السبت، 10 يوليو 2021

 اجتماعيات (16):

الشيوخ الذين لم يؤلّفوا الكتب !؟
بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).

ذكرت في منشور أمس جملةَ « إنّ العالم؛ هو الباحث المؤلّف الناقد، ومَن ليس بمؤلّف؛ فليس بعالمٍ البتة، ربما يكون أيَّ شيء آخر، لكنه ليس عالماً»!

فعلّق أحدُ الإخوةِ بقوله: «لا يشترط في العالم التأليف... وهناك علماء لم يصنّفوا الكتب، لكنهم صنّفوا الرجال».

أقول وبالله التوفيق:

هذه الجملة سمعتها أكثر من مائة مرّة بيقين، وهي عندي صحيحة من وجه، وباطلةٌ بيقين من وجه آخر!

قالوها عن شيخنا محمد الحامد الحموي.

وقالوها عن شيخنا خالد الشقفة الحموي.

وقالوها عن شيخنا زاكي الدندشي الحموي.

وقالوها عن شيخنا حسن حبنّكة الدمشقيّ.

وقالوها عن شيخنا محمد سعيد رمضان البوطي الدمشقيّ.

وقالوها عن شيخنا عبدالغني عبدالخالق المصريّ.

وقالوها عن شيخنا محمد عبداللطيف سالم «الحافظ التجاني».

وقالوها في عشراتٍ غيرهم من شيوخنا، رحمهم الله تعالى، ورضي عنهم أجمعين.

ولنأخذ شيخنا محمد بن محمود الحامد الحمويّ أنموذجاً كريماً، إذ صحبته من (10/ 1962) حتى واريناه مثواه الأخير، في (6/ 5/ 1969).

الشيخ محمد الحامد كان يدرّس في ثانويّة ابن رُشد مادّة الديانة.

وكان خطيباً في جامع السلطان، وجامع المدفن.

ومدرّساً عامّاً في جامع السلطان، وجامع الأحدب.

وكان عضوَ جمعيّة العلماء في مدينة حماة.

وكان عضو لجنة الإفتاء في مديريّة الأوقاف، بحماة.

وجهوده العلميةُ والاجتماعية في مدينة حماة؛ لا ينكرها حتى العميان.

وحدّث عن ورعه وتقواه وإنفاقه في سبيل الله تعالى، ما شئت أن تحدّث.

كُتبه ورسائله التي صنّفها؛ يحبّها عامّة الحمويين، ويُجلّها تلامذته على وجه الخصوص.

لكنْ ليس لها تلك القيمة العلمية خارج هذه الدائرة.

في عام (1976م) طلب مني أحد الطابعين في مصر أنّ أبلّغ شيخي محمود بن محمد الحامد، برغبته بطباعة رسائل الشيخ محمد الحامد، شريطةَ أن يقوم الشيخ محمود بتخريج أحاديثها.

حين عرضت الموضوع على الشيخ محمود؛ قال: أنا لا أجيد تخريج الأحاديث، حاولت مرّةً البحثَ عن حديثٍ، فجهدتُ ولم أجده، أو كلاماً كهذا.

قلت له: بصفتي الآن أدرس علم الحديث على سيدي الحافظ التجاني، هل تسمح لي بأن أخرّج أحاديثَ إحدى الرسائلِ، وأعرضها عليه، ثم أعرضها عليك، قبل طباعتها، ومن دون ذِكر اسمي أو صفتي على غلاف الرسالة أو في داخلها؟

قال حفظه المولى لنا ما معناه: «لا لا لا ، قل لهذا الرجل: إن شاء أن يطبعها كما هي؛ فنحن نأذن له بذلك، وإلّا فغير مسموح لأحدٍ أن يتدخّل في مادّة الرسائلِ، والدي أعلم بما كتب ووضع في رسائله».

أخبرتُ الطابعَ بذلك؛ فقال: ذهب العصرُ الذي كان يقبل الناسُ من المؤلف كلَّ ما يكتب، وأعرض عن طباعة الرسائل.

وعندما يدور حوارٌ بيننا وبين غيرنا من الحمويين، ويقولون لنا: إنّ كتب الشيخ محمد الحامد حنفية مذهبية، وليس فيها ذاك العمق البرهانيّ، والمنهجية العلميّة !؟

كنّا نقول لهم: كان شيخنا الحامد يربي الرجال، ولم يكن لديه وقتٌ للتأليف!

فيقولون: لكنّه ألّف وكتب، وأنتم في تراجمه تفتخرون بتآليفه!

الحقّ الذي لا بدّ من لفتِ أنظار الناس إليه؛ أنّ مقرئي المتون المجازين المجيزين؛ هم الذين يحقّ لهم أن يقولوا، أو يقال عنهم: «صنعوا رجالاً»!

أمّا أصحاب الدروس العامّة، مثل شيخنا الحامد، ومثلي؛ فهم مساهمون في بناء الرجال!

شيخنا وأستاذنا الدكتور مصطفى الزلميّ؛ لزم واحداً من شيوخه الأكراد، فأقرأه علوم العربية والمنطق والفلسفة الإسلامية وعلم الكلام، وأصول الفقه والفقه والتفسير والحديث.

وفقَ المنهج الذي كان معمولاً به في بلاد الأكراد، ثمّ أجازه شيخه هذا بالمعقول والمنقول

رحمهما الله تعالى.

فيمكننا أن نقول: إنّ هذا الشيخ أسّسَ وصنع الدكتور مصطفى الزلميّ، الذي طوّر نفسه واجتهد، حتى حصل على شهادتي دكتوراه، في الشريعة وفي القانون.

ثمّ ترقّى في الدرجات العلمية، حتى حصل على لقب أستاذِ متمرّس.

لكنْ هل يحقّ لواحدٍ منّا نحن طلّابَه المجازين منه أن نقول: صنعنا الدكتور الزلميّ؟   

بالتأكيد لا !

لأنّنا قد اشترك في صناعتنا عشرات، وربما أكثر من (100) شيخ، واحدٌ منهم الدكتور الزلميّ، والآخر الشريف محمد الحافظ التجاني، والشيخ محمد الحامد!

شيخي وأستاذي الدكتور غسّان عبدالسلام حمدون الواعي، من أبرز تلامذة الشيخ محمد الحامد المعجبين به، وهو ممن يردّد هذه المقولة عن شيخنا الحامد كثيراً.

سألته مرّة،  أطال الله بقاءه في عافية وستر وعمل صالح: أنت لازمت شيخنا الحامد ملازمةً تامّةً، أو شبه تامّة عشر سنين، هل تعدّ نفسكَ خرّيج الشيخ محمد الحامد؟

حادَ عن الجواب، كعادته، وقال: أنا استفدت في اليمن كثيراً، وكثيراً جدّاً!

ثمّ ذكر لي الذين أخذ عليهم علم القراءات، وعلم العربية، والفقه الزيديّ، ووو!

فشيخي غّسان إذن؛ ليس خرّيجَ الشيخ محمد الحامد، ولا هو الذي صنعه!

وأنا مثل شيخي غسّان، فقد صحبت شيخنا الحامد ستّ سنين، لم نقرأ عليه متناً كاملاً قطّ، ولا أنجزنا في أيّ علمٍ من العلوم التي كان يعلّمنا إيّاها كتاباً البتّة!

وما يقولونه عن الدرس الصباحي الخاصّ؛ فهو درس مذاكرةٍ، أكثرَ منه درساً علميّاً.

وممّن كان مواظباً على الدرس الخاصّ الأستاذ الشاعر الأديب السيّد محمد منير الجنباز الحسينيّ، حفظه المولى تعالى، والأستاذ الشاعر الأديب السيّد عبدالقادر أحمد الحدّاد الجيلانيّ الحسنيّ، رحمه الله تعالى.

وقد سألت كلّاً منهما عن «الدرس الخاصّ» الذي كان بعضهم يهوّل من عظمته!

فقال لي الأستاذ محمد منير: هو درس مفيدٌ من دون شكٍّ، لكنّ وقته قصير، وهو أقرب إلى المذاكرة، منه إلى الدروس المتخصصة.

وسألتُ عنه الأستاذ عبدالقادر، فقال: مجلس أنسٍ ومذاكرة وحوار ومسامرة!

فالشيخ غسّان إنما صنعه اجتهادُه بتوفيق الله تعالى إيّاه، على أيدي شيوخٍ كثيرين، واحدٌ منهم الشيخ محمد الحامد.

ختاماً: لا يحقّ لأحدٍ من أصحاب الدروس العامّة أن يقالَ عنه: صنع الرجال!

لأنّ الرجالَ؛ هم صنعوا أنفسهم، بتلقيهم العلومَ على عشراتِ الشيوخِ، في فنونٍ متعدّدة.

وقد كان عددٌ من طلّابي أصحاب الدرسِ الخاصّ، أرداوا أن يَنْحَوا هذا المنهج، فحذّرتهم منه، ووجّهتهم إلى ضرورة الأخذ على المشايخِ الآخرين؛ لأنني لن أستطيع إعطاءَهم كلَّ ما يحتاجونه من علوم.

وأنا الآن نادمٌ على هذا أشدّ الندم، فلو أنني علّمتهم جميعَ المتون التي تلقّيتها على شيوخي، بقراءة سريعة عجلى؛ لكان خيراً بكثيرٍ مما حرصت على تعليمهم إيّاه من «منهجيّة التفكير الصحيح».

]رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[.

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلَّم تَسليماً

والحمد لله على كلّ حال.

 مسائل حديثية (14):

إذا هجموا على السنّة؛ فلنسكت !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

من المشاهَدِ في زماننا هذا؛ الهجومُ الشديد على السنّة النبويّة، ممثّلةً في صحيح الإمام البخاريّ، وصحيح الإمام مسلم، على وجه الخصوص!

قال لي صاحبي: يتعيّن عليك أن تدافع عن الصحيحين، مقابلَ هذه الهجمة الشرسة، وإلّا فأنت آثم!

قلت له: كتبت أكثر من عشرين مقالاً في الدفاع عن الصحيحين، سوى كتابي الوحدان من رواة الصحيحين، والمهملون من شيوخ البخاري، والمجهولون ومروياتهم في الصحيحين، مما هو مطبوع ومعروف!

قال: هذا لا يكفي، يجب أن تتبّع أولئك السفلة الذين يطعنون في أيّ حديث في البخاريّ وتردّ عليهم... إلى آخر الحوار الطويل!

أقول وبالله التوفيق:

من المقطوع به عند أهل الحديثِ؛ أنّ البخاريّ ومسلمان محدّثان كبيران، كان بين أيديهما عشراتُ الألوف من الروايات الواردة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، وعن الصحابة رضوان الله عليهم.

فاجتهدا، وانتخبا من هذه الألوف الكثيرة أقلَّ من (4000) آلاف حديث!

ومعنى اجتهدا؛ يعني بذلا جهوداً جبّارة مضنيةَ، في استخلاص هذه الآلافَ القليلة من تراثٍ متلاطِمٍ، غثّه أكثر بكثيرٍ من سمينه!

ومعنى أنهما اجتهدا أيضاً؛ أنّ غيرهما من علماء الحديثِ خالفوهما معاً في تصحيح كثيرٍ ممّا صححاه، بل هما أنفسهما، خالف أحدهما الآخرَ في التصحيح والتضعيف!

ومَن يظنّ أنّ كلّ حديثٍ في صحيح البخاريّ، أو في صحيح مسلمٍ، أو ممّا اتّفقا عليه؛ وافقهما عليه الأئمة أبو حاتم وأبو زرعة والنسائيّ والترمذيّ، فضلاً عن الطبقة الأعلى أحمد وابن المديني وابن معين، ناهيك عن الطبقة الأعلى يحيى بن سعيد القطان وعبدالرحمن بن مهدي وابن المبارك، مَن ظنّ مثلَ هذا الظنّ؛ فهو جاهلٌ جهلاً ومركّباً، بل مكعّباً !

وإذا كان الأمر كذلك؛ فما الذي يجعل اجتهادَ الإمام البخاريّ أو اجتهاد الإمام مسلمٍ في التصحيح أو التضعيف؛ أولى من اجتهادِ غيرهما؟

إنّ جميعَ أئمة الحديث، بدون مثنويّة؛ يصححون الحديثَ أو يضعفونه، بناءً على القرائن والمرجّحات الموجودة لدى الراوي، وفي المَرويِّ!

