مَسائل حديثية (58):
المَسْبوقُ بالصلاةِ، يُتِمُّ
أمْ يقضي؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ).
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
قال لي صاحبي الحنفيّ: إذا
فاتتني مع الإمام ركعةٌ، أقرأُ سورةً مع فاتحةِ الركعةِ الفائتةِ، أم أقتصر عليها؟
قلت له: ألست حنفيّاً؟
قال: بلى!
قلتُ: وإذا قلتُ لك: اقرأ
سورةً بعد الفاتحةِ، وهذا مذهبك الحنفيّ!
أم قلت لك: إنّ أوّلَ صلاتك هي
الركعةُ التي أدركتَها، وهذا مذهب الشافعية وأهل الحديث، فهل تتابعُ الشافعيَّ في
مذهبه؟
قال: وهل يجوز التلفيقُ بين
المذاهب في نظرك؟
قلت له: المذاهب كلّها
إرشاديّةٌ، وأقوالُها استئناسيّة عندي، وليس شيء من اجتهاداتها ملزماً لي!
أمّا بالنسبة لك؛ فخذ
بالأحوطِ، وهذا اتّجاهٌ لدى كثيرٍ من علماء السلف!
قال: ليس هذا مقصدي من السؤال،
إنما سمعتُك تقول: إنّ الفقهاء عامّةً، وفقهاءَ الحنفيّة خاصّةً؛ ضعفاء في علم نقد
الحديث وتقويمه، ولذلك فهم يقدمون الحديث الضعيف على الصحيح، والحديثَ المرسل على
المتّصل، والحديثَ المعلول أو الشاذّ على السليم من العلل، بل وقد يقدمون قولَ
إبراهيم النخعيّ على حديث صحيح!
ومذهب الحنفيةِ في هذه
المسألة؛ يُبطِل دعواك علينا!
هذا الحديث أخرجه البخاريّ
ومسلم، وأنتم معشَر الشافعية تعرضون عنه، وتأخذون بالأضعف!
أقول وبالله التوفيق:
لنجعل كلامنا في نقد هذا
الحديثِ على مرحلتين:
المرحلة الأولى: نقد الحديث في
إطار الصحيحين.
المرحلة الثانية: نقد الحديث
في إطار الصحاح الستّة والسنن الستّ!؟
المرحلة الأولى:
أخرج البخاري (635) - واللفظُ
له - ومسلم (603) من حديث عبدالله بن أبي قَتادةَ عن أبيه الحارث بن رِبعيٍّ
الصحابيّ، قال: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلّي مَعَ النَّبيِّ([1])
e إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ([2])
فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: (مَا شَأْنُكُمْ؟) قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى
الصَّلاَةِ. قَالَ: (فَلاَ([3])
تَفْعَلُوا، إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ([4])
فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا)([5]).
ولفظُ مسلمٍ مثله، إلّا آخره،
ففيه: (فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا سَبَقَكُمْ؛ فَأَتِمُّوا).
وأخرج البخاري (636، 908)
ومسلم (602) من حديث أبي هريرة قال:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ e يَقُولُ: (إِذا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ؛ فَلاَ تَأْتُوها تَسْعَوْنَ،
وَأْتُوها تَمْشُونَ، عَلَيْكُمُ([6])
السَّكِينَةُ، فَما أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَما فاتَكُمْ فَأَتِمُّوا)([7]).
وهذا حديث مشهورٌ عن أبي
هريرة، رواه عنه بهذا اللفظ في الصحيحين:
سعيدُ بن المسيّب، وأبو سلمة
بن عبدالرحمن بن عوف، وعبدالرحمن بن يعقوب الحرقيّ، وهمّام بن منبّه.
وليس في الصحيحين جملةُ (وما
فاتكم؛ فاقضوا) البتّة، فكيف يكون دليلكم أصحَّ أيها الحنفيّ؟!
نعم عند مسلمٍ رواه هِشَامُ
بنُ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنّه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ e: (إِذَا
ثُوِّبَ بِالصَّلاةِ فلا يَسْعَ إِلَيْهَا أَحَدُكُمْ، وَلَكِنْ لِيَمْشِ
وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالوَقَارُ، صَلِّ مَا أَدْرَكْتَ، وَاقْضِ مَا
سَبَقَكَ).
وجميع رواةِ الحديث عن أبي
هريرة « سعيدُ بن المسيّب، وأبو سلمة بن عبدالرحمن بن عوف، وعبدالرحمن بن يعقوب
الحرقيّ، وهمّام بن منبّه» خالفوه وقالوا: (فأتّموا).
ومهما كان حفظ محمد بن سيرين؛
فيُقضَى لرواية أربعةٍ - ثلاثةٌ منهم من الحفّاظ - على روايةِ واحدٍ، مهما كان
حافظاً!
خاصّةً وأنّ الإمامَ مسلماً
قدّم رواياتِ أولئك الحفّاظِ في الباب، وجعل رواية ابن سيرين آخرَ روايةٍ فيه!
هذا الكلام العلميُّ في إطار
الصحيحين!
فمَن كان يذهب إلى أنّ ما
اتّفق عليه الصحيحان؛ أقوى مما انفرد به أحدهما
فحديث الباب جاء في الصحيحين
عن أبي قتادة، وعن أبي هريرة من طرق، بلفظ (فأتّموا) وجاء لفظ (وَاقْضِ مَا
سَبَقَكَ) من رواية ابن سيرين وحده!
وقد حكى الدارقطنيّ في العلل
(10: 28) اختلاف أصحاب ابن سيرين عنه:
فَرَوَاهُ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَهِشَامُ بْنُ
حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أبي هريرة مرفوعا.
وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ وَهِشَامٍ
مَوْقُوفًا» وتتمة كلامه ثمّة.
ختاماً: تبيّن لنا أنّ روايةَ
(وما فاتكم؛ فأتّموا) أقوى بمرّاتٍ من رواية (وما فاتكم؛ فاقضوا).
فهل سيترك السادةُ الحنفيّة
الروايةَ المرجوحةَ، ويتبنّون الروايةَ الراجحةَ؟
كلّا إنهم لن يفعلوا؛ لأنّ
حديثَ الخصوم عَرَفوه، فكان لهم منه موقف!
ولهذا نحن نقدّم قول المذهب
على الحديثِ، كما قال لي أحدهم!
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا،
وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
نبيّنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق