الخميس، 12 يونيو 2025

        التصوّفُ العليم:

العَلاقة بين نهرو الكسنزان وعداب الحمش ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ للهِ، وَسَلامٌ عَلَى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطفَى).

أمّا بعد:

كتب أحد الحزبيّين العراقيين، على صفحته في «فيس بوك» أمسِ منشوراً بعنوان:

«ما سرّ العلاقةِ بين «نهرو الكسنزان» وعداب الحمش»؟

زعم في هذا المنشور أنني أسأت إلى ساداتنا من الصحابة (أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعائشة) رضي الله عنهم.

وأسأت إلى (عبدالله بن عمر، وعبدالله بن عباس، وأسامة بن زيدٍ، ومحمّد بن عليّ بن أبي طالب، المعروف بابن الحنفيّة) رضي الله عنهم أجمعين.

وفي ختام منشوره قال: (فأين وجد الكسنزان الحمشَ هذا، ولماذا يختاره لتعليم أتباعه).

أقول وبالله التوفيق:

يجب أن يكون منشورنا هذا واضحاً صريحاً، فوق صراحتي المعهودة لديكم.

أوّلاً: لم يكن الصراعُ بين أهل السنّة والشيعةِ، في تاريخ الإسلام كلّه صراعاً دينيّاً!

إنّما هو صراعٌ على السيادةِ والثروة والنفوذ!

حتى اختلافُ بني هاشمٍ بزعامةِ الإمام عليّ، مع الصحابةِ في تولية أبي بكر ثمّ عمرَ ثم عثمان، كان من أجل السيادة والحقوق المالية.

وكل العقائد السياسية التي اخترعها الشيعةُ الإماميّة على مرّ الزمان (النصّ والتعيين والعصمة والإمامة والبداء والرجعة والمهدي) هي إسقاطاتٌ سياسيّة، ليس لها أدنى علاقةٍ بالعقائد الإسلامية الكبرى، التي لا يختلف عليها السنة والشيعة والخوارج (الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر) كما لا يختلفون على (الطهارةِ والصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

وبمعزلٍ عمّن هو المصيبُ - كليّاً أو جزئيّاً - فجميعُ الدماء التي أهريقت في تاريخ الإسلام؛ كانت من أجل عيون السلطة والنفوذ والتحكّم بثروات الأمة!

فإيّاكم وإيّاكم وإيّاكم أن تظنّوا مسألة (الخلافة) أو أنّ (المفاضلة)  بين الصحابة رضي الله عنه؛ من المسائلِ الدينية، التي يتوجّب على المؤمن الاعتقاد بها!

ثانياً: لا يخفى على أحدٍ أنّ (الإخوان المسلمين) حزبٌ سياسيّ، هدفه الأوّل هو الوصول إلى السلطة، لاعتقادهم (أنّ الله يزع بالسلطان، ما لا يزع بالقرآن.

وكاتب ذاك المنشور من زملائنا في جامعة صدّام للعلوم الإسلامية في عام (1993) فيما أظنّ، هو من الإخوان المسلمين، ومن أهل السنّة الأنباريين!

ثالثاً: الدورةُ العلميّة التي قمت بها في التكية الكسنزانيّة الرئيسة في السليمانية؛ بدأت في (1/ 7/ 2024) وانتهت في (30/ 9/ 2024) علّمت فيها (100) من الخلفاء تقريباً تلاوةَ القرآن الكريم والوقفَ والابتداء وغريبَ حزب المفصّل، والأربعين النووية وقصيدة (غرامي صحيح) في المصطلح.

وعلّمتهم شطراً من ربع العبادات في كتاب (شرح الغزي على متن أبي شجاع).

فما الذي جعل زميلَنا المحترمَ يسكت سنةً على هذه الدورة العلمية السنيّة بامتياز، ويلعلع بفتنته اليومَ؟ أنا لا أدري حقيقةَ الأمر، ولم يخبرني أحدٌ بشيءٍ!

إنّما يبدو لي أنّ زيارةَ الزعيم السيّد (محمد نهرو الكسنزان) إلى محافظة الأنبار، وترحيبَ مشايخِ (الأنبار) الكرام به، والتفافهم حوله؛ هو الذي جعل هذا الأنباريّ الإخوانيّ يرفع عقيرته - صوتَه - ويتنقّص من الشيخ «محمد نهرو» وعداب الحمش.

رابعاً: الشيخُ «محمّد نهرو» ومعه (100) خليفة من خلفائه، علّمتُهم طيلةَ ثلاثةِ أشهر؛ يوقنون يقيناً؛ أنّني حرٌّ صادق فيما أقول.

أوافق الاتّجاه العامّ للسادة (الكسنزان) في أمورٍ، وأخالفهم في أمور، وأضرب مثالاً واحداً على ذلك.

في عيد الغدير الماضي (2024) نزل وفدٌ كبيرٌ من الشيعةِ الإيرانيين في التكية الكسنزانية - وأنا مقيمٌ فيها - واحتفل السادة (الكسنزان) بهم، وأكرموهم.

وكان مع هؤلاء الوفدِ رجالٌ من السلك الدبلوماسيّ، طلبوا لقائي في غرفتي، أو في مضافة التكيةِ، فرفضت لقاءهم، وقلت لمَن بلّغني: «أنا لا ألتقي أناساً ساهموا في قتل مليون شهيدٍ من أهلي في سوريّا» فلم يعاتبني أحدٌ على موقفي هذا، مع أنني أوافق على تأليف قلوبِ أهل السنة والشيعة في العراق، ورأبِ صدعِهم، ولو طُلِب مني زيارةُ مشايخِ عشائر العراقِ الشيعة؛ ما ترددت!

ما أريد قولَه في هذه الفقرة: عدابُ الحمش أعلم بدين الله تعالى من هذا الأنباريّ الحزبيّ، وربما من جميع علماء حزبه، وأشجع - فيما يَظنّ - منهم، فهو لا يبيع دينَه ومواقفَه لأحد كائناً من كان.

ما تقرؤه على صفحتي وفي كتبي؛ هو عقيدتي، وفكري، وفقهي، وافقَ مَن وافقَ، أو خالف مَن خالفَ، مع ثقتي بأنّ الاختلافَ شرٌّ لا بدّ منه!

خامساً: الإساءةُ إلى الصحابةِ:

جميع الصحابةِ الذين ذكرهم هذا الزميل المفتري؛ أجلّهم وأحترمهم وأستغفر لهم وأترضّى عنهم، بيد أنني لا أعتقد بعصمتهم، وأعتقد، أجل أعتقد عقيدةً أنّ كلّ واحدٍ منهم أخطأ خطأً أو أخطاءَ، ما زلنا حتى اليوم نتجرّع آثارها غصصاً في حياتنا الإسلاميّة!

إنّ تقويم عملِ أو علمِ صحابيّ أو تابعيٍّ - ما دام غير معصوم - أمر طبيعيٌّ جدّاً لدى جميع أهل العلم، أمّا الجهّال؛ فهم الذين يحتاجون إلى رموزٍ كثيرةٍ مقدّسة، يقوّون بها ضعفهم.

فأنا أبرأ إلى الله تعالى من الإساءةِ إلى جميعِ أصحاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، حتى المجهولين منهم والوحدان!

اللهم إلّا الفئةَ الظالمةَ الباغيةَ (معاويةَ وحزبه) فليس لهم في قلبي أدنى مودّةٍ أو احترام!

 سادساً: علاقتي بالشيخ «محمّد نهرو» قديمة، ترجع إلى صيف عام (1996) عندما طلب مني شيخنا العابدُ الكريم الشجاع الماجد «محمد بن عبدالكريم الكسنزان رضي الله عنه» المشاركةَ في تعليم «دورة الكسنزان العلمية الأولى» فوافقت، وشاركتُ، وكنتُ إمامَ وخطيبَ ومفتي الطريقةِ، منذ ذلك التاريخ، إلى أنْ غادرتُ العراقَ إلى الأردن.

كان الشيخ «محمّد نهرو» هو المشرفَ الإداريّ على هذه الدورة، التي كانت ناجحة بفضل الله تعالى غايةَ النجاح.

كنّا في كلِّ يومٍ نلتقي مع جناب الشيخ الكبير «محمد المحمّد» ومع الشيخ «محمّد نهرو».

عرف بعضُنا بعضاً، واكتشف بعضنا ما لدى بعضنا الآخر، وتوطّدت العلاقة بيننا!

ولم يحدُث بيننا أيُّ خلافٍ يؤدّي إلى انفصالٍ أو قطيعة!

وجاء الاحتلال الأمريكيّ للعراق، وكان حزبُ زميلنا هذا من المرحّبين به، ومن المشاركين بحكومته العميلة!

ولم يَعُد بيني وبين المشايخ أيّ اتّصال إلى عام (2009م) حيث التقينا في عمّان الأردنّ في منزل حضرة الشيخ، رحمه الله تعالى ورضي عنه.

سابعاً: يتّهم بعضُ العراقيين جناب الشيخ «محمّد نهرو» بأنّه على علاقةٍ بالأمريكان!

وأنا لا أعرف عن هذه العلاقة شيئاً البتّة، ولم أسمع منه تجاه هذه العلاقة شيئاً.

والذي سمعته منه - بأذنيّ كلتيهما - انتقاداتٌ كثيرةٌ للتوحّش الأمريكيّ والغطرسة الأمريكيّة!

ولو افترضنا وجودَ صلةٍ سياسيّة ما، بينه وبين الأمريكان، أليس بين الإخوان المسلمين والسلفيين صلاتٌ وثيقة بالأمريكان والأوربيين؟

ختاماً: حدود صلتي بالكسنزان عامّةً، وبالشيخ «محمّد نهرو» خاصّة؛ هي العلم، فهو لم يطلب مني شيئاً ذا علاقة بالسياسةِ، ولا هو تدخّل من قريب ولا بعيدٍ في (تعليم) جملةٍ واحدةٍ من أعمال «الدورتين العلميتين» اللتين شاركتُ فيهما.

يشهد على ذلك الله تعالى وملائكته، و(100) خليفة علّمتهم طيلةَ ثلاثةِ أشهر!

وشهادتي لله تعالى؛ أنّ حضرةَ الشيخ الكبير «محمّد المحمّد» من أهل الدين والتقوى والالتزام بالطاعاتِ والأخلاقِ الحميدة، وهو صاحب شجاعة وكرم منقطعي النظير!

وشهادتي لله تعالى؛ أنّ حضرةَ الشيخ «محمّد نهرو» يرغب رغبةً عظيمةً في توحيدِ كلمة المسلمين في العراق، وطرح الخلافات مما بينهم، وهو رجلٌ حييٌّ مهذّب كريم شجاع طموح، يحبّ العلم والعلماء، ويحرص على التواصل معهم وتوقيرهم، ولا أعلم عنه سوءاً فأنصحه به!

هذه هي شهادتي التي أدين الله تعالى بها، وما يخالفها من أقوال الناس؛ ظنون وتخيّلات لا أعلم عن حقيقتها شيئاً البتّةَ، والله خير الشاهدين.

والحمد لله على كلّ حال.

الأربعاء، 11 يونيو 2025

         التصوّفُ العليم:

ما علاقة التصوّف بعيدِ الغدير؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ للهِ، وَسَلامٌ عَلَى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطفَى).

أمّا بعد:

إنّ ممّا يجبُ العِنايةُ به، والتعرّف به على الدوام؛ أنّ الاختلاف بين البشر؛ ليس محموداً أبداً، على خلاف ما يقوله كثيرون، بيد أنّه شرٌّ لا بدَّ منه!

اختلفَ الصحابة رضي الله عنهم؟ نعم اختلفوا وقتل بعضهم بعضاً.

اختلف التابعون، اختلف الأئمة المتبوعون، ومنهم زيدُ بن عليٍّ وجعفر الصادق وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأتباعهم وغيرهم، رحمهم الله تعالى؟ نعم  اختلفوا، وخطّأ بعضهم بعضاً، وشنّع بعضهم على بعض!

فنأتي نحن في زمان الجهل والقتل والفتن؛ نرفضُ الخلاف والاختلاف، ولا نقبل إلّا قولاً واحداً ورأياً واحداً، فهذا عبث وقباحة!

بيد أنّ هذا شيءٌ، واتّهام النوايا والأهداف، واتّهام الولاء والتبعيّة الدينية؛ فهذا هو القبح بعينه.

عندما تتّهمني بأنني شيعيٌّ، أو تابع للنظام الإيرانيّ القبيح الظالم، أو لأيّ جهة شيطانيةٍ تتخيّلها، ألك دليلٌ على ذلك؟

ألم تسمع قول الله تبارك وتعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).

(وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) والله يشهد أنني بريءٌ من عقائد الرافضةِ، ومن معرفة أيّ إيراني في هذا الوجود، بل ما زلت أنتقد النظام الإيرانيَّ منذ عام (1979) وحتى ساعتنا هذه!

ألا تستحيي - أيها المسلم - من افترائك وقلّة أدبك وسوء أخلاقك، عندما تتهم عالماً من علماء هذه الأمة - على الرغم من أنفك العَفن - بالتبعية والصغار، لمجرد أنّه يخالف جهلك وجهل من ربّاك وعلّمك؟

يجب الإقرار بأنّ في المجتمع المسلم الواحدِ؛ صوفيّةٌ وسلفيّةٌ وسُنيّة وشيعيّةٌ وظاهريّة وتيميّة وإباضيّة وظاهريّة!

ويجب الإقرار بأنّ بين هذه المجتمعات جميعها حمولاتٌ من (آل بيت الرسول) صلّى الله عليه وآله وسلّم، له رؤاهم وتطلّعاتُهم ومظلومياتهم فيما يرون!

ليس من حقّ أهل السنّة، ولا من حقّ الشيعةِ، ولا من حقّ غيرهم؛ أنْ يلزمونا بجميع أفكارهم، ما دمنا نعيش بينهم، فهذا ليس من العدل في شيء البتّة!

السنيُّ يحبُّ (فلاناً) من الصحابة رضي الله عنه؛ لفضائل يراها فيه!

أنا من آل البيت - مثلاً - قد لا أقرّ بهذه الفضائل من جهةٍ، ولا أرى في هذا (الفلان) أهليّةً للقيادةِ، ولم يثبت لديّ شيءٌ من نصرته لهذا الدين، إبّان الحاجة إلى نصرته، فلماذا يجب علي حبُّه وتقديسُه، وأنا لا أراه أهلاً لهذا التقديس؟

في المقابل: أهل السنّة يروون في فضائل جدّنا الإمام عليٍّ مئاتِ الأحاديث، منها أكثر من خمسين حديثاً صحيحاً، منها حديث (مَن كنت مولاه؛ فعلي مولاه) المتواتر.

وليس لأحدٍ من الصحابةِ مثلُ هذه الفضيلةِ، ومع ذلك هم يقدّمون عليه أبا بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم، فلماذا يجوز لهم ذلك دوننا؟

نحن - أهلَ البيتِ - نرى هذا الحديث مقروناً بواقعته التاريخية وظروف نُطق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم دليلاً ظاهراً على تولية جدّنا الإمام عليّ إماماً للمسلمين بعد الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا فخر لنا من دون شكٍّ!

أمّا عن جوازِ عدّه عيداً، من عدم جوازه؛ فإليك بيان ذلك:

أوّلاً: قال الراغب الأصبهاني في المفردات (ص: 594) ما نصّه: (العِيدُ: ما يُعَاوِدُ مرّةً بعدَ أخرى، وخُصّ في الشّريعةِ بيومِ الفِطر ويوم النّحر.

ولمّا كان ذلك اليوم مجعولاً للسّرور في الشريعة  -كما نبّه النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بقوله: (أيّام التشريقِ؛ أيّام أكلٍ وشُربٍ وذكرٍ لله) أخرجه مسلم (1141) صار يُستعمل العِيدُ في كلّ يومٍ، فيه مَسرّةٌ!

وعلى ذلك «يُفهَم» قوله تعالى: (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ، تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ، وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

وقال أبو البقاء الكفويّ في كلّياته (ص: 597): «كلُّ يَوْمِ مَسَرَّةٍ؛ فَهُوَ عيدٌ وَلذَا قيل: «عيد وَعِيد وَعِيد، صِرن مَجتَمِعاً ... وَجهَ الحبيب، وَيَوْمَ الْعِيد وَالْجُمُعَةْ».

فكلامُ الراغبِ الأصبهانيّ والكَفَويّ؛ واضح في جواز تسمية كلِّ يومِ فرحٍ وسرور عيداً.

وأهلُ البيتِ - ومعهم الصوفيّة المتّصلةُ طرائقُهم بالإمام عليّ - يعتقدونَ أنّ يومَ الغديرِ؛ هو اليوم الذي نَصَبَ فيه الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم الإمامَ عليّاً خَلَفاً له على هذه الأمّة، والحديث المتواتر، الذي صحَّحَ وحَسّنَ الذهبيّ ثمانيةَ أحاديثَ منه (مَن كنت مولاه؛ فعليّ مولاه) لا يفيد عند من لديه بعضُ فقهٍ بالعربية، سوى منح الإمام عليّ وظائفَ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، سوى النبوّة، وهي مستثناةٍ من وظائف هارون عليه السلام بحديثٍ نبويّ مشهورٍ أيضاً.

سواءٌ أوّلتموه، أو رددتموه؛ فهذا هو دليلنا، فأين دليلُك أنت على أنّ عيد الغدير لا يرتبط بالإمام علي؟

غايةَ ما نقول لكم، حسماً لمادّةِ الخلاف: إذا تشنّجتم من عدّ يوم الغدير عيداً دينيّاً؛ فلا بأس، عُدّوه عيداً اجتماعيّاً وانتهى الأمر !

وقد كان عندنا في بلاد الشام عيدٌ يسمّى (عيد المشايخ) و(عيد الربيع) وفي مصر (عيد شمّ النسيم) فليكن يوم الغدير واحداً من هذه الأعياد الاجتماعية، فكان ماذا؟

وافق الرافضةَ، خالفَ الرافضة، أغضب أهل السنة أرضى أهل السنّة، نحن الصوفيّة لا نتدخّل في الصراعات السياسيّة أبداً؛ لأنّ السياسةَ نقيضَ الزُهدِ في الدنيا!

وفي هذا يقول جدّنا عليٌّ إمام الزاهدين.

(وَاللهِ لَوْ أُعْطِيتُ الاَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاَكِهَا؛ عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللهَ فِي نَمْلَة أَسْلُبُهَا جِلْبَ شَعِيرَة مَا فَعَلْتُهُ، وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لأهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَة تَقْضِمُهَا!

مَا لِعَلِيّ وَلِنَعِيم يَفْنَى، وَلَذَّة لاَ تَبْقَى؟! نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ، وَقُبْحِ الزَّلَلِ، وَبِهِ نَسْتَعِينُ.

قَدْ حَقَّرَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الدُّنْيَا وَصَغَّرَهَا، وَأَهْوَنَ بَهَا وَهَوَّنَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ تعالى زَوَاهَا عَنْهُ اخْتِيَاراً، وَبَسَطَهَا لِغَيْرِهِ احْتِقَاراً، فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وَأَمَاتَ ذِكْرَهَا عَنْ نَفْسِهَ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ، لِكَيْلاَ يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً، أوْ يَرْجُوَ فِيهَا مَقَاماً.

بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً،  وَنَصَحَ لاُِمَّتِهِ مُنْذِراً، وَدَعاَ إِلَى الْجَنَّةِ مُبَشِّراً، وَخَوَّفَ مِنَ النَّارِ مُحَذِّراً) ونحن على منهاجه سائرون، على قدر توفيق الله لنا، وعونه إياناً.

والله تعالى أعلم.

والحمد لله على كلّ حال.

الثلاثاء، 10 يونيو 2025

         مَسائِلُ حَديثيّةٌ:

الرواة المقبولون في الصحيحين !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ للهِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى).

قال الحافظ ابن حجر في مقدمة كتابه المشهور «تقريب التهذيب» (ص: 110) من طبعة دار المنهاج، بتحقيق الشيخ محمّد عوامة، ما نصّه:

«وباعتبار ما ذكرتُ؛ انحصر لي الكلام على أحوالهم - الرواة - في اثنتي عشرةَ مرتّبةً، وحصر طبقاتهم في اثنتي عشرةَ طبقةً.

أمّا المراتب: فأولّها الصحابة، فأصرّح بذلك لشرفهم».

وفي (ص: 111) قال: «السادسة: من ليس له من الحديثِ إلّا القليلُ، ولم يثبُتْ ما يُتْرَك حديثُه من أجله، وإليه الإشارةُ بلفظ (مقبول) حيث يُتابَع، وإلّا فليّن الحديث»!!

في المنشورِ الحديثيّ السابق «منهج الإمام البخاريّ في انتقاء رواةِ صحيحه» اعترضُ أحدُ السفهاء الشتّامين، وقال: إنّ هجرة عدابٍ وتنقّله في البلدان أثّر على عقلِه، وقال: «إنه لا يُصَدّق عداباً

وأقول: ماذا يستفيدُ السفلةُ الحقراءُ من الطعن بالمسلمين وتكذيبهم وغمزهم، سوى غضب الله تعالى، ومقابلةُ سفههم هذا بالدعاء عليهم!

اللهم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بأن تنتقم لي من كلّ من يتنقّصني أو يسبّني بالباطل!

ثمّ إنني عند مباشرةِ تخريجي أحاديثَ الصحيحين؛ صنعت عدداً من الإحصائيّات المفيدةِ في التخريج الموضوعيّ لأحاديث الجامع الصحيح للإمام البخاريّ، والمسند الصحيح للإمام مسلم.

من ذلك مصطلح (مقبول) وخرّجت كثيراً من أحاديث هذا المصطلح.

وكان عدد الرواةِ الذين أطلق عليهم الحافظ ابن حجر مصطلح (مقبول) من رواة الصحيحين معاً (121) راوياً.

كان عدد الرواة الذين اتّفق الشيخان على التخريج لهم تسعةَ رواة:

أوّلهم: (1) رافع المدنيّ مولى مروان بن الحكم وبوابه مقبول من الثالثة (خ م ت س) التقريب (1881) تهذيب الكمال (2: 452) وحديثه عند البخاري (4568) وعند مسلم (2778).

وآخرهم: (9) أبو بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف الأنصاري الأوسي المدني مقبول من السادسة (خ م س) التقريب (6038) تهذيب الكمال (8: 255) وحديثه عند البخاري (549، 914) وعند مسلم (623).

وكان عدد الرواة الذين انفرد البخاري بتخريج أحاديثَ مسندةً لهم أربعةً وعشرين راوياً:

أوّلهم (10) إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي مقبول من الثالثة (خ س ق) التقريب (207) تهذيب الكمال (1: 121).

وحديثه عند البخاري (5443) .

وآخرهم (33) أبو يزيد المدني نزيل البصرة مقبول من الرابعة (خ س) التقريب (8520) تهذيب الكمال الكمال  (8: 460) وحديثه عند البخاري (3845).

وكان عدد الرواة الذين أخرج لهم البخاري في صحيحه تعليقاً (خت) أربعة عشر راوياً:

أوّلهم: (34) حكيم الصنعاني مقبول من الثانية (خت) التقريب (1490) تهذيب الكمال (2: 267) وهو والد الراوي المغيرة بن حكيم، وحديثه عند البخاري (6896).

وآخرهم: (47) أبو عثمان التَبّان «والد موسى» مولى المغيرة بن شعبة قيل اسمه سعد وقيل عمران مقبول من الثالثة (خت د ت س) التقريب (8305) تهذيب الكمال (8: 397) وهو والد موسى بن أبي عثمان وحديثه عند البخاري (5195).

وكان عدد الرواة الذين انفرد مسلم بالتخريج لهم في صحيحه أربعةً وسبعين راوياً:

أوّلهم: (48) أحمد بن جعفر المَعقِريّ، نزيل مكة مقبول من الحادية عشرة مات سنة خمس وخمسين (م) التقريب (19) تهذيب الكمال (1: 34) وهو شيخ الإمام مسلم، ولأحمد هذا عنده أربعة أحاديث (395، 832، 2362، 2501) .

(121) أبو الوليد المكي عن جابر هو سعيد بن مينا وقيل يسار بن عبد الرحمن شيخ مقبول من الرابعة (م) التقريب (8505) تهذيب الكمال (8: 455) وقد روى مسلم من طريقه عن الصحابيّ جابر بن عبدالله خمسة أحاديث (952، 1536، 2039، 2285، 2287).

وروى من طريقه عن الصحابي عبدالله بن الزبير حديثاً واحداً (1333).

وروى مسلم من طريقه عن الصحابيّ عبدالله بن عمرو بن العاص حديثاً واحداً (1159).

ختاماً: الفقير عداب لم يكذب، ولم يدّع دعاوى باطلة، عندما كان يافعاً وشابّاً، إنّما يكذب النذل الجبان.

والله المستعان.

والحمد لله على كلّ حال.

السبت، 7 يونيو 2025

        مَسائِلُ حَديثيّةٌ:

مَنْهجُ الإمامِ البخاريّ في انتقاءِ رواةِ صحيحه !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ للهِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى)

أمّا بعد:

قال لي صاحبي: «اطّلعتُ على كتابٍ لأحدِ المشتغلين في الحديثِ النبويّ، يردّ عليك في تهوينِك من شأنِ صحيح الإمام البخاريّ، حبّذا لو اطّلعتَ عليه»!

أقول وبالله التوفيق:

أوّلاً: كلُّ مَن يقول: إنني أهوّن من شأنِ صحيح البخاريّ، أو صحيحِ مسلمٍ، أو صحيح ابن حبّان، أو حتّى مستدركِ الحاكم؛ فهو أحدُ رجلين:

إمّا جاهلٌ بما أقولُ، أو مفترٍ!

أنا أقدّر تقديرا كبيراً كلَّ مصنَّفٍ من مصنّفات الحديثِ النبويّ، بما في ذلك الأجزاءُ الحديثيّةُ والأمالي ومعاجم الشيوخ!

وما قرأت كتاباً من هذه الكتبِ؛ إلّا أفدتُ منه فوائدَ لم أكنْ أعرفها قبل قراءته!

وقد قرأت لأحدِ إخواننا من الشيعة الإماميّة كلاماً مفادُه أنّ «الكافي» لأبي جعفرٍ الكلينيّ؛ أفضلُ من صحيح البخاريّ، فعلّقت في ذلك الموضع بقولي:

«هذا كلامُ جاهلٍ لا يفهم علمَ الحديثِ ولا غيرَه، صحيحُ البخاريُّ بين كتبِ الحديثِ سماءٌ، وكتابُ الكافي وأمثالِه في وادٍ غير ذي زرعٍ سحيق، من حيث الصناعةُ الحديثيّة»!

وطلّابي الذين حضروا عليّ مجالسَ «الأمالي العراقيّة» يتذكّرون كيف غشيتنا الرحمةُ، ونزلت علينا السكينةُ، ونحن نلقي درسَ التعريف بالإمام «محمد بن يزيد ابن ماجه» رحمه الله تعالى، وكتابه «السنن» حتى إنّ عدداً من الحاضرين بكى من التأثُّر!

ولا يخفى أنّ بينَ «صحيح البخاريّ» و«سنن ابن ماجه» من جهة الصحة؛ بونٌ شاسع!

وقد سمعتُ بأنّ عدداً من الإخوةِ «السلفيين» ردّوا عليّ في مسائلَ عديدة:

بعضهم ردّ عليّ في كتاب المهدي!

وبعضهم ردّ عليّ في كتاب «الوحدان».

وبعضهم ردّ عليّ في تخريجي لأفرادِ البخاري ومسلمٍ.

وأنا لم أطّلع على شيءٍ من هذه الردودِ، سوى ردودِ بعضهم على كتاب «المهدي».

ولو أنّهم أرسلوا إليّ ردودَهم؛ لاطّلعتُ عليها، وشكرتهم!

في عام (1399) اختلفنا أنا وأخي الدكتور «عبدالغني بن أحمد مزهر التميمي الفلسطيني، حيالَ «الرواةِ المسكوت عليهم» واستغربَ أن يكون شيخنا عبدالفتاح أبو غُدّة يقول بتوثيقهم، رحمهم الله تعالى.

طلبَ مني الدكتور «عبدالغني» أن أكتب بحثاً استقرائيّاً في هذه المسألةِ، وقال لي:

هل تعلم يا شيخ عداب أنّ القولَ بتوثيق المسكوت عليهم من نقاد الحديث؛ ستكون نتيجتُه تصحيحَ ألوفٍ من الأحاديثِ التالفةِ، التي أودعها أصحاب الموضوعاتِ والعلل في مصنّفاتهم؟

كتبت كتابي «الرواة الذين سكت عليهم أئمة الجرح والتعديل» ثمّ نسختُ منه نسخاً كثيرةً، كانت النسخةُ الأولى منها لفضيلةِ شيخنا عبدالفتاح أبو غدّة، مصحوبة برسالة، مما كتبت فيها: «إنني - والله - كتبتُ هذا البحثَ انتصاراً لك، فأبى العلمُ إلّا أن تكون نتيجتُه خلافَ رأيك» واستمهلته سنةً كاملةً ليردّ على ما جاءَ في بحثي!

هؤلاء الذين يردّون عليَّ وعلى غيري؛ لا أدري مقاصدَهم ونيّاتهم، بيد أنّ معايشتي للسلفيين ثلاثةَ عشر عاماً في الحجاز، علّمتني أنَّ الأصلَ لديهم؛ «سوءُ الظنّ» بغير السلفيّ، وللأسف!

وخلاصةُ ما أقولُ في الردّ على صاحب منهج البخاري في انتقاء الرواة:

عددُ رواةِ صحيح البخاري في حدود (1700) راوٍ، الذين انتُقِد على البخاريّ ومسلمٍ معاً تخريجُ أحاديثهم:

(200) راوٍ، ضعفهم الإمام ابن حبّان في كتابيه «المجروحين - الثقات».

(101) راوٍ، من الوُحدان، الذين لم يرو عنهم سوى راوٍ واحدٍ.

(141) راوياً ممن وصفهم ابن حجر بوصف «مقبول».

وقد أحصى أخونا وزميلنا الدكتور «عبدالجَواد حمام» في أطروحته «جهالةُ الرواةِ وأثرها في قَبول الحديث النبويّ» (2: 1021 - 1029) عدد الرواة المسكوت عليهم، عند البخاريّ ومسلمٍ، فكانوا (119) راوياً.

وأحصى عددَ الذين وَصفهم بعضُ الحفّاظ بالجهالةِ (2: 1034 - 1124) فكان عددهم (91) راوياً.

فهؤلاء (625) راوياً مطعونٌ بهم بنوعٍ من أنواع الطعن، ونسبتهم تتجاوز (25%) من مجموع عددِ الرواة، الذين لا يُقبل حديثُ واحدٍ منهم استقلالاً.

ما دامت هذه النسبة الإحصائيّةُ حاضرةً في صحيح البخاريّ وصحيح مسلم؛ فهذا يضرب قاعدةَ «كلّ ما في الصحيحين؛ صحيح» من جذورها.

ما أقصدُه أنّ الهالةَ العظمى المعطاةَ لصحيح البخاريّ، ثم لصحيح مسلم؛ تتضاءَل بعد قراءةِ هذه الأرقام، من الرواةِ الذين لا يحتجّ بواحدٍ منهم إذا انفرد بحديث!

وهذا يعني أنّه لا يجوزُ لأهلِ العلم والباحثين؛ أن يُغمضوا أعينَهم، فيحتجّوا على ما يريدون بقولهم: أخرجه البخاري ومسلمٌ، أو أحدهما.

بل لا بدَّ من تخريجِ كلّ حديثٍ يريد أحدهم الاستدلالَ بهم على مسألةٍ فكريّةٍ أم فقهيّة!

أمّا مسائلُ الاعتقادِ؛ فقد قلتُ غير مرّةٍ: لا تصلح الروايات الحديثية لبناء عقيدةٍ عليها، إذا إذا كانت شارحةً لمجمل القرآن الكريم، وكانت لا تتعارض مع قوله تعالى (ليس كمثله شيءٌ).

والله تعالى أعلم.

والحمدُ لله على كلِّ حال.

الأربعاء، 4 يونيو 2025

  مَسائِلُ مِن الفِقْهِ والأُصولِ:

صلاةُ العيدِ وصلاةُ الجمعةِ، في يَومِ جُمُعةٍ ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

سألني عدد من الإخوة عن إجزاء صلاة العيد عن صلاة الجمعة، إذا توافقتا في يوم واحد؟

أقول وبالله التوفيق:

لا يخفى على طالب العلم أن الحجة في كتاب الله تعالى، وفي سنة الرسول الصحيحة.

صلى الله عليه وآله وسلم.

وإجماع علماء الأمة الإسلامية ليس دليلاً شرعياً، إنما هو كاشف عن الدليل، ظاهراً أو خفيّاً.

أما الإجماع الطائفي العاري عن دليلٍ بعينه؛ فليس بحجة من باب أولى.

إذا قرأت كلامي هذا؛ يسهل عليك استيعاب كلامي الآتي:

أولا: لم يصح أيُّ حديث عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المسألة، نفياً أم إثباتاً.

وقد رُويت عدّة أحاديث مرفوعة، جميعها ضعيفة، ورويت بعضُ آثارٍ موقوفةٍ على الصحابةِ والتابعين، بعضها صحيح الإسناد، وله محامل، كما سيأتي.

وإليك أحسن ما روي من ذلك:

بإسنادي إلى عُبيدِالله بن يحيى الليثيّ قال: أخبرني أبي في الموطأ (431) عن مالك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ قَالَ في حديثٍ له: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَجَاءَ فَصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ فَخَطَبَ، وَقَالَ: «إِنَّهُ قَدْ اجْتَمَعَ لَكُمْ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْ أَهْلِ الْعَالِيَةِ أَنْ يَنْتَظِرَ الْجُمُعَةَ؛ فَلْيَنْتَظِرْها، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ؛ فَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ» ومن حديث الزهريّ عن أبي عُبيدٍ به موقوفاً على عثمان رضي الله عنه؛ أخرجه الشافعيّ في مسنده (501) البخاري في صحيحه (5573).

وظاهرُ إسنادِ هذا الحديث الصحّة مع الغرابة، بيد أنّني لم أجد في الكتب التسعة بهذا الإسنادِ (الزهريّ عن أبي عُبيدٍ، عن عثمان) سوى هذا الحديث الواحد!

ولم أجد بهذا الإسناد (الزهريّ عن أبي عُبيدٍ، عن عمر رضي الله عنه) سوى طرفِ هذا الحديثِ الأوّلِ نفسه.

ولم أجد بهذا الإسناد (الزهريّ عن أبي عُبيدٍ، عن عليّ عليه السلام) سوى طرفِ هذا الحديث الأخيرِ نفسِه!

ولو صحّ هذا الحديثُ سنداً ومتناً؛ فهو مقيّدٌ بترخيص عثمان لأهل العاليةِ، الذين حضروا لصلاةِ العيد؛ لأنّ عليهم في ذلك مشقّة، فيما يبدو، ولم يرخّص بذلك، لمن كان من أهلِ المدينة، ويبقى هذا اجتهاداً من عثمان، ليس حجّةً شرعية!

وبإسنادي إلى الإمام أبي داود الطيالسيِّ في مسنده (720) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ بن يونسَ السبيعيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ إِيَاسِ بْنِ أَبِي رَمْلَةَ الشَّامِيِّ قَالَ: شَهِدْتُ مُعَاوِيَةَ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قالَ: أَشَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِيدَيْنِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: كَيْفَ صَنَعَ؟ قَالَ: (صَلَّى رَسُولُ اللهِ الْعِيدَ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: (مَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ؛ فَلْيُصَلِّ).

ومن حديث إسرائيل عن عثمان بن المغيرة، به مرفوعاً؛ أخرجه ابن أبي شيبةَ (5846) وأحمد في مسنده (19318) والدارمي (1653) وابن ماجه (1309) وأبو داود (1070) والنسائيّ (1591) وجمع غيرُهم، وهذا إسناد ضعيفٌ؛ لجهالةِ إياس بن أبي رملةَ!

قال أبو الحسن ابن القطّان والذهبيّ وابن حجر: مجهول!

وبإسنادي إلى الإمام محمد بن يزيد ابن ماجه في كتابه السنن (1311) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى الْحِمْصِيُّ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ: حَدَّثَنِي مُغِيرَةُ الضَّبِّيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (اجْتَمَعَ عِيدَانِ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا، فَمَنْ شَاءَ؛ أَجْزَأَهُ مِنْ الْجُمُعَةِ وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ، إِنْ شَاءَ الله).

وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ: حَدَّثَنِي مُغِيرَةُ الضَّبِّيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) نَحْوَهُ.

وأخرج أبو داود في سننه حديثَ أبي هريرة (1073) من حديث بقيّة بن الوليدِ عن شعبةَ به، ولفظه: «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:

(قَدْ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ، فَمَنْ شَاءَ؛ أَجْزَأَهُ «العيدُ» مِنْ الْجُمُعَةِ، وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ) قَالَ عُمَرُ بنُ حفصٍ الوصابيُّ: حدّنا بقيّةُ عَنْ شُعْبَةَ».

وقد سئل الدارقطني عن هذا الحديث، في كتابه «العلل» (10: 215) فسردَ أوجه الخلافِ فيه، ثم ختم بقوله: «وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَزَائِدَةُ، وَشَرِيكٌ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَأَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ، كُلُّهُمْ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفِيعٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ مُرْسَلًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ».

وأورد ابن عبدالبَرّ هذا الحديث في «التمهيد» (10: 273) وقال: «هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَرْوِهِ فِيمَا - عَلِمْتُ - عَنْ شُعْبَةَ أَحَدٌ مِنْ ثِقَاتِ أَصْحَابِهِ الْحُفَّاظِ!

وَإِنَّمَا رَوَاهُ عَنْهُ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ فِي شُعْبَةَ أَصْلاً.

وَرِوَايَتُهُ عَنْ أَهْلِ بَلَدِهِ أَهْلِ الشَّامِ فِيهَا كَلَامٌ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يُضَعِّفُونَ بَقِيَّةَ عَنِ الشَّامِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَلَهُ مَنَاكِيرُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لَيْسَ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِهِ».

وقال ابن الجوزي في العلل (1: 473): «قَالَ أَحْمَدُ ابْنُ حَنْبَلٍ: إِنَّمَا رَوَاهُ النَّاسُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ مُرْسَلاً، وَتَعَجَّبَ مِنْ بَقِيَّةَ، كَيْفَ رَفَعَهُ»؟! وَقَدْ كَانَ بَقِيَّةُ يَرْوِي عَنِ الضُّعَفَاءِ وَيُدَلِّسُ».

وأورد ابن القطّان الفاسي هذا الحديث في «الوهم والإيهام» (4: 163) مستنكراً سكوت عبدالحقّ عليه، وقال: «إِنَّمَا يرويهِ بَقِيَّة بن الْوَلِيد، وَبَقِيَّةُ مَن قَد عُلِمَتْ حَالُه ونَكارةُ حَدِيثه».

ثانيا: ليس في دين الإسلام شيء اسمه (سنة الراشدين) ولا (سنة الشيخين) ولا (قول المعصوم) فالمعصوم هو الرسول وحده، صلّى الله عليه وآله وسلم.

ثالثا: أقوال الصحابة رضي الله عنهم وأفعالهم؛ ليست حججا شرعية، إلا إذا أجمعوا.

فسواء صح عن هذا الصحابي شيء، أم لم يصح؛ فلا يدخل قوله وفعله في الدين.

ويتأكّد هذا إذا لم يكن ذاك الصحابيُّ من الفقهاء!

فأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عمرو بن العاص، إذا صح عن أحدهم فتوى؛ فليست ملزمة لغيرهم.

ثالثا: إن صلاة العيد سنة مؤكدة عند جمهور العلماء.

أما صلاة الجمعة؛ فهي فرض على الأعيان، ولها خصوصيّةٌ فريدةٌ، إذ سُمّيت سورة باسمها (سورة الجمعة).

 يقول فيها الله تبارك وتعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؛ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَذَرُوا الْبَيْعَ، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9).

فلا يُعقَلُ أبداً أن نُفتي من صلّى ركعتين نافلة؛ بأنهما أجزأتاه عن فريضة عينيّة محتّمة!

رابعا: من أفتى بإجزاء صلاة العيدِ عن صلاةِ الجمعة لمن شاء، كالحنابلة؛ فلأنهم صححوا بعضَ الآثار الموقوفة عن بَعضِ الصحابة.

ومن مذهب لإمام أحمد؛ أنه لا يحب أن يخالف صحابيا، كما يقول.

 

والفقير لا يرى هذا الرأي، ولا يرى الحجة إلا بقول الرسول أو فعله الثابتينِ، صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.

فإذا كان يشق على البدو، أو المرضى، أو كبار السن؛ أن يُصلّوا العيدَ ضُحىً، والجمعةَ ظُهراً في يوم واحد؛ فليتخلفوا عن أداء صلاة العيد في المساجد، وليصلوها في بيوتهم، أو لا يُصلوها أصلاً، إذا كان فيها مشقة عليهم.

 وليؤدوا صلاة الجمعة في المساجد الجامعة.

 لأنّ ترك سنّةٍ - حتى لو كانت مؤكّدةً ومن الشعائر - أيسر بكثيرٍ عند الله تعالى من ترك فريضةٍ عينيّةٍ من أجل سُنّة!

قال الفقيه أبو الوليد ابن رشد، في «بداية المجتهد» (1: 230):

«اخْتَلَفُوا إِذَا اجْتَمَعَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ عِيدٌ وَجُمُعَةٌ، هَلْ يُجْزِئُ الْعِيدُ عَنِ الْجُمُعَةِ؟

فَقَالَ قَوْمٌ: يُجْزِئُ الْعِيدُ عَنِ الْجُمُعَةِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ «بعد أداء صلاةِ العيد» إِلَّا الْعَصْرُ فَقَطْ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعن عَلِيٍّ «عليه السلام».

وَقَالَ قَوْمٌ: هَذِهِ رُخْصَةٌ لِأَهْلِ الْبَوَادِي الَّذِينَ يَرِدُونَ الْأَمْصَارَ لِلْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ خَاصَّةً، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ خَطَبَ فِي يَوْمِ عِيدٍ وَجُمُعَةٍ فَقَالَ: (مَنْ أَحَبَّ مِنْ أَهْلِ الْعَالِيَةِ أَنْ يَنْتَظِرَ الْجُمُعَةَ فَلْيَنْتَظِرْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ فَلْيَرْجِعْ)

وَروي نَحْوَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.

وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا اجْتَمَعَ عِيدٌ وَجُمُعَةٌ فَالْمُكَلَّفُ مُخَاطِبٌ بِهِمَا جَمِيعًا: الْعِيدُ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَالْجُمُعَةُ عَلَى أَنَّهَا فَرْضٌ، وَلَا يَنُوبُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ.

وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ، إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ فِي ذَلِكَ شَرْعٌ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ.

وَمَنْ تَمَسَّكَ بِقَوْلِ عُثْمَانَ؛ فَلِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ بِالرَّأْيِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَوْقِيفٌ، وَلَيْسَ هُوَ بِخَارِجٍ عَنِ الْأُصُولِ كُلَّ الْخُرُوجِ.

وَأَمَّا إِسْقَاطُ فَرْضِ الظُّهْرِ وَالْجُمُعَةِ الَّتِي هِيَ بَدَلَهُ لِمَكَانِ صَلَاةِ الْعِيدِ فَخَارِجٌ عَنِ الْأُصُولِ جِدًّا، إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ فِي ذَلِكَ شَرْعٌ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ».

وقد طوّل الإمام المحدّث الفقيه أبو بكر ابنُ المنذر النيسابوري، في كتابه «الأوسط» (4: 291) في معالجة هذه المسألة، وكان مما قال: «أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَدَلَّتِ الْأَخْبَارُ الثَّابِتَةُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ فَرَائِضَ الصَّلَوَاتِ خَمْسٌ، وَصَلَاةُ الْعِيدَيْنِ لَيْسَتْ مِنَ الْخَمْسِ.

وَإِذَا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى وُجُوبِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَدَلَّتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ فَرَائِضَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَصَلَاةَ الْعِيدَيْنِ لَيْسَتْ مِنَ الْخَمْسِ.

وَإِذَا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى وُجُوبِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَدَلَّتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ تَطَوُّعٌ، لَمْ يَجُزْ تَرْكُ فَرْضٍ بِتَطَوُّعٍ»

خِتاماً: أرى أنّ الجِدالَ في مسائلِ الخلافِ، لا يُجدي لدى المقلّدةِ شيئاً؛ لأنّ المقلّد يعتقد بإمامه الأعلميّةَ، وإلّا ما قلّده، خاصّةً عند من يرى قولَ الصحابيّ وفعله حجّة!

بيد أنْ يأتي أناسٌ يدّعون أنّ هذا هو السنّةُ؛ فهو كذبٌ على رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعلى سنّته.

قصارى المسألةِ - عند مَن يقول بها - أنّها رخصةٌ رخّص بها عثمانُ رضي الله عنه ومَن تابَعه للبدوِ وسكّان العوالي، وكانت بعيدةً عن المدينة في تلك الأيّام.

وهذا لا ينطبق على أهل الحواضرِ في عصرنا، حيث المساجد منتشرة في كلّ حيٍّ من أحياء المدن، وما أكثر المواصلاتِ في البلاد!

والورعُ والتقوى تقودان إلى الاحتياط في الدين، وليس إلى التماسِ الأيسر والأسهل!

وأعيذُ بالله إخواني المسلمين؛ أن يكون هدفُ أحدهم «خالفْ لتتميّز»!

والله تعالى أعلم.

هذا... وصلّى الله على رسولنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً وبارك.

 والحمد لله على كل حال.

الأحد، 1 يونيو 2025

        مَسائِلُ عَقديّةٌ:

هلْ أنتَ تُنكِرُ الصفات !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

أجبتُ أحدَ الإخوةِ في تفسير آيةٍ من القرآن الكريم، فلم يعجبه تفسيري، وقال:

أليس تفسيرُك هذا إنكاراً لصفة واردةٍ لله تعالى في القرآن الكريم؟

أقولُ وبالله التوفيق:

الذي يُنكر اسماً ثابتاً، أو صفةً لله تبارك وتعالى، ثابتةً في القرآن الكريمِ؛ يُعَلّم ويفهّم

فإنْ أصرّ على إنكارِ أنّ لله تعالى اسماً هو (الله - الحيّ - القيّوم) مثلاً.

أو أصرّ على إنكار أنّ لله تعالى صفة (الإرادةِ - الحياةِ - البقاء) مثلاً؛ فقد أنكرَ اسماً أو صفةً واردين في القرآن الكريم.

بيد أنّ معاني هذه الأسماء وتلك الصفات جميعها محكوم بقوله تبارك وتعالى:

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير).

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1) اللهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)

(لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير).

وفي ضوء معاني هذه الآياتِ؛ قال علماؤنا: «كلُّ ما خَطرَ في بالك؛ فالله ليس كذلك».

ورد لله تعالى في القرآن الكريم سبعون اسماً، وستٌّ وستّون صفة؛ أؤمن بجميعها!

بيد أنّ معانيها تفهم عندي حسبَ فقه اللغة العربية، وأساليبها في البيان، وفي ضوء سباقِها وسياقها، الذي وردت هذه الآيةُ لتفسره أو لتنشئه.

وأفهم الصفاتِ كما يفهم كلّ أدباء العربِ الصفاتِ، إذْ هم الذين يفهمون اللغة حقَّ الفهم، ولا قيمةَ لفهم العوامّ عندي!

نعم قد يسعُ العوامَّ فهمُهم لنصوص القرآن الكريم، وقد يعذرون أمامَ الله تعالى، عند من يوجب عليهم الاجتهاد في المعتقدات، لكنّ هذا لا يلغي أنّ فهمهم المتبادرُ لهم قد يكون خطأً محضاً!

مثال ذلك، قول الله تعالى:

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ، وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) [الزمر].

فإذا جاء إنسانٌ - صَغُرَ أو كَبُرَ، تقدّم زمنُه أو تأخرّ؛ فقال:

هذه الآيةُ يثبتُ ظاهرها لله تعالى جنباً، وإضافةُ الجَنبِ إليه تعالى لا تختلف عن (يدُ اللهِ) و(وَجَهَ اللهِ).

قلنا له: قبلَ أن نقبلَ تفسيرك معنى الجنب، أو نُنكرُه؛ فلا بدَّ من استعراض المواضعِ التي ذُكرتْ فيها كلمة (جَنْب) في القرآن الكريم، ثم نستبعد كلَّ تفسيرٍ لا تجوزُ نسبته إلى الله تعالى، ثم نختار من بين المعاني التي يجوز إضافتها إلى الله تعالى الأليقَ منها.   

(وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ).

مفهوم الآيةِ أنّ الإنسانَ دعا الله تعالى ليكشفَ عنه ضُرّه، وليس مفهومها أنّ الإنسانَ دعا الله تعالى ليقف ماديّاً بجانبه.                     

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ).

مفهوم الآيةِ أنّ إبراهيم عليه السلام أرادَ أن يملأ اللهُ تعالى قلبَه وقلوبَ أبنائه بالتوحيدِ المباينِ لعبادةِ الأصنام الشركية، وليس مقصود الآية أن يُباعِده مكانيّاً من الأصنام!

فالذي يعبد صنماً مثل «بوذا» يعبده وهو في أمريكا، ولا يشترط لتحقق عبادته إيّاه؛ أن يكون مجاوراً له.

والآيةُ موضع البحثِ (يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) لا يمكن فهمها على ظاهرها الوَضعيّ، إذْ كلمة (جنب) موضوعةٌ دلالةً على طرفِ الإنسان.

وإذْ لا معنى للتفريط في الطرف الأيمن أو الأيسر؛ يجب أن ينصرف المعنى إلى الكنايةِ أو المجاز، فيكون المعنى المقصود «يا حسرتي على ما قصّرتُ في توحيدِ الله تعالى» أو «في عبادةِ الله تعالى» أو «في التقرّب إلى الله تعالى».

وما قلته بخصوص كلمةِ الجنب؛ أقوله بالنسبة للوجه واليد والاستواء والساق والضحك والتبشبش والمشي والهرولة ...إلخ.

أيُّ آيةٍ في القرآن الكريمِ توَهّم بعضهم، أو يمكن أن يتوهم بعض آخر منها التشبيه والتجسيم؛ فتفسيرها كما قدّمت هو المقصود، وليس المقصود الدلالةَ الوضعية لكلمة (وجه، يد، ساق).

فأنا أثبت لله تعالى سبعين اسماً، وستّاً وستّين صفةً؛ وردت ورد في القرآن الكريم.

وأنزّه الله تعالى عن كلِّ إضافةٍ توهّم منها بعضُ المتقدّمين أنّها صفات، وليست هي من الصفات بسبيلٍ، لا في التركيبِ اللغويّ، ولا في التخاطب المتعارفِ عليه بين العرب.

العرب تفهم أنّ معنى (الوجه) غير معنى (اليد) غير معنى (الساق) غير معنى (الحقو) غير معنى (الجنب) فإثباتُ صفاتٍ حقيقيّةٍ لله تعالى من إضافة مثل هذه الكلمات؛ لا يعني شيئاً غير الجسمية والتشبيه، سواء قلتَ: بلا كيف، أو قلت: يليق بالله تعالى.

إذ لا يليق بالله تعالى مشابهةُ مخلوقاته في شيءٍ البتّة، وأحاديثُ هذه الإضافاتِ التي يدعونها صفاتٍ؛ كلّها أحاديثُ ظنيّةُ الثبوتِ، تتفاوت درجات ثبوتها تفاوتاً كبيراً، وما ثبت منها؛ هو ظُنونٌ، تُفهم في ضوء ما تقدّمَ من بيانٍ، وليس شيءٌ منها صفةٌ ذاتيّةٌ حقيقيّة لله تعالى.

قال ذلك السلف، أم أنكره الخلف، فليس قولِ أحدٍ منهم حجّةً شرعية يجب التزامها من أحد.

ولا أدلَّ على سخافةِ إلزام المسلم بقول السلفِ المتقدمين من مسألةِ (الإقعاد على العرش) التي لم يرد فيها حديثٌ صحيح ولا حسن ولا ضعيف، ومع هذا عدّها كثيرٌ من هذا السلفِ من فضائل الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبدّع هذا السلفُ وضلّل وكفّر من لا يعتقد بها، مع أنّ اعتقادها ضلال مبين!

استلَلتُ «باب المقام المحمود» من كتابِ «السُنّة» لأبي بكر الخلّال (ت: 311 هـ) وخرّجتُ رواياتِه، وتوصلتُ إلى أنّ أكثرَ من (200) محدّثٍ وراوٍ يقولون بهذه العقيدة الوثنية الضالّة!

فهل كثرتهم تجعل الباطلَ صواباً؟

يقول هذا الخلّالُ الجليل: قالَ أبو بَكْرِ بنُ أَبِي طَالِبٍ: «مَنْ رَدَّ حَديثَ مجاهد» فَقَدْ رَدَّ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ كَذَّبَ بِفَضِيلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَدْ كَفَرَ بِاللهِ العَظيمِ».

[ ] (247)  وَأَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بنُ أَصْرَمَ الْمُزَنِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وقالَ: «مَنْ رَدَّ هَذَا؛ فَهُوَ مُتَّهَمٌ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَهُوَ عِنْدَنَا كَافِرٌ.

وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَنَ قالَ بِهَذَا؛ فَهُوَ ثَنَوِيُّ؛ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ الْعُلَماءَ وَالتَّابِعِينَ ثَنَوِيَّةٌ، وَمَنْ قالَ بِهَذَا؛ فَهُوَ زِنْدِيقٌ يُقْتَلُ».

هكذا إذنْ، من لا يعتقد بهذا الباطلِ؛ فهو كافر بالله العظيم، ومن خطّأ هذا السلفَ المجسّم؛ فهو زنديقٌ يقتلُ من دون استتابة!

والله المستعان وعليه التكلان.

والحمد لله على كلّ حال.