مسائل حديثية ():
مذاهب النقّاد في قَبول الأَفراد!؟
)رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا
رَبَّنَا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(.
ابتلينا في هذا العصرِ بكثرةِ المنظّرين في علوم الحديث، الذين قد يحفظون
متناً أو متوناً من كتب الاصطلاح، لكنّ ممارستَهم لتطبيق تلك المصطلحات على
الروايات الحديثيّة؛ قليلة، أو نادرة!
ثمّ تراهم يَتَفلسَفون ويغلّطون، وكأنّ على الخلق أجمعين أنْ يقلّدوهم بما
رأوه صواباً، وهم ليسوا هنالك أصلاً!
إنّ مصطلح «الأفراد» يُطلق ويراد منه الرواةُ الذين ليس لكلّ واحدٍ منهم،
سوى حديثٍ واحد!
ويُطلَق ويراد منه «تفرّد الراوي» بحديثٍ لا يُعرف إلا من جهته.
ومنشورنا اليومَ؛ يتحدّث عن «تفرّد الراوي» وليس عن الرواة المقليّن، الذين
عُرِفَ كلٌّ منهم بحديث واحد!
وقد قسم العلماء الحديث الفردَ على قسمين:
الفرد المطلق، والفرد النسبيّ.
قال الحافظ ابن حَجر في النزهة (ص: 64):
«الغَرابَةُ إِمَّا أَنْ تَكونَ في أَصلِ السَّنَدِ، أي في الموضعِ الَّذي
يَدورُ الإِسنادُ عليهِ ويَرْجِعُ، ولو تَعَدَّدَتِ الطُّرقُ إِليهِ، وهو طَرَفُهُ
الذي فيه الصحابي.
أَوْ لاَ يَكونُ كَذلكَ، بأَنْ يَكونَ التَّفَرُّدُ في أثناء الإسنادِ!
كأَنْ يرويَه عَنِ الصَّحابيِّ أكثرُ مِن واحدٍ، ثم ينْفَرِدَ بروايته عن
واحدٍ منهم شخصٌ واحد.
فالأول: الفرد المطْلَق، كَحديثِ النَّهْيِ عَنْ بيعِ الوَلاءِ وعَنْ هِبَتِهِ،
تفرَّد بهِ عبدُ اللهِ بنُ دينارٍ عنِ ابنِ عمر.
وقد يَنْفَرِدُ به راوٍ عن ذلك المنْفَرد، كحديث شُعَبِ الإيمان، تفرَّدَ
بهِ أَبو صالحٍ عَنْ أَبي هُريرةَ، وتفرَّدَ بهِ عبدُ اللهِ بنُ دينارٍ عَنْ أَبي
صالحٍ.
وقدْ يَسْتَمِرُّ التفرُّدُ في جميعِ رواتِه، أو أكثرهم «إلى المصنِّف».
وفي مسند البزَّار، والمعجم الأوسط للطبراني أمثلةٌ كثيرة لذلك».
قال الفقير عداب:
بل في الصحيحين أمثلةٌ كثيرة للفرد المطلق، بدْءاً من تفردّ التابعيّ عن
الصحابيّ، إلى تفرّد البخاريّ عن شيخِه، صعوداً، حتى الصحابيّ!
وستأتي أمثلة ذلك، في منشوراتٍ تالية!
وقال الحافظ ابن حَجر:
«والثاني: الفرد النسبيّ:
وسُمِّيَ بذلك لكونِ التفرُّدِ فيهِ حَصَلَ بالنسبةِ إِلى شخصٍ مُعَيَّنٍ،
وإن كان الحديث في نفسه مشهوراً، ويقِلُّ إطلاقُ الفردِيّةِ عليهِ؛ لأنَّ الغَريبَ
والفَرْدَ مترادفان لغةً واصطلاحاً، إلا أن أهلَ الاصطِلاحِ غايَروا بينَهُما من
حيثُ كثرةُ الاستِعمالِ وقِلَّتُه.
فالفردُ أَكْثَرُ ما يُطْلقونه على الفَرْدِ المُطْلَقِ.
والغَريبُ أَكثرُ ما يُطْلقونه عَلى الفَرْدِ النِّسْبيِّ.