«إذ لا سبيلَ إلى إخراجِ ما لا علّة له من الحديث! فإنّ البخاري ومسلماً رحمهما الله تعالى؛ لم يدّعيا ذلك لأنفسهما.

وقد خرّج انتقد - جماعةٌ من علماءِ عصرهما ومَنْ بعدَهما عليهما أحاديثَ، قد أخرجاها وهي معلولة، وقد جهدت في الذب عنهما في «المدخل إلى الصحيح» كما قاله الحافظ أبو عبدالله الحاكم في خطبة المستدرك (1: 6).

وما دام الأمر كذلك؛ فلا حاجةَ إلى التعصّبِ لأيّ حديثٍ لدى البخاريّ ومسلمٍ إلّا إذا كان إجماع الأمة قائماً على دلالته.

بالمقابلِ لا يجوز لكلّ مَن هبّ ودبّ أن يقبلَ الحديثَ أو يرفضه، بناءً على قَبول عقله له، أو رفضه إيّاه!

وردّاً على سؤالٍ وردني من عددٍ كبيرٍ من الإخوةِ: لماذا تركتَ تخريج ونقدَ بعضِ أحاديث الصحيحين المشكلة؟

أقول: لأنني واقعٌ بين فريقِ الجهلِ المركّب، ممن نصّبوا أنفسهم حماة لهذا الدين!

وبين ضلّالٍ أجل ضلّال منحوا أنفسَهم صلاحيةَ النظر في قبولِ الأحاديثِ وردّها، من دون أن يكونوا على درايةٍ بمناهج المحدّثين في تقويم الأحاديث.

انظر إلى هذا الحديثِ المتّفق عليه بين البخاريّ ومسلم، من حديث عبدالله بن دينارٍ العدويّ، مولى عبدالله بن عمر بن الخطّاب، عن سيّده عبدالله بن عمر قال:

(نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ).

أخرجه البخاريّ في العتق (2535) وفي الفرائض (6756).

هذا الحديث صححه البخاري ومسلم والترمذي في جامعه (1236) وغيرهم.

بينما ضعّفه الإمام أحمد، وقال: «لم يتابَع عبدالله بن دينار على حديثه هذا، إنما الصحيح حديثُ نافع عن ابن عمر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (الولاءُ لمَنْ أعتق) أخرجه البخاريّ (456) وأعاده (29) مرّة في صحيحه، وأخرجه مسلم (1504)».

وانظر أدلّة مَن صححه وقرائنهم، وأدلة من ردّ الحديثَ وقرائنهم، في كتاب أفراد الثقات للدكتور متعب بن خلف السلميّ (654 - 669).

ختاماً: نحن واقعون بين ضغطِ فريقٍ جاهلٍ متعالمٍ، وفريق ضالٍّ لم يدخل إلى ساحة السنة من بابها العلميّ الشرعيّ، ونصّب من نفسه حاكماً على علماء الأمة، من لدن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، إلى يوم الناس هذا.

فماذا على مثلي أن يفعل غيرَ السكوت؟!!

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحمد لله على كلّ حال.

الجمعة، 9 يوليو 2021

 اجتماعيات (15):

عُقدةُ الشهادات العلميّة !؟
بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).

في حوار امتدّ مع بعض الإخوةِ الأحباب؛ وجدتُ بعضهم لا يقيمون وزناً للدرجات العلميّة (بكالوريوس، ماجستير، دكتوراه) وبعضهم لا يقيم أدنى وزنٍ لحلقات المشايخِ مقرئي المتون في المساجدِ والتكايا والمدارس الشرعيّة الخاصّة!

وتجليةُ هذه المسألة من وجهة نظري، من الضرورة بمكان!

أوّلاً: أكثرُ المشايخِ الذين يقرؤون المتونَ، من طبقة شيوخي، أو زملائي وأقراني؛ يحملون درجةَ البكالوريوس في الشريعة الإسلامية، أو أصول الدين.

وإذا سألت الواحد منهم عمّا يحمل من شهادةٍ؛ لاعتزّ بأنّه من خرّيجي كلية الشريعة بجامعة دمشق، أو خرّيجي جامعة الأزهر بالقاهرة!

ولو سألتَ أكثر طبقة شيوخي من خرّيجي الأزهر؛ لرأيتم تلقّوا العلم على الدكتور مصطفى عبدالخالق، والدكتور عبدالغني عبدالخالق، والدكتور خليل الجراحي، والدكتور محمد عبدالمنعم القيعيّ، والدكتور محمد محمد أبو شهبة، والدكتور سليمان دنيا، والدكتور أحمد فهمي أبو سنّة، وهذه الطبقة!

وجميع هؤلاء «الدكاترة» الكبار الأفاضل؛ هم شيوخي وشيوخ طبقتنا من «الدكاترة»!

ولو سألتَ أكثر طبقة شيوخي من خرّيجي كلية الشريعة بجامعة ؛ لرأيتم تلقّوا العلم على الدكتور نور الدين عتر، والدكتور محمد أديب الصالح، والدكتور فوزي فيض الله، والدكتور أحمد عاصم بيطار، والدكتور وهبة الزحيليّ، والدكتور محمد سعيد رمضان البوطيّ، والدكتور إبراهيم السلقينيّ، وهذه الطبقة من أساتذة كلية الشريعة بجامعة دمشق!

وجميع هؤلاء «الدكاترة» شيوخي وأساتذتي وأساتذة طبقتنا من الدكاترة في جامعة دمشق!

ومن المعلوم أنّ (99%) من زملائنا خرّيجي جامعة دمشق، وخريجي جامعة الأزهر؛ لم يتابعوا تحصيلهم العلميّ، واكتفوا بشهادة «البكالوريوس» وتعيّن أكثرهم في تدريس مادّة الدين في المدارس، أو أئمة مساجد وخطباء فيها.

وهؤلاء هم الذين يقرؤون طلبةَ العلم المبتدئين«المتون» ويفكّون عباراتها المستعصية على الطلبة أحياناً!

فما معنى أن يكون زملاؤنا حملة «البكالوريوس» شيوخاً محترمين معظّمين لأنهم يقرؤون المتون وزملاؤهم الذين تابعوا تحصيلهم العلميّ، وحصلوا على درجة الدكتوراه، وكتبوا الأبحاث العلمية وألّفوا الكتبَ، وحقّقوا المخطوطات؛ ليسوا بعلماء، ويشنّعُ عليهم أمثال الشيخ الألبانيّ والشيخ شعيب وبعض تلامذتهما وغيرهم؟

ثانياً: ما من «دكتور» في الشريعة الإسلامية، إلا مرّ بمرحلة «البكالوريوس» ثم الماجستير، قبل أن يحصل على درجة الدكتوراه.

فكيف يكون الشيخ الحاصل على درجة البكالوريوس صاحبَ علم محترمٍ، دون زميله الذي شاركه في البكالوريوس، وزاد عليه درجتي «الماجستير» و«الدكتوراه».

بمعنى أوضح!

هناك بعض الجامعات، تشترط بحثَ تخرّج في «البكالوريوس» وبعض الجامعات، تجعل البحث بديلاً عن مادةٍ اختيارية، وفي كلتا الحالين؛ لا يزيد البحث عن (100) صفحة بحالٍ من الأحوال!

وكنت أرى زملاءنا يضجرون من بحث التخرّج، ويستعينون ببعض طلبة الماجستير والدكتوراه ليوجهوهم في كتابته!

وهؤلاء يعلمون علمَ اليقين؛ صعوبةَ البحث العلميّ، والوقت الطويل الذي يستغرقه بحثٌ من (100) صفحة!

فلماذا يتناسون هذا الأمر، ويوغر بعضهم أو كثير منهم صدور تلامذتهم على حملة الشهادات العليا، ويقنعونهم بأنهم جهلة، وأنّ العلمَ هو الذي يمنحونه هم إيّاه؟

ثالثاً: ليس في حلقات شرح المتون اختباراتٌ علميّةٌ لكلّ متنٌ من المتون، إنما تمنح الإجازاتُ لمن حضر على الشيخ شارح المتون، من دون أن يعلم الشيخ ما إذا كان تلميذه هذا فهمَ المتنَ، وتعلّم كيف يستفيد منه؟

وأشهد بالله الذي لا إله إلّا هو أنني شاهدت بعينيّ هاتين بعضَ المجازين من شيوخ «المتون» يرتبكون في سائر امتحانات «الماجستير» و«الدكتوراه» ويغشّون في الامتحاناتِ؛ لأنهم ربما حضروا شرح المتونِ كاملة، لكنّهم وشيوخَهم لم يختبروا حفظ طلّابهم هؤلاء، ولا فهمهم تلك المتون!

وأدركت شيوخاً من الذين يقرؤون المتون؛ يجيزون طلّابهم بالتلاوة وعلوم القرآن والتفسير، وأحلف بالله العظيم أنهم لا يتقنون تلاوةَ سورةٍ واحدةٍ من القرآن العظيم، كما تلقّينا على شيوخنا!

لنقرّب المسألة أكثر:

أنا الفقير حصّلت درجة البكالوريوس من كلية الشريعة بجامعة أمّ القرى بتقدير عام ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى.

وحصّل درجةَ البكالوريوس هذه مئاتٌ غيري، لكنهم لم يتيسر لهم إكمال الدراسات العليا.

ثمّ درست مرحلة الماجستير، وفيها تسع موادّ فيما أذكر، علّمنا إيّاها أساتذةُ مرحلة البكالوريوس أنفسهم، وأساتذة أعلى درجة علمية منهم.

كتبت في السنة الدراسيّة المنهجيّة أربعة أبحاث، كانت صفحاتها تقرب من (250) صفحة.

وكتبت رسالة «الماجستير» فجاءت في (2500) صفحة!

ثم كتبت رسالة الدكتوراه، فجاءت في (1500) فهذه (4250) مقوّمة علميّاً كتبتُها، زيادةً  

على زميلي مقرئ المتون الحاصل على درجة البكالوريوس معي!

فهل يستطيع عقلٌ بشريٌّ أن يقبل بأنّ الذي لم يكتب بحثاً علميّاً في حياته؛ هو أعلم ممن كتب هذه الآلاف من الصفحات العلمية، وأجدر في تعليم العلوم الشرعيّة؛ لأنّ جنابه يقرئ المتون ؟!

رابعاً: أحدُ زملائي الحمويين الأذكياء حقّاً، من حفظة القرآن الكريم، زارني في مكة المكرمة في حجّ عام (1405) فأهديته ما كنتُ طبعتُ من كتبي!

لفت نظره بحث «ثعلبة بن حاطب الصحابيّ المفترى عليه» فسرّه دفاعي عن هذا الصحابي الجليل «طبعاً كلّ الصحابة أجلّاء!» عنده.

لكنّه قلّب بعض صفحات الكتابِ؛ فوجدني ترجمت للحسن البصريّ رحمه الله تعالى، ونقلت في ترجمته أنّه «يرسل كثيراً ويدلّس»!

انتفض غاضباً، ورمى الكتاب من يده وقال: الحسن البصريّ مدلّس يا رجل؟!

«كتابك هذا لا يساوي فلساً أحمر» أو أسود، لا أذكر!

هذا خرّيج من كلية الشريعة بجامعة دمشق، وهو في الوقت ذاته، لا يعرف أنّ الحسن البصريّ مُدلّس، ولا يتقبّل أن يقالَ: الحسن البصريّ مدلّس أصلاً!

هذا وأمثاله هم قرّاء «المتون» الذين تعدّونهم الطبقة العليا من علمائكم!

خامساً: دار حوار بيني وبين عددٍ من زملائي خرّيجي كليات الشريعة، وجهدت أن أقنعهم بأنّ السادةَ فقهاءَ الحنفيّة قديماً وحديثاً؛ لا يجيدون صنعة نقد الحديث، وأنّ كثيراً من نقّاد الحديثِ تتبّعوا أدلّتهم، فوجدوا فيها الضعيف والواهي، لكن من دون فائدة!

ومنذ شهور قليلةٍ زارني أحد خرّيجي الشريعة من إحدى الجامعاتِ الإسلاميّة، فاستنصحني بأيّ كتب العقائد يبدأ؟

فقلت له: تريد المذهب الأشعري أم الماتريديّ؟ قال: بل الأشعريّ!

قلت له: اقرأ شرح «الصغرى» للسنوسي، ثمّ اقرأ الوسطى، ثمّ اقرأ السنوسيّة الكبرى، لكن انتبه عند القراءةِ إلى أن لا تعتدَّ بالأحاديث الواردة في كتب السنوسيّ!

فاستغرب وقال: ولم ذاك؟

قلت له: ليس في علماء الكلام المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين؛ واحد يحسن تمييز الصحيح من الضعيف!

فغضب غضباً، يشبه غضبَ صديقي الحمويّ من أجل تدليس الحسن البصريّ!

حاولت أن أهدّئه، وأحضرت له شرح الصغرى، وأطلعته على ثبَت للأحاديث التي في الكتابِ، فكانت واحداً وثلاثين حديثاً، على ما أتذكّر، نقل محقق الكتاب تضعيف العلماء المتقدمين سبعةَ عشر حديثاً منها، ولو خرّجتها أنا، فربما لا يصحّ منها خمسة!

فزاد غضب الرجل وقال بامتعاض: يعني الشيخ عداب الحمش؛ أعلم بالحديثِ من السنوسيّ؟

قلت له منزعجاً: عداب الحمش أعلم بالحديث من جميع علماء الكلام، من لدن أبي الحسن الأشعريّ وأبي منصور الماتريديّ، وإلى هذه الساعة، الزم حدّك، إنما أقدّم لك النصيحة، فلا تتفلسف أبداً !

سادساً: بعدما استقرّ بي المقام في عمّان الأردنّ، استعنت ببعض طلبة العلم هناك، فكان واحدٌ منهم ممّن اشتغل مع الشيخ شعيب الأرناؤوط في تخريج مسند أحمد!

عندما ذكر لي ذلك؛ قلت له: قبل بداية الشيخ شعيبٍ بتخريج المسند بقليلٍ، طلبت منه أن أشارك في تخريج المسند، من دون مرتّبٍ، فرفض!

فضحك الشابُّ كثيراً، وقال: أكثر أناسٍ يبغضهم الشيخ شعيب؛ هم حملة «الماجستير» و«الدكتوراه» لا يمكن أن يسمح بأن تعمل معه!

قلت له: وهذا ظاهر في كتب الشيخ الألبانيّ أيضاً، فما السرّ يا ترى؟

قال لي: أظنّها عقدةً لديهما ممن يحمل الشهاداتِ العلمية، فالشيخ شعيب دائم الاستخفاف بحامليها، وكثيرٌ ممن كان يعمل معه، لا يخبره بأنه خريج جامعة !  

ختاماً: حفظ «المتون» ودراستها على هؤلاء الشيوخ البسطاء؛ أمرٌ مهمّ جدّاً، لكنّ حفظَ عدد من المتون وحضور شرحها الوجيز، الذي لا يتعدى عادة تيسير عبارةِ المؤلّف؛ لا يجعل منك عالماً، ولا يؤهّلك لأن تنتقد حملة الدكتوراه، ظنّاً منك ومن أمثالك بأنّ ما لديك؛ ليس لدى غيرك!

إنّ العالم؛ هو الباحث المؤلّف الناقد، ومَن ليس بمؤلّف؛ فليس بعالمٍ البتة، ربما يكون أيَّ شيء آخر، لكنه ليس عالماً!

ربما يتقن قراءة شرح «متن أبي شجاع» أو حتى «شرح المنهاج» ويتقن قراءة شرح الإبهاج لابن السبكيّ على المختصر الأصولي «المنهاج» لكنه أبداً لا يستطيع أن يكتب بحثاً، يظهر فيه أين أصاب ابن السبكيّ، وأين جانبه الصواب، بيد أنّ حامل «الدكتوراه» يحسن هذا، وأكبرَ منه بكثير!

فليتّق الله تعالى أولئك الشيوخ حملة «البكالوريوس» ولا يسيؤوا إلى العلمِ، بتحقير زملائهم الذين سهّل الله تعالى لهم من الدراسة العلمية، ما لم يتيسّر لهم.

والله المستعان.

]رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[.

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلَّم تَسليماً

والحمد لله على كلّ حال.

الأحد، 4 يوليو 2021

 مَسائل فكرية (14):

الشيخ محمّد حسين يعقوب!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

تواصل معي أحد الإخوةِ، يسألني عن موقفي ممّا جرى من الإذلال والإهانة للشيخ محمّد حسين يعقوب المصريّ، عافاه الله تعالى، وفرّج كربه !

فدار بيننا حوارٌ طويلٌ، أختصر أبرز ما جاء فيه بهذه الكلمات!

أوّلاً: أكثرُ علماءِ الأمّة ومفكريها ودعاتها وخطبائها؛ جبناءُ، عاجزون عن الصدع بالحقّ، يؤثرون السلامةَ، ويخضعون مع القطيعِ، متى كان الراعي شديداً قاسياً، ليس لديه رحمةٌ بهم وبغيرهم من الناس!

ثانياً: علماءُ الأمّة المعاصرون؛ لم يمارسوا الرياضة العنيفةَ، ولا فنونَ الدفاع عن النفس، ولم يخوضوا معارك حربيّةً، كما كان كثيرٌ من علماء الإسلام يفعل!

فهم لهذا يرعبون إذا شاهدوا شخصاً يحمل سكّيناً أو خنجراً، فضلاً عن أن يكون حاملاً سلاحاً ناريّاً، إذ لا يعرفون كيف يدفعون عن أنفسهم خطره!

فمن أين تأتيهم الشجاعةُ يا ترى؟

ثالثاً: في ميراثنا الفقهيّ والثقافيّ تأليهٌ تطبيقيّ للحكام المستبدين الفساق والفجرة!

ولذلك ترى كتبَ الأحكام السلطانية تناقش مسألةَ خلعِ السلطان الجائر عن سدّة الحكم؟

هل يخلع إذا شرب الخمرةَ؟

هل يخلع إذا لاطَ؟

هل يخلع إذا زنى؟

هل يخلع إذا جاهر بمعاشرة الصبيان وتقريبهم؟

هل يخلع إذا قتل أو جلد أو غصب؟!

أسئلةٌ قميئةٌ سخيفةٌ، وكأنه لا يليق بأمة الإسلامِ، إلا هؤلاء السفلة المنحطّون!

وأفضل عالم من علماء أهل السنة في الإجابة على هذه الأسئلة السخيفة؛ هو ابن حزمٍ الأندلسيّ!

والسبب في ذلك أنه ذو شخصية قوية شجاعة، عاشت في عزٍّ وكرامة وشهامة، أهّلتْه لقول الحقّ، والصدع به!

فابن حزمٍ يقول: إذا ضربَ الحاكمُ مسلماً سوطاً واحداً ظلماً، ورفض أن يَقيدَ من نفسه؛ يجب خلعُه والخروج عليه، عند القدرة على ذلك!

رابعاً: العلماءُ الصادعون بالحقّ في تاريخنا الإسلاميّ؛ أندر من الكبريت الأحمر، من عصر الصحابةِ إلى يومنا هذا!

وليتَ واحداً من القرّاء الكرام يسمّي لي عشرة منهم، في أربعة عشر قرناً من الزمان!

في زمن الطاغية الفاجر معاوية بن أبي سفيانَ؛ كان خطباء بني أميّة يلعنون الإمام عليّاً والحسن والحسين، عقبَ خُطبة كلّ جمعة، فمن الذي أنكر من الصحابة والتابعين؟

وهذا إمامُ أهل السنة وفقيههم وزاهدهم عبدالله بن عمر بن الخطّاب، يتنمّر على الإمام عليّ عليه السلام، ويقول له: لا تَجِدْ في نفسك عليَّ يا أبا الحسن، فإنّا لن نطيعَك في قتال البغاة، حتى يجتمع عليك المسلمون!

بينما يرى بيعةَ يزيد بن معاوية المنافقَيْنِ، التي أُخذت بالإكراه بيعةً شرعيّةً، يجب الوفاء بها وطاعة صاحبها، حتى لو كان مثل يزيد الفاسق الماجن القاتل!

أخرج البخاري (7111) ومسلم (1735) من حديث نَافِعٍ مولى عبدالله بن عمر بن الخطّاب  قَالَ: لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ؛ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللهِ وَرَسُولِهِ!

وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ!

وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ، وَلَا بَايَعَ فِي هَذَا الْأَمْرِ؛ إِلَّا كَانَتْ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ»!

هذا هو منطق أهل السنّة جميعهم، نحن أمّة نتنمّر على مثل الإمام عليٍّ؛ لأننا نوقن بعدله وإنصافه وتسامحه، لكننا نَذلّ ونخضعُ أمام كلبٍ فاجرٍ قاتلٍ مثل يزيد بن معاوية!

وجميع فقه أهل السنة السياسيّ؛ بني على مثل ورع عبدالله بن عمر هذا!

حتى غدت بلاد الإسلام كلّها، في طول تاريخنا الإسلاميّ وعرضه؛ مزارع ومراتع للظالمين السفلة وأشياعهم وأنعامهم!

ويخدعوننا عندما يقولون: حفاظاً على وحدة الكلمة!

أيّ قيمة دينية لوحدة الكلمة، التي تخضع أكابر علماء الأمة وقادتها لسافل فاجر، أو سفيه جاهل، أو عميل صغير؟

أين الحكم الرشيدُ في تاريخنا الإسلاميّ كلّه، وأين الحاكم الراشد، بعد ثلاثين سنة من وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم؟

أليس عيباً وعاراً وشناراً على علماء الإسلام وقادة المسلمين؛ أنْ لا يفخروا إلا بثلاثين سنةً من تاريخهم؟

خامساً: إنّ السلفيين جميع السلفيين في العالم، حتى السروريين والجهاديين يرون آل سعودٍ حماةَ التوحيد، ويرونهم ساداتهم، وقد أقنعوا أنفسهم بمتابعتهم، وتلقّوا الرواتب الراتبة الدورية منهم، فهم طوابيرُ كامنةٌ تتلقّى أوامرها من آل سعودٍ، فمتى أمرهم آل سعودٍ بالخضوع خضعوا، ومتى أمروهم بالثورة؛ ثاروا !

ومن لا يؤمن بهذه الحقيقةِ؛ فلن يفهم تصرفات السلفيين في كلّ مكان!

عندما كان الرجل الصالحُ الدكتور «محمد مرسي» حاكماً في مصر؛ كنت تجد ألسنة محمد حسان والحويني ويعقوب وسائر السلفيين أطولَ من ألسنة الثيران عليه!

فلما حصل الانقلاب عليه؛ أيّدوه وظاهروا المجرم الطاغية الانقلابيّ على الحاكم الشرعيّ، لأنّ ساداتهم أمروهم بذلك!

وها هم الآن أذلّ من الدواجن في مصر!

هي هي!

من لدن عبدالله بن عمر، إلى محمد حسين يعقوب، ومحمد حسان، وأبي إسحاق الحوينيّ وغيرهم ومشايخ السعودية والخليج!

أمّا حديثُ حذيفة بن اليمان عند مسلم (1847) وغيره، مرفوعاً: (اسمع للأمير وأطع، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك) وعند أحمد (23429) وغيره، بلفظ (جلد ظهرك وأخذ مالك) فهو حديثٌ رُوي على أشكالٍ وأنحاء!

وليس عند البخاري (3606، 3607، 7084) ذِكرٌ لهاتين الجملتين البتّة، وهذا بحدّ ذاته علّة كبيرة!

ناهيك عن أنّ لفظه عند الإمام أحمد: قالَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (تَكُونَ إِمَارَةٌ عَلَى أَقْذَاءٍ وَهُدْنَةٌ عَلَى دَخَنٍ)!

قَالَ حذيفة: قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟

قَالَ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ثُمَّ تَنْشَأُ دُعَاةُ الضَّلَالَةِ!

فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ يَوْمَئِذٍ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةٌ جَلَدَ ظَهْرَكَ، وَأَخَذَ مَالَكَ فَالْزَمْهُ، وَإِلَّا فَمُتْ وَأَنْتَ عَاضٌّ عَلَى جِذْلِ شَجَرَةٍ).

والسؤال موجّه إلى أولئك العلماء «تَجَوّزاً والله!» الخانعين للطغاة: حكّام العرب اليوم، ينطبق عليهم مصطلح (خليفة) أم مصطلح (دعاة الضلالة)؟

فتنزيل هذا الحديث على حكّامنا الفاسدين؛ من أخطر ما يفعله العلماء الجبناءُ قديماً وحديثاً!

 ومحمّد حسين يعقوب، ومحمّد حسان، وأكثر وعّاظ السلفيين من جملة أتباع عبدالله بن عمر، أمام حاكم مثل يزيدَ!؟

فلا تنتظر من سلفيٍّ على وجه الأرضِ أن يتصرّف خلافَ ما يريده (آل سعود) سواء على المستوى الرسميّ، أم على مستوى الأمراء!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

السبت، 3 يوليو 2021

 مَسائِلُ مِن الفِقْهِ والأُصولِ (5):

رجم الزاني المحصن!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).

كتب إليّ أحد الأصدقاء يقول:

« أنا رجلٌ من عامّة المسلمين ، مذهبي شافعيّ جرياً على ما توارثناه من أهلنا، كما هو حال عامة الناس في عموم البلاد.

كنت أجلس مع شباب، نتحدث حول قضايا الاسلام والمسلمين، وأنّ الإسلام دين الرحمة والعدالة والانسانية.

فانبرى شخص يقول : عندي إشكالات حول إنسانيّة الاسلام في قضية الحدود

يَقصدُ القتلَ قصاصاً، وقطع السارقِ، ورجم الزاني.

حاولتُ أن أشرحَ وأبيّن حسب ما تعلمته - على قلة ما تعلمته - لكني حقيقة لم أستطع الدفاع بشكل مقنعٍ

وبعد جدال طويلٍ؛ عَلَتْ فيه أصواتنا وانتفخت في أوداجنا واحمرت فيه عيوننا.

قال هذا الرجل : يُمكن أن نَقبل قتلَ القاتل عمداً، من باب الجزاء بالمثل .

ويمكن أن نَقبل قطعَ يد السارق، لكن إذا سرق شيئاً كثيراً، يسوّغ قطعَ يده.

لا كما يقول الفقهاء: «تقطع يدُه حتى لو سرق بيضةً».

«ولا أدري إن كان هذا القول صحيحاً»

لكن ما لا أستطيع تخيّله ولا تصوره ولا قبوله -والكلام للرجل الذي يجادلني - هو رجم الزاني!

يقول: هذا الحد في منتهى القسوة واللانسانية على حد تعبيره!

ثم أردف قائلا: أنا أحبّ سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأؤمن برحمته ورأفته، كما قال الله تعالى عنه، ولا يمكن بحالٍ من الأحوال أن يكون هذا الرؤوف الرحيم بهذه القسوة على شخصين ما دفعهما إلى الزنا غالباً إلا الحب والاستحسان!

فهل يعاقب الإسلام على الحب بهذه الطريقة ؟!

يقول: أظنّ أحاديثَ الرجم مكذوبةً على سيدي الرؤوف الرحيم.

ثم صار مُحاوري يقارنُ بين الآيات القرآنية التي تتحدث عن الزنا ، وبين الأحاديث التي تنصّ على الرجم .

وللأمانةِ اهتزّت قناعتي كثيراً بتلك الاحاديث .

ولكني لا أجرؤ على الخوض في أمر الحديث الشريف!

أرجوكم أن تنقدوا لنا هذه الأحاديث ، وهل فعلاً هي متعارضة مع الآيات، أو هناك وجه للتوفيق بينها في الاستدلال»؟

أقول وبالله التوفيق:

أنا شخصيّاً أستفظع جلدَ شاربِ الخمرةِ!

وأستفظع قتلَ القاتلِ!

وأستفظعُ قطع يد السارق!

وأستفظع قتلَ المرتدّ!

وأستفظعُ جلدَ الزاني!

وأستفظعُ أكثرَ رجم الزاني المحصن!

بل إنّ الله تعالى سمّى الجلدَ عذاباً، فضلاً عن الرجم، فقال:

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) [النور].

وقال جلّ شأنه العظيم:

(وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) [النور].

لكنّ هذا لا يُسوّغُ للمسلم الاعتراضَ على الله تعالى، أو على رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، بل عليه الاستسلام والتسليم التامّ، ظهرت له الحكمةُ أم لم تظهر!

قال الله تعالى:

(لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) [الأنبياء].

(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) [النساء].

(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) [الأحزاب].

ويستوي في ذلك حدّ القتل بالسيف، أو قطع يد السارق، أو جلد الزاني، أو شارب الخمر!

وانظر أخي القارئ إلى هذه العقوبة المرعبة المذهلة!

(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) [المائدة].

إننا عبيد الله تعالى، مملوكون له، وهو الممتنّ علينا بالوجود والحياة والرزق، وكلّ شيءٍ آخر.

وهو يتصرّف بنا ما يشاء، لو شاء، لكنّه تعالى لا يتصرّف بشيءٍ في هذا الوجود ليحقق له أيّ منفعة أو مصلحة!

(مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) [النساء].

(لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ (37) [الحجّ].

إنّما يأمر بما هو في صالح العباد والبلاد، وينهى عمّا هو في ضرر العباد والبلاد، في مرافقهم ومعاشهم وسعادتهم!

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) [الأعراف].

ولو أنّنا أعملنا عقولَنا في استنباط بعضِ حِكَمِ الشارع في تلك العقوباتِ كلّها؛ لرأينا فيها مصالح العبادِ وأمنَهم واستقرارهم، ومَبعث الطمأنينةِ في نفوسهم!

إذِ الذي يريد أن يقتلَ مسلماً عدواناً وظلماً؛ فسيردعه عن قصده المتوحّش في الغالب عقوبةٌ دنيويّة، هي القصاصُ، وعقوبةٌ أخرويّة هي الخلود في النار!َ

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى.

الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى.

فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ.

ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ.

فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178).

وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) [البقرة].

(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) [النساء].

والزاني والزانية اللذان أساءا إلى عائلتيهما، ولطّخا سمعة الأسرتين بالعار، أليس في تنفيذ الحدّ عليهما؛ ردعٌ لغيرهما عن اقتراف مثل هذه الجريمة الفاحشة!؟

(وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) [الإسراء].

أمّا عن رجم الزاني؛ فهو عقوبة أغلظ من عقوبة الجلد؛ لأنّ تغليظها يتناسبُ مع عِظَم زنا المحصن!

وما نقله السائل عن زميله، من أنّ الباعث لهما على الزنا هو الحبّ، فليس هذا الحبُّ الآثم مشروعاً في الإسلام، حتى يكافأ الزناة عليه بتخفيف العقوبة عنهما!

قال الله تعالى:

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنّ (31) [النور].   

إنّ الإسلام يحرّمُ نظرةَ الشهوة، وتحريمه لمصافحة المرأة الأجنبية أشدّ من النظرة!

أفتراه يحرّم نظرة الناظر، وتريده أن يتساهل مع الزاني المحصن؟

قَال ابْنُ قُدَامَةَ: (لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الرَّجْمِ عَلَى الزَّانِي الْمُحْصَنِ رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً.

وَقَدْ ثَبَتَ الرَّجْمُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ فِي أَخْبَارٍ تُشْبِهُ التَّوَاتُرَ. وَهَذَا قَوْل عَامَّةِ أَهْل الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.

قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا إِلاَّ الْخَوَارِجَ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا:

الْجَلْدُ لِلْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور: 2] «فليس في القرآن الكريم ذِكرٌ للرجم»!

وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ تَرْكُ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الثَّابِتِ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ، لِأَخْبَارِ آحَادٍ، يَجُوزُ الْكَذِبُ فِيهَا، وَلِأَنَّ هَذَا يُفْضِي إلَى نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ).

وممّا يوجبُ عدمَ التسرّع في إنكارٍ حكم مسألةٍ خطيرة، مثل هذه المسألة؛ أنّ المذاهب الإسلامية كلّها على إثباتِ عقوبة رجمِ الزاني المحصن!

ففي مذاهب أهل السنّة الخمسة: الحنفيّ والمالكيّ والشافعيّ والحنبليّ والظاهريّ؛ يذهبون إلى رجمِ الزاني المحصن!

وذهب الإباضيّة من الخوارجِ إلى ما ذهبَت إليه مذاهب أهل السنّة!

أمّا مذاهبُ أهل البيت: الزيديّة والإسماعيليّة والجعفريّة، وفي روايةٍ عن الإمام أحمد من أهل السنة؛ أنّ على المسلمةِ الزانية الجلدَ مع الرجم!

لما جاء عن عامرٍ الشعبيّ قَالَ: (أُتِيَ عَلِيٌّ بِمَوْلَاةٍ لِسَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ مُحْصَنَةٍ قَدْ فَجَرَتْ!

قَالَ: فَضَرَبَهَا مِائَةً، ثُمَّ رَجَمَهَا، ثُمَّ قَالَ:

(جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (898) وهذا لفظه، والبخاريّ في كتاب الحدود، باب رجم المحصن (6812) مقتصراً على شطرِ الرجم.

وانظر شرحَ هذا الحديثِ وعرض مذاهب العلماء في هذه المسألة في فتح الباري لابن حجر (21: 531) فما بعد، وكتاب لا رجم في القرآن لأستاذنا الدكتور مصطفى الزَلَميّ (ص: 53 - 61) رحمهما الله تعالى.

فقد نقلَ أقوال المذاهب من مصادرها المعتمدة.

وأمّا الأحاديث:

فهي عديدةٌ، تحتاجُ إلى منشورٍ مفردٍ، لعليّ أنشره قريباً إن شاء الله تعالى.

وأصحّ حديثٍ في الرجم؛ ما أخرجه البخاريّ (3635) ومسلم (1699) من حديث عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيا!

فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ، فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟!

فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ!!

فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوها، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا!

فَقَالَ لَهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ! فَقَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ!

فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِما!

قَالَ عَبْدُاللَّهِ بنُ عمرَ: «فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَجْنَأُ عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ».

وهذا موافق لما جاء في سفر التثنية، الإصحاح الثاني والعشرين، آية (20)

(وَلكِنْ إِنْ كَانَ هذَا الأَمْرُ صَحِيحًا، لَمْ تُوجَدْ عُذْرَةٌ لِلْفَتَاةِ 21يُخْرِجُونَ الْفَتَاةَ إِلَى بَابِ بَيْتِ أَبِيهَا، وَيَرْجُمُهَا رِجَالُ مَدِينَتِهَا بِالْحِجَارَةِ حَتَّى تَمُوتَ؛ لأَنَّهَا عَمِلَتْ قَبَاحَةً فِي إِسْرَائِيلَ بِزِنَاهَا فِي بَيْتِ أَبِيهَا. فَتَنْزِعُ الشَّرَّ مِنْ وَسَطِكَ.

22 وإِذَا وُجِدَ رَجُلٌ مُضْطَجِعًا مَعَ امْرَأَةٍ زَوْجَةِ بَعْل، يُقْتَلُ الاثْنَانِ: الرَّجُلُ الْمُضْطَجِعُ مَعَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ. فَتَنْزِعُ الشَّرَّ مِنْ إِسْرَائِيلَ.

وانظر الكتاب المقدس الدراسيّ (ص: 441).

وفي باب رجم الزاني المحصن؛ نجد حديثَ جابر بن عبدالله، عند البخاري (6814) ومسلم (1691) وحديثَ أبي هريرة عند البخاري (6815) ومسلم (1691 م). وحديث ابن عباس عند البخاري (6824) ومسلم (1693) وحديث عمر بن الخطّاب عند البخاريّ (6829) ومسلم (1691م) رضي الله عنهم، وغيرها.

فلا يسعُنا مع وجودِ هذه الأحاديثِ في الصحيحين، وغيرهما في غيرهما؛ أن نتسرّعَ فنضرب بها عُرضَ الحائط، بل لا بدّ من نقدها نقداً حديثيّاً موضوعيّاً، بعيداً عن تشنيعِ المشنّعين، وعبثِ العابثين، ومماشاة عصرنا الفاسد الفاجر!

وليحذر كلُّ مسلمٍ، وليتنبه إلى قول الله تعالى:

(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) [النور].

(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) [النور].

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.