مسائلُ فكريّةٌ:
احترامُ رأيِ المخالفِ!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
قال لي صديقي: (إلى أيِّ مدىً يجوزُ احترامُ رأيِ المحاورِ
المخالفِ؟
ولو صحّ ما تكتبونه دائماً: لا بدّ من احترام الرأي المخالفِ؛
فلماذا لم يحترم الصحابةُ آراءَ بعضهم بعضاً، وذهبوا بأجمعهم إلى قتالِ ما نعي
الزكاة، حتى عدّوهم مرتدّين، أو على الأقلّ: أباحوا دماءَهم، وقتلوهم، وسبوا
نساءهم، ولم يحترموا اجتهادهم؟
هل الدين الحاضر غير الدين الماضي)؟
أقول وبالله التوفيق: لم يرد في القرآن الكريم، ولا في الروايات
الحديثيّة ألفاظ (محترم - احترام) ولم تكن هذه الكلماتُ متداولَةً قديماً لدى
العرب.
وقد اشتقّ لفظ (الاحترام) من الحُرْمةِ: التي تعني التقدير
والتوقير.
قال الله تعالى: (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ
وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) ولم يقلْ: (وتحترموه).
والاختلافُ في الأهواء «المذاهب والاتّجاهات» سنّةٌ من سنن الله
تعالى في المكلّفين من الإنس والجنّ!
قال الله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ
أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ،
وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ).
وفي سورة الجنّ (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا
الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا
الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15).
والذي يتبيّن لي من فهمي لهذا الدينِ العزيزِ العظيم؛ أنّ
الاختلافَ يكون بين مسلمٍ ومشرك، وبين مسلمٍ ووثنيّ، وبين مسلمٍ وملحِدٍ، وبين
مسلمٍ ومسلم:
والاختلاف بين المسلمين؛ على أنواعٍ أيضاً!
فقد يكون الاختلافُ بين سنيٍّ وشيعيّ اثني عشريّ.
وقد يكون بين سنيّ وشيعيٍّ زيديٍّ.
وقد يكون بين سنيٍّ وإسماعيليّ.
وقد يكون بين سنيٍّ وما انفصل عن مذاهب الشيعة هذه كالبابيّة
والبهائيّة والقاديانية والبُهرةِ، وغيرهنّ من فروع المذاهب الشيعيّة.
وقد يكون الاختلاف بين سنيٍّ وشيعيٍّ حُرٍّ غير منتمٍ لأيّ
مذهبٍ من مذاهب الشيعةِ المتقدّم ذكرُها (من أمثال الفقير عداب) وجمهورِ تلامذته.
وقد يكون الاختلاف بين سنيٍّ وإباضيّ.
وقد يكون الاختلافُ بين سنيٍّ وسنيٍّ:
اختلافٌ بين أشعريٍّ وماتريديٍّ.
اختلافٌ بين أشعريٍ مثبتٍ، وأشعريٍّ مفوّضٍ، وأشعريّ مؤوّل!
اختلافٌ بين أشعريٍّ ومعتزليّ!
اختلافٌ بين ماتريديٍّ ومعتزليّ.
اختلاف بين أشعريٍّ وحنبليٍّ.
اختلافٌ بين حنبليٍّ وتيميٍّ!
اختلافٌ بين تيميٍّ ووهّابي!
اختلافٌ بين سلفيٍّ وصوفيّ!
اختلافٌ بين إخوانيٍّ وتحريريّ.
اختلافٌ بين وهّابي وسروريّ.
وقد أدخلَتْ بعضُ فرق المسلمين الاختلافَ في المعتقداتِ أو في
الفروعِ؛ إلى ساحة (الولاءِ والبراء) وأهل السنّةِ يعدّونَ كلَّ مخالفٍ لهم
مبتدعاً، ويتفاوتون في درجة (البراءة) منه اختلافاً كبيراً.
والفقيرُ عدابٌ لا يرى في المسلمين اليومَ (مجتهداً) وجميعهم
مقلّدةُ المذهبِ السائد في مواطنهم، عقيدةً وفروعاً، وبعضهم أقربُ إلى الترجيح من
بعضٍ، وبعضهم أفحشُ في التعصّب والتقليد من بعضٍ!
لأجل ذلك فهو يمنح (الولاء) لكلّ أبناءِ أمّةِ الإسلام:
إذا كانوا يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسلِه واليوم الآخر.
وكانوا يدينون اللهَ تعالى بوجوب الطهارةِ والصلاة والزكاة
والصيام والحجّ.
ويرون وجوبَ الأمر بالمعروفِ والنهيَ عن المنكر، ويرون وجوبَ
جهادِ الصائل الأجنبيّ على ديار الإسلام.
ولا يُنكرونَ معلوماً من الدين بالضرورة قولاً أو فعلاً.
فمن كان من المسلمين كذلك؛ فهو أخي ووليّي، سنيّاً كان أم
شيعيّاً أم إباضيّاً، حتى لو كانَ هو يفتي بكفري أو بقتلي!
أمّا مَقولةُ (مَن كفّرنا؛ كفّرناه، ومَن فسّقنا؛ فسقناه)
فمقولةٌ مرفوضةٌ عند الفقير عداب تماماً!
وأمّا فِقرةُ هذه المقولةِ الأخيرةِ (ومَن قاتلنا؛ قاتلناه) فهي
مقولة صحيحةٌ؛ لقيامِ الأدلة الوافرة على مشروعيةِ حفظِ النفس المسلمة، ودفع
الصائل.
أمّا ما جرى من القتال والقتلِ بين الصحابةِ - رضي الله عن أهلِ
الحقّ منهم - فغدوتُ أميلُ إلى تجاوزِ هذه المسألةِ الشاذّة القبيحة جدّاً؛ لأنّ
الأمّةَ درجتْ على تقديسِ الصحابةِ وتعظيمهم، بل غدا هذا التقديس معيارَ السنيِّ
من البدعيِّ.
بيد أنّني أقول كلاماً وجيزاً: لا يختلفُ المسلمون سنّةً وشيعةً
وخوارجَ؛ أنّ الإمامَ عليّاً كان على الحقِّ في حربِ الجملِ وصفّين.
وكان مقاتلوه أجمعونَ مخطئين، بغاةً عليه، ظالمين له، بهذا الخروجِ
الدامي.
واتّفق السنة والشيعةُ على أنّه كان على الحقِّ في قتاله
الخارجين عن سلطانه من أهل النهروان.
أمّا ما وراءَ ذلك من الحُكمِ على مخالفيه بالكفر أو الفسق؛ فلا
نخوضُ فيه، مراعاةً لعقولِ العامّةِ، التي تظنّ الصحابة كالملائكةِ، وربما أعلى
رتبةً من الملائكة، وهم لم يكونوا كذلك على أيّ حال.
بقيت مسألة احترامِ رأيِ المخالفِ؛ وللفقير عداب فيها كلامٌ
يسير واضح:
الفقيرُ عدابٌ يفرّق بين المخالفِ المسلم، والمخالفِ الكافر!
فلا احترامَ عندي للكافرِ المخالفِ، ولا لرأيِه، إنّما المطلوب
مني أن أعدلَ معه، وأن أنصفه، وأن أجتنب إثارته كي لا يتجاوز على مقدّساتي
المشروعة!
إذ كيف أحترمُ الشركَ بالله تعالى أو الكفرَ به، أو كيف أحترم
شرب الخمرةِ والربا والزنا، وسائر المناهي في دين الإسلام؟
-أمّا المخالفُ المسلمُ، الذي تحقّق بالصفاتِ السابقةِ، فأحترمه
هو، وأقدّره هو، أمّا رأيه المخالفُ ؛ فله حالان:
الحالُ الأولى: أن يكون رأيُه ممّا يسوغُ فيه الاجتهاد عندي،
وفي هذه الحال أحترمُه وأحترمُ اجتهادَه.
مثال ذلك: جَهْرُ الإمامِ بالبسملةِ في صلاةِ الجماعةِ!
فأنا أذهبُ إلى الجهرِ بالبسملةِ للإمامِ والمنفرد، في الصلواتِ
الجهريّة الثلاثِ!
لكنني أحترمُ الذي يُسرّ بالبسملةِ، وأحترم رأيَه؛ لورود
الأدلّةِ المحتملة لديه في ذلك.
والحال الثانية: أن يكون رأيُه مما لا يسوغ فيه الاجتهاد عندي،
ففي هذه الحال؛ أحترمُه هو - بمعنى أوقّره وأكرمه وأبتعد عن تنقيصه - إنّما لا
أحترم رأيَه، بل أحتقر ذاك الرأيَ الباطل!
مثال ذلك: القولُ بتحريف القرآن الكريم:
نفيتُ في منشورٍ سابقٍ؛ أن يكون القولُ بتحريفِ القرآن الكريم؛ مذهباً
للشيعةِ الإماميّةِ، وأنّ المعتمد في المذهبِ عندهم؛ هو أنّ القرآن الكريمَ كلامُ
الله تعالى، المجموع في المصحفِ الشريفِ، المتداول بين المسلمين اليوم.
لكنْ لو وُجدَ بعدَ ذلك مَن يقول بنوعٍ ما من أنواعِ ما يسمّى
تحريفاً للقرآن الكريم؛ فأنا أحترمُه هو بصفته مسلماً لديه شبهاتُه، بل وأدلّته
أحياناً، لكنني لا أحترم القول بتحريف القرآن الكريم بتاتاً.
ثبتَ في الصحيحين وغيرهما من دواوينِ الإسلام؛ أنّ الصحابيّ
الفقيه عبدالله بن مسعودٍ كان يُنكرُ أنّ سورة (قل أعوذ بربّ الفلق) وسورةَ (قل
أعوذُ بربّ الناسِ) ليستا من القرآن الكريم، وقد خطّأه الصحابةُ بذلك، ولم يلتفتوا
إلى خلافِه باحترام!
بيدَ أنهم لم يكفّروه ولم يفسّقوه ولم يضلّلوه!
وفي كتب أهل السنّة المعتمدة عَنْ زِرٍّ قَالَ: قَالَ لِي
أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: كَأَيِّنْ تَعُدُّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ؟ قُلْتُ لَهُ
ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ آيَةً!
فَقَالَ: قَطُّ! لَقَدْ رَأَيْتُهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَادِلُ
سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَلَقَدْ قَرَأْنَا فِيهَا: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا
زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللهِ، واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
ولم يلتفتْ أحدٌ إلى قولِ أبيِّ بن كعبٍ سيّدِ القرّاء، وعدّوا
سورةَ الأحزابِ ثلاثاً وسبعين آيةً فحسب، بيدَ أنهم لم يكفّروه ولم يفسّقوه ولم
يضلّلوه!
فابنُ مسعودٍ وأبيٌّ محترمان موقّران عند المسلمين، أمّا
قولُهما هذا؛ فباطلٌ غير محترم!
والفقير عدابٌ يعُدُّ القولَ بنسخِ التلاوةِ تحريفاً، ويعدُّ
القولَ بالنسخِ كلّه تحريفاً للقرآن الكريم!
فأنا أحترم العلماءَ المتقدّمين والمتأخّرين القائلين بالنسخِ؛
لأنهم مسلمون لهم شبهاتُهم.
بيد أنني لا أحترم القولَ بوجود منسوخٍ في القرآن الكريم
البتّةّ، وأراه تحريفاً للقرآن الكريم.
والله تعالى أعلم.
والحمدُ لله على كلّ حال.