الخميس، 21 أغسطس 2025

        مَسائِلُ حَديثيّةٌ:

عَددُ الأحاديثِ القُدسيّةِ ومواضعها في الصحيحين !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ للهِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى).

أمّا بعد: بعضُ الناسِ يحسبُ ظنّه يقيناً، ثمّ يكذّب أو يخطّئ غيره بظّنه المعصوم عنده، وللأسف!

عدد الأحاديث القدسيّة في صحيح البخاريّ (131) حديثاً مع التكرار.

(22، 279، 555، 557، 806، 846، 1038، 1145، 1339، 1413، 1904، 2125، 2227، 2268، 2269، 2270، 2348، 2441، 3193، 3194، 2309، 3223، 3244، 3326، 3334، 3339، 3348، 3350، 3391، 3407، 3459، 3463، 3478، 3479، 3481، 3983، 4147، 4476، 4482، 4487، 4684، 4685، 4712، 4740، 4741، 4769، 4779، 4780، 4812، 4826، 4832، 4838، 4850، 4890، 4974، 4975، 5021، 5352، 5653، 5927، 5953، 5987، 6040، 6070، 6181، 6227، 6321، 6408، 6424، 6480، 6481، 6491، 6502، 6519، 6526، 6529، 6530، 6549، 6557، 6560، 6565، 6571، 6574، 6582، 6585، 6586، 6609، 7049، 7349، 7382، 7404، 7405، 7410، 7413، 7422، 7429، 7440، 7449، 7453، 7467، 7483، 7485، 7486، 7491، 7492، 7493، 7494، 7496، 7498، 7501، 7502، 7503، 7504، 7505، 7506، 7507، 7508، 7510، 7511، 7514، 7518، 7519، 7533، 7536، 7537، 7538، 7539، 7552، 7554، 7559) حسب طبعة فتح الباري.

وعدد الأحاديث القدسيّة في صحيح مسلم (55) حديثاً، من دون تكرار.

(71، 72، 128، 129، 131، 136، 162، 181، 182، 183، 184، 186، 187، 188، 189، 202، 222، 395، 632، 758، 993، 1151، 1348، 1560، 1561، 1562، 1887، 2111، 2246، 2376، 2554، 2566، 2569، 2577، 2620، 2637، 2675، 2687، 2689، 2675، 2751، 2758، 2659، 2768، 2787، 2788، 2805، 2824، 2829، 2846، 2847، 2872، 2937، 2969، 2985) حسب طبعة عبدالباقي.

ويستطيع كلُّ قارئ أن يتأكّد من صحة أرقام الأحاديثِ القدسيّة في الصحيحين، والله المستعان.

والحمد لله على كلّ حال.

الأربعاء، 20 أغسطس 2025

       مَسائِلُ حَديثيّةٌ:

هَلِ الأحاديثُ القُدسيّةُ موضوعةٌ !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ للهِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى).

أمّا بعدُ: فقد اطّلعتُ على منشورٍ كتبه زاعمٌ أنّه يدافع عن سنة الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وينقّيها من الدَخَن الكثيرِ الذي لحق بها، باعتماده «منهج نقد المتن» دون اتّباعِ منهج المحدّثين،  زعم في منشوره أنّ الأحاديثَ القدسيّةَ «افتراءُ على الله ورسوله» صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا يعني أنّها موضوعةٌ مكذوبة، زاعماً «أنّ فكرة أنّ الله تعالى يتكلّم خارج القرآن الكريم؛ هي فكرة باطلة؛ لأنها تتعارض مع نصوص كتاب الله التي تقرّر أنّ القرآن وحده كلام الله عزّ وجلّ».

ويقول أيضاً: «والأعجبُ أنّ أغلبَ هذه الأحاديث ضعيفة نكرة ركيكةُ المتن، تحمل معاني تسيء إلى مقام الألوهية، وتصف الله بما لا يليق بجلاله، وتكثر فيها ألفاظ التشبيه والتجسيم، التي لا يقبلها عقل ولا فطرة»

وساق خمسةَ أحاديثَ من صحيحي البخاري ومسلم دليلاً على دعواه بأنّ الأحاديثَ القدسيةَ افتراء على الله ورسوله.

ونحن سنناقشه في هذه الأحاديث ذاتها لنرى هل هي ممّا يعارض القرآن الكريم كما يحاول أن يؤكّد دائماً؟

وقبل دراسةِ تلك الأحاديثِ؛ عليّ أن أقول: إنّ دعوى الوضعِ حدّد العلماءُ سبيلَ تحقّقها، وقالوا: إذا كان الكلامُ المنسوبُ إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يخالف الكتابَ أو السنّة أو الإجماعَ؛ نَنظر في إسناد الحديثِ، ونُلصِقُ هذا المتن المنكر بأضعفِ راوٍ في الإسناد، ونحكم بضعف الحديثِ!

قال ابن حبّان في ترجمة أحدِ الرواة من كتاب المجروحين (3: 158): «يَروي مَا لم يُتَابع عَلَيْهِ، وَالْإِنْسَان إِذا كَانَ بِهَذَا النَّعْتِ، ثمَّ لم يرو إِلَّا خَبراً وَاحِداً، خَالفَ فِيهِ الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس وَالنَّظَر والرأيَ؛ يسْتَحق مجانبتَه فِيه، وَلَا يُحتَجُّ بِه».

وقال في مقدمة صحيحه (1: 155): «وإنْ لم يوجَدْ ما قُلنا؛ نُظِر هَل روى أحدٌ هَذَا الْخَبَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم غيرُ أبي هريرة، فإنْ وُجد ذلكَ؛ صحّ أنّ الخبرَ له أصلٌ.

ومَتى عُدم ذلكَ، والخبر نفسُه يُخالفُ الأصولَ الثلاثةَ «الكتابَ والسنّة والإجماعَ» عُلِمَ أنّ الخبرَ مَوضوعٌ لا شَكَّ فيه، وأنّ ناقلَه الذي تَفرّد به؛ هو الذي وَضَعَه» انتهى.

قال الحافظ ابن حجر في النكت على ابن الصلاح (ص: 2: 675): «وأما ما انفرد به المستورُ أو الموصوفُ بسوءِ الحِفظِ، أو المُضَعَّف في بعض مَشايخه دون بعض، بِشيءٍ لا متابع له ولا شاهدَ؛ فهذا أحدُ قِسمي المُنكر، وهو الذي يُوجَدُ في إطلاقِ كثيرٍ مِن أهلِ الحَديث.

وإن خولف في ذلك؛ فهو القسم الثاني، وهو المُعتمَد على رأي الأكثرين».

فمتى كان المنفردُ بالحديثِ هو المدارَ فما فوقه واحداً ممن سبق وصفُه؛ حكمنا بنكارةِ الحديثِ في أيّ كتابٍ كان!

ونحنُ لدينا في صحيح البخاريّ ومسلمٍ (211) حديثاً، فهل هذه الأحاديثُ كلّها موضوعةٌ، ومَن الذي وضعها، وإذا لم يكن واحدٌ من رواتها متّهماً بالوضعِ، وليس فيها ما يخالفُ الكتابَ والسنة والإجماع، فكيف نحكم بوضعِها من دون دراستها؟

وحتى لا يُقال: إنّك تدّعي أنّ الأحاديثَ القدسية في الصحيحين (211) حديثاً؛ أعرضُ الخمسةَ الأحاديثَ الأوَلَ والخمسةَ الأخيرةَ من كلّ كتابٍ منهما.

في صحيح البخاري (131) حديثاً قدسيّاً مكرّرة، أوائلها (22، 279، 555، 557، 806) وأواخرها (7536، 7538، 7539، 7553، 7559).

وفي صحيح مسلم (80) حديثاً قدسيّاً، أوائلها (71، 72، 128، 131، 136) وأواخرها (2847، 2872، 2937، 2969، 2985) ومعلوم أنّ أحاديثَ مسلمٍ قليلةُ التكرار.

فإذا كانت هذه الأحاديثُ القدسية موضوعة مكذوبةً؛ فكيف راجت على البخاريّ ومسلم والدارقطنيّ وابن حزم؟

- الحديث الأوّل: (مرضت فلم تعدني).

بإسنادي إلى الإمام مسلم في كتاب البرّ والصلة (2569) قال رحمه الله تعالى:

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ يَا رَبِّ: كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟

قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟

يَا ابْنَ آدَمَ: اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ يَا رَبِّ: وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟

قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟

يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟

قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي).

قال الفقير عداب: حسبَ منهجنا النقديّ؛ لا نحكم على الحديثِ بمجرّد استغراب لفظه، بل ندرس إسناده أوّلاً، ثمّ نحكم على الإسناد، ثمّ نحاول فهم المتن المستغرب لدينا.

مدار حديث أبي هريرة على ثابت البناني، رواه عنه:

حمّاد بن سلمة عند إسحاق بن راهويه في مسنده (28) والبخاري في الأدب المفرد (517) ومسلم في صحيحه (2569) وغيرهم كثيرون.

ورواه حمّادُ بن زيدٍ عن ثابتٍ، عند أبي عوانة في مستخرجه على صحيح مسلم (11211) وهذه الفائدة من فوائدِ المستخرجاتِ، إذْ أزاحت الغرابةَ عن إسناد الحديث في طبقتين.

وثابتٌ: من ثقاتِ الرواةِ، وأبو رافع: ثقة ثبتٌ، وأبو هريرة: من حفّاظ الصحابة.

فإسنادُ الحديثِ لا غُبار عليه إذنْ، فكيف يكون افتراءً على الله ورسوله؟

أمّا متن الحديثِ؛ فجميع المسلمين يقولون: فعلت هذا الأمر لله، ولوجه الله.

والله تعالى يقول: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا، وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ (37) [الحجّ].

 فالحديث القدسيّ حثُّ على فعل الخير والبرّ، وليس فيه أنّ الله تعالى يأكل ويشرب ويمرض، إلّا عند مَن لا يفهم البلاغة العربيّة وأساليب البيان القرآنيّ!

والله تعالى يقول: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) [الحديد] فهل الله تعالى يستقرضُ نقداً أو عيناً من عباده؟

- الحديث الثاني: (كنت سمعه الذي يسمع به).

بإسنادي إلى الإمام البخاريّ في كتاب الرقاق (6502) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ: حَدَّثَنِي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ عَنْ عَطَاءِ بن يَسارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ).

والحديث أخرجه ابن حبّان في صحيحه (347) واللالكائيّ في أصول الاعتقاد (9: 99) والبيهقيّ في الأسماء والصفات (1029) وغيرهم، من حديث خالدِ بن مَخلدٍ القطوانيّ بهذا الإسناد، وخالد بن مخلدٍ وثّقه عددٌ من الحفّاظ، وأعطاه لقب صدوقٍ عددٌ منهم، وهو أضعف راوٍ في هذا الإسنادِ، فإن كان في متن حديثِه نكارةٌ؛ فهي من خفّةِ ضبطه.

قال الإمام الذهبيّ في ميزان الاعتدال (1: 641): «هذا حديث غريب جدا، لولا هيبة الجامع الصحيح لعدوه (4) في منكراًت خالد بن مخلد، وذلك لغرابة لفظه، ولانه مما ينفرد به شريك، وليس بالحافظ، ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد، ولا خرجه من عدا البخاري، ولا أظنه في مسند أحمد».

نقل صاحب المنشور كلام الذهبي هذا، ثم قال: «إذن لولا هيبة صحيح البخاري؛ لاعتُبر هذا الحديث من المنكرات، لكن سلطة الصحيحين حالت دون ردّه، بينما لم يتردّد النقّاد الأقدمون، مثل الدارقطني وابن حزم في توجيه النقد بكتب الحديثِ، بما فيها الصحيحان.

وهكذا تحوّلت بعض المنكراتِ إلى عقائدَ، والمكذوبَ إلى مقدّس، لا بميزان التحقيق والتمحيص، بل تحت ضغط التسليم للروايةِ والآبائيّة».

أقول وبالله التوفيق:

التمحيصُ والتحقيقُ يكون بدراسة الحديثِ المرويّ سنداً ومتناً.

أمّا سنداً؛ فصاحب المنشور لا يقترب من دراسة الأسانيد أبداً !؟

وأمّا الدارقطنيّ وابن حزمٍ؛ فلم يتعرّضا لهذا الحديث بالضعف أبداً، ولا صاحب المنشور أشار إلى ذلك، وبناءً على استشهاده بهما؛ فقد قصّرا في نقد هذا الحديث!

وأمّا متن الحديثِ؛ فلم يزد صاحب المنشور على قوله: « وهكذا تحوّلت بعض المنكراتِ إلى عقائدَ، والمكذوبَ إلى مقدّس، لا بميزان التحقيق والتمحيص، بل تحت ضغط التسليم للروايةِ والآبائيّة».

فهو لم يخرّج الحديثَ، ولم يحكم على إسناده، ولم يبيّن لنا في متنه المنكرَ الذي تحوّل إلى عقائدَ، والمكذوبَ الذي تحوّل إلى مُقدّسٍ.

ومن المعلومِ لدى أهلِ العلمِ؛ أنّ الحديث َ إذا صحّ إسنادُه، وكان في متنه غرابةٌ؛ بحثنا له على تأويلٍ قريبٍ مقبولٍ، قبل رفضه وادّعاءِ نكارة متنه.

قال الإمام أبو سليمان الخطّابيّ في شرح صحيح البخاريّ (3: 2259): « هذه أمثال ضربها،  والمعنى -والله أعلم- توفيقُه للأعمال التي يباشرها «العبدُ» بهذه الأعضاءِ، وتيسيرُ المحبة له فيها، فيحفظ جوارحَه عليه، ويَعصمه عن مُواقعةِ ما يكره الله من إصغاءٍ إلى اللهو بسمعِه، ونَظرٍ إلى ما نهى عنه ببصره، وبطشٍ إلى مالا يحل له بيده، وسعيٌ في الباطل برجله.

وقد يكون معناه سرعةَ إجابةِ الدعاءِ والإنجاح في الطِلْبَةِ.

وذلك أنّ مساعي الإنسان؛ إنما تكون بهذه الجوارح الأربع.

وقوله: ما ترددت عن شيء أنا فاعله؛ ترددي عن نفس المؤمن، فإنه أيضاً مَثَلٌ، والتَردّد في صفة الله عز وجل؛ غير جائزٍ، والبداءُ عليه في الأمور؛ غير سائغ، وتأويله على وجهين:

أحدهما: أن العبد قد يشرف في أيام عمره على المهالك مراتٍ ذواتِ عَددٍ، من داء يصيبه، وآفة تنزل به، فيدعو الله فيشفيه منها ويدفع مكروهها عنه، فيكون ذلك من فعله كترَدُّد من يريد أمراً، ثم يبدو له في ذلك، ويتركه ويعرض عنه، ولا بد له من لقائه، إذا بلغ الكتاب أجله، فإنّه تعالى قد كتب الفناء على خلقه، واستأثر بالبقاء لنفسه، وهذا على معنى ما رُويَ أن الدُعاء يَردُّ البلاءَ، والله أعلم».

فعلى هذه المعاني يمكن أن يفسّر متن هذا الحديثِ، ويُمكن أن يكون خالدٌ قد وَهِم في بعضِ ألفاظ الحديثِ، لكنّ الأمر لا يحتاجُ إلى هذا التهويل!

الحديث الثالث: (أتيته هرولة) رواه البخاري ومسلم بطرق مختلفة!

هذا الحديثُ مَرويٌّ عن ثلاثةٍ من الصحابةِ رضي الله عنهم، هم أبو ذرٍّ وأبو هريرةَ وأنس بن مالك:

أمّا حديثِ أبي ذرٍّ؛ فأخرجه الإمام مسلم في كتاب الذكر والدعاء (2687) وابن ماجه (3821) وأحمد في مسنده (20353) من حديث المعرور بن سويدٍ عن أبي ذرّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ.

وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً).

وأمّا حديثُ أبي هريرة؛ فأخرجه البخاريّ في مواضع من صحيحه، فأخرجه من طريق الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعاً (7405، 7505) ومن هذه الطريق أخرجه مسلم في صحيحه (2675) والترمذيّ في جامعه (3603) وقال: حديث حسن صحيح.

وأخرجه البخاريّ من طريق يحيى بن سعيدٍ القطّان عن سليمان بن طرخان التيميّ، عن أنسٍ، عن أبي هريرة مرفوعاً، ومن هذه الطريق أخرجه مسلم في صحيحه (2675).

وأخرجه البخاريّ من طريق شعبةَ عن قتادةَ، عن أنس بن مالكٍ مرفوعاً  (7536).

فيكون البخاريّ قد حكى الخلافَ في رواية الحديثِ عن أنسٍ، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم، أو عن أنس، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم.

وليس هذا اضطراباً في روايةِ الحديثِ، كما حاول صاحب المنشورِ أن يُفهم، إنّما هو عَرضُ رواياتٍ متعددة للحديثِ تزيدُ من ثبوته.

فحديثُ أبي هريرة في إطار روايات البخاري وحده؛ مرويٌّ عن أنسٍ والأعرج وأبي صالحٍ عن أبي هريرة.

وليست رواية أنس عن أبي هريرة بمستنكرة؛ فقد روى أنسٌ عن أبي هريرة عدداً من الروايات عند البخاري (2055، 2207، 2295) وغيرها، وعند مسلم (2035، 2675، 2823).

أمّا متن الحديث؛ فليس فيه شيءٌ مستنكرٌ، لمن يفهم البلاغة العربية.

قال الإمام الترمذيّ في شرح هذا الحديث: «وَيُرْوَى عَنْ الْأَعْمَشِ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ: «مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْراً؛ تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعاً، يَعْنِي بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ).

وَهَكَذَا فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ قَالُوا: إِنَّمَا مَعْنَاهُ «يَقُولُ: إِذَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ الْعَبْدُ بِطَاعَتِي وَمَا أَمَرْتُ؛ أُسْرِعُ إِلَيْهِ بِمَغْفِرَتِي وَرَحْمَتِي» وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ (فَاذْكُرُونِي؛ أَذْكُرْكُمْ) قَالَ سَعيدٌ معناه:«اذْكُرُونِي بِطَاعَتِي أَذْكُرْكُمْ بِمَغْفِرَتِي».

وقال ابن بطّال: «وأمّا وصفُه تعالى بأنّه يَتقرّب إلى عبده، ووصفه بإتيانه هرولة، فإن التقرُّبَ والإتيانَ والمشيَ والهرولةَ مُحتملةٌ للحقيقةِ والمجاز، وحملُها على الحقيقة؛ يَقتضى قَطع المسافاتِ، وتَواتي الأجسام، وذلك لا يليق بالله تعالى، فاستحال حملها على الحقيقة، ووجب حملها على المجاز؛ لشهرة ذلك فى كلام العرب، فوجب أن يكون وصف العبد بالتقرب إليه شبراً وذراعاً وإتيانه ومشيه؛ معناه: التَقرُّب إليه بطاعته وأداء مفترضاته، ويَكون تقربه تَعالى من عبده؛ عبارةً عن إثابته على طاعته، وتقرّبه من رحمته، وقوله تعالى: (أتيتُه هرولةً) أي: أتاه ثوابي مُسرعاً.

قال الطبرى: وإنّما مثّلَ القليلَ من الطاعةِ بالشِبْرِ من الدنو منه والضِعْفَ من الكرامةِ والثَوابِ بالذراع، فجَعلَ ذلك دليلاً على مَبلغِ كَرامتِه لمن أدمن على طاعته».

فإذا فُهم الحديثُ على هذا النَحوِ؛ فأيُّ مخالفةٍ بينه وبين القرآن الكريم، وأيّ منكرٍ في دلالةِ ألفاظه المجازيّة؟

- الحديث الرابع: (لا ينبغي لعبدٍ أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى) رواه البخاريّ.

قال صاحب المنشور: «العجيب أنّ هذا الحديثَ صِيغ على أنّه من قول الله عزّ وجلَّ، فهل يصحّ أن ينسب هذا النصُّ إلى الله تعالى، أم إنّه من الإسرائيليات، افتروا به على ابن عبّاسٍ، ثمّ رفعوه ليكون من كلام النبوّة»؟

قال الفقير عداب: من قُصورِ صاحبِ المنشورِ وتسرّعه بالاتّهام قال: إنّ هذا المفترين «افتروا هذا الحديث على ابن عبّاسٍ، ثمّ رفعوه ليكون من كلام النبوّةِ» ولم يتنبّه إلى أنّ هذا الحديث مرويٌّ عن أربعةٍ من الصحابةِ: عبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عبّاس، وأبي هريرة، وعبدالله بن جعفر بن أبي طالب!

- أمّا حديث عبدالله بن مسعودٍ؛ فأخرجه البخاريّ في الكتاب نفسه (3412) وأحمد في مسنده (3520).

- وأمّا حديث ابن عبّاسٍ؛ فأخرجه البخاريّ في أحاديثِ الأنبياء (3396) ومسلم في الفضائل (2377).

- وأمّا حديثُ أبي هريرة؛ فأخرجه البخاريّ في الكتاب نفسه (3416) ومسلم في الفضائل (2273).

- وأمّا حديثُ عبدالله بن جعفرٍ؛ فأخرجه أبو داود في كتاب السنّة (4670) وأحمد في مسنده (1665).

وجميع هذه الأحاديثِ الأربعةِ؛ هي من قولِ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وليست من الأحاديثِ القدسيّة!

إنّما من مزيدِ أمانةِ البخاريّ؛ أشار إلى أنّ أحدَ مشايخِه نسبه إلى الله تعالى.

ففي كتاب التوحيد (7935) قال الإمام البخاريّ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ (ح).

وقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ قَالَ:

(لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى) وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ.

قال الفقير عداب: يَعجبُ الإنسانُ من صاحبِ المنشور لاختياره هذه الروايةَ الشاذّةَ التي أراد البخاريّ أن ينبّه عليها، دون بقيّة الرواياتِ الأصحّ أسانيد منها؟

فخليفة بن خيّاط يقول فيه الحافظ ابن حجر في التقريب: «صدوق ربما أخطأ».

ويقول عليُّ ابن المدينيّ: لو لم يحدّث شباب؛ لكان خيراً له، وقال تلميذه البخاريّ: مُقاربُ الحديث.

ومعلوم لدى أهلِ الحديث؛ أنّ تفرّد صاحب مصطلح مقارب الحديث بحديثٍ؛ يُعدّ مُنكراً، وخليفة بن خيّاطٍ تفرّد بنسبة هذا الحديث إلى الله تعالى، فتفرّده منكر!

فمن جهة الإسناد؛ لا يسعنا سوى الحكم بصحة هذا الحديث عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من قوله.

وأمّا من جهة المتن؛ فلم يذكر لنا صاحب المنشور نكارةَ هذا المتن، واستحالةِ صُدوره عن الله تعالى وهو القائل في القرآن الكريم:

(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) [البقرة].

هذا على افتراض أنّ الحديثَ قدسيٌّ من كلامِ الله تعالى، وقد بيّنت قبلَ قليلٍ أنّه حديثٌ شريفٌ، وليس بقدسي!

وأمّا عندما يكون حديثاً شريفاً؛ فلا يختلفُ العقلاءُ أنّ الإنسانَ إذا ذكرَ العظماءَ والكبراءَ؛ خَفضَ جناحَه تجاههم، ويونسُ بن متّى رسولٌ من رسل الله تعالى، صلوات الله تعالى عليهم أجمعين، فعندما ذكره رسول الله محمّد؛ أظهر عظمةَ يونسَ، ولم يرَ من اللائقِ أن يقول: (أنا سيّد ولدِ آدم ولا فخر) أخرجه مسلم (2278) لأنّ الأنبياء معظّمون، وإنّما قالها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أمامَ أصحابه، وليس فيهم نَبيٌّ، والله تعالى أعلم.

- الحديث الخامس: حديث (اعمل ما شئتَ؛ فقد غفرت لك) رواه مسلم.

قال الفقير عداب:

بإسنادي إلى الإمام مسلم في كتاب التوبة (2758) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ - قَالَ: (أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْباً، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْباً، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ أَيْ رَبِّ: اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ: اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ: اعْمَلْ مَا شِئْتَ؛ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ).

وأخرجه البخاريّ في التوحيد (7507) وأحمدُ في مسنده (7607) جميعهم من حديثِ إسحاق بن عبدالله، به نحوَه.

وإسحاق بن عبدالله: ثقةٌ حجّةٌ، كما يقول ابن حجر، ووثّقه أبو زرعة وأبو حاتم ومحمّد بن سعدٍ والنسائيّ!

وعبدالرحمن بن أبي عمرةَ: ثقة كما يقول ابن حجر، ووثقه محمد بن سعد، وقال الذهبيّ: ثقة مشهور، وترجمه ابن حبان في الثقات.

فلا يسعنا من جهة الإسنادِ، إلّا أن نحكم بصحة إسنادِ الحديث!

قال صاحب المنشور: «هل يعقل أن يُنسبَ إلى الله قولٌ بهذه الصيغةِ المطلقةِ (اعمل ما شئتَ؛ فقد غفرتُ لك) مكافأةً للعبد أنّه كان يُذنب ويستغفر كلَّ مرّة».

وأقول: بلى يُعقلُ ذلك، فقد قال الله تبارك وتعالى: (يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ: لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) [الزُمَر] فهل من فرقٍ بين الإطلاقين؟

بقي علينا معالجة قول صاحبِ المنشور «إنّ فكرة أنّ الله تعالى يتكلّم خارج القرآن الكريم؛ هي فكرة باطلة؛ لأنها تتعارض مع نصوص كتاب الله التي تقرّر أنّ القرآن وحده كلام الله عزّ وجلّ».

قال الفقير عداب: أين في نصوصِ القرآن الكريم «أنّ القرآن وحده كلام الله عزّ وجلّ» أليس التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم من كلام الله جلّ وعلا؟

كلامُ الله المعجزُ؛ هو القرآن الكريم وحده، أمّا تلك الكتبُ؛ فلم يرد أنّ ألفاظها معجزة، فيمكن أن يكون لله تعالى كلامٌ غيرَ معجزٍ مثلها، وأين المانع من ذلك، والله تعالى يقول: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي؛ لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي، وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) [الكهف].

(وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ،  إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) [لقمان]. 

يضافُ إلى ما تقدّم؛ أنّ مصطلح «الحديثُ القدسيُّ» شائعٌ في ثقافتنا الإسلامية، لا يخلو منه كتابٌ في علوم القرآن.

وقد قاربتُ الثمانين من عمري، ولم أقرأ أو أسمعْ أحداً ينكر وجودَ الأحاديثِ القدسيّة، قبل صاحب المنشور هذا، أصلحه الله تعالى. 

والله تعالى أعلم.

والحمد لله على كل حال.

الأربعاء، 13 أغسطس 2025

  مَسائلُ عَقَديّةٌ:

هَلْ أحمدُ ابن حَنبلٍ كافرٌ !؟

بسم الله الرحمنِ الرحيم

(الْحَمْدُ للهِ، وَسَلامٌ علَى عِبَادِهِ الذينَ اصْطفَى).

مررت موافقةً على صفحةِ كاتبٍ، ليس من أهلِ السنّة، فوجدته يجزمُ بكفر الإمامِ أحمدَ ابن حنبل رحمه الله تعالى.

وكان ممّا قال: «نقول وبالله التوفيق، شهادةً للحق لا نخشى فيها لومة لائم:

إن أحمد ابن حنبل عندنا كافر بالله العظيم، ضالٌ مُضل، ورأس من رؤوس أهل التجسيم والتشبيه، وذلك لأسباب قاطعة لا تقبل الجدل:

أولاً: قوله الصريح بالحدِّ والجسمية، وهو أصل الكفر.

ثانيًا: إثباته الجهةَ والمكانَ لله، وهو عين الشرك.

ثالثًا: رفضه للتأويل العقليّ، واتّباعه للمتشابهات.

رابعًا: فتنة «خلق القرآن» كشفت عن تجسيمه وكفره

إن فتنة خلق القرآن لم تكن مجرد خلاف حول صفة الكلام، بل كشفت عن أصل عقيدته.

لقد رفض القول بأن القرآن (كلام الله) مخلوق؛ لأنه كان يعتقد أن الكلام صفة قائمة بذات اللهِ قيامَ الاعراض بالجسم، وأن هذه الذات تتكلم بحرف وصوت من داخل ذلك الجسم وأنّ هذه أعراض داخله.

الخاتمة: لا قيمة لعملٍ مع فساد الاعتقاد.

لا يَغُرنّ أحداً ما يُروى عن زهد أحمد ابن حنبل أو ورعه أو صبره في المحنة.

فما قيمة كل هذا، إذا كان الأصل ـ وهو توحيدُ الله ـ مهدمًا؟

إن سلامة الاعتقادِ مُقَدَّمةٌ على كل عمل، ومن فسدت عقيدته فعبد إلهًا مجسمًا محدودًا، فقد حبط عمله، وهو في الآخرة من الخاسرين.

لهذا، نحكم بكفره بناءً على أقواله الصريحة، التي تهدم أصل الإسلام، ونعتبره إمامًا للضلالةِ، فتح على الأمة باب شرٍ عظيم، هو باب التجسيم والتشبيه» انتهى ما اقتطعته من منشوره.

أقولُ وبالله التوفيق:

يقول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم:

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) [الأعراف] وانظر سُورَ يونسَ والرعد وطه والفرقان والسجدة والحديد.

هذه سبعةُ مواضعَ من القرآن الكريم وردت فيها جملة (ثمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) أو (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى).

وقد وصف الله تعالى هذا العرشَ بأنّه عظيم (اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) [النمل].

ووصف هذا العرشَ بأنّه محمولٌ (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) [الحاقّة].

وظاهرٌ أنّ هذا العرشَ جُرمٌ في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) [غافر].

هذه الآياتُ الكريماتُ يستمسكُ بها الإمامُ أحمد وسائر المحدّثين في القرنين الثاني والثاني، ويرون الذهابَ إلى التأويل تعطيلٌ لدلالات هذه الآياتِ.

أنت قل: إنّ العرش كنايةٌ عن الملك، أو قل: إنّ العرش كنايةٌ عن العلم، أو قل ما شئت، بيد أنّك لا تستطيعُ أن تلغيَ أنّ الله تعالى أنزلَ هذا القرآنَ للعالمِ والشاعرِ والمرأةِ القارّةِ في بيتها والشيخ الأميّ الذي لا يقرأ ولا يكتبُ، وأنت تقول: «التقليدُ في أصول الاعتقاد لا ينجي صاحبه أمام الله» ونسبةُ (99%) من الأمّةِ لا يحسنون الكنايةَ والمجازَ والبلاغةَ والنحتَ والاشتقاق، وأنت نفسَك تتعصّب بتقليدٍ لأشياخكَ الذين يؤوّلون.

فلو ذهب ذاهبٌ إلى أنّ العرش محدودٌ وشبه دائريّ وحوله ملائكة والله على هذا العرش استوى، من غير كيف!

لا تستطيع أن تكفّره ولا تفسّقه ولا تضلّله ولا تبدّعة، وإلّا فأنت صلفٌ جلفٌ وقح!

أنا لا أذهب إلى هذا كلّه؛ لأنني شاعرٌ، أفهم البلاغة جيّداً، وأعرف كيف أتلاعب بدلالات الألفاظِ، على نحو المعنى الذي يستقرّ في عقلي.

لكنني أعذرُ الآخرين، الذين لا يعرفون علومَ البلاغة، والذين يتعبّدون الله تعالى بظاهرِ كلمات القرآن.

ثانياً: عندما يقول الله تعالى:

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) [الملك].

(يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) [النحل].

(وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) [الحاقّة].    

فإذا كان الله تعالى يقول: ((يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) ويقول: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ) فمن حقّ كلّ مسلمٍ أن يقول: ربنا فوقنا، وليس بيننا ولا تحتنا تعالى الله عن ذلك، أمّا كيف تكون فوقيّته؛ فالله تعالى أعلم.

لا تستطيع أن تكفّره ولا تفسّقه ولا تضلّله ولا تبدّعة، وإلّا فأنت صلفٌ جلفٌ وقح!

أمّا مسألةُ «خلق القرآن» فهي مسألةٌ جدليّةٌ ليس لها أدنى قيمة علميّة في نظري!

الله تعالى قال: (كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ، ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوه (75) [البقرة].

(يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ (15) [الفتح].

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ، حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهَ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) [التوبة].

ظاهر هذه الآياتُ الكريمةُ أنّ «القرآن كلامُ الله» فقل أنت: «القرآن كلامُ الله» واقتصر على هذا، ولا تقل: مخلوق ولا غير مخلوق، وأَنْهِ الجدلَ والمماحكة.

لكن حتى هذه الآيات التي وصفت القرآن الكريم بأنّه (كَلَامُ اللهِ) وصفته أيضاً بأنّه مسموع، وأنّ الكافرين يريدون أن يبدّلوه.

فكيف يكون قديماً غير مخلوق؟

يجب أن نفرّق بين التلاوةِ والمتلوّ، ويجب أن نفرّق بين قولنا: القرآن كلام الله، وقولنا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة!

مَن قال لك: إنّ سياقَ الآيات يدلّ على هذا؟

فالقائل بخلق القرآن، والقائل بأنه غير مخلوق، كلٌّ منهما يلزم الآخر بإلزاماتٍ لينتصر لرأيه.

ما دام الجميعُ يقولون: (القرآنُ كلامُ الله) وأنّ الأمّة ملزمةٌ بما ورد فيه من عقائدَ وأحكامٍ وعبادة ومعاملاتٍ؛ فلا وجه لتكفير بعضنا بعضاً البتة, ولا لتفسيق بعضنا بعضاً.

ولو اعتمد جميع المسلمين هذه الجملة (القرآنُ كلامُ الله) لما أراد الله تعالى منهم شيئاً وراءها.

أمّا مسألة الجسميّة؛ فالله تعالى قال:

(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) [الرحمن] في تسعِ آياتٍ أُخرَ، أضاف الله تعالى الوجه إلى نفسه، فأنتَ قل: إنّ معنى وجه الله؛ الوجهة التي يكون منها ثوابُه!

أو قل: إنّ وجه الله؛ ذاته العليّة، أو قل: وجه الله؛ ثوابه لعباده!

قل: ما تريدُ من التأويلِ، لكنّك لا تستطيع أن تلزم المطالبَ أن يجتهد في فهم القرآن الكريم بذاته؛ أن يفهم فَهمك ويذهب مذهبك! 

 والله تعالى قال:

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) [البقرة].

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ (158) [الأنعام].

(وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ (23) [الفجر]

فالآية الأولى يأتي الله في ظلل من الغمام.

والآية الثانية تأتي الملائكة ويأتي الربّ تعالى، فلهم إتيّ وللربّ إتيٌّ منفصل.

وفي الآية الثالثة: الملائكة صفوف متّسقة في هيئة الاستعداد، فيجيء الربّ تعالى.

قل أنت: إنّ الذهاب والمجيء والصعود والنزول والإتيان من صفات الأجسام والأجرام، وهذا لا يليق بالله تعالى، وفسّر ذلك بالتجلّي، أو فسّره بالحضور الرمزي كقولك: جاءت الريح بالمطر، أو جاء الليل بالسكينة.

لكنّ أبي وأمي وجدي وجدتي؛ لم يكونوا يفهمون فلسفتك هذه، وهم مطالبون بتلاوة القرآن وبتدبّره.

وكلّ واحدٍ منهم يتدبّره، من دون أن يعرف المذهب الأشعريّ ولا الماتريديّ ولا المذهب الحنبلي، ومن دون أن يعرفوا الخلاف بين هذه المذاهب.

والله تبارك وتعالى قال:

(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء (64) [المائدة].

(قَالَ يَاإِبْلِيسُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) [سورة ص].

(وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) [الزمر].

هذا القرآن الكريم يقول: (يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) ويقول: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) ويقول: (الْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ).

افهم أنت ما شئتَ، ودَعْ غيركَ يفهم ما يطمئنّ إليه قلبه، ولا تجعل من نفسكَ، ولا يجعل من نفسه «الشارح لكلام الله».

أمّا قوله:لا قيمة لعملٍ مع فساد الاعتقاد؛ فجوابُه من وجهين:

الأوّل: أنّ دعوى فسادِ اعتقاده؛ اجتهادٌ منك، واجتهادك لا يلزمني البتّة!

وأمّا الثاني؛ فالقرآن الكريم أكّد على العملِ، ولم يؤكّد على الفسلفات هذه.

قال الله تعالى:

(وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) [الأعراف].

(يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) [النحل].

(إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) [النساء].

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) [الزلزلة].

(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) [الأنبياء].

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) [المؤمنون].

والإيمان منصوص عليه في القرآن الكريم:

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) [النساء].

فمَن آمن بقلبه وصدّق بلسانه بما ورد في ألفاظِ هذه الآية، دونَ الدخول في المذاهب الكلامية؛ فهو مؤمن، غصباً عن جميع أرباب علم الكلام.

هذا هو جوابي على هذا الجلفَ الغليظ الجاف، الذي كفّر الإمامَ أحمد ابن حنبلٍ، رضي الله عنه وأرضاه، أو غيره من علماء هذه الأمة، من أهل السنة بمذاهبهم، والشيعة الزيدية والإمامية والإباضية باجتهاداتهم.

جميعُ علماءِ الأمّة مؤمنون، يسعون إلى خدمة دين الله تعالى على قدر فهومهم وسعة عقولهم!

ففي الصحابة رضوان الله عليه وآله وسلّم عليُّ بن أبي طالبٍ البليغ الفصيح الخطيب الشاعر الفقيه المفسّر، عليه السلام!

وفيهم عريضُ القفا الذي كان يأتي بحبلين، يضعهما قُربَ وسادته فإذا ميّز بين أبيضهما وأسودهما؛ أمسك عن الطعام!

هل قال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّ عريض القفا مطالَبٌ بأن يكون في فهمه للقرآن الكريم مثل الإمام عليّ، وهل قال: إنّ عملَه محبط ؟

ختاماً: جميع مَن آمن بأركان الإيمان التي ذكرتها مراراً، وآمن بأركان الإسلام وطبّقها؛ فهو مؤمن نرجو له الجنّة، وإنْ لم يعرف مذاهبَ الإسلاميين بتاتاً.

والله تعالى أعلم.

والحمدُ لله على كلّ حال.

الثلاثاء، 12 أغسطس 2025

       مَسائِلُ حَديثيّةٌ:

هَلْ يُعتدُّ بمسندِ أحمدَ المطبوع !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ للهِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى).

أرسلَ إليّ أحدُ الأصدقاء منشوراً مطوّلاً، قال فيه: «إنّ مسندي أحمد والحميديّ وصحيح ابن حبّان» لا شكَّ في صحّة نسبةِ أصولها إلى مؤلّفيها، ولا في احتوائها ما يصحّ عن النبيّ (صلعم هكذا) صلّى الله عليه وآله وسلّم [نملأ الدنيا كلاماً فارغاً، فإذا جئنا إلى الصلاة على الرسول؛ اختصرنا تخفيفاً على القارئ، فقلنا (صلعم)].

تابع يقول: «لكنّ الشكّ إنما هو في سلامة المطبوع منها من التحريف بعد وفاة مؤلفيها، والشكّ بالتالي في كلّ ما فيها؛ لِتطرّق احتمال التحريف إليه، إذْ يبطل الاستدلالُ كلّما تطرّق الاحتمال.

إلّا أن يكون خبراً «والصواب خبرٌ» تشهد له النصوص القرآنية، أو نصوص نبويّة سلمت ممّا شاب مرويّاتِ هذه الكتب بعد وفاة مؤلفيها.

أمّا المسند المطبوع منسوباً إلى أحمد؛ فإنّ كلّ أصوله الخطيّة؛ مدارها على إسنادٍ واحدٍ فقط إلى أحمد، هو:

الحسن بن علي بن محمدّ التميميّ الواعظ، المعروف بابن المُذهِب.

يرويه عن أبي بكرٍ أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعيّ، عن عبدالله بن أحمد، عن أبيه».

تابع يقول: «سواء في ذلك طبعة الحلبيّ، أو طبعة المكتب الإسلاميّ، أو طبعة أحمد شاكر الناقصة، أو طبعة مؤسسة الرسالة.

وهذا الإسنادُ لا يصحّ، لما يكتنف ابنَ المذهب والقطيعي من رَيبٍ» انتهى.

ثم راح يترجم لابن المذهب، والقطيعيّ، ونقل تضعيفهما عن عددٍ من الحفّاظ.

ثمّ قال بعد الانتهاءِ من ترجمتهما ما نصّه: «قلت: وما يُدرينا أنّ المسندَ لم يكن مع ما غرق، فاستحدث القطيعيّ نسخةً من كتابٍ ليس فيه سماعُه» انتهى مرادي من كلامه.

أقول وبالله التوفيق: سأعتمدُ في هذه الدراسة العلمية نسخة ترقيم العالَميّة من مسند أحمد ابن حنبلٍ، التي يبلغ عدد أحاديث مسندِ أحمد، حسب ترقيمها (26363) حديثاً.

مع معرفتي بترقيم الطبعات الأخرى، وطبعة مؤسسة الرسالة بتحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط، التي بلغ عدد الأحاديث فيها (27647) حديثاً.

أحبّ أنْ أنبّه إلى بعضِ الأمورِ الضروريّة، التي تخصَّ أحمدَ ابن حنبلٍ ومسنده!

أوّلاً: أنا أعتقدُ أنّ أحمدَ ابن حنبلٍ من الصالحين، مع يقيني أنّه رأس المجسّمة، ورأس فتنة خلق القرآن هو وابنُ أبي دؤاد!

كيف هذا؟ لأنني أعذر بالجهل، وأعذر بالاجتهاد!

ثانياً: أنا لست من المعجبين بشخصيّة أحمدَ ابن حنبلٍ، ولا بمسندِه، وترتيبُ منهجه، وكثرة التكرار الذي فيه؛ متعب ومزعج، وما أكثر الأحاديثَ التي يكرّرها سنداً ومتناً، من دون أيّ فائدة تذكر، والسبب في ذلك؛ أنّ الرجلَ ليس لا ييحسن التأليفَ فحسب، بل إنّه كان ينهى عن كتابة تلامذته عنه من الأساس!

ثالثاً: مِن الغُبنِ الفاحشِ القميء؛ أنْ نَشطُبَ (26363) حديثاً، بمثلِ هذه الكلماتِ الساذجة الصادرةِ عن إنسانٍ يزعم التخصّص في علم الحديثِ، ولم أقرأ له منشوراً يقصد فيه غير التشكيك في السنّة، ورفض الحديثِ [أقول: لم أقرأ، ولم أقل: لم يكتب فانتبه].

ثالثاً: ممّا أخطأَ فيه سلفنا وخلفنا؛ الهوسُ بعلوّ الإسنادِ، فكتابٌ مثل صحيح الإمام البخاريّ؛ لا يصلنا مسنداً، إلّا من طريقِ راوٍ واحدٍ، لا هو بمحدّث ولا ناقدٍ، إنّما أطال الله عمرَه، فقصده الرواة من كلّ حدبٍ وصوب، وهكذا أكثرُ كتبنا الجليلة، وللأسف!

والأمر ذاته ينطبق على مسند أحمد ابن حنبلٍ، إذْ لا يُعرَف له إسنادٌ، سوى الإسنادِ الذي ذكره صاحب البحثِ الذي شكّك بمسند أحمدَ من أوّله إلى آخره.

مع أنّ الرواةَ عن أحمد ابن حنبلٍ يتجاوزون مائةَ راوٍ [انظر بعضَ الرواة عنه في تهذيب الكمال (1: 437 - 470)].

والرواة عن عبدالله بن أحمد كثيرون جدّاً أيضاً:

منهم أحمد بن شعيب النسائي، كما في السنن الكبرى (3: 143) و(4: 174).

ومنهم وأبو بشرٍ محمد بن أحمد الدَولابيّ، كما الأسماء والكنى له (1: 17، 212، ، 238).

ومنهم أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفرايني، كما في مستخرجه على صحيح مسلم (1: 59، 175، 264، 441)...

ومنهم أحمد بن محمّد بن خزيمة، كما في مشكل الآثار للطحاوي (12: 205).

ومنهم أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري، كما في كتابه «المجالسة وجواهر العلم» رقم (9، 253، 428، 942، 1151)...

ومنهم أبو بكر الخلال في كتاب السنّة (1018، 1019).   

ومنهم إسحاق بن أحمد الكاذي كما في كتاب الإبانة لابن بطة (1202).

ومنهم أحمد بن محمد بن هارون، كما في مقدمة كتاب الردّ على الجهمية لعبدالله بن أحمد.

ومنهم أبو بكر محمد بن أحمد بن الجهم، كما في مصنّف ابن أبي شيبة (7: 474).

ولو رحتُ أحصي وأتتبّع؛ لزدت على مائة راوٍ أخذوا العلم عن عبدالله بن أحمد بن أحمد.

لكنْ لماذا لم يروِ المسندَ عن عبدالله بن أحمد سوى القطيعي المتّهم بالوضع؟

لأنّ القطيعيّ ولد سنة (274) وتوفي سنة (368 هـ) وله من العمر خمس وتسعون سنة، كما في النبلاء للذهبيّ (16: 213).

رابعاً: وقع حديثُ عبدالله بن أحمد في كتب المتأخرين في الوفاة عنه، من مثل النسائيّ والطحاوي والطبراني وابن عديّ وكثيرين غيرهم.

وكلّ حديثٍ ينقل هؤلاء عن عبدالله قوله: قال أبي: تجده في مسندِ الإمام أحمد، أو في غيره من كتبه، وهذه أدلّة تثبت أنّ كثيراً من أحاديث مسند أحمد؛ حملها الثقات عن طريق عبدالله، فكيف نعدم الثقة بمسند أحمدَ كلّه للاحتمال؟

رابعاً: أكرمنا الله بموسوعة بديعة دقيقة بدرجة تزيد على (95%) حسب عملي عليها.

هي موسوعة (صخر) التي يبدو أنها ستنقرض من الأسواق!

من برامج هذه الموسوعة؛ التخريج، وهذا التخريج يتناول أحاديث كلّ كتابٍ، فيرصد عدد الأحاديث حسب الترقيم العام.

ثم يرصد الأحاديث من دون تكرار.

ثمّ يرصد الأحاديث برواية الثقات.

ثم يرصد المرفوعات، فالموقوفات، فالمقطوعات.

ثم يرصد الأحاديث التي اتفق عليها أصحاب الكتب الستّة.

ثمّ يرصد الأحاديث التي اتّفق فيها أحمد مثلاً مع الستّة أو الخمسة، أو البخاريّ أو مسلم...إلخ.

ثم يرصد الأحاديث التي انفرد كلّ كتابٍ عن التسعة.

وسنتاول سريعاً هذه الفوائد لأنها ستخدمنا في العثور على أحاديثِ مسند أحمد، في غير المسند، وأنّ روايتها من طريقِ القطيعيّ عن عبدالله عن أحمد؛ لا تقودنا إلى طَرحِ كتاب أحمد ابن حنبلٍ، وفقدان الثقة به.

ذكرنا فيما تقدّم أنّ عدد أحاديثِ مسند أحمد حسب موسوعة صخر المسمّاة ترقيم العالمية (26363) حديثاً مع التكرار الكثير!

وعدد أحاديث مسند أحمد من دون تكرار (9339) حديثاً، وقدّمت أنّ كثيراً من هذا التكرار لا فائدةَ منه؛ لأنّه تكرّر بالسند والمتن نفسه.

فنحن إذا أردنا أن نجمع أحاديث مسند أحمد، من الكتبِ المتقدمة عليه والمتأخّرة عنه؛ فإننا ننظر إلى الأحاديثِ غيرالمكررة (9339).

أرجو أنْ لا تملَّ أخي طالبَ العلم؛ لتتعلّم كيف تقيم الحجة على شبهات الجاهلين والمغرضين.

أصحاب الكتب التسعة الذين خُدمتْ أحاديثهم في موسوعة «صخر» هم:

مالك بن أنس في كتابه الموطّأ (179 هـ) ورمز كتابه «ط».

أحمد ابن حنبل (241 هـ) ورمز كتابه (حم)

الدارمي عبدالله بن عبدالرحمن (255 هـ) ورمز كتابه «مي».

البخاري محمد بن إسماعيل (256 هـ) ورمز كتابه (خ).

مسلم بن الحجاج (261 هـ) ورمز كتابه (م)

ابن ماجهْ محمد بن يزيد الرَبعي القزويني (273 هـ) ورمز كتابه «ق».

أبو داود سليمان بن الأشعث (275 هـ) ورمز كتابه (د).

الترمذيّ محمد بن عيسى بن سَورةَ (279 هـ) ومرز كتابه (ت).

النسائيّ أحمد بن شعيب بن علي (303 هـ) ورمز كتابه المجتبى (س).

هؤلاء الأئمّة التسعة؛ اتّفقوا على تخريج (535) حديثاً، جميعها موجودة في مسند الإمام أحمد، أوّلها (15836) وقد كرره أحمد في كتابه (4) مرات أُخر(15843، 15857، 15864، 15876).

والإمام أحمد وافق الأئمة الستّة على تخريج (1071) حديثاً، أوّلها (12258) وقد كرّره أحمد في مسنده مرتين (12002، 12541).

والإمام أحمد وافق الصحيحين على تخريج (3619) حديثاً، أوّلها عند أحمد (17492) وكرره أحمد في مسنده ثلاث مرّاتٍ أخر (17530، 19304، 19358)   

والإمام أحمد خرّج من أحاديث مالك بن أنس (623) حديثاً مسندة، وأحاديث مالك المتّصلة كلها لا تتجاوز (700) حديثٍ، أوّلها عند أحمد (21221) ولم يكرره أحمد في مسنده.

وعدد أحاديث صحيح البخاريّ (7564) حديثاً، خرجّ الإمام أحمد في مسنده منها (4789) حديثاً.

وعدد أحاديث صحيح مسلم حسب ترقيم العالمية صخر (5362) خرّج أحمد منها (4789) وهذا عجيب!

هذه الألوف من الأحاديث التي انتقاها هؤلاء الأئمّة من مسند أحمد؛ جميعها محفوظة في كتبهم، فلو ضاع مسند أحمد أو غرق كما افترض صاحب المنشور مقلّداً غيره؛ لاستطعنا أن نجمع أكثر مسند أحمد منها.

انتبه أخي القارئ: ههنا يأتي الإشكال:

انفرد أحمد عن بقية التسعة بتخريج (4789) حديثاً، لم يخرّجها من التسعة أحدٌ غيره، أوائلها (4، 7، 15، 18، 19، 20) وأواخرها (26333، 26338، 26340، 26349، 16362).

هذه الأحاديثُ التي انفرد بها أحمد من جملة أحاديث كتابه المكررة (26363) حديثاً وليس لدي إحصائيّة لها كم تبقى من غير تكرار.

ههنا يمكن للمشككين أنْ يتفلسفوا، بيد أنّ الجواب يأتي سريعاً جدّاً:

لقد خرّج الحافظ ابن حجر أفرد هذه الأحاديث في كتابين:

الأوّل: كتاب إطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبليّ، فقد عزا أحاديث مسند أحمد جميعها إلى مخرّجيها من أصحاب المصنفات الحديثيّة.

والثاني: إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة.

ففي هذين الكتابين تجد الأحاديثَ الكثيرة جدّاً، التي انفرد بها أحمد عن بقية التسعة موجودةً في الكتب المتأخّرة، وسأضرب لك مثالاً واحداً من إتحاف المهرة؛ لأنني تعبت.

في (1: 179) ما نصّه: (حم عم حب) هذا الحديثُ من زوائد أحمد على الكتب الثمانية في موسوعة صخر، أشار ابن حجر إلى أنّه مرويّ بإسنادِ عبدالله بن أحمد عن أبيه، وبإسناد عبدالله بن أحمد عن غير أبيه أيضاً، وهو في صحيح ابن حبّان (737).   

تعبتُ كثيراً جدّاً، فقد أُجريت لي عمليّة في فقرات ظهري، ولم أعد أحتمل شيئاً، لا بل لم يعدْ عقلي يعمل.

وفي هذا القدر كفايةٌ لمن كان لديه مسحةٌ من عقل، ونَزْرٌ من العلم، وخوفٌ من الله تعالى.

واللهُ تعالى أعلم.

والحمد لله على كلّ حال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملحوظة مهمة: غداً أراجع المنشور، فليتريّث الذي يفرحون إذا أخطأ أمثالي، في كتابة رقم، أو في خطأ طباعي، ونحو ذلك.