وهذا مِن حيثُ إِطلاقُ الاسمِ عليهِما، وأما مِن حيثُ استعمالُهم الفعلَ المشتقَّ؛
فلا يُفَرِّقون، فَيقولونَ في المُطْلَقِ والنِّسْبيِّ: تفرَّد بِهِ فُلانٌ، أو
أغرب به فلان».
وانظُر أخي القارئ فتح المغيث للسخاوي؛ لتقف على أمثلة عديدة للفرد المطلق
والفرد النسبيّ (1: 268 – 272) فليس منشورنا مساقاً للتعريفات.
وللعلماء أربعةُ مذاهبَ في قبول الحديث «الفرْد» نوجزها بما يأتي:
أوّلاً: مذهب الإمام الشافعيّ، وخلاصتُه: قَبولُ ما تفرّد به الثقةُ، ما لم
يخالف مَن هو أوثق منه.
ثانياً: مذهب الإمام مسلمٍ، وخلاصتُه قَبولُ ما تفرّد به الثقةُ، الذي
أكثرَ من موافقةِ أهل الحفظ فيما يروي، فإذا تفرّد عنهم بعد ذلك بشيء من الحديثِ؛
قُبل تفرّدُه هذا!
ثالثاً: مذهب الإمام أبي بكر البرديجيّ، وخلاصتُه: قَبولُ ما تفرّد به
الحافظ المتقن، دون غيره.
وقَبول ما تفرّد به الثقة من التابعين عن رجلٍ من الصحابة، إذا لم يكن متن
الحديث منكراً!
رابعاً: مذهب الإمام يحيى القطّان وغيره، وخلاصته: أنّ تفرّد الثقة لا
يُقبَلُ ما لم يُتابَع!
وانظر في شرح مذاهب العلماء وتوثيق نصوصهم كتابَ «أفراد الثقات» للدكتور
متعب السلميّ (ص: 225 - 237) لتتوضّح لك الصورة.
وقبل أن نُدلِجَ في الترجيح بين المذاهب؛ أقول لأولئك المتفلسفين: إذا أنا
أخذت بقول يحيى بن سعيدٍ القطّان، فلم أقبل الحديثَ حتى يتابَع راويه عليه، أو
أخذت بقول البرديجي، فلم أقبل الحديثَ إلا من الرواة الحفّاظ دون غيرهم، فما الذي
يلزمني بترجيح فلانٍ أو ترجيح علّان؟
لماذا يجب عليّ أن أقلّد البخاريّ أو مسلماً، على تباين منهجيهما، وأنا أرى منهجيهما ضعيفين في الإسناد المعنعن أصلاً؟
إنّ من التَهويل الذي يمارسه بعض مقلّدة الباحثين قولهم: إنّ مسلماً معتدلٌ في قَبول حديث الراوي، والبخاريّ متشدّد!
وهذا من أبطل الباطل، بل كلاهما في مسألة الاتّصال ضعيفان!
فمنهج البخاريّ؛ الحكمُ باتّصال أسانيد الراوي المعنعن كلّها، إذا صرّح
مرّة واحدةً بالسماع!
كأن يقول الراوي: حدثنا، أو أخبرنا، أو سمعت فلاناً!
مع أنّه يرد على هذا المنهج ملحظان قويّان:
الأوّل: أنّ كثيراً من الرواة المتقدّمين؛ لا يفرّقون بين صيغ التحمّل،
فيقولون: حدثنا في موضع أخبرنا، أو يقولون: أخبرنا في موضع أنبأنا، أو يضعون
حدّثنا في موضع «عن» ظنّاً منهم أنّ جميعها بمعنى واحد!
وقد أشار إلى هذه المسألة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه
التنكيل (1: 86) فقال: «يَكثُر في كتب الحديث إثبات «قال» في أثناء الإسناد قبل «حدثنا»
و «أخبرنا» وذلك في نحو قول البخاري: «حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا
يحيى بن سعيد».
وكثيراً ما تُحذَفُ، فيزيدها الشرّاحُ أو قُرّاء الحديث.
فبهذا يتّضح أنّه في قول همام: «حدثنا قتادة عن أنس» لا يُدرى كيف قال
قتادة!
فقد يكون قال: حدّثني أنس، أو: قال أنس، أو: حدّث أنس، أو: ذكَرَ أنس، أو
سمعت أنساً، أو غير ذلك من الصيغ التي تُصرّح بسماعِه من أنسٍ، أو تَحتَمِلُه!
لكن لا يُحتمل أن يكون قتادةُ قال: «بلغني عن أنس» إذ لو قال هكذا؛ لزم
همّاماً أن يحكي لفظَه، أومعناه، كأن يقول: حدثني قتادةُ عَمّن بلّغَه عن أنس،
وإلّا كان همامٌ مُدَلّساً تَدليسَ التسويةِ، وهو قَبيح جداً» انتهى المراد.
وهذا يعني أنّ بعضَ صِيَغِ الأداءِ عند المتقدمين، ينوب عن بعضٍ، وأوّل من
فتّش عن التمييز بين صيغ الأداء؛ هو شعبة بن الحجّاج.
فالمسألة كلّها على الاحتمال، ولا حاجةَ إلى التنطّع البليد، ممن يظنّ علمَ
الحديث الذروةَ التي لا تنالُ من المعرفةِ!
الملحظ الثاني: سلّمنا أنّ الحديثَ المصرّح بسماعه – مع الاحتمال – قد سمعه
الراوي من شيخه، فمن أين لنا أنّه سمع عشرين، أو ثلاثين، أو مائة حديث أخرى، من
هذا الشيخ؟
يعرّفون المرسل الخفيَّ بأنّه «روايةُ المحدّثِ عَمّن عاصرَه، ولم يَلْقَه».
لكنهم يقولون: إذا ثبتَ لقاءُ المحدّث المدلّس شيخاً، أو زعم هو ذلك، كأن
يقول: حدّثني فلان مرةً واحدةً، فيحملون جميع حديثه «المعنعن» الذي رواه عن هذا
الشيخ على السماع!
أليست هذه ثغرةً قبيحةً، هي المرسل الخفيّ بعينِه فيما سوى الحديثِ المصرّح
فيه بالسماع؟
ثم قولُ المحدثين وغيرهم: «عنعنة الراوي تُحمَل على السماع، مالم يكن مدلّساً» أهي آية قرآنية، أم حديث صحيح شريف، وما الذي يوجب عليَّ الالتزامَ بها على طول الخطّ، إذا كنت أرى وجوب التصريح بالسماع، حتى من غير المدلّس، مثلاً؟!
لقد ثبت لديّ أنّ أكثر مشاهير المحدثين مدلّسون، بمن في ذلك سفيان الثوري
وابن عيينة والأوزاعيّ، وغيرهم كثيرون!
ودعوى أنّ ابن عيينة لا يُدَلّس إلا عن ثقة؛ كلام فارغٌ، ليست له أدنى
قيمة، بل هو يدلس عن الثقة وغير الثقة، شأنُه شأن بقية المدلّسين!
أقول: إذا وجدتُ واحداً من هذه المذاهب الأربعة هو الراجحَ، فبمَ سوّغتَ
لنفسك أيها المتعصّب الجاهل أن تغلّطني، إذا كان المذهب الذي رجّحتُه؛ غيرَ المذهب
الذي تقلّده أنت؟
وإذا كنتَ ترى نفسك صغيراً أمام أحمد والبخاريّ ومسلم؛ فأنا لا أرى نفسي أمامهم كذلك!
وقد خبرت مناهجهم، وخرجت لكلّ واحدٍ منهم مئات الأحاديث، واستدركت عليهم في
الرجال، وفي العلل، وفي التطبيق العمليّ، فكان ماذا؟
كان من منهجي أن لا أنشر تخريجاتي على الصحيحين، حتى أنتهي من التخريج النقديّ تماماً!
بيد أنني أرى من تطاول المقلّدين والمرقعين؛ ما يدفعني إلى أن أنشر في كلّ
يوم حديثاً، عسى أن يَعرفَ أولئك المتطاولون - إلى ما لا يحسنون - أنني لا أُطلق
كلامي جزافاً!
وبعد أن يكون تخريجي ونقدي صحيحين؛ لا يعنيني أن يستفيدَ من تخريجاتي بعضُ
أهل السنة، أو بعض الشيعة، أو بعض الإباضية، أو بعض المعتزلة!
فإنا لا أرى نفسي مندفعاً إلى أيّ واحدٍ من هذه المذاهب، فكلها مذاهب
متعصبة، إقصائيّة، وجميع أتباعها يحتكرون الحقّ!
