السبت، 7 يونيو 2025

        مَسائِلُ حَديثيّةٌ:

مَنْهجُ الإمامِ البخاريّ في انتقاءِ رواةِ صحيحه !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ للهِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى)

أمّا بعد:

قال لي صاحبي: «اطّلعتُ على كتابٍ لأحدِ المشتغلين في الحديثِ النبويّ، يردّ عليك في تهوينِك من شأنِ صحيح الإمام البخاريّ، حبّذا لو اطّلعتَ عليه»!

أقول وبالله التوفيق:

أوّلاً: كلُّ مَن يقول: إنني أهوّن من شأنِ صحيح البخاريّ، أو صحيحِ مسلمٍ، أو صحيح ابن حبّان، أو حتّى مستدركِ الحاكم؛ فهو أحدُ رجلين:

إمّا جاهلٌ بما أقولُ، أو مفترٍ!

أنا أقدّر تقديرا كبيراً كلَّ مصنَّفٍ من مصنّفات الحديثِ النبويّ، بما في ذلك الأجزاءُ الحديثيّةُ والأمالي ومعاجم الشيوخ!

وما قرأت كتاباً من هذه الكتبِ؛ إلّا أفدتُ منه فوائدَ لم أكنْ أعرفها قبل قراءته!

وقد قرأت لأحدِ إخواننا من الشيعة الإماميّة كلاماً مفادُه أنّ «الكافي» لأبي جعفرٍ الكلينيّ؛ أفضلُ من صحيح البخاريّ، فعلّقت في ذلك الموضع بقولي:

«هذا كلامُ جاهلٍ لا يفهم علمَ الحديثِ ولا غيرَه، صحيحُ البخاريُّ بين كتبِ الحديثِ سماءٌ، وكتابُ الكافي وأمثالِه في وادٍ غير ذي زرعٍ سحيق، من حيث الصناعةُ الحديثيّة»!

وطلّابي الذين حضروا عليّ مجالسَ «الأمالي العراقيّة» يتذكّرون كيف غشيتنا الرحمةُ، ونزلت علينا السكينةُ، ونحن نلقي درسَ التعريف بالإمام «محمد بن يزيد ابن ماجه» رحمه الله تعالى، وكتابه «السنن» حتى إنّ عدداً من الحاضرين بكى من التأثُّر!

ولا يخفى أنّ بينَ «صحيح البخاريّ» و«سنن ابن ماجه» من جهة الصحة؛ بونٌ شاسع!

وقد سمعتُ بأنّ عدداً من الإخوةِ «السلفيين» ردّوا عليّ في مسائلَ عديدة:

بعضهم ردّ عليّ في كتاب المهدي!

وبعضهم ردّ عليّ في كتاب «الوحدان».

وبعضهم ردّ عليّ في تخريجي لأفرادِ البخاري ومسلمٍ.

وأنا لم أطّلع على شيءٍ من هذه الردودِ، سوى ردودِ بعضهم على كتاب «المهدي».

ولو أنّهم أرسلوا إليّ ردودَهم؛ لاطّلعتُ عليها، وشكرتهم!

في عام (1399) اختلفنا أنا وأخي الدكتور «عبدالغني بن أحمد مزهر التميمي الفلسطيني، حيالَ «الرواةِ المسكوت عليهم» واستغربَ أن يكون شيخنا عبدالفتاح أبو غُدّة يقول بتوثيقهم، رحمهم الله تعالى.

طلبَ مني الدكتور «عبدالغني» أن أكتب بحثاً استقرائيّاً في هذه المسألةِ، وقال لي:

هل تعلم يا شيخ عداب أنّ القولَ بتوثيق المسكوت عليهم من نقاد الحديث؛ ستكون نتيجتُه تصحيحَ ألوفٍ من الأحاديثِ التالفةِ، التي أودعها أصحاب الموضوعاتِ والعلل في مصنّفاتهم؟

كتبت كتابي «الرواة الذين سكت عليهم أئمة الجرح والتعديل» ثمّ نسختُ منه نسخاً كثيرةً، كانت النسخةُ الأولى منها لفضيلةِ شيخنا عبدالفتاح أبو غدّة، مصحوبة برسالة، مما كتبت فيها: «إنني - والله - كتبتُ هذا البحثَ انتصاراً لك، فأبى العلمُ إلّا أن تكون نتيجتُه خلافَ رأيك» واستمهلته سنةً كاملةً ليردّ على ما جاءَ في بحثي!

هؤلاء الذين يردّون عليَّ وعلى غيري؛ لا أدري مقاصدَهم ونيّاتهم، بيد أنّ معايشتي للسلفيين ثلاثةَ عشر عاماً في الحجاز، علّمتني أنَّ الأصلَ لديهم؛ «سوءُ الظنّ» بغير السلفيّ، وللأسف!

وخلاصةُ ما أقولُ في الردّ على صاحب منهج البخاري في انتقاء الرواة:

عددُ رواةِ صحيح البخاري في حدود (1700) راوٍ، الذين انتُقِد على البخاريّ ومسلمٍ معاً تخريجُ أحاديثهم:

(200) راوٍ، ضعفهم الإمام ابن حبّان في كتابيه «المجروحين - الثقات».

(101) راوٍ، من الوُحدان، الذين لم يرو عنهم سوى راوٍ واحدٍ.

(141) راوياً ممن وصفهم ابن حجر بوصف «مقبول».

وقد أحصى أخونا وزميلنا الدكتور «عبدالجَواد حمام» في أطروحته «جهالةُ الرواةِ وأثرها في قَبول الحديث النبويّ» (2: 1021 - 1029) عدد الرواة المسكوت عليهم، عند البخاريّ ومسلمٍ، فكانوا (119) راوياً.

وأحصى عددَ الذين وَصفهم بعضُ الحفّاظ بالجهالةِ (2: 1034 - 1124) فكان عددهم (91) راوياً.

فهؤلاء (625) راوياً مطعونٌ بهم بنوعٍ من أنواع الطعن، ونسبتهم تتجاوز (25%) من مجموع عددِ الرواة، الذين لا يُقبل حديثُ واحدٍ منهم استقلالاً.

ما دامت هذه النسبة الإحصائيّةُ حاضرةً في صحيح البخاريّ وصحيح مسلم؛ فهذا يضرب قاعدةَ «كلّ ما في الصحيحين؛ صحيح» من جذورها.

ما أقصدُه أنّ الهالةَ العظمى المعطاةَ لصحيح البخاريّ، ثم لصحيح مسلم؛ تتضاءَل بعد قراءةِ هذه الأرقام، من الرواةِ الذين لا يحتجّ بواحدٍ منهم إذا انفرد بحديث!

وهذا يعني أنّه لا يجوزُ لأهلِ العلم والباحثين؛ أن يُغمضوا أعينَهم، فيحتجّوا على ما يريدون بقولهم: أخرجه البخاري ومسلمٌ، أو أحدهما.

بل لا بدَّ من تخريجِ كلّ حديثٍ يريد أحدهم الاستدلالَ بهم على مسألةٍ فكريّةٍ أم فقهيّة!

أمّا مسائلُ الاعتقادِ؛ فقد قلتُ غير مرّةٍ: لا تصلح الروايات الحديثية لبناء عقيدةٍ عليها، إذا إذا كانت شارحةً لمجمل القرآن الكريم، وكانت لا تتعارض مع قوله تعالى (ليس كمثله شيءٌ).

والله تعالى أعلم.

والحمدُ لله على كلِّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق