الأربعاء، 14 أكتوبر 2020

إعادة صياغة العقل المسلم (1): 
في المرجعيات، والمصطلحات، والمصادر، والتاريخ!
 
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
 
إنّ إعادةَ صياغة العقل المسلم، تعني في أيسر ما تعنيه؛ إعادةَ كتابة «منهج التفكير الإسلامي» كتابةً يستشعرُ القائم بها مخافةَ اللهِ عزّ وجلّ، ويَعتقدُ في نفسِه الحيادَ المُطلقَ تُجاهَ الطائفية والمذهبية والحزبية والإقليمية والقومية!
إلى جانبِ امتلاكِه أدواتِ الاجتهاد الأساسية من علوم العربية والأصول والقواعد و المقاصد، وإتقان تحرير النصوص والروايات المنقولة في جوانبِ الاعتقاد والتشريع والسلوك، وجانب التاريخ الذي يدوّن حركة تعامل الناس مع الدين.
ذلك أنّ التحيّزَ العاطفيّ، فضلاً عن الفكريّ والمصلحي؛ يجعل الكاتب قريباً من الخطأ، بعيداً عن الصواب، عرضةً لترجيح الهوى على المبدأ.
وإنني أحسّ إحساساً عميقاً، منذ أكثر من ثلاثين سنة بأنني حياديّ العاطفة والفكر والسلوك.
إنني سيّد من آل البيت – متهم بالتعصّب لهم، في بيئة يغلب عليها النَصب الظاهر حيناً، والنصب الخفيّ في معظم الأحيان!
لكنني أؤمن بأنّ حبي آل البيت عقديّ، وليس عاطفياً، وأحسّ في الوقت ذاته بأن ظلامات الحكام لآل البيتِ؛ يجب ألا تعفيني من بيانِ الأخطاء التي وقع فيها قادةُ أهلنا، على مدار التاريخ!
فعليّ عندي أفضل الأمّة بعد رسولها صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يوزن به أبو بكر، ولا عمر، ولا مجموع الصحابةِ، رضوان الله عليهم، في سائر مكوّنات شخصيته المتعددة المواهب!
لكنه في نظري قد أخطأ عدة أخطاء كبيرة، كان عليه ألا يقع فيها بحال:
- فأخطأ يوم بايع أبا بكر، بعد عدّة أشهر من مبايعة الناس له؛ لأن بيعته كانت فلتةً، يعني اضطراراً، وعلى غير السُنّة.
فكرّس عليٌّ بذلك مَبدأَ التَغلّبِ الجماهيري القبلي.
- وأخطأ يومَ بايع عُمرَ بن الخطاب؛ لأنه كرّس مبدأ ولايةِ العهدِ، وتوريث السلطة.
- وأخطأ يوم دخل في الشورى؛ لأنه ضرب مبدأ ولاية الأعلم والأفضل في فؤاده، فليس في رجال الشورى عالمٌ غيره، فصار العالم والتاجر والفلاح صالحين للخلافة!
وهل الدولة المدنيةُ، سوى ما تقرّر في عهد ما يسمى بالخلافة الراشدة؟
- وأخطأ يومَ قَبِلَ الخلافةَ بعد مقتل عثمانَ؛ لأنّه كرس مشروعيةَ انتزاعِ الحكم بالقوّة، وقتلِ السلطان بدون عقاب؛ تحت ذريعة الفتنة!
- وأخطأَ يومَ تبع عائشةَ والزبير وطلحةَ إلى البصرة، قَبلَ أنْ يُعلنوا عِصيانَهم، حتى يتبيّن لجميع المسلمين؛ أنّ دعواهم الإصلاحَ بين أمّة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم؛ ليست سوى دعوى لخداع العوامّ، إذ كيف يكون تكوين جيشٍ يتّخذ من البصرة قاعدةً له؛ إصلاحاً مع إمام الأمة المقيم في المدينة؟
وكيف يكون قتلُ مئاتٍ من البصريين المسلمين، ونهبُ خزينة بيت المال، وطرد والي البصرة؛ سُبُلاً للإصلاح؟
لكنّ لحاقَ الإمامِ عليٍّ بهم، قبلَ وضوح ذلك للمسلمين؛ ترك الأمور ملتبسة، رغم غلط عائشة، ومن معها.
- وأخطأ يومَ قَبِل التَحكيم، فلا يجوز للإمام أن يكون تابعاً لشعبِه، إنما هو متبوعٌ من قِبَلهم!
ومَن أمّ قوماً، لا يقوى على قيادتهم وإخضاعهم لأوامره وسلطانه؛ يجدُر به أن يستقيلَ فوراً!
وأخطأ يومَ النَهروان، فقد كان يَسَعُه مطاولةَ الحوارِ معهم، ريثما يتوضّح لهم الحقّ، أو يتوضّح لكثيرين منهم!
وأخطأ يومَ قتله أيضاً، فقد كان يعلم علمَ اليقين أنّ ابنَ مُلجَم يُعدّ العُدّة لاغتيالِه، وقد صرّح لبعض أحبابه بذلك، لكنّه لم يقُم بأيّ احتياطٍ تُجاهَ ذلك، بحجّة أنّ القاتلَ لم يقُم بجريمته بعد!
وجوابي وجوابُ غيري على كلّ ماسبقَ؛ أنّه اضطُرّ إلى هذا كله اضطراراً، فما الحيلة؟
وأقول: هذا كلّه كرّس سياسةَ الاضطرار، والأمرِ الواقع، وترك الأمة إلى هذا اليومِ، من غير منهاج سياسيّ، سوى المنهج القائم على التغلب!
فغدا منهاج العربِ في انتقال السلطة قبلَ الإسلام؛ خيراً من مِنهاج المسلمين، أو مثله!
- وأنا سني العشيرة والنسب، شافعي المذهب، فليس في سلسلة نسبي حنفيٌّ، أو مالكيٌّ، أو حنبلي، أو شيعيٌّ واحدٌ، منذ عهدِ الأيوبيينَ، وحتى اليوم!
لكنني عندما كتبت كتابي «النسخ» سنة (1977) خالفت الشافعي في جميع مَباحث النَسخِ، تأصيلاً وتطبيقاً.
أما تأصيلاً: فقد قرّر الشافعي منهج قبول الناسخ والمنسوخ ورسم حدوده.
وأما تطبيقاً: فقد ذهبَ إلى نَسخِ أربعَ عشرة آية من القرآن الكريم، ونسخِ عَددٍ من الأحاديث النبوية.
وأنا رفضت منهج النسخ نظرياً، ورفضته تطبيقاً، فليس عندي في القرآن العظيم ناسخ ولا منسوخ! ونشأت أشعري المذهب، وماتريديّاً في مسائل الخلاف بين المذهبين في أكثر المسائل!
وقرأت على عدد من شيوخي عقائدَ الأشاعرة، كما قرأت جميع ما طبع من كتبهم حتى سنة (1977) بما فيها شرح المواقف للسعد وحواشيه!
ويكذب مَن يَقول بأنني صرت سلفياً ساعة واحدة في حياتي؛ لأنني أعدّ السلفية تخلفاً وتبعيةً بغيضةً لقوم كانوا في بداياتِ العلم والحضارة.
وكيف أكونُ سلفيّاً، وأنا أعد نفسي أعلمَ من أحمد ابن حنبلٍ، حتى في الحديثِ وعلومِه؟
وقرأتُ الاعتزال والتشيع بشقيه، وكتب الملاحدة، والديانات القديمة، واليهودية والنصرانية، وخلصت إلى أنّ الأممَ كلَّها رَعاع، وأنّ أصحابَ السلطان الجهّالُ؛ هم الذين يشكلون دياناتِ الناس وتوجهاتهم الفكرية والسلوكيّة!
يساعدهم في ذلك بعض رجال الدين الجبناء، رغباً ورهباً، و(الناس على دين ملوكهم)
وفكري الإسلاميّ؛ مستقلٌ، ينظر إلى جميع أفكارِ الفرقاء بإشفاقٍ، وليس باحترام، فالتقليد عندي لا يَستحقّ الاحترام أبداً!
فأنا اليوم لست أشعرياً، ولا ماتريدياً، ولا حنبلياً، ولا مُعتزلياً، ولا زيدياً، ولا إمامياً، ولا إسماعيليّاً، ولا إباضياً... كما لست عشائرياً، ولا قومياً، ولا إقليمياً.
وإنْ كنت شديدَ الاعتزازِ بنسبي الهاشميّ، وانتمائيّ النعيميّ النبيل!
على أنّ ليَ في جميع هذه الدوائر أحباباً، أتفق مع الجميع بالكثير، وأختلف مع كل فرقة ببعض ما تذهب إليه بقيدين اثنين، لا أعلم لهما وجود عند غيري من أهل العلم في هذا العصر:
- الأول: إعذاري للمجتهدين في اجتهادهم، مع تقديري للصادقين منهم!
- الثاني: إشفاقي على المقلدين، وحزني على تعصبهم، وثوراتهم مع جهلهم المركب البغيض!
وأحسب أنني أمتلك من أدوات العلم والمعرفة؛ ما يؤهّلني للكتابة في منهج التفكير الإسلامي، إلى جانب حيادي الفكري المطلق!
وفي المنشورات التاليةِ؛ سأشرح مقصودي من عنوان هذا المنشور الأوّل الذي سبق نشره قبل سنواتٍ «إعادةُ صياغة العقل المسلم: في المرجعيات، والمصطلحات، والمصادر، والتاريخ» بوضوح!
عسى أن يقوم واحدٌ من تلامذتي، أو إخواني العلماء بكتابة هذا الكتابِ، الذي يحتاج شباباً وقوّةً وراحةً وحياةً مطمئنّة!
وأختم بقولي: إنّ فكري السياسيّ؛ مختلفٌ عن فكريَ العلميّ والسلوكيّ؛ لأنّ السياسة في هذا العصر؛ تدور مع الأصلحِ، ومع الإمكان!
فمن حيث المبدأ، أنا لست مع الملكيةِ، ولا مع الإمارة الواراثيتين قطعاً، وأرى النظام الجمهوريَّ الرئاسيّ؛ أقربَ إلى العدل والحقّ، إذ لا يمكننا أنْ نطبق أحكام «الخليفة» المنثورة في كتب الفقه، على أيّ حاكم اليومِ، ولو طبّقناها؛ فلن نجد حاكماً شرعياً في تاريخ أهل السنّة على الإطلاق!
فموقفي من الحاكم يكون على قدر ما يَظهرُ لي من نصرته للحقّ، ودفاعه عن المظلومين، واهتمامه بقضايا الأمة ووحدتها، ورعايته للعلم والعلماء، بمعزلٍ عن دستور بلده وقوانينه وسلوك رعاياه!
أمّا غير أهلِ السنةِ وحكّامُهم؛ فليس لي بعد اليوم شأنٌ بهم، فقد أبانوا عن تعصّب وحميّة قبيحة، توجب عليّ الابتعادَ عن دوائرهم تماماً!
والله تعالى أعلم
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
والحمد لله على كلّ حال.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق