الثلاثاء، 30 يوليو 2024

         التَصَوُّفُ العَليمُ:

العلمُ الكَسْبيُّ والعِلمُ الوَهْبيّ!؟

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

لنْ أفصّل في هذا المنشور أقسامَ المعرفةِ ولا أقسام العلم، ولن أعرّج عن كُنْهِ العلم اللدنيّ، أهو ثمرةُ العلم الكسبيّ والتقوى والالتزام، أمْ هو مجرّد منحةٍ من الرحمان الرحيم لعبدٍ يحبّه اللهُ تعالى، وإن لم يَظهرْ للناسِ سببٌ من أسباب هذا الحبّ!

إنّما أقول: إنّ العلمَ الكسبيّ: هو بذلُ الجُهدِ في تحصيلِ العلوم الدينيّة من منابعها الأصليّة: الكتابِ والسنّةِ وعلوم آل البيتِ، وعلوم المجتهدين في الأمّة.

والعلم الوهبيُّ: فهو كما قال الإمامُ عَليٌّ عليه السلام، وقد سئل: هل خَصّكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشيءٍ من دون الناس؟

فقال: «لا والذي فَلَقَ الحبَّة، وبَرَأَ النَسَمة، إِلاَّ فَهماً يُؤتيهِ اللهُ عَبداً فى كتاب الله» فهذا هو العِلْمُ اللدُنيُّ الحقيقيّ.

ومن مظاهر العلمِ الوهبيّ العلمُ الإلزاميّ «الإفحاميّ» وسأذكر ثلاثَ صورٍ عاينتها بنفسيّ، والله شاهدٌ على قلبي ولساني:

- الصورةُ الأولى: تعرفت عام (1992) إلى سيّدي الدرويش «السيّد محمود النعيميّ» رحمه الله تعالى، وكان مقيماً في الحضرة القادريّة ببغداد.

دخلتُ إليه أوّلَ مرّةٍ كان مريضاً، فجلسَ واستقبلني معتذراً، ثم ألقى عليّ محاضرةً في علم «القراءاتِ» أبهرني بها، وكنت أحدّث نفسي وهو يحاضر عليّ، فأقول: هذا الكلام لا يحسنه شيخي محمد سليمان أحمد، ولا شيخي سعيد عبدالله الخالدي، ولا شيخي إبراهيم عبدالرحمن خليفة، ولا أحسنه أنا، وسأفرّغ نفسي لإكمالِ (القراءات السبعِ) عليه!

عندما انتهى من محاضرته، التي استغرقت أكثر من نصف ساعةٍ جزماً؛ استأذنته وانصرفت!

لم يتسنّ لي أن أتلقَّ علم القراءات عليه، إنما كنتُ أزوره مرّةً في كلّ أسبوعٍ تقريباً.

بعد مدّةٍ لا تقلّ عن سنةٍ؛ أجزتُ بالقراءةِ والإقراءِ خمسة من طلّابي هم: السيّد سؤدد المفتي، والشيخ فيصل غازي خلف، والدكتور الشيخ أحمد عبدالستّار جسْملة العبيديّ، والددكتور المقرئ السيّد محمد مساهر المعموري، والدكتور الشيخ سعد جاسم الزبيديّ.

ألحّ عليّ الشيخُ «فيصل غازي» لأقرئه خلافيّاتِ شعبةَ عن عاصم؛ فقلت له: يمكن أن أقرئك إيّاها، لكنّ شيخي الشندويلي؛ أقسم أنّه لن يجيزني إلّا بالسبع!

لكنني أدلّك على من هو أعلم مني ومن جميع مشايخي بالقراءاتِ، وستجده متفرّغاً لك، لم أذهب إليه مرّةً، ووجدت عنده أحداً، قال مَن هو؟ قلت: الشيخ محمود النعيميّ!

قال: شيخي هذا درويش أميّ، أظنّه لا يعرف القراءةَ والكتابةَ!

قلت له: تشكّك بقدراتي العقلية والعلمية يا فيصل؟

قال: أمرك سيّدي!

كتبتُ له ورقةً أرجو فيها من شيخي محمود النعيمي أن يقرئه خلافيّات شعبةَ فحسب!

استقبل الشيخ محمود فيصلاً باسماً وقال له قبل أن يعطيه الورقة: «ظننّا شيخك السيّد عداب، أعلى مقاماً من مقامه، وخفت عليه من العجب!

دخل عليّ شيخك عداب، وهو نورٌ، فعلمتُ أنّه يعلّم القرآن الكريم، فأحببتُ أن ألقّنه درساً يمنعه من العُجبِ بعلمه ما دام على قيد الحياة، فشرحت له في علم القراءات ما أبهره وصغّر نفسه لديه.

أمّا أنا يا ولدي؛ فلا أحسن قراءةَ الفاتحة كما تقرؤها أنت!

سلّم على شيخك السيّد، وأوصيكم أن تلزموه وتأخذوا ما لديه من العلوم».

ذهبتُ إلي الشيخ محمود؛ لأستفهم منه؛ فأمرني بالسكوت وعدم السؤال، رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً ورضي عنه.

الصورةُ الثانية: عقبَ رفضِ اللجنةِ الفاحصةِ الجاهلةِ أطروحتي «الوحدان من رواة الصحيحين» عام (1995) تعبتُ نفسيّاً كثيراً!

فقلتُ: أسافرُ إلى جدّي الإمام عليّ عليه السلام في النجف؛ لأروّح عن نفسي قليلاً، وأعقد معه مرابطةً لعلّه يقع في قلبي شيءٌ يريحني!

اتّصلتُ مع تلميذي السيّد «عمران الموسويّ» وهو جعفريٌّ إماميّ، وعرضتُ عليه الفكرةَ، فوافق، وسافر معنا واحدٌ أو اثنان، وربما أكثر، لا أتذكّر!

كنتُ إذا قصدتُ أحدَ أجدادي الأئمّة؛ لا أتكلّم بكلامِ الناس أبداً، مهما كان الطريق طويلاً، إنما أقطعه ببعض الأوراد القرآنيّة!

عندما وصلنا إلى عتبةِ المشهد العلويِّ؛ قبّلت العتبةَ وأطلتُ العتابَ؛ ففاحت روائح عطريّةٌ ملأت المكانَ، حتى أحسّ بها كلّ من في الحضرة العلويّة ومن معي طبعاً.

امتلأت الحضرة بالتهليل والتكبير والبكاء والدعاء؛ حتى إذا وصلنا عند رأسه الشريفِ؛ وجدنا مكاناً فارغاً يتّسع لعددٍ من الأشخاص، صلينا فيه، وتلونا ما شاء الله لنا أن نقرأ، ورابطتُ مع سيدي الإمام، ولم يجبني عن سبب هذه العقوبةِ المدوّية، إنّما بشّرني بالحصول على الدرجة بامتياز، وأشار إليّ أنّ الزيارة انتهتْ!

ودعناه، وخرجنا، وركبنا سيّارةَ السيد «عمران الموسويّ» والروائح الزاكيةُ تفوح منها.

وصلنا إلى محطّة البنزين، فنزل السيّد عمران ليملأ خزّان الوقود، فسمعته يصرخ:

يا الله! حتى البنزين تفوح منه رائحةُ الجنّة!

ركبَ السيّد عمران وهو يردد «البنزين عطر البنزين عطر» فضحكت وقلت له:

سيّد عمران: حدّثتني مرّةً أنّك خدمتَ الإمامَ الخمينيّ في النجف برهةً من الزمان؟

قال: إي والله! وذكر سنواتٍ عديدةً نسيتُ عددها!

قلت له: دخلتَ معه إلى الحضرةِ العلويّة؟ قال: مرّاتٍ كثيرةً!

قلتُ له: هل استقبله جدّنا الإمام عليه السلام، بمثلِ ما استقبلنا به؟

قال: لا والله، لا هو ولا سائر مشايخنا الذين صحبتهم إلى حضرته!

ضحكت وقلت له: أليس هذا دليلاً على أنّنا نحن على الحقّ؟ قال: بلى والله أنت على الحقّ دائماً، وأنت مدلّل على جدنا وسيّدنا الأمير عليه السلام.

والسيد عمران يقيم في الكاظمية، فمن شاء أن يسألَه فهو معروف هناك للقاصي والداني.

- الصورة الثالثة: زارتني والدتي «الخاتون خديجة بنت محيي الدين النشتر الأيوبيّة» في شهر رمضان عام (1400 هـ) في مكّة المكرمة.

قالت لي ذات يوم، وهو يوم (18) رمضان: خذني إلى الحرم الشريف يا ولدي، أنا لستُ قادمةً لأجلس في بيتك، أريد أن أملأ عينيَّ من الكعبة المشرّفة!

ركبنا في سيّارتي، وفي أثناء الطريق قالت لي: عندي لك كلمتان يا عداب!

قلت: تفضّلي سيّدتي!

قالت: أنا سأموتُ بعد أربعةِ أشهر من الآن، وما جمعتُه من ذهبٍ حلالٍ في هذا العمر الكئيب؛ أوصيت به إليك، وهو في أيدٍ أمينةٍ، متى أنا متُّ؛ سيصلُ إليك الذهب هنا في مكة المكرمة، فلا تقلق!

غادرَتْ إلى سوريّا، ثمّ جاءني نعيها في (18) من محرّم الحرام، عام (1401 هـ) رحمها الله تعالى، ورضي عنها.    

هذا العلم اللدنيّ، أو العلم الإلزاميّ؛ هو لإقامة الحجة أو البرهان الحاضرِ فحسب!

ومَنْ يظنُّ المشايخَ والصالحينَ يستغنون عن العلم الكسبيّ، أو أنهم يتعلّمون عن طريق العلم اللدنيِّ المباشر؛ فهو جاهلٌ أحمق، والذي يقول: إنّ مشايخَ الصوفيّة مستغنون عن تعلّم العلوم الشرعيّة؛ لأنّ الله تعالى يعلّمهم مباشرةً من دون تعليمِ أحدٍ؛ كذّاب أشرٌ هو ومشايخُه النصّابون أولئك!

والله تعالى أعلم.

والحمد لله ربّ العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق