اجتماعيات (15):
عُقدةُ
الشهادات العلميّة !؟
بسم
الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا:
عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا
تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا:
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ
بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).
في حوار
امتدّ مع بعض الإخوةِ الأحباب؛ وجدتُ بعضهم لا يقيمون وزناً للدرجات العلميّة
(بكالوريوس، ماجستير، دكتوراه) وبعضهم لا يقيم أدنى وزنٍ لحلقات المشايخِ مقرئي
المتون في المساجدِ والتكايا والمدارس الشرعيّة الخاصّة!
وتجليةُ هذه
المسألة من وجهة نظري، من الضرورة بمكان!
أوّلاً:
أكثرُ المشايخِ الذين يقرؤون المتونَ، من طبقة شيوخي، أو زملائي وأقراني؛ يحملون
درجةَ البكالوريوس في الشريعة الإسلامية، أو أصول الدين.
وإذا سألت
الواحد منهم عمّا يحمل من شهادةٍ؛ لاعتزّ بأنّه من خرّيجي كلية الشريعة بجامعة
دمشق، أو خرّيجي جامعة الأزهر بالقاهرة!
ولو سألتَ
أكثر طبقة شيوخي من خرّيجي الأزهر؛ لرأيتم تلقّوا العلم على الدكتور مصطفى
عبدالخالق، والدكتور عبدالغني عبدالخالق، والدكتور خليل الجراحي، والدكتور محمد
عبدالمنعم القيعيّ، والدكتور محمد محمد أبو شهبة، والدكتور سليمان دنيا، والدكتور
أحمد فهمي أبو سنّة، وهذه الطبقة!
وجميع هؤلاء
«الدكاترة» الكبار الأفاضل؛ هم شيوخي وشيوخ طبقتنا من «الدكاترة»!
ولو سألتَ
أكثر طبقة شيوخي من خرّيجي كلية الشريعة بجامعة ؛ لرأيتم تلقّوا العلم على الدكتور
نور الدين عتر، والدكتور محمد أديب الصالح، والدكتور فوزي فيض الله، والدكتور أحمد
عاصم بيطار، والدكتور وهبة الزحيليّ، والدكتور محمد سعيد رمضان البوطيّ، والدكتور
إبراهيم السلقينيّ، وهذه الطبقة من أساتذة كلية الشريعة بجامعة دمشق!
وجميع هؤلاء
«الدكاترة» شيوخي وأساتذتي وأساتذة طبقتنا من الدكاترة في جامعة
دمشق!
ومن
المعلوم أنّ (99%) من زملائنا خرّيجي جامعة دمشق، وخريجي جامعة الأزهر؛ لم يتابعوا
تحصيلهم العلميّ، واكتفوا بشهادة «البكالوريوس» وتعيّن أكثرهم في تدريس مادّة
الدين في المدارس، أو أئمة مساجد وخطباء فيها.
وهؤلاء
هم الذين يقرؤون طلبةَ العلم المبتدئين«المتون» ويفكّون عباراتها المستعصية على الطلبة
أحياناً!
فما
معنى أن يكون زملاؤنا حملة «البكالوريوس» شيوخاً محترمين معظّمين لأنهم يقرؤون
المتون وزملاؤهم الذين تابعوا تحصيلهم العلميّ، وحصلوا على درجة الدكتوراه، وكتبوا
الأبحاث العلمية وألّفوا الكتبَ، وحقّقوا المخطوطات؛ ليسوا بعلماء، ويشنّعُ عليهم
أمثال الشيخ الألبانيّ والشيخ شعيب وبعض تلامذتهما وغيرهم؟
ثانياً:
ما من «دكتور» في الشريعة الإسلامية، إلا مرّ بمرحلة «البكالوريوس» ثم الماجستير،
قبل أن يحصل على درجة الدكتوراه.
فكيف
يكون الشيخ الحاصل على درجة البكالوريوس صاحبَ علم محترمٍ، دون زميله الذي شاركه
في البكالوريوس، وزاد عليه درجتي «الماجستير» و«الدكتوراه».
بمعنى
أوضح!
هناك
بعض الجامعات، تشترط بحثَ تخرّج في «البكالوريوس» وبعض الجامعات، تجعل البحث
بديلاً عن مادةٍ اختيارية، وفي كلتا الحالين؛ لا يزيد البحث عن (100) صفحة بحالٍ
من الأحوال!
وكنت
أرى زملاءنا يضجرون من بحث التخرّج، ويستعينون ببعض طلبة الماجستير والدكتوراه
ليوجهوهم في كتابته!
وهؤلاء
يعلمون علمَ اليقين؛ صعوبةَ البحث العلميّ، والوقت الطويل الذي يستغرقه بحثٌ من
(100) صفحة!
فلماذا
يتناسون هذا الأمر، ويوغر بعضهم أو كثير منهم صدور تلامذتهم على حملة الشهادات
العليا، ويقنعونهم بأنهم جهلة، وأنّ العلمَ هو الذي يمنحونه هم إيّاه؟
ثالثاً:
ليس في حلقات شرح المتون اختباراتٌ علميّةٌ لكلّ متنٌ من المتون، إنما تمنح
الإجازاتُ لمن حضر على الشيخ شارح المتون، من دون أن يعلم الشيخ ما إذا كان تلميذه
هذا فهمَ المتنَ، وتعلّم كيف يستفيد منه؟
وأشهد
بالله الذي لا إله إلّا هو أنني شاهدت بعينيّ هاتين بعضَ المجازين من شيوخ «المتون»
يرتبكون في سائر امتحانات «الماجستير» و«الدكتوراه» ويغشّون في الامتحاناتِ؛ لأنهم
ربما حضروا شرح المتونِ كاملة، لكنّهم وشيوخَهم لم يختبروا حفظ طلّابهم هؤلاء، ولا
فهمهم تلك المتون!
وأدركت
شيوخاً من الذين يقرؤون المتون؛ يجيزون طلّابهم بالتلاوة وعلوم القرآن والتفسير،
وأحلف بالله العظيم أنهم لا يتقنون تلاوةَ سورةٍ واحدةٍ من القرآن العظيم، كما
تلقّينا على شيوخنا!
لنقرّب
المسألة أكثر:
أنا
الفقير حصّلت درجة البكالوريوس من كلية الشريعة بجامعة أمّ القرى بتقدير عام ممتاز
مع مرتبة الشرف الأولى.
وحصّل درجةَ
البكالوريوس هذه مئاتٌ غيري، لكنهم لم يتيسر لهم إكمال الدراسات العليا.
ثمّ
درست مرحلة الماجستير، وفيها تسع موادّ فيما أذكر، علّمنا إيّاها أساتذةُ مرحلة
البكالوريوس أنفسهم، وأساتذة أعلى درجة علمية منهم.
كتبت في
السنة الدراسيّة المنهجيّة أربعة أبحاث، كانت صفحاتها تقرب من (250) صفحة.
وكتبت
رسالة «الماجستير» فجاءت في (2500) صفحة!
ثم كتبت
رسالة الدكتوراه، فجاءت في (1500) فهذه (4250) مقوّمة علميّاً كتبتُها، زيادةً
على زميلي
مقرئ المتون الحاصل على درجة البكالوريوس معي!
فهل يستطيع
عقلٌ بشريٌّ أن يقبل بأنّ الذي لم يكتب بحثاً علميّاً في حياته؛ هو أعلم ممن كتب هذه
الآلاف من الصفحات العلمية، وأجدر في تعليم العلوم الشرعيّة؛ لأنّ جنابه يقرئ
المتون ؟!
رابعاً:
أحدُ زملائي الحمويين الأذكياء حقّاً، من حفظة القرآن الكريم، زارني في مكة
المكرمة في حجّ عام (1405) فأهديته ما كنتُ طبعتُ من كتبي!
لفت نظره
بحث «ثعلبة بن حاطب الصحابيّ المفترى عليه» فسرّه
دفاعي عن هذا الصحابي الجليل «طبعاً كلّ الصحابة أجلّاء!»
عنده.
لكنّه
قلّب بعض صفحات الكتابِ؛ فوجدني ترجمت للحسن البصريّ رحمه الله تعالى، ونقلت في
ترجمته أنّه «يرسل كثيراً ويدلّس»!
انتفض
غاضباً، ورمى الكتاب من يده وقال: الحسن البصريّ مدلّس يا رجل؟!
«كتابك
هذا لا يساوي فلساً أحمر» أو أسود، لا أذكر!
هذا
خرّيج من كلية الشريعة بجامعة دمشق، وهو في الوقت ذاته، لا يعرف أنّ الحسن البصريّ
مُدلّس، ولا يتقبّل أن يقالَ: الحسن البصريّ مدلّس أصلاً!
هذا
وأمثاله هم قرّاء «المتون» الذين تعدّونهم الطبقة العليا من علمائكم!
خامساً:
دار حوار بيني وبين عددٍ من زملائي خرّيجي كليات الشريعة، وجهدت أن أقنعهم بأنّ
السادةَ فقهاءَ الحنفيّة قديماً وحديثاً؛ لا يجيدون صنعة نقد الحديث، وأنّ كثيراً
من نقّاد الحديثِ تتبّعوا أدلّتهم، فوجدوا فيها الضعيف والواهي، لكن من دون فائدة!
ومنذ
شهور قليلةٍ زارني أحد خرّيجي الشريعة من إحدى الجامعاتِ الإسلاميّة، فاستنصحني
بأيّ كتب العقائد يبدأ؟
فقلت
له: تريد المذهب الأشعري أم الماتريديّ؟ قال: بل الأشعريّ!
قلت له:
اقرأ شرح «الصغرى» للسنوسي، ثمّ اقرأ الوسطى، ثمّ اقرأ السنوسيّة الكبرى، لكن
انتبه عند القراءةِ إلى أن لا تعتدَّ بالأحاديث الواردة في كتب السنوسيّ!
فاستغرب
وقال: ولم ذاك؟
قلت له:
ليس في علماء الكلام المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين؛ واحد يحسن تمييز الصحيح من
الضعيف!
فغضب
غضباً، يشبه غضبَ صديقي الحمويّ من أجل تدليس الحسن البصريّ!
حاولت
أن أهدّئه، وأحضرت له شرح الصغرى، وأطلعته على ثبَت للأحاديث التي في الكتابِ،
فكانت واحداً وثلاثين حديثاً، على ما أتذكّر، نقل محقق الكتاب تضعيف العلماء
المتقدمين سبعةَ عشر حديثاً منها، ولو خرّجتها أنا، فربما لا يصحّ منها خمسة!
فزاد
غضب الرجل وقال بامتعاض: يعني الشيخ عداب الحمش؛ أعلم بالحديثِ من السنوسيّ؟
قلت له
منزعجاً: عداب الحمش أعلم بالحديث من جميع علماء الكلام، من لدن أبي الحسن
الأشعريّ وأبي منصور الماتريديّ، وإلى هذه الساعة، الزم حدّك، إنما أقدّم لك
النصيحة، فلا تتفلسف أبداً !
سادساً:
بعدما استقرّ بي المقام في عمّان الأردنّ، استعنت ببعض طلبة العلم هناك، فكان
واحدٌ منهم ممّن اشتغل مع الشيخ شعيب الأرناؤوط في تخريج مسند أحمد!
عندما
ذكر لي ذلك؛ قلت له: قبل بداية الشيخ شعيبٍ بتخريج المسند بقليلٍ، طلبت منه أن
أشارك في تخريج المسند، من دون مرتّبٍ، فرفض!
فضحك
الشابُّ كثيراً، وقال: أكثر أناسٍ يبغضهم الشيخ شعيب؛ هم حملة «الماجستير» و«الدكتوراه»
لا يمكن أن يسمح بأن تعمل معه!
قلت له:
وهذا ظاهر في كتب الشيخ الألبانيّ أيضاً، فما السرّ يا ترى؟
قال لي:
أظنّها عقدةً لديهما ممن يحمل الشهاداتِ العلمية، فالشيخ شعيب دائم الاستخفاف بحامليها،
وكثيرٌ ممن كان يعمل معه، لا يخبره بأنه خريج جامعة !
ختاماً:
حفظ «المتون»
ودراستها على هؤلاء الشيوخ البسطاء؛ أمرٌ مهمّ جدّاً، لكنّ حفظَ عدد من المتون
وحضور شرحها الوجيز، الذي لا يتعدى عادة تيسير عبارةِ المؤلّف؛ لا يجعل منك
عالماً، ولا يؤهّلك لأن تنتقد حملة الدكتوراه، ظنّاً منك ومن أمثالك بأنّ ما لديك؛
ليس لدى غيرك!
إنّ العالم؛
هو الباحث المؤلّف الناقد، ومَن ليس بمؤلّف؛ فليس بعالمٍ البتة، ربما يكون أيَّ
شيء آخر، لكنه ليس عالماً!
ربما يتقن
قراءة شرح «متن أبي شجاع» أو حتى «شرح
المنهاج» ويتقن قراءة شرح الإبهاج لابن السبكيّ على المختصر الأصولي «المنهاج» لكنه
أبداً لا يستطيع أن يكتب بحثاً، يظهر فيه أين أصاب ابن السبكيّ، وأين جانبه
الصواب، بيد أنّ حامل «الدكتوراه» يحسن هذا، وأكبرَ منه بكثير!
فليتّق
الله تعالى أولئك الشيوخ حملة «البكالوريوس» ولا يسيؤوا إلى العلمِ، بتحقير
زملائهم الذين سهّل الله تعالى لهم من الدراسة العلمية، ما لم يتيسّر لهم.
والله المستعان.
]رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ[.
هذا.. وصلّى
الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلَّم تَسليماً
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق