السبت، 4 يناير 2025

  مسائلُ فقهيّةٌ:

إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَراً !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

الإسلام دين الله تبارك وتعالى، مَصْدَرُه الوحي الإلهيُّ المتمثّل بالقرآن الكريم.

والسنة النبويّة الشريفةُ تطبيقٌ نبويٌّ لدلالات القرآن العظيم.

والإجماع ليس بمصدرٍ تشريعيٍّ، إنّما هو كاشفٌ عن الدليل ومشير إليه، بوجه من وجوه الاستدلال.

والقياس والاستحسان؛ عَمَلُ العالم المجتهد، وما نتج عن فهم كتاب الله تعالى وسنّة رسولِه صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ هو الفقه.

ولاختلافِ قدراتِ العلماءِ العلمية واللغوية والأصوليّة؛ كثر الاختلافُ في الفقه.

ومن وراء شيوع هذا الاختلاف الكثير في الاجتهاد؛ ظهرت لدينا موازينُ ترجيحيّة يَعتمدها العلماء وأتباعُهم، صيانةً لأنفسهم عن الانحراف في العبادة والسلوك والأخلاق!

من هذه الموازين: (قاعدة الاحتياط) و(قاعدة سدّ الذرائع) و(قاعدة الخروج من الخلاف) وجميعها - في نظري - تصبُّ في جانبِ براءةِ الذمّة!

ولنأخذ مسألةَ (مصافحةِ المرأة الأجنبية) التي غدت حديثَ الناس على وسائل التواصل الاجتماعيّ، في هذه الأيّام.

اختلف العلماء في مصافحة المرأة الأجنبيّة، بين مبيحٍ، وكارهٍ، ومحرّم، والأئمّة الأربعة

على تحريم مصافحة المرأة الشابّة!

ولم يقل أحدٌ من العلماءِ بأنّ مصافحة المرأة الأجنبيّة؛ مندوبٌ إليها، فضلاً عن كونها سنّةً، بلْهَ أن تكون واجبةً.

فالذين لم يروا مصافحةَ المرأة الأجنبيّة مشروعةً؛ احتجّوا بالقرآن الكريم، وبالأثر والقياس.

أمّا من القرآن الكريم:

قال الله تبارك وتعالى: (يَانِسَاءَ النَّبِيِّ: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ، إِنِ اتَّقَيْتُنَّ!

فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ، فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً) [سورة الأحزاب].

وَجهُ الاستدلال: لمّا نهى الله تعالى نساءَ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عن تلطيفِ الكلامِ وتنعيم الصوتِ؛ كان النَهيُ عن الملامسةِ والمصافحةِ من بابِ أولى!

وليس هذا الخطابُ خاصّاً بنساء الرسول، إنّما خاطبَهنّ نيابةً عن جميع نساء المسلمين، من بابةَ خطابِ الأعلى (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) الذي يشملُ مَن هنّ دونهنّ منزلةً بأنفسهنّ، وبمنزلةِ رجالهنّ أيضاً.

بمعنىً أوضح: إنّ (الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) يطمعُ بغير أزواج الرسولِ؛ أكثرَ بكثيرٍ من طمعه بهنّ رضي الله عنهنّ، واللمسُ أبلغُ من الكلام!

وقال الله تبارك وتعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ، غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ، وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ؛ فَادْخُلُوا، فَإِذَا طَعِمْتُمْ؛ فَانْتَشِرُوا، وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ؛ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ، فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ، وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ!

وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً؛ فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ، وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً، إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) [سورة الأحزاب].

    وَجْهُ الدليلِ أنَّ جميعَ الرجالِ المؤمنين ذووا غيرة ومروءة، فإذا كان مكوثُ الضيوف بعدَ تناول طعامهم، استئناساً بحديثٍ، يؤذي النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فهو يؤذي الرجالَ المؤمنين الغيورين أيضاً، والمصافحةُ أبلغ أثراً من مجرّد المجالسة!

وإذا كان الله تعالى أمرَ الصحابةَ رضي الله عنهم بقوله: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً؛ فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) وهذا يعني الاستتار التامَّ عن أعينِ الرجالِ، ففيه دلالةٌ على النهي عن الملامسة من باب أولى أيضاً!

بل لا تُتَصوّرُ مصافحةٌ من دون مقابلة!

قال الإمام النوويّ في كتاب الأذكار (ص: 266): «كلّ مَن حَرُمَ النظرُ إليه؛ حَرُمَ مسُّه، بل المسُّ أشدُّ، فإنّه يحلّ النَظرُ إلى الأجنبيةِ، إذا أراد أن يَتزوّجها، ولا يجوز لهُ مَسُّها».

أمّا الأثر:

فقد أخرج البخاريّ في كيفيّة بيعة النساء (4891)  ومسلم في (1866) واللفظ له، من حديث عائشةَ رضي الله عنها قالت: (وَاللهِ مَا أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النِّسَاءِ قَطُّ، إِلَّا بِمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى، وَمَا مَسَّتْ كَفُّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّ امْرَأَةٍ قَطُّ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُنَّ إِذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ: (قَدْ بَايَعْتُكُنَّ) كَلَاماً».

وأخرج مالكٌ وأحمدُ وابن ماجه والنسائيّ والترمذيّ (1597) من حديث أميمةَ بنتِ رُقَيقَةَ؛ أنّها جاءت إلى الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم مع نسوةٍ ليبايعنه، فقالت: بايعنا يا رسول الله «يعني: صافحنا»؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ؛ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ) وقَالَ الترمذيّ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ».

والله تعالى يقول: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ، وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) [سورة الأحزاب].

وجه الدليلُ أنّه لا يجوز للمؤمن أن يحبّ ما يكرهه قدوته، وأن يستطيبَ ما أعرض عنه الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم طيلةَ حياته، ولم يثبت أنّه لمس يد امرأة أجنبيّة قطّ، وإلّا فكيف يكون الرسولُ أسوةً له وقدوة، ويتجرّأ على مخالفةِ هديه؟!

وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لَأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ؛ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ).

أخرجه الرويّانيّ في مسنده (1283) والطبرانيُّ في المعجم الكبير (20: (486، 487) من حديثِ شدّاد بن سعيدٍ الراسبيّ عن يزيدَ بن عبدالله بن الشخّير، عن معقلِ بن يسارٍ، مرفوعاً.

وأورده الهيثميُّ في مجمع الزوائد (4: 326) وقال: «رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ».

 وأورده المنذريّ في الترغيب (3: 39) وقال: «رجال الطبراني ثقات، رجال الصحيح».

قال الفقير عداب: شدّاد بن سعيدٍ؛ وثّقه عددٌ من الحفاظ، منهم أحمدُ ابن حنبل ويحيى بن معين والبزّار والنسائيّ، وقال البخاريّ: صدوق، وضعّفه العقيليّ، وقال ابن عديّ: «ليس له كثيرُ حديثٍ، ولم أر له حديثاً منكراً، وأرجو أنّه لا بأس به».

أخرج له مسلمٌ حديثاً واحداً (2767) وأخرج له الترمذيّ حديثاً واحداً (2350) وقال: حديث حسن غريب، وهذا أنسبُ!

ذهبَ عددٌ من العلماء المصريين المعاصرين - والمصريّون مبتلون بالترخّص منذ قرون - إلى أنّ المصافحةَ جائزة «يعني مباحة» مع أنّ الأئمة الأربعةَ على حرمةِ مصافحةِ المرأة الأجنبيّة الشابّة!

أقول: إنّ المباح ليس من الأحكام التكليفيّة، بينما سنن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من الأحكام الشرعيّة، أفنترك سنّةَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، التي نثابُ عليها، ونَشرَع للناس ما رغب عنه هو، نفسي له الفِداء، ولماذا؟

والأشدُّ من ذلك أنّ بعض الجاهلينَ؛ يستنكرُون على العالم وعلى المستمسك بدينه أنْ يرفضَ مصافحةَ النساء، ويرون ذلك تخلّفاً ورجعيّةً!

وأنا أخشى على من يغضب ممّن يرفضُ مصافحة المرأة الأجنبيّة؛ أن يدخل تحت قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنّتي؛ فليس مني) أخرجه البخاريّ (5063) ومسلم (1401).

أخرجَ ابن أبي الدنيا القرشيُّ في كتابه «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (32).

مِنْ حديثِ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:

(كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا طَغَى نِسَاؤُكُمْ، وَفَسَقَ شَبَابُكُمْ، وَتَرَكْتُمْ جِهَادَكُمْ)؟

قَالُوا: وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَأَشَدُّ مِنْهُ سَيَكُونُ).

قَالُوا: وَمَا أَشَدُّ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: (كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَمْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ تَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ)؟

قَالُوا: وَكَائِنٌ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَأَشَدُّ مِنْهُ سَيَكُونُ) قَالُوا: وَمَا أَشَدُّ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: (كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَراً، وَرَأَيْتُمُ الْمُنْكَرَ مَعْرُوفاً)؟

قَالُوا: وَكَائِنٌ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَأَشَدُّ مِنْهُ سَيَكُونُ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى:

(بِي حَلَفْتُ، لَأُتِيحَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً، يَصِيرُ الْحَلِيمُ فِيهِمْ حَيْرَانَ) في إسناد الحديث مقال.

إنّما أرى واقعنا يصدّقه بحذافيره، بل تجاوزت مجتمعاتنا هذه المنهيّات، واستعذبت المعاصي.

والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ) أخرجه أحمد في مسنده (1723) وابن خزيمة في صحيحه (1095) والترمذيّ (464) وقال: حديث حسن، وهو منقول عن عددٍ من الصحابةِ، وعددٍ أكبر من التابعين، رحمهم الله تعالى.

والله تعالى أعلم.

والحمدُ لله على كلّ حال.

الجمعة، 3 يناير 2025

       مِنْ عِبَرِ التاريخِ !؟

إلى الأمويينَ الجُدُدِ (1)!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

انتشرَ في وسائلِ الإعلامِ، بعد تحرير سوريا الحبيبة؛ أقوالٌ متشنّجةٌ، كيداً بالرافضة والنصيريّة المجرمين، الذين أذاقوا أهلَ سوريّا سوءَ العذاب، بدعوى أنهم نواصبُ أعداءُ آل البيت، من مثل: «نحن أمويّون - سوريا أمويّة - نحن أتباع معاويةَ وعبدالملك - نحن لا نريد سوريا عبّاسية متعصّبة، نحن أمويّون - يريد أنّ بني أميّة متساهلون - وهذا صحيح!».

وهذا تفسيره مفهوم - كما قدّمتُ - لكنّ هذا الكلامَ غيرُ مسوَّغٍ من الناحيةِ الاعتقاديّة أبداً!

قال الله تبارك وتعالى:

(يَانِسَاءَ النَّبِيِّ: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ، إِنِ اتَّقَيْتُنَّ!

فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ، فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32).

وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ، وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ، وَآتِينَ الزَّكَاةَ، وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.

إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) [سورة الأحزاب].

قال الإمام أحمد في مسنده (25300): حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بنُ نُمَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ ابنُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ أُمَّ سَلَمَةَ تَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَيْتِها، فَأَتَتْهُ فَاطِمَةُ بِبُرْمَةٍ فِيهَا خَزِيرَةٌ، فَدَخَلَتْ بِهَا عَلَيْهِ.

فَقَالَ لَهَا: ادْعِي زَوْجَكِ وَابْنَيْكِ!

قَالَتْ أمّ سلمةَ: فَجَاءَ عَلِيٌّ وَالْحُسَيْنُ وَالْحَسَنُ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَجَلَسُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تِلْكَ الْخَزِيرَةِ، وَهُوَ عَلَى مَنَامَةٍ لَهُ - عَلَى دُكَّانٍ - تَحْتَهُ كِسَاءٌ لَهُ خَيْبَرِيٌّ.

قَالَتْ أمُّ سلمةَ: وَأَنَا أُصَلِّي فِي الْحُجْرَةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا).

قَالَتْ أمُّ سَلَمةَ: فَأَخَذَ فَضْلَ الْكِسَاءِ، فَغَشَّاهُمْ بِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَ يَدَهُ فَأَلْوَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ

ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَخَاصَّتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ، وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً.

اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَخَاصَّتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ، وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً).

قَالَتْ أمُّ سَلَمةَ: فَأَدْخَلْتُ رَأْسِي الْبَيْتَ، فَقُلْتُ: وَأَنَا مَعَكُمْ يَا رَسُولَ الله؟

قَالَ صلّى الله عليه وآله وسلّم: ( إِنَّكِ إِلَى خَيْرٍ، إِنَّكِ إِلَى خَيْرٍ).

قال الإمامُ أحمدُ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَحَدَّثَنِي أَبُو لَيْلَى عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، مِثْلَ حَدِيثِ عَطَاءٍ سَوَاءً.

قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَحَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ أَبِي عَوْفٍ - أَبُو الْحَجَّافِ - عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ بِمِثْلِهِ سَوَاءً» وأخرجه الترمذيّ في جامعه (3871) وقال: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَفِي الْبَاب عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي الْحَمْرَاءِ وَمَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَعَائِشَةَ» وعن سعدِ بن أبي وقّاص، عند مسلم (2404) وسيأتي، وواثلةَ بن الأسقع، عند أحمد (16374) وقد اختصره، وتمامه عند الطبريّ في تفسيره (19: 103) فهو حديثٌ مشهورٌ.

- أمّا فاطمةُ عليها السلام؛ فهي (سيّدة نساء أهل الجنة) أخرجه البخاريّ (3624) و(سيدة نساء هذه الأمة) أخرجه مسلم (2450).

- وأمّا الإمام عليٌّ عليه السلام؛ فقد طلب معاويةُ من سعدِ بن أبي وقّاص أن يسبَّ عليّاً عليه السلام، فقال له سعدٌ رضي الله عنه: «أَما مَا ذَكَرْتُ ثَلَاثاً، قَالَهُنَّ لَهُ رَسُولُ اللهِ  صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَلَنْ أَسُبَّهُ، لَأَنْ تَكُونَ لِي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ: (أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي)؟

 وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ: (لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلاً يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ)

وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (فَقُلْ: تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ) دَعَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَقَالَ: (اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي) أخرجه مسلمٌ (2404) وأصلُه عند البخاريّ (4416).

- وأمّا الحسن والحسين عليهما السلام؛ فهما (سيّدا شباب أهل الجنّة) أخرجه من طرقٍ أحمد في مسنده (10576) وابن ماجه (118) والترمذيّ (3781) و(2768) وقال ههنا: «حديث حسن صحيح».

هذا بعضُ ما قاله رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في أهلِ الكساءِ (فاطمةَ وعليٍّ والحسن والحسين) عليهم السلام، أيّها الشوامُّ الغافلون!

بينما دعا على قريشٍ عامّة، وأبو سفيان الأمويّ من زعمائهم: (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ).

 ثُمَّ سَمَّى رسولُ الله عتاتهم، فقال: (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ) أخرجه البخاريّ في جامعه الصحيح (520) ومسلمٌ في مسنده الصحيح (1794).

وأخرج البخاريّ (7058) ومسلمٌ (2917)   من حديثِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ بنِ العاصِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ - وَمَعَنَا مَرْوَانُ بنُ الحكمِ الأمويُّ - قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ يَقُولُ: (هَلَكَةُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ) فَقَالَ مَرْوَانُ: لَعْنَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ، غِلْمَةً؟!

فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ: بَنِي فُلَانٍ وَبَنِي فُلَانٍ؛ لَفَعَلْتُ!

قال راوي الحديث عَمرو بن يحيى بن سعيدٍ: فَكُنْتُ أَخْرُجُ مَعَ جَدِّي إِلَى بَنِي مَرْوَانَ حِينَ مَلَكُوا بِالشَّأْمِ، فَإِذَا رَآهُمْ غِلْمَاناً أَحْدَاثاً، قَالَ لَنَا: «عَسَى هَؤُلَاءِ أَنْ يَكُونُوا مِنْهُمْ».

قُلْنا: أَنْتَ أَعْلَمُ».

ولم يصحّ في فضائلِ سيّد بني أميّةَ معاويةَ بن أبي سفيانَ، سوى حديثِ (لَا أَشْبَعَ اللهُ بَطْنَهُ) أخرجه مسلم (2604) قال ابن عبّاسٍ: «فما شبعَ معاويةُ بعدها» روى هذه الزيادةَ الطيالسيّ في مسنده (2746).

قال الحافظ ابن كثيرٍ في «البدايةِ والنهاية»: «قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ لَا يَشْبَعُ بَعْدَهَا، وَوَافَقَتْهُ هَذِهِ الدَّعْوَةُ فِي أَيَّامِ إِمَارَتِهِ.

فَيُقَالُ: «إِنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ فِي الْيَوْمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ طَعَاماً بِلَحْمٍ، وَكَانَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَشْبَعُ، وَإِنَّمَا أَعْيَى» أعيى: يتعب!

أمّا يزيد بن معاويةَ الذي يستهوي السفهاءَ منكم؛ فقد أورد الذهبيّ في ترجمته من تاريخ الإسلام (2: 731) عن نوفلِ بن أبي الفراتِ قال: كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِالْعَزِيزِ، فَذَكَرَ رَجُلٌ يَزِيدَ، فَقَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ!

فَقَالَ عمرُ بن عبدالعزيز: «تَقُولُ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ»؟ وَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ عِشْرِينَ سَوْطاً!

وأثنى عليه الذهبيّ ثناءً وَخْشاً، فقال: «كانَ نَاصِبِيّاً فَظّاً غَلِيْظاً جِلْفاً، يَتَنَاوَلُ المُسْكِرَ، وَيَفْعَلُ المُنْكَرَ، افْتَتَحَ دَوْلَتَهُ بِمَقْتَلِ الشَّهِيْدِ الحُسَيْنِ، وَاخْتَتَمَهَا بِوَاقِعَةِ الحَرَّةِ، فَمَقَتَهُ النَّاسُ، وَلَمْ يُبَارَكْ فِي عُمُرِه» لا باركَ الله به ولا بأحبابه!

وما أجمل ما قاله الذهبيّ في النبلاء أيضاً (3: 39): « قُلْتُ: كَانَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ أَهْلِ صِفِّيْنَ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنَ السَّبِّ؛ السَّيْفُ، فَإِنْ صَحَّ شَيْءٌ؛ فَسَبِيْلُنَا الكَفُّ وَالاسْتِغْفَارُ لِلصَّحَابَةِ، وَلاَ نُحِبُّ مَا شَجَرَ بَيْنَهُم، وَنَعُوْذُ بِاللهِ مِنْهُ، وَنَتَوَلَّى أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ عَلِيّاً».

هكذا إذنْ نتولّى أميرَ المؤمنين عليّاً عليه السلام.

وما أروع ما قاله الإمام فخر الدين الرازيّ، وهو يتحدّثُ عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبلَ الفاتحة، في تفسيره الماتع (1: 182): «الْجَهْرُ كَيْفِيَّةٌ ثُبُوتِيَّةٌ، وَالْإِخْفَاءُ كَيْفِيَّةٌ عَدَمِيَّةٌ، وَالرِّوَايَةُ الْمُثْبِتَةُ أَوْلَى مِنَ النَّافِيَةِ.

وإنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ مُوَافِقَةٌ لَنَا، وَعَمَلُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَنا، وَمَنِ اتَّخَذَ عَلِيّاً إِمَاماً لِدِينِهِ؛ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، فِي دِينِهِ وَنَفْسِهِ» عَلَيْهِ السَّلَامُ: من كلام الرازي!؟

إخواني أهلَ الشام: لا يستخفّن بكم الشيطان، فتكونون كبني إسرائيل، اختارَ اللهُ تعالى لهم المنّ والسلوى، فلم يعجبهم ذلك، وقالوا: (يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا)!

فقال لهم موسى عليه السلام: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ).

ولعمري: إنّ خيارَ بني أميّة هذا مثلهم، ومثل آل بيت الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ مثلُ اختيار الله لهم «المَنَّ والسلوى».

فلا تَسْتَبْدِلُوا الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، واقتدوا بالإمامين الرازي والذهبيّ في تولّي أميرَ المؤمنين عليّاً، فـ(حبّ عليٍّ إيمانٌ وبغضه نفاق) وهو حديث صحيح مشهور.

والله تعالى يقول: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).

ويقول: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فبنو هاشمٍ أوّل المكلّفين وأوّل المدعويين!

ويقول جلّ وعزّ: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُون).

وسادةُ قومه ورؤوسهم؛ آل البيت (ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ).

وليس لبني أميّة من هذه الفضائلِ كلّها نَقيرٌ ولا قِطْمير!

أيّها الشوام المحزونون: حبّ بني أميّة وولاؤهم؛ لا يُعطي أحدكم حسنةً واحدةً، وحبّ آل البيت؛ قد يكون سبباً في دخولك الجنّة!

فقد أخرج البخاري (6169) ومسلم (2641) من حديث عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْماً، وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟

 فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: (الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ) فما الذي ترجوه من حبِّ بني أميّةَ وولائهم، وما هم سوى ملوكٍ، وأكثرُهم من شرار الملوك!

(إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).

يا أهل الشامِ: (يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِين).

والله تعالى أعلم.

والحمد لله على كلّ حال.

الخميس، 2 يناير 2025

  مسائلُ فكريّةٌ:

ارْحَموا العامّةَ أيّها العوامّ!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ أشدَّ ما يحزنني أنْ يحاكمني عاميٌّ، لا يقبَل خلافاً لرأيه، ولا يَعذُر أهلَ العِلمِ باجتهادهم!

ليس في هذه الأمّة مجتهدون:

هذا صحيح تماماً، السنيُّ مقلّد، والشيعيُّ مقلّد، والإباضيّ مقلّد!

الحنفيّ مقلّد، والمالكيّ مقلّد، والشافعيّ مقلّد، والحنبليّ مقلّد!

الصوفي موغلٌ في التقليدِ، والسلفيُّ موغلٌ في التقليد، والمشايخيُّ موغل في التقليد!

وأتباع الأحزاب جميعُهم متعصّبون، يندُر أن تجدَ فيهم واحداً يعذُر مخالفَه!

وجمهورُ الأمّة جاهلٌ، لا يعرف ما معنى السنيّ، ومعنى الشيعيّ، ومعنى الناصبيّ، ومعنى الرافضيّ، وما الفوارق بين أفكارهم، ولا الأحكام الفقهيّة المترتبة على اعتقاداتهم ومواقفهم!

هؤلاء العامّةُ هم الذين يكوّنون العقلَ الجمعيَّ للمجتمعات المسلمة، وهم ليسوا مستعدّين أبداً لإعذار العالم، فضلاً عن أن يسيروا هم وراءه!

وجميعُهم تدفعهم طائفيّتهم ومذهبيّتهم وعنصريّتهم وعواطفهم وثاراتهم، والدين آخر مُؤثّرٍ في حياتهم!

يتجلّى الانقسامُ الطائفيُّ في العراق؛ أكثر منه في سوريّا بمرّاتٍ كثيرة!

تجد بطوناً من بني تميمٍ من أهل السنة، وبطوناً منهم من الشيعة!

تجد بطوناً من الدُليم من أهل السنّة، وبطوناً منهم من الشيعة، وهم أبناءُ جدٍّ واحدٍ!

ثمّ هم يُبغضُ بعضهم بعضاً، ويكفّر بعضهم بعضاً، ويقتل بعضُهم أبناء عمومته!

وكأنْ كان للشيعيّ خيارٌ في أن يكون شيعيّاً، وكأنْ كان للسنيّ أن يكون حنفيّاً أو شافعيّا!

وكلُّ واحدٍ منَ الفرقاء يظنُّ أنّه على الحقّ، وأنّ مخالفَه على الباطل، ويقفُ كلّ فريق من الفرقاء مواقفه، بناءً على ما سمعه من أبيه وأمّه ووعّاظ المسجد الذي يصلي فيه، وليس أثراً من آثار بحوثِه ودراساتِه العلميّة!

إنّ هذا العاميَّ لا يحترمُ العالمَ الذي لا يغذّي طائفيّته، وينصر مذهبَه، ويؤيّد تصرفاتِ قادتِه الموثوقين لديه.

جميع الشيعة الإمامية تقريباً؛ يعتقدون بأنّ (المراجع العظامَ!!) مجتهدون!

وكثيرٌ من أبناء أهل السنّة؛ يعتقدون بأنّ الوعّاظ والمتحدّثين على القنواتِ والتلفاز علماء، وليس في هؤلاء وهؤلاء عالمٌ واحدٌ، إذا كان العالمُ عندنا هو المجتهد!

فلا السيد السيستاني مجتهد، ولا السيّد محمد سعيد الحكيم مجتهد، ولا السيّد كمال الحيدريّ مجتهد!

ولا الدكتور أحمد الحسن الددّوا مجتهد، ولا الدكتور عدنان إبراهيم مجتهد، ولا الدكتور محمد راتب النابلسيّ مجتهد!

جميع مَن ذكرتهم لا يجيدون علم نقدِ الحديثِ، الذي لا يكون ثمّ اجتهادٌ من دون إتقانه!

أنا الفقيرُ أعذرُ جميعَ شيوخي، وأعذر أتباعَهم وتلامذتهم، إذْ ليس فيهم مجتهدٌ بيقين!

وأعذرُ مشايخَ الشيعةِ، وأعذر أتباعهم وتلامذتهم، إذْ ليس فيهم مجتهدٌ بيقين!

وأنا لا أجدُ فرقاً أبداً بين (السيّد حسن نصر الله) الأمين العام لحزبِ الله اللبنانيّ.

وبين «أبو بكر البغدادي» إمامِ دولةِ العراق والشام الإسلاميّة «داعش»!

قولوا لي: ما الفرق بين هذا وذاك؟

هذا قائد فصيلٍ دمويٍّ يستحلّ قتل مخالفيه، وهذا مثلُه، وقِسْ على ذلك.

طبعاً قد يقول لي قائل: إنّ أهل السنّة على الحقّ، وإنّ مخالفيهم على الباطل، وأنا أسلّم بها وبنقيضه إذا كان قائل ذلك مجتهداً، أمَا والجميعُ مقلّدةٌ عوامٌّ، لا يحسنون التمييز بين صحيح مذهبهم وخطئه؛ فلا فرق عندي البتّة!

عند جميع الطائفيين - والجميع طائفيّون - لا يَصحّ أنت تعذُرَ مخالفاً، إنما يجب أن تنتصرَ لطائفتك المحقّة، وأن تحاربَ في سبيلِ نصرتها على خصومها المارقين الضالّين!

هذا الكلام واقعٌ تماماً، لكن عند مَنْ؟

عند الساسةِ الذين يطوّعون الدينَ والأخلاقَ لتحقيق مآربهم، واستقرار مجتمعهم!

وعند الحزبيّين الذين أكبرُ همومهم أن يصلوا إلى السلطةِ السياسيّةِ، إمّا تحقُّقاً بشهوة الحكم والسلطان، أو لتحقيق برنامج فكريٍّ وسلوكيٍّ يرونه الحقَّ الذي لا حقّ سواه!

أمّا موقفُ العلماءِ؛ فيجب أن يكون مختلفاً تماماً!

ما الفرقُ بين أن أعذرَ سنيّاً حزبيّاً بقتلِه العشراتِ والمئاتِ من أهل السنّة؛ لأنهم خالفوه في منهجه، أو خالفوه في رؤيته، أو رفضوا الانضمامَ إلى فصيلِه، والخضوع لسلطانه؟!

وبين شيعيٍّ قتلَ العشراتِ والمئاتِ من أهلِ السنة؛ لأنهم خالفوه في منهجه، أو خالفوه في رؤيته، أو رفضوا الانضمامَ إلى فصيلِه، والخضوع لسلطانه؟!   

إذا كان الثاني مُجرماً؛ فإنّ الأوّلَ مجرم أيضاً!

وإذا كان الأوّلُ متأوّلاً ، يرى المقاصدَ الشرعيّة لا تتحقّق إلّا بالقتالِ والقتلِ؛ فإنّ الثاني متأوّلٌ أيضاً، فما الفرق؟

الفارق الوحيدُ هو أنّ قتلَ السنيِّ للسنيّ ضرورة، في نظر من يجوّزه!

بينما قتلُ الشيعيّ للسنيِّ، أو قتل السنيِّ للشيعيِّ؛ اعتداءٌ صارخٌ مرفوض على مقام الطائفةِ المقدّس!

أنتَ ترى - أخي القارئ الكريم - أنّ العلماءَ معذورون، عندما لا يكتبونَ ولا ينشرون آراءهم على الملأ، خوفاً من أن يغضبَ من كلامهم عاميٌّ ويثور، فيتقرّب إلى الله تعالى بقتلِ أحدهم، أو إهانته!

بحث علماؤنا السابقون مسألةَ (كفّار التأويلِ) وَاخْتُلفوا في مَن هم على أَرْبَعَة أَقوال:

الأول: أَنّهم مِن أهل الْقبْلَةِ، ولا يكفرون بتأوّلهم غيرَ الحقِّ، لأنّ التَّكْفِير والتفسيق بالتأويل؛ لَا يُفِيد إِلَّا الظَّنَّ !

الثَّانِي: مَن ذهب إِلَى مَذْهَبٍ، وَهُوَ فِيهِ مُخطئٌ، بِشُبْهَةٍ يُعلَم بُطْلَانهَا بدلَالَةٍ صريحةٍ من الدّين.

الثَّالِث: مَن ذهب إِلَى الْخَطَأ بِشُبْهَةٍ، وصريح القرآنِ بِخِلَافِهِ.

الرَّابِع: مَن ورد فِيهِ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وسلّم أَنّه كَافِرٌ، وصريحُ القرآن بِخِلَافِهِ!

ولماذا سمّي هؤلاء جميعاً كفّارَ التأويل؟

لأَنّ أصلَ الْكفْر؛ هُوَ التَّكْذِيبُ الْمُتَعَمّدُ لشَيْءٍ من كتب الله تَعَالَى الْمَعْلُومَةِ، أَو لأحدٍ مِن رسله عَلَيْهِم السَّلَام، أَو لشَيْء مِمَّا جاؤوا بِهِ، إِذا كَانَ ذَلِك الْأَمرُ المُكذَّب بِهِ مَعْلُوماً بِالضَرورَةِ مِن الدّين.

وَلَا خلافَ في أَنّ هَذا القَدْرَ كُفْرٌ، وَمَن صدر عَنهُ؛ فَهُوَ كَافِرٌ، إِذا كَانَ مُكَلّفاً مُخْتاراً، غيرَ مُختَلِّ الْعَقلِ وَلَا مُكْرَهٍ!

وكفّار التأويل: لا يسمّون بهذا الاسم إذا كانوا متعمّدين، إنّما يكونون كفّارَ تأويلٍ باجتهادهم، لقيامِ شبهاتٍ منعتهم من الوصول إلى الحقّ اليقين.

ولذلك قال علماؤنا: القَتلُ جريمةٌ عظمى، لكنّ القاتلَ لا يكون كافراً، إلّا باستحلالِ القتلِ، والخمرة حرام، لكنّ متعاطيها لا يكفر إلّا باستحلالها.

بقيت مسألةٌ أخيرةٌ: هل قتالُ المبتدعة وكفّار التأويلِ يدخلُ ضمن قتال (الفتن) أو إنّ قتال الفتنة يكون بين أصحاب المذهب الواحد؟

بمعنىً آخر: إذا قاتل الدواعشَ أحرار الشامِ، وذبح بعضهم بعضاً، فهذا قتال فتنةٌ، إذا تصالحوا فيما بينهم تساقطت الدماء؛ لأنهم جميعاً من أهلِ السنّة.

وهذا الذي أفتى به وطبّقه عمليّاً أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام، في وقائع الجمل وحطّين والنهروان.

فماذا عن قتالِ أهلِ السنّة للشيعةِ، وعن قتالِ الشيعة لأهل السنّةِ، هل تتكافأُ دماؤهم، ويُعَدُّ اقتتالُهم قتالَ فتنة، فتتساقط الدماء عند انتصارِ أحدِ الفريقين على الآخر، أو لا بدّ للمنتصرِ أن يقتصَّ من المنهزم؟

يُترَك هذا إلى المبتلى به، فهو لن يستمع إلى كلامنا، وسيحاسبه الله تعالى على قدر فهمه واجتهاده.

والله تعالى أعلم.

والحمد لله على كلّ حال.


الأربعاء، 1 يناير 2025

  بعيداً عن الساسة اللعينة:

المجتمعُ النُصيريُّ كما عَرفتُه (3)!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

في ختام المنشور السابق (2) ذكرتُ أنّ العمَّ أبا نيبل قال لي: إنّ شيوخَ وادي العيون يريدون أن يزوروك، ويتعرّفوا إليك؟

قلت له: عندما أعودُ إليكم في أوّل الأسبوع القادم؛ ألتقيهم وأتعرّف إليهم.

رجعتُ صبيحةَ يوم السبتِ، بسيّارة خاصّةٍ من حماةَ إلى وادي العيون، إذ كانت زوجتي أمّ محمودٍ بصحبتي، ومعنا لوازم وحاجاتٌ ضروريّة!

أوصلت زوجتي إلى شقّتنا، وذهبتُ إلى دوامي في المدرسة.

شعرتُ بحرجٍ شديدٍ؛ أن ألتقيَ شيوخ البلد في مضافةِ العمّ «أبو نبيل» وعقب انتهاءِ الدوام؛ سألتُ تلميذي النجيب عن بيتٍ مستقلٍّ؟

قال: لدينا فيلّا مستقلّة لها إطلالةٌ رائعةٌ على الوادي، عندما تجلس لتشرب القهوة على شرفتِها؛ يمرّ السحاب بين يديك وتحتك!

عندما سمعتُ كلمةَ «فيلا» قلت في نفسي: مرتّبي كلُّه لا يكفي أجرةَ فيلا!

فقلت له على الفور: لا لا حبيبي، ماذا أعمل بالفيلا، أريد شقة صغيرة غرفتين وصالة وحسب!

قال: هو كذلك، نحن نقفل جميع غرف الفيلا، ونبقي لك ما طلبتَ مع المنتفعات!

الفيلا لخالي، أو قال: لابن خالي، وهو ضابطٌ كبيرٌ في الجيش، يسكن دمشق، وأهله وأولاده لا يحضرون إلّا في تموّز، بعد انتهاء أيّأم الدراسة!

ذهبتُ معه، ودخلنا إلى الفيلا، فسرح خيالي إلى جنّة عدن، وقلت من دون شعور: سبحان الله العظيم!

أظنّ الصالةَ تتجاوز ستين متراً مربّعا، حيطانها من حجر المرمر، وفيها مقاعد جميلة جدّاً وجديدة!

سألته: كم أجرتها في الشهر؟

قال: أنا كلمتُ صاحبها، من دون أن تعرف أنت؛ لأننا نرغب بزيارتك ومؤانستك، ليس من المعقول أن تعيش وحدك، كأنّك غريب، بينما نحن أهلك وطلّابك!

وخالي لا يريد منك أجرةً سوى الدعاء!

دعوتُ لخاله ولأسرته بالهداية والحفظ، وقلت له: هذا شيءٌ لا أقبله البتّة، اسأل خالك: كم يريد، فإن كان باستطاعتي؛ سكنت بيتَه، وإلّا فأنا ساكن ونبحث عن بيتٍ أوسع!

قال: كم تريد أن تدفع أجرة ما تريد أن تشغله من الفيلا؟

قلت له: أدفع ثلاثين ليرة سوريّة! قال: ممتاز، قبلنا، وتوكلنا على الله تعالى!

كتبتُ عقداً بيني وبينه لمدّة ستة أشهر، وذهب معي إلى بيتي، ونقلنا أغراضنا القليلةَ جدّاً.

واستأذنت أبا نبيلٍ، وأفهمته السبب، فرحّب باختياري، وزارني في بيتي مرّات عديدةً، تعبيراً عن رضاه.

قلت لأبي نبيل: الجوّ ماطرٌ والثلج يحيط بنا من كلّ جانب، ولا أظنّ أنني سأنزل إلى حماةَ طيلةَ هذا الشهر، فادع المشايخ على العشاءَ يوم الخميس، وأخبرني عن عددهم قبل يومٍ واحد!

كانت زوجتي صغيرة، لا تعرف شيئاً من شؤون البيت، فعلّمتها حتى غدت من أفضل نسائنا في تجهيز الطعام والضيافة!

طبختُ للضيوف ما نويتُ أن أكرمهم به، حتى إذا حضروا قبيلَ المغرب؛ أذّنت للمغرب وأقمتُ، فاصطفّوا ورائي وكانوا ثلاثةَ شيوخٍ والمختار.

تعشينا، ثم دار بيننا حوار طويل، افتتحه شيخ هَرِمٌ جدّاً، ربما يزيد سنّه على التسعين، يدعى أبا حيدر!

قال: أنتمُ السنّة تظلموننا، تقولون عنّا: كفّار ومشركون ومرتدون، ونحن - والله - مسلمون على مذهب أهل البيت عليهم السلام!

قلت له: وهل لأهلِ البيت مذهب خاصّ بهم؟ قال نعم!

قلت: ما هي عقيدة أهل البيت؟ قال: عقيدة أهل البيت أربع كلمات:

- التوحيد: شهادةُ أنْ لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله.

- والعدل: الذي يعني أنّ الله تعالى لا يكلّف عباده إلّا ما يطيقون، ولا يحاسبهم إلّا على أعمالهم الاختياريّة.

- والنبوّات: وتعني الإيمان بأنبياء الله تعالى أجمعين، وخاتمتهم رسولنا الأعظم صلوات الله عليه وآله.

- والمعاد: ويعني يوم الحشر والنشر والحساب، ومن ورائه الجنة أو النّار!         

لم تكن كليّةُ الشريعةِ بجامعةِ دمشقَ تدرّس مادّة العقيدةِ التقليديّة في تلك الأيّام، وعندما سألت شيخنا الدكتور محمد سعيد رمضان البوطيّ عن سبب ذلك؟

فقال: نحن في الكليّةِ منسجمون مع مذهبِ أهل السنّةِ والجماعةِ، الاعتقادُ لا يكون بالتقليد، إنما يكون بالاختيار والاجتهاد، فعندما يبلغ طالب العلم مبلغاً ما من العلم؛ يستطيع عندئذٍ أن يختارَ ويستدلّ لما يختار.

في تلك الأيام لم أكن أعرف عن مذهب «النصرية» إلّا كلاماً عامّاً، خلاصته أنهم مرتدون، وأنهم أشدّ كفراً من اليهودِ والنصارى، وأنهم عملاء لأعداء الإسلام، وأنهم «يدخلون مع الستّ، ويخرجون مع الجارية» بمعنى أنّهم منافقون، لا يستعملون التقيّة فحسب، إنّما يتلوّنون في كلّ مجلسٍ باللون المناسب!

فقلت للشيخ «أبو حيدر»: وما يدريني يا شيخ أنّ ما تقوله هو عقيدتك في الحقيقة، أنتم تستعملون التقيّة مع كلّ محاورٍ لكم، وتبقى الحقيقة في صدوركم!

قال: معاذ الله أن نفعلَ هذا، يا سيّد، نحن قد نتّقي عند الخوفِ على النفسِ أو العرضِ، وحضرتكم لست مهدّداً لنا في نفسٍ ولا عرضٍ ولا مال.

طيّب يا سيّد عداب: أنت بماذا تعتقد؟ ذكرتُ لهم أركان الإيمان، وأركان الإسلام، فأخرج من جيبه الأيسر عند قلبه مصحفاً أوراقه صغيرة الحجم، فلما رآه الباقون وقفوا، ووقفت معهم!

فتح يدَه اليمنى ووضع عليها المصحف، وقال: ضعوا أيمانكم فوق يدي، فوضعوا أيمانهم، ثم ثال لي: ضع يدك فوق أيدي الجميع يا سيّد، فوضعت يدي اليمنى، ثم قال:

يا سيّد: أنتم تقولون بالقدَر، ونحن نقول بالعدلِ واللطفِ الإلهيّ، ما عدا هذا؛ فردّدوا معي:

اللهم إنّا نشهدك ونشهد ملائكتك المقرّبين، ونشهد القرينَ والموكّلين أننا جميعنا نعتقد بما يعتقد به عبدك وابن عبدك السيّد عداب.

اللهم اجعل غضبك ومقتلك ولعنتك على الكاذبين، اللهم آمين.

قلت له: هذا لا يكفي يا سيد أبا حيدر! قال: ماذا تريد بعد؟

قلت له: قال لي أبو نبيل: إنّكم ترون الصلاةَ والصيام والحجّ سنناً اختياريّة، ولا ترونها فرائض!

قال: المهمّ أننا نراها مشروعةً، ومن دين الإسلام، إذ يرى علماؤنا أنّ العبادةَ الحقّة هي التي يؤديها المؤمن بدافع حبّه لله تبارك وتعالى، ولا يؤدّيها كرهاً عنه!

قلت له: أنتم تؤلّهون الإمامَ عليّاً رضي الله عنه قال أبو حيدر: هذا كلام ساقطٌ لا يقوله عاقلٌ أصلاً!

ألم يُقتلْ جدّك الإمامُ؟ قلت: بلى!

ألم يدفن في النجف الأشرف؟ قلت: بلى.

إذنْ من هو قيّوم السمواتِ والأرضِ، وممسك السماء أن تقعَ على الأرض؟ قلت: الله تبارك وتعالى قبل علي وفي حياته وبعد استشهاده! قال: كيف نعبدُ من يموتُ إذنْ؟

قلت له: إذنْ ماذا تقولون في الإمام عليٍّ؟ قال: نقول: إنّه عبدالله وأخو رسوله صلّى الله عليه وآله ووصيّه على أمّته من بعده، ونعتقد أنّ ما كان يجري على يديه من الخوارق؛ ليس في قدرة البشر، إنّما يتجلّى الله تعالى عليه باسمه المقتدر، فيهزم كلَّ من يحاربه.

قلت لهم: اشهدوا عليّ أنني أؤمن بما آمنتم به بخصوص الإمام عليّ رضي الله عنه أمّا أن تقولوا: إنّ العباداتِ ليست مفروضةً؛ فهذا مخالفٍ لإجماع المسلمين سوالكم.

قال أبو حيدر: لا بأس ليكن ذلك كذلك، لكن هل يكفر الإنسان بالعمل أم بالاعتقاد؟

نحن نعتقد بأنّ الطهارة والصلاة والصيام والزكاة والحجّ عبادات مشروعة، فاجعل خلافنا في فرضيّتها كأي خلافٍ بين الحنفية والشوافع مثلاً!

أذّنتُ لصلاة العشاءِ، وقدّمت السيد أبا حيدر ليصلي بنا، ولم يكن قصدي سوى الاختبار، على أن أعيدَ الصلاةَ بعد ذلك، حتى لو نويتُ المفارقة، بيد أنّ أبا حيدرٍ والباقين رفضوا أن يتقدّم منهم أحدٌ رفضاً قاطعاً، وعلّلوا ذلك بتعليلاتٍ لم أقتنع بها.

عقدنا موعداً أسبوعيّاً يزورونني به، وجعلناه لتلاوةِ القرآن الكريم، وقراءةِ الأربعين النووية وشرحها، ولم يكن فيهم أحدٌ يحسن تلاوةَ القرآن الكريم على الإطلاق، وكان عشراتٌ من طلّابي في ثانوية «وادي العيون» أفضلَ منهم في تلاوة القرآن الكريم!

في أثناءِ زياراتِهم لي؛ كانوا يسألونني أسئلةً رموزيّةً، لم أعرف جوابَ سؤالٍ واحدٍ منها، من مثل:

ما هي سبعة في سبعة في سبعة في سبعة!

ما المقصود من الرقم (19) في قوله تعالى (عليها تسعة عشر) وغير ذلك كثيرٌ مما لم أحفظه!

وكنت أقول لهم في كلّ مرة: هذه أسئلة علمها لا يفيد، والجهل بها لا يضرّ.

ختاماً: أشهدُ الله تعالى شهادةَ حقّ؛ أنني عشت بينهم طيلةَ تلك المدة من (أيلول - آذار) لم يؤذونني بكلمةٍ، لا في المدرسةِ، ولا في الشارع، ولا في المجتمع، حتى الأساتذة والطلّاب الحزبيّون كانوا مؤدّبين معي!

اللهم إلّا طالباً واحداً تصايحتُ معه، فضربني بقبضته على وجههي، فأشبعتُه ضرباً وركلاً، ولم ينتصر له أحد البتة!

هؤلاء القومُ أحوجُ إلى التعليم والتوجيهِ والعطفِ واللطفِ؛ منهم إلى التأنيب والتوبيخَ الإهانة والتكفيرِ!

والله تعالى أعلم.

والحمدُ لله على كلِّ حال.