إلى سوريا من جديد:
الطليعة المقاتلة
بعد الشهيد مروان.
بسم الله الرحمن الرحيم
(الْحَمْدُ للهِ،
وَسَلامٌ عَلَى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطفَى).
أمّا بعد:
تقدّم في الباب الثالث من هذا الكتاب القولُ بأنّ عنوان «الطليعة المقاتلة» علماً
على شباب الشهيد مروان؛ لم يكن معروفاً، حتى استشهاده رحمه الله تعالى.
نعم!
كان يكرر أمامنا كثيراً قولَه: «لا بدّ من طليعةٍ مؤمنة، تقود الأمة، كما قادتها
كتائب المهاجرين والأنصار!».
وقوله:
«لا بدّ من طليعة مقاتلة، تثبت وجودها بجدارة، فيتبعها الناس؛ لأنّ الناس يتبعون
القويّ عادةً!».
وقوله:
«لا تتوقّعوا أن يتبعكم الناس، أو ينصرونكم، أو يتستّرون عليكم، إذا لم يجدوا منكم
قوّةً وإحكاماً في تنفيذ مهماتكم».
وقوله:
«كل مذهبٍ، أو فكرة، أو دين؛ لا بد أن تكون له طليعة تؤمن به إيماناً حقيقياً ثم تُكوّن
هذه الطليعة دعاةً إلى تلك الفكرة، حتى تنتشر وتسود».
وقد
ربّى الشهيد مروان عدداً من رجال هذه الطليعة المؤمنة، فمنهم مَن كان داعيةً إلى
الفكر الجهاديّ، ومنهم مَن كان مدرّباً على استعمال الأسلحة الفردية ومنهم من كان
يقف بجانب الشباب بالمال والمأوى، ومنهم من شكّل خلايا في البلاد والقرى السورية،
عقب استشهاد مروان.
لكنّ
أركان العمل العسكريّ، بعد استشهاد مروان رحمه الله تعالى؛ الإخوة الشهداء الآتية
أسماؤهم:
في
مدينة حماة: الشهداء: عبدالستارالزعيم، وبسّام أرناؤوط، وهشام الجنباز، وفيصل
غنامة، وأمين الأصفر، وبدر الذكرى.
وفي
مدينة دمشق: الشهيد أيمن شربجي ومجموعته.
وفي
حلب: الشهيد حسني عابو، والشهيد عدنان عقلة ومجموعتهما.
وهؤلاء
كانوا أركان العمل العسكري في سوريا، ومعهم مجموعاتٌ مقاتلة في كلّ مدينة من مدن
سوريا، لا أعرف عنهم كثيراً.
ويبدو
لي أن اسم «الطليعة المقاتلة» قد اختاره هؤلاء؛ لما كانوا يسمعون من الشهيد جملةَ «الطليعة
المقاتلة» و«الطليعة المؤمنة».
وبعد
اعتقال الشهيد مروان في دمشق؛ صارت جميعُ بيوت الحمويين محلّ أنظار أجهزة الأمن،
وكنت أنا مطلوباً بشدّة، كما كنت أنام كلّ ليلةٍ في بيت أحد الإخوة غير المعروفين
في دمشق.
كان
ذلك ليلةَ الثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة.
كانت
قدمي التي أُصيبت قرب منْزل الشهيد مروان تؤلمني، وتُعيق حركتي، وكنت أرى في وجوه
بعضِ الشباب كراهيةَ أن أبيت عندهم!
فأدّيت
صلاةَ الجمعة في «جامع زيد بن ثابت» وإذا بأحد تلامذتي الحمويين واسمه «ميّاد
برزنجي» فقلت له: إني أريد السفر إلى حماة، فهل تسافر معي؟
قال:
الله أكبر! كيف تسافرُ إلى حماة، والدنيا قائمة وقاعدة لاعتقالك؟
قلت:
أحياناً تكون الشجاعة الجنونية مفيدةً!
الشباب
في حماة الآن؛ لا يعرفون كيف يتصرفون، أفنتركهم حيارى، أم نتركهم يتصرفون تصرفاتٍ
غير محسوبةٍ، فيقودوا أنفسهم إلى القتل الرخيص!؟
قال:
أسافر معك، وروحي ليست أغلى من روحك!
طلبتُ
منه أن يحضر معه شنطة سفر، وأن يضع فيها سكيناً كبيراً جديداً للاحتياط، واتّفقنا
على أن نصلي العشاءَ في مسجد زيد بن ثابت، وننطلق!
صلينا
العشاء في مسجد زيد، ثم ذهبنا إلى مطعمٍ قريبٍ في منطقة المسجد فأكلنا، ثم ركبنا
سيارةَ أجرة إلى مجمع سفريّات المدن السورية.
قلت
لصاحبي في رحلة السفر: أنت لا تتكلم بشيءٍ أبداً!
واستقبلنا
واحدٌ من رجال الأمن، وقال: الشباب لوين؟
قلت
له: «لحلب يوب»!
فقال:
تفضلوا!
نزلنا
من السيارة، وأكّدت على صاحبي ألا يتنفس بالحموي!
وصلنا
إلى السيارة التي ستسافر إلى حلب، فكان ينقصها ثلاثةُ ركّاب، فقلت للسائق: أنا
تعبان، وأشرت إلى قدمي الملفوفة.
