؤذي الرجالَ المؤمنين الغيورين أيضاً، والمصافحةُ أبلغ أثراً من مجرّد المجالسة!
وإذا كان الله تعالى أمرَ الصحابةَ رضي الله عنهم
بقوله: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً؛ فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ
حِجَابٍ، ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) وهذا يعني الاستتار
التامَّ عن أعينِ الرجالِ، ففيه دلالةٌ على النهي عن الملامسة من باب أولى أيضاً!
بل لا تُتَصوّرُ مصافحةٌ من دون مقابلة!
قال الإمام النوويّ في كتاب الأذكار (ص: 266): «كلّ
مَن حَرُمَ النظرُ إليه؛ حَرُمَ مسُّه، بل المسُّ أشدُّ، فإنّه يحلّ النَظرُ إلى
الأجنبيةِ، إذا أراد أن يَتزوّجها، ولا يجوز لهُ مَسُّها».
أمّا الأثر:
فقد أخرج البخاريّ في كيفيّة بيعة النساء (4891) ومسلم في (1866) واللفظ له، من حديث عائشةَ رضي
الله عنها قالت: (وَاللهِ مَا أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى النِّسَاءِ قَطُّ، إِلَّا بِمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى، وَمَا مَسَّتْ
كَفُّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّ امْرَأَةٍ قَطُّ،
وَكَانَ يَقُولُ لَهُنَّ إِذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ: (قَدْ بَايَعْتُكُنَّ) كَلَاماً».
وأخرج مالكٌ وأحمدُ وابن ماجه والنسائيّ والترمذيّ
(1597) من حديث أميمةَ بنتِ رُقَيقَةَ؛ أنّها جاءت إلى الرسولِ صلّى الله عليه
وآله وسلّم مع نسوةٍ ليبايعنه، فقالت: بايعنا يا رسول الله «يعني: صافحنا»؟ فقال
صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ؛ كَقَوْلِي
لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ) وقَالَ الترمذيّ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ».
والله تعالى يقول: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي
رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ،
وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) [سورة الأحزاب].
وجه الدليلُ أنّه لا يجوز للمؤمن أن يحبّ ما يكرهه
قدوته، وأن يستطيبَ ما أعرض عنه الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم طيلةَ حياته،
ولم يثبت أنّه لمس يد امرأة أجنبيّة قطّ، وإلّا فكيف يكون الرسولُ أسوةً له وقدوة،
ويتجرّأ على مخالفةِ هديه؟!
وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لَأَنْ
يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ؛ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ
يَمَسَّ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ).
أخرجه الرويّانيّ في مسنده (1283) والطبرانيُّ في
المعجم الكبير (20: (486، 487) من حديثِ شدّاد بن سعيدٍ الراسبيّ عن يزيدَ بن
عبدالله بن الشخّير، عن معقلِ بن يسارٍ، مرفوعاً.
وأورده الهيثميُّ في مجمع الزوائد (4: 326) وقال:
«رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ».
وأورده
المنذريّ في الترغيب (3: 39) وقال: «رجال الطبراني ثقات، رجال الصحيح».
قال الفقير عداب: شدّاد بن سعيدٍ؛ وثّقه عددٌ من
الحفاظ، منهم أحمدُ ابن حنبل ويحيى بن معين والبزّار والنسائيّ، وقال البخاريّ:
صدوق، وضعّفه العقيليّ، وقال ابن عديّ: «ليس له كثيرُ حديثٍ، ولم أر له حديثاً
منكراً، وأرجو أنّه لا بأس به».
أخرج له مسلمٌ حديثاً واحداً (2767) وأخرج له
الترمذيّ حديثاً واحداً (2350) وقال: حديث حسن غريب، وهذا أنسبُ!
ذهبَ عددٌ من العلماء المصريين المعاصرين -
والمصريّون مبتلون بالترخّص منذ قرون - إلى أنّ المصافحةَ جائزة «يعني مباحة» مع
أنّ الأئمة الأربعةَ على حرمةِ مصافحةِ المرأة الأجنبيّة الشابّة!
أقول: إنّ المباح ليس من الأحكام التكليفيّة، بينما
سنن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من الأحكام الشرعيّة، أفنترك سنّةَ رسول
الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، التي نثابُ عليها، ونَشرَع للناس ما رغب عنه هو،
نفسي له الفِداء، ولماذا؟
والأشدُّ من ذلك أنّ بعض الجاهلينَ؛ يستنكرُون على
العالم وعلى المستمسك بدينه أنْ يرفضَ مصافحةَ النساء، ويرون ذلك تخلّفاً ورجعيّةً!
وأنا أخشى على من يغضب ممّن يرفضُ مصافحة المرأة
الأجنبيّة؛ أن يدخل تحت قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (فَمَنْ رَغِبَ عَنْ
سُنّتي؛ فليس مني) أخرجه البخاريّ (5063) ومسلم (1401).
أخرجَ ابن أبي الدنيا القرشيُّ في كتابه «الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر» (32).
مِنْ حديثِ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
(كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا طَغَى نِسَاؤُكُمْ، وَفَسَقَ
شَبَابُكُمْ، وَتَرَكْتُمْ جِهَادَكُمْ)؟
قَالُوا: وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ يَا رَسُولَ اللهِ
؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَأَشَدُّ مِنْهُ سَيَكُونُ).
قَالُوا: وَمَا أَشَدُّ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟
قَالَ: (كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَمْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ تَنْهَوْا
عَنِ الْمُنْكَرِ)؟
قَالُوا: وَكَائِنٌ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: (نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَأَشَدُّ مِنْهُ سَيَكُونُ)
قَالُوا: وَمَا أَشَدُّ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: (كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا
رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَراً، وَرَأَيْتُمُ الْمُنْكَرَ مَعْرُوفاً)؟
قَالُوا: وَكَائِنٌ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟
قَالَ: (نَعَمْ، وَأَشَدُّ مِنْهُ سَيَكُونُ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى:
(بِي حَلَفْتُ، لَأُتِيحَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً،
يَصِيرُ الْحَلِيمُ فِيهِمْ حَيْرَانَ) في إسناد الحديث مقال.
إنّما أرى واقعنا يصدّقه بحذافيره، بل تجاوزت
مجتمعاتنا هذه المنهيّات، واستعذبت المعاصي.
والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (دَعْ مَا
يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ
الْكَذِبَ رِيبَةٌ) أخرجه أحمد في مسنده (1723) وابن خزيمة في صحيحه (1095)
والترمذيّ (464) وقال: حديث حسن، وهو منقول عن عددٍ من الصحابةِ، وعددٍ أكبر من
التابعين، رحمهم الله تعالى.
والله تعالى أعلم.
والحمدُ لله على كلّ حال.