الأحد، 6 أغسطس 2023

  مِنْ عِبَرِ التاريخِ (12):

تَرجمةُ الإمامِ الشافعيّ !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

ترجم ابنُ الأثير للإمام الشافعيّ ترجمةً وافيةً في كتابه جامع الأصول (12: 868) فقال:

« مُحمّدُ بنُ إدريسَ الشّافِعيُّ:

هو الإمام أبو عبدالله محمدُ بنُ إدريسَ بنِ العبَّاس بن عثْمان بن شافع بن السَّائب بن عُبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المُطّلب بن عبد مناف القُرَشيُّ المُطَّلبيُّ، لقيَ شافعُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وهو مُتَرَعْرِعٌ [يقصد: كان شافعٌ صبيّاً].

وأسلم أبوه السائبُ يومَ بدر، كان السائبُ صاحبَ رايةِ بني هاشمٍ - مع المشركين ضدّ الرسولِ صلى الله عليه وسلم - فأُسِرَ، ففدَى نَفسَه، ثم أسلَم.

وُلِدَ الشَّافعيُّ بغَزَّةَ سنةَ خمسين ومائة، وحُمِل إلى مكةَ، وهو ابن سنتين.

ومناقبُه أكثرُ من أن تُعدَّ، وفضائلُه أكثرُ من أن تُحْصى، إمامُ الدنيا، وعالمُ الأرضِ شرقاً وغرباً، جمعَ اللهُ له من العلومِ والمفاخرِ، ما لم يَجْمَعْ لإِمامٍ قبلَه ولا بعدَه، وانتشر له من الذِّكر ما لم ينتشر لأحد سواه!

قال عبد الله بن أحمد ابن حنبل: قلت لأبي: أيُّ رجل كان الشافعيُّ، فإني سمعتُكَ تُكْثرُ من الدُّعاء له؟

فقال لي: يا بُنيَّ: كان الشَّافعيُّ كالشمسِ للنّهار، وكالعافية للناسِ، فانظرْ هل لهذين من خَلَفٍ أو عَنهما عِوضٌ؟

وقال أحمد ابن حنبل: ما بتُّ مُنذ ثلاثين سنةً، إلاَّ وأنا أدعو للشافعيِّ، وأستغفرُ له.

وقال أبو ثور: مَن زَعَم أنّه رأى مثلَ محمّد بن إدريسَ، في علمهِ، وفصاحتِه، ومعرفتِه، وثباتِه، وتمكُّنه؛ فقد كذبَ.

كان مُنقطعَ القرين في حياته، فلمّا مضى لسبيله؛ لم يُعْتَضْ منه.

قدمَ بغدادَ سنة خمس وتسعين ومائة، وأقامَ بها سنتين، ثم خرجَ إلى مكةَ، ثم قدمها سنة ثمان وتسعين، فأقامَ أشهراً، ثم خرج إلى مصرَ، ومات بها في آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين، وله أربع وخمسون سنة.

سمع مالكَ بنَ أنس الأصبحيّ، وإبراهيمَ بنَ سعد الزهريّ، وسُفيانَ بنَ عيينةَ الهلاليّ، وداودَ بن عبدِالرحمن العبديّ العطّارَ، وعبدَالعزيز بن محمد الدَّرَاوَرْديَّ، ومُسلمَ بنَ خالدِ الزَّنْجي، وإبراهيمَ بن محمّد بن أبي يحيى الأسلميّ، وعمَّه محمدَ بن علي بن شافع، وعبدَالله بن الحارث المَخزومي، ومحمدَ بنَ إسماعيلَ بن أبي فُدَيْك، وسعيدَ بن سالم القَدَّاح، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، وإسماعيل بن جعفر، وإسماعيل بن عُلَيَّة، وخلقاً سواهم كثيراً.

حدَّثَ عنه سليمانُ بنُ داودَ الهاشمي، وأحمدُ ابنُ حنبل، وأبو ثورِ إبراهيمُ بن خالد الكلبيّ، والحسين بن علي الكَرَابيسيّ، والحُسنُ بنُ محمد الزعفراني، وأبو إبراهيم المُزَني، والرَّبيع بن سليمان المرادي، وخلق كثير غيرهم.

اتّفقَ العلماءُ قاطبةً من أهلِ الفقهِ والأصول والحديث واللغة والنحو، وغير ذلك؛ على ثقتهِ، وأمانتهِ، وعدالتهِ، وزهده وورعه، وتقواه، وجوده، ونزاهة عرضه، وعفة نفسه، وحسن سيرته، وعلوِّ قدره.

فالمُطنبُ في وصفه مُقصّر، والمُسْهِبُ في مدحه مُقتَصِر، رحمةُ الله عليه» انتهى كلام ابن الأثير.

قال الفقير عداب:

الشافعيُّ إمامٌ في اللغة، إمامٌ في الأدب، إمامٌ في الأصول، بل هو الذي وضع للمسلمين هذا العلم، إمام في الفقه المقارن، إمام في التفسير، إمام في الحديث وفنونه، إمام في المناظرة وانتزاع الحجج، وله مشاركات في علوم دنيويّةٍ عديدة، مثل الفلك والطب والفراسة، ولو جاز لعالمٍ أن يُقلِّد عالماً؛ لجازَ له تقليدُ الإمام الشافعيّ!

وقد نقل المزي في تهذيب الكمال (24: 379) عن تاريخ بغداد للخطيب (2: 404) مَرثاتين في الإمام الشافعي:

- إحداهما للأديب واللغويّ والشاعر الكبيرأبي بكرِ بن دُريد.

- والأخرى للقاضي أبي الطيّب طاهر بن عبدالله الطبريّ، أختار أولاهما.

قال أَبُو بَكْرِ مُحَمَّدُ بْن الحسنِ بن دُرَيْدٍ الأَزْدِيُّ، يرثي الإمامَ أَبَا عَبدالله الشافعيّ، رحمهما الله تعالى:

بمُلتَفَتَيْهِ للمَشيب طوالعُ • •  ذَوائد، عَنْ وِردِ التَصابي، رَوادعُ

تَصرفْنَه طوعَ العِنان وربما دعاه الصبا فاقتاده وهُوَ طائعُ

ومَن لم يَزَعْه لبُّه وحياؤه فليس له مِن شَيب فَوديه وازعُ

هل النافرُ المَدعوُّ للحَظِّ راجع • •  أم النُصح مَقبولٌ أم الوَعظ نافعُ

أمِ الهَمِكُ المهمومُ بالجمع عالم بأن الذي يُرعى من المال ضائعُ

وأنّ قُصاراه على فَرط ضَنّهِ فراقُ الذي أضحى له، وهْوَ جامعُ

ويَخمُل ذِكرُ المرء ذي المال بَعدَه ولكنَّ جمعَ العلم للمرء رافعُ

ألم تَرَ آثارَ ابنِ إدريسَ بعدَه دَلائِلُها في المشكلات لوامعُ

مَعالمُ يَفنى الدهرُ وهْي خَوالدٌ وتَنخفضُ الأعلامُ وهْي فَوارعُ

مَناهجُ فِيها للهُدى مُتصرَّفٌ مَواردُ فيها للرشادِ شَرائعُ

ظواهِرُها حُكْمٌ ومُستنبطاتُها لما حَكَم التَفريقُ فيه جَوامعُ

لِرأيِ ابنِ إدريسَ ابنِ عم أحْمَدٍ ضياءٌ، إذا مَا أظلم الخَطبُ ساطعُ

إذا المُفْظِعاتُ المشكلاتُ تَشابهت سما منه نورٌ في دُجاهُنَّ لامعُ

أبى اللهُ إِلّا رَفعَه وعُلُوَّه وليس لما يُعليه ذو العَرش واضعٌ

تَوخّى الهُدى، فاستَنقَذَتْهُ يدُ التُقى مِن الزَيغ، إنّ الزيغَ للمَرءِ صارِعُ

ولاذَ بآثارِ الرسولِ، فحُكْمُه لحُكْم رَسولِ اللهِ في الناسِ تابعُ

وعَوَّلَ في أحكامِه وقضائِه على ما قَضى في الوَحْيِ، والحقُّ ناصِعُ

بَطيءٌ عَنِ الرَأيِ المَخوفِ التباسُه إليه، إذا لم يَخشَ لَبْساً مُسارعُ

جَرت لبُحور العِلم أَمدادُ فِكرِه لها مَددٌ في العالمينَ يُتابَعُ

وأنشى له مُنشيه مِن خَير مَعدِنٍ خَلائقُ هُنّ الباهِراتُ البَوارعُ

تَسربَل بالتَقوى وليداً وناشئاً وخُصَّ بِلُبِّ الكَهْلِ، مُذْ هُو يافعُ

وهُذِّبَ حَتَّى لم تُشِرْ بَفَضيلةٍ إذا التُمِسَتْ إلا إليه الأ صابعُ

فَمَنْ يَكُ عِلم الشافعيِّ إمامَه فمَرتَعُه في باحةِ العِلم واسعُ

سَلامٌ على قَبرٍ تَضَمّن جِسْمَه وجادَتْ عَلَيْهِ المُدْجِناتُ الهَوامِعُ

لقد غَيّبَتْ أثْراؤه جِسْمَ ماجِدٍ جَليلٍ، إذا التَفّتْ عَلَيْهِ المَجامِعُ

لَئِنْ فَجَعَتْنا الحادِثاتُ بشَخْصِه لهُنَّ لما حُكِّمْن فيه فَواجعُ

فأحكامُه فينا بُدورٌ زَواهِرٌ وآثارُه فينا نُجومٌ طَوالعُ» انتهى ما في تاريخ بغداد.

ختاماً: يمتاز الإمام الشافعيُّ عن بقيّة الأئمّةِ الأربعةِ، الذين تقدّمت تراجمهم بما يأتي:

- بأنّه حجّةٌ في اللغةِ، دونهم!

- وأنّه أديبٌ وشاعرٌ دونهم!

- وأنّه أصوليّ قواعديٌّ، ولا يُعرف ذلك عنهم!

- وأنّه مقعّدٌ لقواعد علوم الحديثِ دونهم!

- وأنّه لم يخطئ بحديثٍ رواه، دونهم!

- وأنّه فارسٌ رامٍ دونهم!

- وأنّه عالم بالفِراسةِ دونهم!

- وأنّه قرشيٌّ دونهم!

- وبالتالي هو المؤهّل وحده لتقليدِ العوامِّ، دونهم!

ولا يحسبنّ أحدٌ أنّ كلامي هذا تعصّب للإمام الشافعيّ، فأنا نشأتُ حنفيّاً ماتريديّاً نقشبنديّاً، حتى عام (1973) عندها قرّرتُ اتّباعَ مذهب الشافعيّ!

وعندما كتبتُ كتابي «القرآن الكريم ودعاوى النَسْخِ فيه» في عامي (1976 - 1977) وقفتُ للإمام الشافعيِّ على أربعَ عشرَةَ دعوى مِن دعاوى النَسخِ في القرآن العظيم، خالفتُه في جميعِها، وأقمتُ الحجّةَ على عدمِ وجودِ ناسخٍ ولا منسوخٍ فيها.

إنّما هي الحقيقةُ التي أَدين الله تعالى بها:

الإمامُ عليُّ بن أبي طالبٍ إمام الصحابةِ في كلِّ شيءٍ.

والإمام محمد بن إدريس الشافعيّ إمام أئمة اللغةِ والفقه والحديث بعدَه!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمدُ للهِ على كلّ حال.


الجمعة، 4 أغسطس 2023

  قُطوفٌ من الآلام (6):

الشريفُ خليلُ خاطرٍ في ذِمّةِ اللهِ تَعالَى !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ؛ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ.

وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ؛ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ).

تَلقّيت بحزنٍ بالغٍ وأسىً عميقٍ، ورضاً وتسليمٍ لأقدار الله تعالى؛ نبأَ وفاةِ أخي الفاضل، وصديقي القديم، الأستاذ الدكتور الشريفِ خليل بن إبراهيم مُلّا خاطر العزّاميّ الحسينيّ، ليلةَ هذا اليوم (الجمعة) السابعَ عشرَ من محرّم الحرام (1445 هـ) الموافق للرابع من أغسطس «آب» (2023م) وكان مولده في ليلة النصف من شعبان (1357 هـ) الموافق (1938م) وسيُدفن في مقابر بقيع الغرقدِ، كما كان يرجو ويدعو الله تعالى دائماً.

ترجع معرفتي بالشريفِ خليل إلى عام (1976- 1977م) إذ التقيتُه في القاهرة، وأهداني نسخةً من أطروحته للدكتوراه «الإمام الشافعيّ وأثره في علوم الحديث».

وتعاصرنا في الحجاز الشريف ثلاثةَ عشر عاماً (1978 - 1991م) وكنّا نتزاور بين الحين والآخر، نتّفق ونختلف في بعضِ القضايا العلميّة، ولم يكن لهذا الاختلافِ أيُّ أثرٍ على علاقتنا ومحبّتنا.

اللهم إني أسألُك - وأنت الرحمن الرحيم - أن ترحمَ أخانا الحبيبَ، المؤمنَ المستقيمَ الصالحَ خليلَ بن إبراهيمَ- ولا نزكّيه عليك يا ربّ العالمين - وأن تتقبّله بقبولٍ حسنٍ، فإنّك أنت غايةُ رجائنا، ومنتهى سؤلِنا، ومرسى آمالنا.

وبهذه المناسبةِ أتقدّم من السادةِ أسرةِ الفقيدِ وإخوانه وآل خاطر الكرام وقراباتِهم؛ بأطيبِ عبارات المواساةِ، وخالصِ العزاء، وأصدقِ الدعاء.

عظّم الله أجوركم، وأحسن عزاءَكم، وأثابكم في مصيبتكم، وأخلفَ عليكم منها خيراً وصبراً جميلاً، ورضىً وتسليماً لله ربّ العالمين.

(رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) وصبرٌ جميلٌ: يوم الخميس فقدنا السيّد «صفوح»، ويوم الجمعة فقدنا السيد «خليل»!

اللهم كن لقلوب أهليهما ولقلوبنا يا رحيم.

إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

وعظّم الله تعالى لكم الأجر، إخواني القرّاء الكرام.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الخميس، 3 أغسطس 2023

       مِنْ عِبَرِ التاريخِ (11):

تَرجمةُ الإمامِ أحمدَ ابن حنبل !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

قال مجدُ الدينِ ابنُ الأثير في جامع الأصول (12: 167) ما نصّه:

- «أحمد بن محمد بن حنبل:

هو أبو عبدِاللهِ أحمدُ بنُ محمّدِ بنِ حَنبلِ بن هِلال... من بني ذُهْلِ بن ثَعلبةَ الشيباني الإمام المروزيُّ.

ولد ببغدادَ سنة أربعٍ وستين ومائة، ومات بها سنة إحدى وأربعين ومائتين، وله سبع وسبعون سنة.

كان إماماً في الفقه، والحديث، والزُّهد، والورع، والعبادة، وبه عُرِف الصحيحُ من السَّقيم، والمجروح من المعدَّل.

نشأ ببغدادَ، وطلبَ العلم، وسمعَ الحديثَ مِن شيوخها، ثم رحَل إلى الكوفة، والبصرة، ومكّةّ، والمدينةِ، واليَمنِ، والشامِ، والجَزيرة، وكتب عَن علماء ذلك العصر.

فسمع من إسماعيلَ ابن عُلَيَّةَ، وهُشَيم بن بشير، ويَزيد بن هارون، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبي داود الطيالسي، ووكيع بن الجرَّاح، وسفيان بن عيينة، ومحمد بن إدريس الشافعي الإمام، وعبد الرزاق بن همَّام وخلق كثير سواهم.

روى عنه ابناه صالحٌ وعبدُاللهِ، وابنُ عمَّه حَنبلُ بن إسحاقَ، ومحمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجَّاج النيسابوري، وأبو زُرْعةَ وأبو حاتم الرازيَّان، وأبو داود السجستاني، وخلق سواهم كثير.

إلا أنّ البُخاريَّ لم يَذكر في «صحيحه» عنه، إلا حديثاً واحداً في آخر الصَّدقات تعليقاً (5879).

وروى البخاريُّ عن أحمدَ بنِ الحَسنِ التِرمذيِّ، عن أحمد حديثاً آخر (4473) قال ذلك الحازِمي.

قال عداب: بينما روى مسلمٌ من طريقِ شيخِه أحمدَ ابن حنبلٍ تسعة عشر حديثاً، منها (166، 215، 502، 581، 710).

قال ابن الأثير: «فضائله كثيرة، ومناقبه جمَّة، وآثاره في الإسلام مشهورة، ومقاماته في الدين مذكورة، انتشر ذكرُه في الآفاقِ، وسرَى حمدُه في البلاد، وهو أحدُ المجتهدين المَعمولُ بقولِه ورأيِه ومذهَبِه، في كثير من البلاد، والمأخوذُ بهَدْيِه ودَلِّهِ في الأغوار والأنجاد.

قال إسحاق بن راهَوَيْهِ: أحمد ابن حنبل حجةٌ بين الله وبين عبيده، في أرضه.

وقال الشافعي: خرجتُ من بغداد، وما خلَّفت بها أحداً أتقى، ولا أوْرَع، ولا أفقهَ ولا أعلَمَ من أحمد ابن حَنبلٍ.

وقال أحمد بن سعيد الدارمي: ما رأيتُ أسودَ الرأس أحفظَ لحديث رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولا أعلمَ بفقْهِه ومَعانيه من أبي عبد الله أحمد بن حنبل» انتهى كلام ابن الأثير.

قال الفقير عداب: كلام الشافعيّ في مديح أحمد «خرجتُ من بغداد، وما خلَّفت بها أحداً أتقى، ولا أوْرَع، ولا أفقهَ ولا أعلَمَ من أحمد ابن حَنبلٍ» أخرجه ابن عديٍّ في مقدمة الكامل (1: 210) قال: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيى الساجي: حَدَّثَنا يُوسُفُ بْنُ عَبداللهِ الْخُوَارِزْمِيُّ: أَخْبَرنا حَرْمَلَةُ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: «خَرَجْتُ مِنَ الْعِرَاقِ، فَمَا خَلَّفْتُ بِالْعِرَاقِ رَجُلا أَفْضَلَ، ولاَ أَعْلَمَ، ولاَ أَتْقَى مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ».

وأخرجه الخطيب البغداديّ في تاريخه (6: 90) من طريق الحافظ مُحَمَّدَ بن يعقوبَ الأصمِّ، قَالَ: سمعت أبا يعقوب الخوارزمي ببيت المقدس، قَالَ: سمعت حرملة بْن يحيى، يقول: سمعت الشافعي، يقول: وساقه بنحوه.

وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (5: 272) من طريق زكريّا بن يحيى الساجي ومحمّد بن يعقوب الأصمّ، كلاهما عن يوسف بن عبدالله الخوارزميّ، به مثلَه.

فمدار هذه الروايةِ على أبي يعقوبَ الخوارزميّ (ت: 271 - 280 هـ) هذا.

ترجمه الذهبيُّ في تاريخ الإسلام (6: 644) وقال: «ما علمتُ به بأساً».  

وبالعودةِ إلى كتب الرواية والتاريخ والسيرة والأنساب والرجالِ الثقاتِ والضعفاء؛ وجدتُ هذا الراوي قد روى عن جمعٍ من الشيوخِ، وروى عنه جمعٌ من التلامذة، ولم أقف فيه على جرح أو تعديلٍ، سوى كلمة الذهبيّ هذه «ما علمتُ به بأساً».

وجميعُ ما وقفت عليه من رواياته الأحاديثَ:

- حديثُ أنس بن مالك عند الخطيب البغداديّ في التاريخ (2: 504) وغيره.

- وحديثُ أبي الزبير عن جابر، في المشيخة البغدادية لأبي طاهر السٍلَفيّ (39) وفي إسناده عبدالله بن لهيعة.   

- وثناء الشافعيّ على أحمد ابن حنبلٍ.

وهذه القصة مخرّجة في عدد من كتب التاريخ، رواها عن أبي يعقوبَ هذا اثنان كما تقدّم قريباً.

- وهي من رواية الحافظ أبي العبّاس الأصمّ عن أبي يعقوبَ هذا بلفظ: «خرجت من بغدادَ وما خَلفتُ بها أحداً أتقى ولا أورع ولا أفقه.

أظنه قَالَ: ولا أعلمَ من أَحْمَد ابن حَنْبَل» كما تقدّم في تاريخ بغداد وتاريخ دمشق.

- وهي من رواية الحافظ زكريّا بن يحيى الساجي عن أبي يعقوب هذا بلفظ: «خَرَجْتُ مِنَ الْعِرَاقِ فَمَا خَلَّفْتُ بِالْعِرَاقِ رَجُلا أَفْضَلَ، ولاَ أَعْلَمَ، ولاَ أَتْقَى مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ» عند ابن عديٍّ في الكامل (1: 210).

وفرق بين الروايتين كبير؛ إذ كانوا يقصدون بالعِلم الحديثَ، ويقصدون بالفقه الاستنباط!

عموماً هذه هي حالُ الراوي الوحيد لهذه القصّة، وهو ليس ممن يُقبَل تفرّده في قصّة مثل هذه، غابت عن جميع تلامذة حَرْمَلَةَ الكثيرين!

وما لنا نذهب بعيداً، فهذا هو أحمد ابن حنبل يقول: «أحفظنا للمطولات الشاذكوني. وأعرفنا بالرجال يحيى بن معين، وأعلمنا بالعلل علي بن المديني، وكأنه أومأ إلى نفسه أنه أفقههم» أخرجه ابن حبّان في مقدمة كتابه «المجروحين» فقال: سمعت علي بن أحمد الجرجاني بحلب، يقول: سمعت حنبل بن إسحاق بن حنبل، يقول: سمعت أحمد ابن حنبل يقول.

ولا يخفى على طلّاب العلم؛ أنّ الإمام ابن جرير الطبريّ والإمام أبا عمر بن عبدالبَرّ؛ لم يذكرا أحمدَ ابن حنبلٍ في مجتهدي الفقهاء!

فيكون كلامُ أحمد هنا خاصّاً بفقهاءِ أهل الحديث وحسب!

وعليه: فيحيى بن معينٍ أعلم بالرجالِ من أحمد، وعليّ ابن المديني أعلم منه بالعلل!

وتكون إطلاقاتُ التعظيمِ والتفخيم؛ من جملة المنقبيّاتِ التي درج عليها المصنّفون في تراجم الرجال.

غير أنّ أكبرَ ما يُنسبُ إلى أحمدَ ابنِ حنبلٍ؛ المسارعةُ في التكفير!

ففي طبقات الحنابلة (1: 145): «قال حنبل بْن إِسْحَاقَ: سمعت أبا عبداللهِ يقول: من زعم أن اللهَ لا يُرى فِي الآخرةِ؛ فقد كفَر باللهِ، وكذّب بالقرآنِ، وردَّ عَلَى اللهِ أمرَه، يُستتاب، فإنْ تابَ، وإلّا قُتل.

والله تعالى لا يُرَى فِي الدنيا، ويُرَى فِي الآخرة».

قال عداب: ليس قولُ الله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) نصّاً في إثباتِ الرؤية، فناظرةٌ تأتي بمعنى منتظرة، فعلى هذا لا يسوغُ تكفيرُ من قال: بعدم رؤية الله تعالى البصريّة في الآخرة!

وهذا يشير إلى قلّة معرفة أحمدَ ابن حنبلٍ بفنون البيان ومجازات القرآن، ولم يذكره أحدٌ في طبقات اللغويين أو النحويين أو الأدباء، على كلّ حالٍ!

وفي طبقاتِ الحنابلة (1: 319): «قال مُحَمَّد بْن منصور الطوسيّ «الحافظ»: سمعت أحمد ابن حنبل يقول: مَن زَعم أنّه كان فِي أصحاب النَّبِيّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيرٌ مِن أبي بكرٍ، فولّاه رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقد افترى عَلَى رسوله، وكفر بأنْ زعم أنّ اللهَ يُقِرُّ المنكرَ بين أنبيائه فِي الناس، فيكون ذلك إضْلالاً لهم».

أنا لم أفهم هذا الكلامَ أصلاً، حبّذا لو شرحه لنا أحدٌ، وما مناطُ التكفير فيه؟

وفي الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداويّ (10: 321): «ذَكَرَ الْمَرُّوذِيُّ لأحمَدَ عَمْرَوَ بْنَ عُبَيْدٍ؟ قَالَ أحمَدُ: كَانَ لَا يُقِرُّ بِالْعِلْمِ، وَهَذَا كَافِرٌ!

وَقَالَ لَهُ الْمَرُّوذِيُّ: الْكَرَابِيسِيُّ يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَقُلْ: لَفْظُهُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ؛ فَهُوَ كَافِرٌ! فَقَالَ أحمد: هُوَ الْكَافِرُ».    

قال الفقير عداب: لا ريب عندي في أنّ أحمدَ ابن حنبلٍ أكثر علماء الإسلام حتى نهايةِ القرنِ الثالثِ الهجريّ تكفيراً لمخالفيه من أهل القبلة!

ونحن يجب أن نفرّق بين حالين، معظمُ أتباعِ أحمد لا يفرّقون بينهما:

الحالُ الأولى: تقوى الرجل وعبادته وورعه وزهده في الدنيا.

والحالُ الثانيةُ: آراؤه واتّجاهاته العقديّةُ والفكريّة والسلوكيّة!

الحالُ الأولى: يشترك فيها جميع شيوخي من أهل السنّة والشيعة والإباضيّة!

فشيخي محمّد الحامد.

وشيخي سعيد حوّى.

وشيخي مروان حديد.

وشيخي محمد الحافظ التجّاني.

وشيخي نور الدين عتر.

وشيخي أحمد محمد نور سيف.

وشيخي المفتي أحمد الخليليّ.

وشيخي المفتي  عبدالعزيز ابن باز.

وشيخي المرجع الدينيّ السيّد علي السيستانيّ.

وشيخي السيّد محمد الكسنزانيّ.

وعشراتٌ آخرون من شيوخي؛ جميعهم أتقياءُ أنقياءُ عُبّادٌ مهذّبون مؤدّبون، لا تستطيع أن تجدَ لهم زلّةً أخلاقيّةً أو سلوكيّة.

وبهذا المعنى أقول: شيوخي من أهل السنّة بمذاهبهم، وشيوخي من الشيعة بمدارسهم، وشيوخي من الإباضيّة بمدارسهم؛ جميعهم عبّادٌ صالحون أتقياء!

أمّا حالُهم الثانيةُ، وآراؤهم واتّجاهاتهم العقديّةُ والفكريّةُ؛ فيختلفون فيما بينهم اختلافاً بيّناً، وجميعهم يخطّئُ بعضُهم بعضاً، ويضلّل بعضهم آراءَ بعض!

وكذلك كان الإمام أحمدُ ابن حنبلٍ، وأكثرُ المسلمين منذ ذلك التاريخ وحتّى اليوم؛ ليس لديهم اعتدالٌ في الحكم، ولا توازنُ في المواقف، ويندر لدى جميعهم التماسُ الأعذار، وحملُ مخالفاتهم على الاجتهادِ، الذي يؤجَر المصيب فيه، ولا يأثم المجتهد المخطئ، إذا كان من أهل الاجتهاد والصلاح.

رحم الله علماءَنا الصالحين الأتقياءَ، على مدار التاريخ الإسلاميّ، من السنّة والشيعة والإباضيّة والمعتزلةِ والجهميّة، ورحمنا معهم، وغفر لنا ولهم ما اجتهدنا واجتهدوا فيه، فجانبوا الحقَّ والصوابَ غيرَ عامدين؛ إنّه هو العزيز الحكيم، الرحمن الرحيم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمدُ للهِ على كلّ حال.

 قُطوفٌ من الآلام (5):

الشريفُ صفوحُ ناجي في ذمّة الله تعالى !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ؛ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ.

وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ؛ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ).

تَلقّيت بحزنٍ عميقٍ، ورضاً وتسليمٍ لأقدار الله تعالى؛ نبأَ وفاةِ أخي الحبيب، وصديقي القريب، الشريفِ صَفوحِ بنِ محيي الدين ناجي الجَيلانيّ اللبنانيّ الطرابلسيّ، فجرَ هذا اليوم (الخميس) السادسَ عشرَ من محرّم الحرام (1445 هـ) الموافق للثالثِ من أغسطس «آب» (2023م).

وستقام صلاة الجنازة عليه بمسجد «الفاتح» الكبير باستانبولَ، عقبَ صلاة ظهرِ هذا اليوم.

اللهم إني أسألُك - وأنت الرحمن الرحيم - أن ترحمَ أخانا الحبيبَ، المؤمنَ المستقيمَ الصالحَ - ولا نزكّيه عليك يا ربّ العالمين - وأن تتقبّله بقبولٍ حسنٍ، فإنّك أنت غايةُ رجائنا، ومنتهى سؤلِنا، ومرسى آمالنا.

وبهذه المناسبةِ أتقدّم من السادةَ أبناءِ الفقيدِ وإخوانه وآل ناجي الكرام وقراباتِهم؛ بأطيبِ عبارات المواساةِ، وخالصِ العزاء، وأصدقِ الدعاء.

عظّم الله أجوركم، وأحسن عزاءَكم، وأثابكم في مصيبتكم، وأخلفَ عليكم منها خيراً وصبراً جميلاً، ورضىً وتسليماً لله ربّ العالمين.

(رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ).

إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

وعظّم الله تعالى لكم الأجر، إخواني القرّاء الكرام.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الثلاثاء، 1 أغسطس 2023

      مِنْ عِبَرِ التاريخِ (10):

تَرجمةُ الإمامِ مالكِ بن أنسٍ !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

قال مجد الدين ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول  (1: 180 - 184):

 الإمام مالكُ بن أنسٍ:

هو أبو عبدِالله مالكُ بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث ... من بني حِمْيَرِ بنِ سبأٍ الأكبرِ، ثم من بني يَشْجبَ بنِ قَحطانَ، وفي نسبه خلافٌ غير هذا.

ولد سنة خمس وتسعين من الهجرة، ومات بالمدينة سنة تسع وسبعين ومائة، وله أربع وثمانون سنة.

وقال الواقدي: مات وله تسعون سنة، وله وَلدٌ اسمه يحيى ([1]) ولا يُعْلَم له غيرُه.

هو إمام أهل الحجاز، بل إمامُ الناس في الفقه والحديثِ، وكفاه فخراً أنّ الشافعيَّ من أصحابه.

أخذ العلمَ عن محمّد ابن شهابٍ الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ونافع مولى عبدالله بن عمر، رضي الله عنهما، ومحمّد بن المنكدر، وهشام بن عروة بن الزبير، وإسماعيل بن أبي حكيم، وزيد بن أسلم... وخلقٍ كثير سواهم.

وأخذ العلمَ عنه خَلقٌ كثيرٌ، لا يُحْصَون كثرةً، وهم أئمّةُ البلاد.

منهم: الشافعيُّ، ومحمد بن إبراهيم بن دينار، وأبو هاشم المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي، وأبو عبد الله عبد العزيز بن أبي حازم، وأبو مروان عبدُالملك بن عبد العزيز «الماجشون» ويحيى بن يحيى الليثيّ الأندلسي، ومن طريقه رُوّينا «الموطأ» وعبد الله بن مسلمة القَعْنَبيّ، وعبد الله بن وهب، وأصبغ بن الفرج، وغير هؤلاء ممن لا يحصى عدده.

وهؤلاء مشايخ البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهم من أئمة الحديث.

قال مالكٌ رحمةُ الله عليه : قلَّ مَنْ كتَبْتُ عنه العلم، ما ماتَ حتى يجيئَني ويستفتِيَني.

وقال بكر بن عبد الله الصنعاني: أتينا مالكَ بن أنس، فجعل يحدثنا عن ربيعة بن عبدالرحمن، وكنّا نستزيده من حديثه، فقال لنا ذات يوم: ما تَصنعون بربيعة، وهو نائم في ذلك الطاق؟

فأتينا ربيعةَ، فأنبهناه، وقلنا له: أنت ربيعة؟ قال: نعم، قلنا: الذي يحدث عنك مالك بن أنس؟ قال: نعم.

قلنا: كيف حَظي بك مالكٌ، ولم تحظ أنت بنفسك؟ !

قال: أما عَلمتم أن مثقالاً من دَولةٍ؛ خيرٌ مِن حِمْلِ عِلمٍ؟

وكان مالكٌ مبالغًا في تعظيم العلم والدين، حتى كان إذا أراد أن يُحَدِّثَ؛ تَوضّأ، وجلس على صدر فراشه، وسرَّح لحيته، واستعمل الطيب، وتمكّن مِن الجلوس على وقارٍ وهَيبةٍ، ثم حدَّث!

فقيل له في ذلك، فقال: أُحب أن أُعظِّم حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم .

ومر يومًا على أبي حازمٍ «سلمةَ بنِ دينارٍ» وهو جالس، فجازه، فقيل له؟

فقال: إني لم أجد موضعاً أجلس فيه، فكرهت أن آخذ حديثَ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنا قائم.

قال يحيى بن سعيد القطان: ما في القوم أصحُّ حديثًا من مالك.

وقال الشافعي رحمه الله : إذا ذُكِر العلماء؛ فمالكٌ النجم، وما أحد أمَنَّ عليّ مِن مالك رحمة الله عليه.

ورُوي أنّ المنصورَ منعه مِن رواية الحديثِ في طلاقِ المُكْرَه، ثم دَسّ عليه مَن يسأله، فروى مالكٌ على مَلأٍ مِن الناس: «ليس على مُستكْرَهٍ طلاقٌ»([2]) فضربه بالسياط، ولم يترك رواية الحديث.

وروي أن الرشيد سأل مالكًا فقال: هل لك دار؟ فقال: لا، فأعطاه ثلاثة آلاف دينار.

وقال: اشتر بها دارًا، فأخذها ولم ينفقها، فلما أراد الرشيد الشخوصَ؛ قال لمالك: ينبغي أن تخرج معي، فإني عزمت أن أحمل الناس على «الموطأ» كما حمل عثمانُ الناسَ على القرآن.

فقال مالكٌ: أمَّا حمل الناس على «الموطأ» فليس إلى ذلك سبيل؛ لأن أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تفرقوا بعده في الأمصار، فحدثوا، فعند أهل كل مصر علم!

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اختلاف أمتي رحمة) ([3]) وأما الخروج معك فلا سبيل إليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المدينة خير لهم، لو كانوا يعلمون) ([4]) وقال: (المدينةُ تَنفي خَبَثَها) ([5])     وهَذي دنانيركم كما هي، إن شئتم فخذوها، وإن شئتم فدعوها.

قال ابنُ الأثير: يعني: إنّك إنما تكلّفُني مُفارقةَ المدينةِ، لما اصطنعتَه إليَّ، فلا أُوثِر الدنيا على مدينة رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

وقال الشافعيُّ رحمه اللهُ : رأيتُ على باب مالكٍ كُراعاً من أفراسِ خراسان، وبغالِ مصر، ما رأيت أحسنَ منه، فقلت له: ما أحسنه!

فقال: هو هديةٌ مني إليك يا أبا عبد الله!

فقلت: دَعْ لنفسك منها دابةً تركبها؟ فقال: أنا أستحيي مِن الله تعالى أنْ أطأ تربةً فيها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بحافر دابة!

وكَم مثلُ هذه المناقبِ، لهذا الطَّود الأشَمِّ، والبَحرِ الزاخر» انتهى كلام ابن الأثير.

قال الفقير عداب: ترجمة ابن الأثير لمالكٍ، فيها قدرٌ غير قليلٍ من المنقبيّة، وهذا شأن مؤرّخينا بعد القرن الرابع الهجريّ، وللأسف!

وينبغي أن نتوقّفَ عند ثلاثِ نقاط:

الأولى: قول شيخه ربيعة الرأي: «إنّ مثقالاً من دَولةٍ؛ خيرٌ مِن حِمْلِ عِلمٍ».

وهو يشيرُ إلى صلتِه بالخلفاء العباسيّين، وتوقيرهم إيّاه، ممّا يجعل له احتراماً بين الناس.

والثانية: قول ابن الأثير: « هو إمام أهل الحجاز، بل إمامُ الناس في الفقه والحديثِ».

والحقيقةُ أنّ أحاديثَ مالكٍ الصحيحةَ الموصولةَ لا تتجاوَزُ (700) حديثٍ، وأقوالُه في الجرح والتعديل، وفي العلل نادرةٌ جدّاً، إنّما كان له القَبولُ من الناس.

وأمّا عن قول ابن الأثير: إنّه إمامُ الناس في الفقه؛ فقد نقل الذهبيُّ في النبلاء (8: 156) عن الإمام الشافعيّ قولَه: «اللَّيْثُ أَفْقَهُ مِنْ مَالِكٍ، إِلاَّ أَنَّ أَصْحَابَه لَمْ يَقُوْمُوا بِهِ».

وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ: سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ بُكَيْرٍ يَقُوْلُ: «اللَّيْثُ أَفْقَهُ مِنْ مَالِكٍ، وَلَكِنَّ الحُظْوَةَ لِمَالِكٍ، رَحِمَهُ اللهُ».

وَقَالَ حَرْملَةُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: «اللَّيْث أَتْبَعُ لِلأَثَرِ مِنْ مَالِكٍ».

ونقل عن إبراهيمَ الحربيّ قولَه: «سَأَلْتُ أَحْمَدَ ابنَ حَنْبَلٍ:

مَا تَقُوْلُ فِي مَالِكٍ؟ قَالَ: حَدِيْثٌ صَحِيْحٌ، وَرَأْيٌ ضَعِيْفٌ!

قُلْتُ: فَالأَوْزَاعِيُّ؟ قَالَ: حَدِيْثٌ ضَعِيْفٌ، وَرَأْيٌ ضَعِيْفٌ !

قُلْتُ: فَالشَّافِعِيُّ؟ قَالَ: حَدِيْثٌ صَحِيْحٌ، وَرَأْيٌ صَحِيْحٌ».

وقولُ أحمدَ هذا؛ يؤكّدُ ما أقولُه دائماً: إنّ الإمام الشافعيّ هو إمام الفقهاء في عصره وما بعد عصره، وإلى يوم الناس هذا، وسأوضح ذلك في ترجمته، إن شاء الله تعالى.

النقطةُ الثالثةُ: كان مالكٌ يقبلُ أُعطيات السلاطين، ويقبلُ هدايا العلماء، وكان الليث بن سعدٍ خصّص لمالكٍ مرتّباً سنويّاً، يرسله إليه من مصر إلى المدينة النبويّة!

كما كان يقبلُ عطايا الناسِ وهداياهم.

وقَبولُ المالِ؛ يجعل العالمَ أسيرَ صاحب المال، ولا بدّ من أن يجامله!

قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْيَدُ الْعُلْيَا؛ خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى، واليَدُ الْعُلْيَا؛ هِيَ الْمُنْفِقَةُ وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ» أخرجه البخاريّ في الزكاة (1429) ومسلم في الزكاة (1033).

وفي أعلام النبلاء (7: 142) ما نصّه: « قَالَ أَحْمَدُ في محمد بن عبدالرحمن ابن أبي ذئبٍ: هُوَ أَوْرَعُ وَأَقْوَلُ بِالحَقِّ مِنْ مَالِكٍ».

وفيه أيضاً: « قَالَ حَمَّادُ بنُ خَالِدٍ الخيّاط القرشيّ: «كَانَ ابن أبي ذئبٍ يُشَبَّهَ بَابْنِ المُسَيِّبِ!

وَمَا كَانَ هُوَ وَمَالِكٌ فِي مَوْضِعٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ، إِلاَّ تَكَلَّمَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ بِالحَقِّ، وَالأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَمَالِكٌ سَاكِتٌ» رحمهم الله تعالى أجمعين.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمدُ للهِ على كلّ حال.



([1]) ترجمه ابن حبّان في الثقات (9: 259) وقال: «سكن الْيمن وَحَدَّثَهُمْ بالموطأ مُسْتَقِيم الحَدِيث» وترجمه العقيليّ في الضعفاء (4: 425) وقال: «حدّث عن أبيه بمناكير».

([2]) ليس هذا حديثاً مرفوعاً إلى الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلم، إنّما هو من كلام عبدالله بن عبّاس، رضي الله عنهما، أخرجه ابن أبي شيبةَ في المصنّف (4: 82) ولفظه (ليس لمستكره ولا لمضطهد طلاق) وعلّقه البخاري في صحيحه، في كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره، عَقبَ حديث (5268) وإسناد ابن أبي شيبةَ حسن.

 ([3]) قال الإمام تاج الدين السبكيّ في الإبهاج (6: 2218): «اعلم أنّ الحديث المشار إليه غير معروف، ولم أقف له على سند، ولا رأيتُ أحداً من الحفّاظ ذكره، إلا البيهقيَّ رحمه الله، في رسالته إلى الشيخ العميد عميد الملك، بسبب الأشعري، وقد ساقها الحافظ ابن عساكر».

قال عداب: ومن طريقِ الحافظِ ابن عساكرٍ؛ ساقَ إسنادها إلى البيهقيِّ، التاجُ السبكيُّ في طبقات الشافعية الكبرى (3: 395) وقال: «قد سَاق ابْن عَسَاكِر جَمِيعَه، وَنحن نأتي على أَكْثَره» وليس فيما اقتصر عليه البيهقيّ من خطابِ البيهقيِّ؛ هذا الحديثُ!

([4]) من حديثِ سفيانَ بن أبي زهيرٍ الأزديّ مرفوعاً؛ أخرجه الإمام مالكٌ في الجامعِ من الموطّأ (1642) والبخاريّ في الحجّ، باب من رغب عن المدينة (1875) ومسلم في الحجّ، باب فضل المدينة (1363).

([5]) من حديث أبي هريرة مرفوعاً؛ أخرجه مالك في الجامع (1640) ومن طريق مالكٍ؛ أخرجه البخاريّ في الحجّ، باب فضل المدينة (1871) ومسلمٌ في الحجّ، باب المدينة تنفي شرارَها (1383) جميعهم بلفظ (الْمَدِينَةُ تَنْفِي النَّاسَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ) أمّا لفظ المتنِ، من حديث أبي هريرة؛ فهو عند الطحاوي في مشكل الآثار (1826).