أحتاج
إلى الراحة، وسفرنا طويل، فنحن نأخذ الكرسيّ الخلفيّ فمدّ يده فأعطيته أجور ثلاثة
ركّاب، وفي غضون دقيقتين تحرّك باتّجاه باب المجمّع الثاني.
سأله
أحد رجال الأمن: «لوين الشباب؟» فقال له: لحلب يوب!
انطلقت
السيارة، وإلى جانب السائق رجلان، فكلّمت صاحبي ليسمع الجميع إنني تعبان جدّاً،
وقدمي تؤلمني، وسأحاول النوم!
سألني
السائق: خير سلامتكم، ما لرجلك، أنت ماذا تعمل؟
قلت
له بهدوءٍ، وعلى البديهة: «والله يا خاي كنت قبل الضربة أشتغل نجار باطون، لكني
وقعت على الحصيرة، ودخل السيخ في رجلي، ويمكن إن صحّيت؛ ما حشتغل بها الشغلة
الوسخة بعد»!
كنت
لا أستبعد أن يكون السائق من المخابرات، أو المخبرين، فلما سألني: «أنتم من أين في
حلب؟».
قلت
له: «من عزاز أخوي، بارك الله فيك!».
قال:
معناها ستسافر في هذا الليل إلى عزاز؟
قلت
له: إن شاء الله أبيت عند أحد أقاربي في حلب، لعلي أعرض رجلي على طبيب ماهر، وغداً
أسافر إلى عزاز!
تكوّن
عند السائق فكرةُ أنني عاملٌ فلاح يسير الحال، تركت أهلي في «عزاز» بحثاً لهم عن
رزق!
بعد
أن انطلق السائق؛ أشرت إلى «ميّاد» أن اقترب مني، فقرّب رأسه مني، فقلت له: إذا
سألك الأمن، فأعطه بطاقتك، فأنت لا شيء عليك، لكن إذا سألك إلى أين ذاهب؛ فقل له:
إلى حلب!
فإذا
قال لك: هويتك حموية؟
قل
له: كان والدي يعمل موظفاً في حماة، فولدت في حماة، وعدنا الآن إلى حلب.
ورتّبت
مع «ميّاد» مكان سكنهم، على عنوان أحفظه جيّداً هو عنوان زميلي الشيخ سحبان طرّاب
الرفاعي، رحمه الله تعالى.
أوقفتنا
ثلاثُ دورياتٍ ما بين دمشق وحماة، هي بالتأكيد تبحث عني؛ لأنهم بالسلاح الكامل.
فكانوا
يسألون السائق: من معك، ثمّ ينظرون من النوافذ!
كان
السائق يبرز لهم هويةً معه، فيقولون له: امشِ!
فلما
سألوه عني في المرة الأولى: من هذا النائم؟
قال
لهم: شاب مسكين من «عزاز» يشتغل نجار باطون، وقع على حصيرة البناية فدخل في رجله
سيخ حديد، فيريد أن يذهب إلى أهله يرتاح عندهم!
أخذ
حبّتين، ونام.
وهكذا
في المرّتين الأخريين.
عندما
وصلنا إلى أوّل شارع العلمين؛ ناديته: وَقّف يا أخي أريد أن أتقيّأ!
وكنت
على يمين السيارة، فوقف الرجل، ونزلت، ثمّ نزل «ميّاد» ومعه «شنطته» وقال للسائق:
الأخ حمّاد يريد أن يزور عمّته هنا في حماة، وأنا مضطر أن أصحبه لأنه مريض، الله
معكم.
التفت
السائق إليّ، وأنا أحاول أن أتقيّأ، فصدّق كلامي، ثم صدق كلام «ميّاد» أو لم
يصدّق، لا أدري، لكننا تأكّدنا أنه «عوايني» وتأكّد هو أننا ضحكنا عليه!
نزلنا
عند كلية «الطبّ البيطريّ» وقلت لميّاد: انطلق إلى بيت أهلك، فليس عليك شيءٌ، جزاك
الله خيراً، أما أنا؛ فسأنتظر هنا؛ لأرصد «الحارة» قبلَ أن أدخل!
وفيما
أنا أكلمه؛ خرجت من الحيّ ناقلةُ جنودٍ واحدةٌ، تبعتها مصفّحة واحدة أيضاً!
فجلسنا
في الأرض، ريثما انسحبت الآليتان، ثم افترقنا على أمل أن أتّصل بصاحبي، إذا لزم
الأمر، لكنّ عليه ألا يخبر أحداً بقصتنا، وقلت له: شاهدتَ بعينك، فانتبه!
ذهبتُ
إلى بيت والدي، فرأيت على باب منْزل الشيخ محمد الحامد عدداً كبيراً من الجنود،
ولم أر سوى سيارة واحدة؛ لأن البقية ربما كُنّ في ساتر.
رجعتُ
مباشرةً، وقرعت باب الرجل الفاضل الشجاع سليمان الجندليّ، وهم أخوالنا آل الحمش،
فسمعَتْ والدتُه قرعَ الباب، فقالت بصوتٍ عالٍ «من» قلت: يا حاجة لا ترفعي صوتك،
أنا عداب!
فنادت
أولادها بأعلى صوتها: سليمان، محمود: عداب بالبابِ، قوموا بسرعة، عداب ما مات!
قبلَ
أن يفتح سليمان الباب؛ كان أبو كسار سويد وأولاده أسرعَ، فتحوا أبواب بيوتهم
بسرعةٍ، واعتنقوني، ودموعهم تجري، قائلين: سمعنا أنك قُتلت، الحمد لله على سلامتك!
فتح
سليمان ومحمود الباب، ودخلنا جميعاً إلى منْزله العامر، واستغربوا كيف تجرّأتُ
وقدمت من دمشق إلى حماة، والطرقات ممتلئة بالجيش والأمن!
قلت:
باختصار..كان سفري جنوناً، ولكنّ الله سلّم!
وحدّثتهم
بما رأيت في الحيّ عند منْزل الشيخ الحامد، فقال سليمان: هناك ثلاث مصفحات وعشرون
جنديّاً لا يتحركون، يرصدون قدومك، وقدوم الشيخ محمود الحامد!
قلت
لهم: هل من المناسب بقائي عندكم؟
قال:
ساعتين فقط!
كان
منْزل عمي «حمشو» مطلاً على منْزل والدي، فقلت لابن سليمان: اذهب وادع لي: ابن عمي
أبا حميد!
فذهب،
ودعاه، فجاء، وقال لسليمان: خير إن شاء الله، خوفتموني بهذا الوقت!
ثمّ
التفتَ، فرآني، فقال: الشيخ عداب، واعتنقني وبكى!
قلت
له: رتّب لي مسألة الانتقال إلى بيت عمك «حمشو»!
قال:
جاهز! لكن إذا كنت هناك، فالأمر يحتاج إلى هدوء، وعدم حركة؛ لأنهم فتشوا منزل عمك
أكثر من خمس مرات، ونحن نقول لهم: البيت فارغ، وأهله في المزرعة، فاقتنعوا فمجيئك
إليه مناسب، لكن يجب أن تأتي إليه من ساحة «المرابط» وتدخل دار الشيخ «بشير سلامة»
ثم دار «الشيخ عارف» ثم دار «خالد هبابه» ثم تنْزل من هناك إلى بيت عمّك!
قلت
له: رتّب الأمر!
وانتقلتُ
إلى بيت عمي، وبقيت فيه ثلاثةَ أيام!
في
واحدٍ من هذه الأيام الثلاثة؛ جاء إليّ الشهيد هشام الجنباز، بصحبة الأخ الدكتور
محمد عبدالقادر الشوّاف، الذي أبلغني برغبة الشيخ محمود الحامد أن ألتحق بشباب
الطليعة الذين يحتاجونني كثيراً في هذه المرحلة.
فتنكّرت،
وخرجنا من المنزل، وركبنا ثلاثتنا على دراجة نارية كانت معه، ووصلنا إلى حيث كان
الشباب مختبئين!
حدثني
الدكتور محمد أنّ أكثر الشباب صغار، وأنهم لا يطيعون، وأنهم لا يعرفون شيئاً ا عن السلاح، ولا عن الانضباط، فلعلك تستطيع توجيههم،
فهم بالتأكيد يعرفون قدرك ويهابونك!
كان
بين الشباب، الشهداء: فيصل غنامة، وبدر ذكرى، وبسام أرناؤوط، ومأمون كاخي، وهشام
الجنباز، وطلال شكري، وهؤلاء في غاية الانضباط والأدب!
وكان
هناك عدد كبير من الشباب الصغار، الذين تقلّ أعمارهم عن خمسةَ عشرَ عاماً!
استغربت
مثلَ هذا الجمع، وسألت كلّ واحدٍ منهم عن اسمه، وسنّه، وعن السنة الدراسية التي هو
فيها!
ثم
طلبت من كلّ من هو غير مطلوبٍ للأمن أن يعود إلى بيته فوراً، حتى لا يُعرّض نفسه
للمساءلة مستقبلاً!
فقال
أحدهم: نحن نريد أن نجاهد، وما تركنا بيوتنا إلا من أجل أن ننال الشهادة في سبيل
الله تعالى!
فشكرته
على حماسه ورغبته، لكنني أخبرته أننا الآن لسنا في صددِ الصدام مع الدولةِ؛ لأنّ
الوقت غير مناسب!
وقلت
له: هل أنتم من سيقارع الدولة؟ قال: نعم! نظلّ نقاتلهم حتى نُقتل جميعاً!
كان
المنزل الذي يختبؤون فيه، قد فرّغه أهله ليرمّموه ويدهنوه، وقد اختبؤوا فيه بإذن
واحدٍ من أولاد صاحبه، وهو لا يعلم!
وكان
المنْزل مكشوفاً تماماً، وقريباً جدّاً من مركزٍ بعثيّ ومركزٍ أمنيٍّ كبيرين في
حيّ العليليّات!
قُرع
جرس المنْزلِ فجأةً، فإذا بعدد من هؤلاء الصغار يلقّم سلاحه!
استغربتُ
من ذلك، والتفتّ إلى أخي فيصل، فإذا به يضحكُ ضَحِكَ الألم والأسى!
وقال
لي: تصرف يا شيخي، فنحن سنُقتل من دون أن نفعل شيئاً، وأظنّ أن بعضنا سيقتل بعضاً!
في
هذه اللحظات؛ جاء إليّ الدكتور محمد الشوّاف، وقال: شيخي، ستكون أنت المسؤول عنا
بالتأكيد، لكنّ هؤلاء الآن تحت إمرتي، فأرجو أن تلاحظَ هذا!
فقلت
له: حاضر! والتفتّ إلى الشباب ونصحتهم أن يرجع كلّ واحدٍ منهم إلى منْزله؛ لأنّ
الدولة كلها مستنفرة، ونحن ليس لدينا شيء نقارع به الدولة، وقلت لهم: أظنكم
ستُداهمون في هذه الليلة، فكونوا على حذر!
وفعلا، فقد دوهموا
في تلك الليلة، ولكنّ الله سلّم، فلم يُقتل منهم أحدٌ، ولم يُعتقل أحد!
استأذنت
أميرهم الدكتور محمد الشواف بالانصراف، وقلت للأخ محمد: ايذن لي بهشامٍ جنبازٍ يكون
معي، فأذن!
أراد
عددٌ من الإخوة أن يغادروا معي، لكنني أشرت عليهم بالالتزام بأوامر الشيخ
محمود،
وأنا سأتدبّر الأمر معه!
رجعت
إلى منزل عمي حمشو، بالطريقة ذاتها التي دخلته بها أول مرة، ودخل معي هشام!
جاء
إلى سليمان الجندلي خبرٌ أمنيّ مفاده أن الشيخ «عداب» موجودٌ في «الحارة» وسيفتشونها
بيتاً بيتاً!
فهُرع
سليمان الجندلي إلى ابن عمي «أبو حميد» وأخبره أنه يجب أن أخرج فوراً لأنّ الحيّ
كلّه سيفتّش في غضون ساعة!
تنكّرت،
وخرجت من بيت عمي، وذهب هشامٌ إلى منْزله؛ لأجد في انتظاري رجلاً ليس من العائلة،
واسمه «عوض الخراز» وكان يتاجر بالسلاح، وبأشياءَ محظورةٍ أخرى، لكنه كان مستعداً
أن يبذلَ روحه، في سبيل أن لا أُخدش أنا!
مررنا
من بين رجال الجيش الذين يزيدون على خمسين، وحين وصلنا إلى ساحة الطيّار ليلاً،
كان هناك حفرة عميقة، لم ينتبه إليها، فوقع فيها، فانكسرت رجله!
خرج
من الحفرة متحاملاً على نفسه، حتى أوصلني إلى المكان المحدّد، ثم حملوه في سيارة
سليمان الجندلي إلى المشفى، حيث كان في ساقه كَسران؛ لأنه كان ضعيف البنية، رحمه
الله تعالى، وغفر له!
أرسلتُ
رسالةً إلى أخي الشهيد «عمر مرقة» صباحاً، فجاء إليّ في الليل، وأخبرني أن الحيّ
يغلي كالمرجل، وأن عناصر الجيش تراقب أنفاس الناس، من أجل الشيخ محمود الحامد ومن
أجلي!
قال:
لكنهم بالنسبة لك؛ فقد أُذن لهم بإطلاق النار عليك؛ لأنك خطر!
ونصحني
أن أُغادر إلى لبنان، وأخبرني أنّ الشيخ محموداً؛ سيغادر إلى لبنان أيضاً!
وقال لي: أنا لا
أستطيع أن أرجع إليك، لكن الأخ محمد عبدالقادر هو صلة الوصل بيننا!
أصدر
الشيخ محمود الحامد أمراً للشباب بمقاومة السلطةِ، وأن يفعلوا شيئاً يُشعر السلطة
بوجودهم؛ لكي تبقى خائفة!
جاء
إليّ الأخ محمد عبدالقادر، ولقبه الحركيّ آنئذٍ «أبو أيمن» بهذا الأمر العسكريّ،
وأن ألتحق بالشباب، وأتسلّم مسؤوليتهم، وطلب أن أعطي رأيي فيه، قبل المباشرة
بتنفيذه!
التفتّ
إليه وقلت له: ما رأيك أنت؟
قال:
أنا ليس لي رأي مع الشيخ محمود!
فتناولتُ
ورقةً وكتبتُ فيها:
«بسم
الله الرحمن الرحيم.. شيخنا الفاضل، وابنَ شيخنا الجليل محمود محمد الحامد:
السلام
عليكم ورحمة الله وبركاته...تحيةً طيبةً من عند الله مباركة...
أما
بعد: فقد أبلغني الأخ أبو أيمن بأوامركم الملزمةِ الواجبة التنفيذ، وأنا رهنُ
إشارتكم سيدي!
بيد
أننا تعلّمنا في الدورات الفدائية: أن اضرِب عدوّك في اللحظة التي لا يَتوقّع أن
تضربه بها.
وعدوّنا
اليوم على أُهبة الاستعداد القصوى لإبادتنا عن بكرة أبينا، بل ربما هو جاهز لإبادة
بلدنا حماة أيضاً.
ونحن
ليس تحت أيدنا سوى الأسلحة الفردية، التي لا تقاوم الدروع والطيران!
فانظر
ماذا ترى، ونحن جاهزون لتنفيذ أوامركم .. سيدي!».
عاد
إليّ الأخ «أبو أيمن» برسالة من الشيخ محمود، فيها:
«بسم
الله الرحمن الرحيم.. الأخ المفدّى أبا دجانة .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
قرأت مضمون رسالتكم الكريمة، وفهمت مراميها، وإني أشكركم على ما جاء فيها من نبل
مشاعركم، وجاهزيتكم للتضحية والبذل والتنفيذ.
وقرأت
وجهة نظركم بشأن مبادهة العدوّ في الوقت الذي لا يكون مستعدّاً ويقظاً، ورأيت ما
تفضلتم به هو الصواب، وقد أبلغت المجموعات المجاهدة العملَ بمضمونه.
بارك
الله لنا فيكم، وسدد خطاكم، ونصر بكم دينه، وعباده المؤمنين»([1]).
في
هذا اللقاء حدثني الأخ «أبو أيمن» أنه سيغادر سوريا إلى الأردن، ومنها إلى إحدى
دول الخليج!
وقال
لي: وأنا أنصح لكم أخي أبا محمود أن تغادروا أنتم أيضاً؛ لأنّ الشباب في فوضى
عارمة، والشيخ محمود قرّر تعليق المواجهة مع النظام؛ لأنّ الوقت غير مناسب،
وسيغادر في غضون أيام!
نعم
شيخي.. الشباب في فوضى عارمة، وخصامٍ نكد؛ إذ ليس فيهم كبيرٌ، يسمعون له جميعاً.
بعضهم
يريد الشيخَ عداباً، وبعضهم لا يريدك، يقولون: عنيفٌ، شديدٌ، قاسٍ لا يُحتمل، فأرى
أن تتركهم وشأنهم، حتى تأتي الفرصة المناسبة!
ذهب
الأخ أبو أيمن، فجاء الأخ «عمر مرقة» ونصحني بالسفر إلى لبنان، لكنه لم يوضح لي
سبب اختياره لبنان!
كان
الرجل الفاضل الذي أقيم في بيته، يعيش على أعصابه، وقد ترك عمله ليقيم معي ويراقب
حركاتِ الأمن في الحيّ، وكان قد سمع ما قاله لي الأخوان محمد وعمر، وكان هذا يوافق
هوىً في نفسه؛ خوفاً عليّ من جهة، وخوفاً على بيتِه وأهلِه من جهة أخرى.
في
هذه الأثناء؛ زارني أخي الحبيب وصديقي العزيز الشيخُ عبدالودود المراد، وكانت
علاقتي معه؛ هي الأقوى بين جميع مشايخ آل المراد، وحين ارتاح قليلاً قال: جاء
الخبر إلى المخفر بأنّ عداباً ضاربٌ ومضروبٌ، وهو في حالةٍ خطرة، لكن لا يُدرى أين
هو!
قال:
لكني أراك مثل السبع، ليس بك شيءٌ، فكيف جاء خبرٌ رسميٌّ كهذا، وهو مخالفٌ للواقع!
قلت
له: أما كوني ضارباً؛ فأنا لم يكن معي سوى سكين «كندرجية» صغيرة، حين صممت على
الهروب من بين أيديهم؛ أخرجتها من جيبي، وأومأتُ بها عليهم يميناً ويساراً فإن كنتُ
أصبتُ أحداً من غير شعورٍ مني؛ فربما!
وأما
كوني مضروباً؛ فعناصر الأمن أطلقوا عليّ من الرصاص؛ ما لا يُتصور معه إلا أنني
غدوت مصفاةً!
لكنّ
وقوعي في حفرة «حصيرة» العمارة، فيما يبدو؛ جعلهم يظنون أني قُتِلت!
وحين
انتهوا من قتلِ الشيخ مروان، أو اعتقاله ومَن في البيت؛ رجعوا إليّ، فوجدوا مساحة
كبيرةً من الدم، فظنوا أنها من رصاصهم، وأني تحاملت على نفسي، أو أنقذني بعض
الجيران.
أقول:
ربما كان هذا هو تفسيرَ كلامهم، والله تعالى أعلم.
فقال
لي: الحمد لله على سلامتك! لكن يجب أن تغادر المدينة فوراً، فوالله إنّ الحيّ يغلي
كالمرجل، ولا يجرؤ أحدٌ على التحرك بحرية، ولا تجرؤ امرأة على الخروج من بيتها
بسببك!
قلت:
لماذا بسببي، وليس بسبب ابن عمّتك الشيخ محمود؟
قال:
هو بسببكما معاً، لكن الشيخ محمود لم يكن في منْزل الشيخ مروان، ولم تعتقل زوجته
مع الشيخ مروان، ولم يضرب عدداً من رجال الأمن، ولم يهرب من بين أيديهم!
فإذا
كانوا يريدون الشيخَ محموداً مرةً؛ فهم يريدونك ألف مرة!
ثم
تلا عليّ قولَ الله تعالى: ]وَجَاء
رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ
يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ[ [القصص : 20].
قلت
له: كلام الله تعالى على الرأس والعين، لكن أنا عندي شبابٌ كلّ واحدٍ منهم يساوي
الدنيا بما فيها، فلمن أتركهم، إذا كان الشيخ محمود سيغادر؟
قال:
ليس واحدٌ من الشباب مطلوباً الآن، وهم ساكنون لم يتحركوا، لكن أنت المطلوب حيّاً،
أو ميتاً!
طال
الجدال بيني وبينه، فأقسمت يميناً بالله أنني لا أترك حماة، إلا شهيداً!
فخرج
رحمه الله مغضباً، فقال لي صاحب البيت بهدوئه الرائع: الشيخ عبدالودود يحبك
كثيراً، وهو ونحن جميعناً حريصون عليك كثيراً، وهم يكلمك بلسان المشايخ أجمعين!
فهمتُ
أنّ صاحب البيت خائفٌ، ولكني قلت: يجب أن يتعلموا الصبر والثبات، فتظاهرت بأني لم
أفهم شيئاً، وقلت له: المشايخ كلهم على رأسي، لكن المهمّ هو أنت!
أنت
كيف صبرُك واحتمالك؟
قال:
وهل أحضرتك إلى بيتي إلا لأفتديك بنفسي وأولادي؟ لكن كلام الشيخ عبدالودود وكلام
أخويك محمد وعمر؛ صواب!
قلت
له: كلامك على الرأس والعين، متى أذن العشاء؛ خرجت من بيتك؛ شاكراً فضلك والله،
ومن دون زعل!
قال:
والله لا تخرج من بيتي إلا على جثتي! أو تطيع المشايخ، وتغادر البلاد!
قلت:
حتى يأتي المساء؛ يحصل خيرٌ إن شاء الله!
بعد
صلاة العصر من ذلك اليوم نفسه؛ فوجئت بشيخيّ الجليلين: محمد علي المراد وأحمد
المراد يزورانني في البيت الذي أختبئ به!
ولما
استقرّ بهما المقام؛ قال لي الشيخ محمد علي: ابني عداب! كيف ترفض كلام الشيخ
عبدالودود؟ أما علمتَ أننا نحن أرسلناه إليك؟ مِن مَتى يردّ طالب العلم كلامَ
شيوخه؟
قلت
له: يا شيخي أنا مرتبطٌ بجماعة، ولا أستطيع أن أتصرّف بعيداً عن أوامرها، مع
احترامي العظيم لكلامكم!
قال:
جماعتك الآن اتخذت قراراً بعدم المواجهة مع الدولة، والليلة سيغادر الشيخ محمود
إلى لبنان، وأنت ستغادر الليلة أيضاً!
يا
عداب: الدولة اتخذت قراراً بتدمير المدينة، ونحن لا نريد أن تكون أنتَ سبب
تدميرها!
يا
عداب! آباؤنا وأجدادنا كانوا يقولون: سيأتي يومٌ يدمّر النصيريون حماة وحمص!
فالله الله في
نفسك وأهلك أن تكون أنت سبب دمارها، فتبقى عليك لعنةُ أهلها إلى يوم الدين!
قال:
اختر الوجهةَ التي تريد، إما العراق، أو الأردن، أو لبنان، وجهّز نفسك للسفر
الليلة!
ودار
حوارٌ طويل، حتى ملّ الشيخُ، ثم قال: ألست أنا والدك الروحيَّ، ألست أنا شيخك أليس
لي حقّ عليك، أسألك بالله الجليل، وبجدك رسول الله، وبحق مشايخك عليك، وبرحمة جدك
الحمش؛ أن تصغي إلى كلامنا، فنحن لسنا مستعدين لمواجهة خمسة جنود، فكيف بمواجهة جيشٍ،
جهز الخطة لتدمير البلد؟
قم!
احلق لحيتك، واغتسل، وجهّز نفسك للسفر!
فقلت
له: شيخي الكريم! والله لا أحلق لحيتي، إلا إذا قطعت رقبتي، لكنني أخففها فقط من
أجل كرامتك عندي!
وتمّ
الاتّفاق على أن أسافر إلى الأردن، بطريقة مأمونة، هم يهيئونها!
غادر
الشيخان الجليلان، وقمت بتجهيز نفسي للسفر، وما هي إلا ساعةٌ من الزمن، حتى جاء
الأخ «أبو أيمن» يحمل ظرفاً فيه (3000) ليرة سورية، وقال: هذا هدية يسيرةٌ من
إخوانك، وعُدّها قرضاً، متى تيسّر لك ردُّها؛ فافعل؛ لأنك ستحتاجها في سفرك!
قلت
له: الشيخ محمود سيسافر، وأنت ستسافر، وأنا سأسافر، فمن يقوم على أمر الشباب؟
قال:
لهم الله تعالى، ثم إنهم الآن تحت إشراف الأخ «عمر مرقة» فتوكل على اللهِ، وألتقيك
في الأردن، إن شاء الله تعالى، وانصرف!
السفر
العجيب:
حين
قررنا السفر، وحددنا موعده؛ أرسلتُ امرأةً في طلب والدتي لأراها قبل سفري وتراني
بعدما سَمَعَتْ أني قتلتُ!
جاءت
الوالدة، وجلست عندي دقائق معدودة، ودعت لي، وانصرفت بعد أن اطمأنّت على جرح رجلي
العميق، الذي كان لا يزال ملتهباً، على الرغم من مرور أسبوعين على الإصابة!
بعد
مغرب يوم من أيام تموز؛ دخل عليّ عددٌ من الرجال الذين لا يبدو عليهم التديّن أو
العلم!
فحدّثني
صاحب المنْزل أنهم من أجهزة الأمن المتعاونين معنا، والمخالفين للنظام في أسلوبه
الوحشيّ، في القتل والسجن والتشريد!
قلت
له: وكيف أسلّم نفسي لخصومي يا فلان؟
قال
واحدٌ منهم: نحن لو كنا نريد بك شرّاً؛ كنا قتلناك في لحظة دخولنا عليك، نحن نريد
سلامتَك وسلامةَ البلد، فأنت أخونا وابن بلدنا!
وقال
آخر: عداب الحمش مطلوب حيّاً أو ميتاً، ومقرّك غداً معلومٌ لدينا، فلو كان عندنا
نية سوءٍ بك؛ اتّصلنا بمرجعيتنا، من دون أن تشعر بنا؟
ثم
هل تتوقع من فلان أن يُسلّمك إلى خصومك؟
قال
أحدهم: عداب الحمش رجل شجاع، لا يخاف منا، ولا من غيرنا، وهذا رشاشي فيه ستون
طلقة، أبقه معك، ودافع عن نفسك، حتى آخر طلقة فيه، ونحن معك أربعة فقط!ّ
أخذت
الرشاش، وتيقنت من سلامته، وامتلاء مخزنيه، ووضعت مسدسي على جنبي وأربعَ قنابل على
بطني، وقلت لهم: توكّلنا على الله، تفضّلوا!
ركبت
في سيارة «جيب» للمخابرات، في القسم الخلفي، ومعي فيها اثنان فقط، إذ ركب كبير
القوم بجانب السائق!
وكان
معنا دليلٌ بدويٌّ أيضاً، وكان يحمل رشاشاً، للدفاع عني عند الحاجة!
وصلنا
مضاربَ عشيرة «التركاوي» في البادية السورية، فعرفهم البدويّ بي، وبوضعي العام،
فرحّب القوم بنا، وأكرمونا، وعشّونا، ونمنا في مضاربهم!
صلينا
الفجر جماعةً، ثم انطلقنا إلى منطقة «المثلث» حيث مضارب الشيخ «راكان المرشد» شيخ
قبيلة «السِبَعَة» من عَنْزة!
عرّفه
البدويّ بي، فعرف جدي إبراهيم، وأخويه حمدو، وعبدالرحيم، وقال: كانوا معنا في حرب
الفرنساوي، وكانوا شجعاناً.
تغدّينا
عند الشيخ راكان المرشد، ثم استأذن البدويّ، ورجال الأمن الذين كانوا معنا في
السيارة، وقالوا لي: انتبه لنفسك، مضارب الشيخ راكان ملأى بالمخابرات العراقية
والأردنية، وانصرفو!
بعد
انقضاء السهرة؛ طلب الشيخ راكان مني تفاصيلَ ما جرى، ثم قال لي: إن شئت اللجوء
السياسي في العراق؛ فهو سهل جدّاً!
قلت:
هؤلاء بعثيون، وهؤلاء بعثيون، مصيرهم أن يصطلحوا، أحب الأردنَّ أكثر!
قال:
إذاً ستنتظر ثلاثةَ أيام، حتى أوصلك إلى عمّان بنفسي؛ لأنني لا أستطيع إرسالك مع
أحد، فالطريق غير آمن، وليس معك أيّ شيء يثبت شخصيتَك!
وقال
لي: حتى تصل إلى عمان، فأنت اسمك «سالم حمّاد الخلف!».
أما
سالم؛ فقد سلّمك الله من أعدائك ونجاك من هؤلاء الأشرار.
وأما
حماد؛ فيتوجب عليك دوام الحمد لله على ذلك؛ لأنهم لو اعتقلوك؛ لما عَلمتَ ماذا سيصنعون
بك!
وأما
خلف؛ فأنت إن شاء الله خلف جدك الحاج إبراهيم، وخلف شيخك مروان، رحمه الله تعالى، وكنا
إلى ذلك الوقت نظنّ أنه قُتل!
وانتبه
لنفسك وما تقول! أكثر الموجودين معنا من رجال الأمن الأردني، أو العراقي، لكن
بثياب مدنية!
في
صباح اليوم التالي؛ جلست أقرأ القرآنَ سرّاً من مصحفٍ كان معي، فناداني رجلٌ أسمر
معجرف: يا ولد! أنت يا ولد!
قلت
له: تناديني أنا؟ قال: إي إنت، املا الطاسة من الجرة، وُدْنا نشرب!
قلت
له: الجرة قريبةٌ، يمداك تملاها بنفسك!
فتكلّم
كلاماً قبيحاً شائناً، فحملت الطاسة، واقتربت منه بهدوءٍ، وضربته بها على رأسه،
وقلت له: لولا كرامة الشيخ راكان؛ لملأتُ وجهك دماً يا حقير يا سافل!
سمع
الجلبةَ بعض أولاد الشيخ، أو أحفاده، لا أدري، فجاء اثنان منهم، فسمعاني أقول له:
أيها العبد الوقح، عمي الشيخ راكان يسقيني اللبن والماء بيده، وأنت تأمرني أن أملأ
لك الطاسة، صِدْق أنت ما تستحي!
فكأن
واحداً من الاثنين غمزه، فخرج من الخيمة، ولم أره بعد ذلك!
حين
حضر الشيخ راكان قبيل صلاة الظهر؛ ناداني، وأجلسني بجانبه، وأبى أن أشرب القهوة
إلا من يده، وقال للحاضرين: هذا ولد أخوي، هذا الشيخ سالم بن الشيخ حماد بن أخوي
الشيخ خلف «البوحبط» البطل الشجاع، خوينا في حرب الفرنساوي، من سادات أهلنا
«النعيم»!
جاءنا
زائراً يريد أن يتعرف علينا؛ ليوصل ما انقطع بعد وفاة جده الشيخ خلف عليه رحمة
الله، ويتعرف على عَمّه راكان المرشد!
لم
يكن أحدٌ فيما ظهر لي مصدقاً كلامَ الشيخ؛ لأنني حين أتكلم اللهجة النعيمية أصيب
مرةً، وأخطئ خمسَ مرات! علاوةً على وجهي الأبيض الأحمر، الذي لم تلفحه الشمس! والبدو
لا يحترمون الحضريين كثيراً، لكنهم كانوا مضطرين لمجاملتي، لأجل الشيخ!
أجلسني
الشيخ عن يمينه، وصار يقدّم إليّ أطايب اللحم، ويقرّب إلي اللبن والماء، بينما كان
عن يميني ضابطٌ عراقيّ حلو الملامح على سمرةٍ تعلو وجهه، فقال لي: شيخ سالم أنت من
وين من النعيم؟
قلت
له: أنا بجانب الشيخ راكان الآن، بعد الغداء نتكلم بما شئت، إن شاء الله تعالى!
عقب
تناول الغداء، وشرب القهوة والشاي؛ استأذن الشيخ راكان، وانصرف!
فما
أحسست إلا وعددٌ كبيرٌ من العراقيين التفّ حولي!
لم
أخف منهم؛ لأنني في جوار الشيخ راكان، ولأنني لست مذنباً تجاههم في شيء!
سألني
الضابط الأسمر: من أيّ العمام أنت؟
قلت
له: إذا أخبرتني أخبرتك!
قال:
أنا نعيمي من وُلد منصور، من حويجة النعيم، تعرفها؟
قلت
له: أيَبَهْ، كيف لا أعرفها، أنا أصلي من نعيم الموصل، من بلدٍ قرب دهوك ونحن من
ولد الشيخ عبدالكريم الحبطي!
قال:
هل تنتسب؟
قلت:
انتسب أنت!
فانتسب،
وذكر سبعة جدود من أجداده.
فانتسبت،
حتى ذكرت له الجدّ الموصليّ المهاجر إلى حماة، لكن غيّرت أسماء ثلاثة فقط
سالم
بن حماد بن خلف، بدلاً من: عداب بن محمود بن إبراهيم!
سألني:
هل أنت من الإخوان المسلمين؟
قلت:
نعم، ولي الشرف!
قال:
هل سمعت بما حدث في دمشق مع مروان حديد؟ قلت له: وعندي التفاصيل!
قال:
هل له أتباعٌ كثيرون؟ قلت: جداً، وهم أهل دين، وسباع!
قال:
أنت منهم؟ قلت: نعم، ولي الشرف!
قال:
الله محيي الرجال، نحن نرحّب بك في العراق، إن أحببت أنتَ وهُم المقامَ عندنا فنحن
أهلكم!
شكرته
على مشاعره، ودعوتِه، وقلت له: أنا لي عشيرة كبيرة في الأردن، وأريد أن أذهب إلى
هناك!
قال:
أهلك النعيم في العراق أكثر وأقرب من أهلك في الأردن، لكن أنت وما تشاء!
قلت
له: اطمئنّ نحن ليس لنا عداوةٌ مع العراق، ولا مع الأردن، عداوتنا مع هذا النظام
الطائفي الملحد المجرم!
أعطاني
الرجل رقم هاتفه «اللاسلكي» وأرقام هواتفه في العراق، وقال: الآن، أو فيما بعد،
نحن حاضرون لما تريدون!
بعد
صلاة العشاء؛ طلب مني الشيخ راكان أن أحدثهم عن الشيخ محمد الحامد، وعن الشيخ
مروان، فحدثتهم أكثر من ساعة، فسرّ الحاضرون بكلامي، خصوصاً عندما شرحت لهم أسبابَ
الصراع بين الشيخ مروان والنظام!
كان
عددٌ من الضباط الأردنيين حاضراً، وكانوا يرمقونني بغير رضاً، خاصةً إذْ كان مسدسي
ظاهراً، ولم أتكلّف أن أخفيه!
سمع
الأردنيون قصة قتل الشيخ مروان كاملةً، ودوّنوا بإذني بعض المعلومات المهمة لديهم
وقالوا لي: هذا يفيدنا في معرفة ما جرى بدقة!
وإلى
حلقةٍ تاليةٍ بإذن الله تعالى.
والحمد
لله على كلّ حال.