إنّ الذي يشعر بأنّ في منهجه ضعفاً، يؤثّر على بعض أحاديث الصحيحين وغير
الصحيحين؛ هو غير واثق ممّا يَدْعونه «السنة النبوية» و«الحديث الشريف» و«منهج
المحدثين العظيم»!
إذا كان فلانٌ يرى جملة «يروي المناكير» ليست كجملة «يروي مناكير» أو «روى
أحاديث فيها نكرة» فهو غافلٌ أو مستغفِل!
فهو يعلم أنني أعلى منه ومن جميع شيوخه وأقرانه في علوم العربية ودلالات
الألفاظ!
لكنّ تمييز المحدثين بين الألفاظ بهذه الدقة؛ دعوى فارغة، فأكثر الحفاظ
ليسوا أقوياء في اللغة، ومنهم أحمد والبخاري ومسلم!
وهذا الحافظَ ابن حجر الذي يقلدونه في كلّ شيءٍ، وأنا لا أقلّده في شيء،
يُعرّف الحديث الصحيح بقوله: «هو ما يرويه عدلٌ تامّ الضبط عن مثله» فهل الذي
«يروي مناكير» أقلّها ثلاثةُ مناكير، يكون تامّ الضبط، أم ناقصَ الضبط؟
وهل حديثُ ناقصِ الضبط يكون صحيحاً، أو يكون حسناً، وربما كان منكراً؟
على أنّ الإمام الذهبيّ في ترجمة محمد بن إبراهيم التيمي، قال في أحد كتبه: يروي المناكير، وقال في كتابٍ آخر: يروي مناكير، وقال في موضع ثالث: روى أحاديث منكرة!
(انظر المنشور السابق في تخريج حديث نية الأعمال) فهناك توثيق
الكلام.
آمل من أولئك المتحذلقين أن يعرفوا أقدارَ أنفسهم أوّلاً، وأن يعلموا بأنني
لا أرى البخاريّ ومسلماً أهلاً لأن أقلّدَهما، فهل أقلدُهم هم، وأنا لا أراهم سوى
مرقعين مسوّين للأحاديث على مذاهبهم؟
أعاننا الله على أولئك المجبّرة المجسّمة، عبّاد الطواغيت، ما أجهلَهُم، وما أقلّ حياءهم!
والله تعالى أعلم
)رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(.
والحمد لله على كلّ حال.
)رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
لماذا يجب عليّ أن أقلّد البخاريّ أو مسلماً، على تباين منهجيهما، وأنا أرى منهجيهما ضعيفين في الإسناد المعنعن أصلاً؟
إنّ من التَهويل الذي يمارسه بعض مقلّدة الباحثين قولهم: إنّ مسلماً معتدلٌ في قَبول حديث الراوي، والبخاريّ متشدّد!
يعرّفون المرسل الخفيَّ بأنّه «روايةُ المحدّثِ عَمّن عاصرَه، ولم يَلْقَه».
ثم قولُ المحدثين وغيرهم: «عنعنة الراوي تُحمَل على السماع، مالم يكن مدلّساً» أهي آية قرآنية، أم حديث صحيح شريف، وما الذي يوجب عليَّ الالتزامَ بها على طول الخطّ، إذا كنت أرى وجوب التصريح بالسماع، حتى من غير المدلّس، مثلاً؟!
وإذا كنتَ ترى نفسك صغيراً أمام أحمد والبخاريّ ومسلم؛ فأنا لا أرى نفسي أمامهم كذلك!
كان من منهجي أن لا أنشر تخريجاتي على الصحيحين، حتى أنتهي من التخريج النقديّ تماماً!
وهل حديثُ ناقصِ الضبط يكون صحيحاً، أو يكون حسناً، وربما كان منكراً؟
على أنّ الإمام الذهبيّ في ترجمة محمد بن إبراهيم التيمي، قال في أحد كتبه: يروي المناكير، وقال في كتابٍ آخر: يروي مناكير، وقال في موضع ثالث: روى أحاديث منكرة!
أعاننا الله على أولئك المجبّرة المجسّمة، عبّاد الطواغيت، ما أجهلَهُم، وما أقلّ حياءهم!
)رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق