الأربعاء، 14 أكتوبر 2020

إعادة صياغة العقل المسلم (1): 
في المرجعيات، والمصطلحات، والمصادر، والتاريخ!
 
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
 
إنّ إعادةَ صياغة العقل المسلم، تعني في أيسر ما تعنيه؛ إعادةَ كتابة «منهج التفكير الإسلامي» كتابةً يستشعرُ القائم بها مخافةَ اللهِ عزّ وجلّ، ويَعتقدُ في نفسِه الحيادَ المُطلقَ تُجاهَ الطائفية والمذهبية والحزبية والإقليمية والقومية!
إلى جانبِ امتلاكِه أدواتِ الاجتهاد الأساسية من علوم العربية والأصول والقواعد و المقاصد، وإتقان تحرير النصوص والروايات المنقولة في جوانبِ الاعتقاد والتشريع والسلوك، وجانب التاريخ الذي يدوّن حركة تعامل الناس مع الدين.
ذلك أنّ التحيّزَ العاطفيّ، فضلاً عن الفكريّ والمصلحي؛ يجعل الكاتب قريباً من الخطأ، بعيداً عن الصواب، عرضةً لترجيح الهوى على المبدأ.
وإنني أحسّ إحساساً عميقاً، منذ أكثر من ثلاثين سنة بأنني حياديّ العاطفة والفكر والسلوك.
إنني سيّد من آل البيت – متهم بالتعصّب لهم، في بيئة يغلب عليها النَصب الظاهر حيناً، والنصب الخفيّ في معظم الأحيان!
لكنني أؤمن بأنّ حبي آل البيت عقديّ، وليس عاطفياً، وأحسّ في الوقت ذاته بأن ظلامات الحكام لآل البيتِ؛ يجب ألا تعفيني من بيانِ الأخطاء التي وقع فيها قادةُ أهلنا، على مدار التاريخ!
فعليّ عندي أفضل الأمّة بعد رسولها صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يوزن به أبو بكر، ولا عمر، ولا مجموع الصحابةِ، رضوان الله عليهم، في سائر مكوّنات شخصيته المتعددة المواهب!
لكنه في نظري قد أخطأ عدة أخطاء كبيرة، كان عليه ألا يقع فيها بحال:
- فأخطأ يوم بايع أبا بكر، بعد عدّة أشهر من مبايعة الناس له؛ لأن بيعته كانت فلتةً، يعني اضطراراً، وعلى غير السُنّة.
فكرّس عليٌّ بذلك مَبدأَ التَغلّبِ الجماهيري القبلي.
- وأخطأ يومَ بايع عُمرَ بن الخطاب؛ لأنه كرّس مبدأ ولايةِ العهدِ، وتوريث السلطة.
- وأخطأ يوم دخل في الشورى؛ لأنه ضرب مبدأ ولاية الأعلم والأفضل في فؤاده، فليس في رجال الشورى عالمٌ غيره، فصار العالم والتاجر والفلاح صالحين للخلافة!
وهل الدولة المدنيةُ، سوى ما تقرّر في عهد ما يسمى بالخلافة الراشدة؟
- وأخطأ يومَ قَبِلَ الخلافةَ بعد مقتل عثمانَ؛ لأنّه كرس مشروعيةَ انتزاعِ الحكم بالقوّة، وقتلِ السلطان بدون عقاب؛ تحت ذريعة الفتنة!
- وأخطأَ يومَ تبع عائشةَ والزبير وطلحةَ إلى البصرة، قَبلَ أنْ يُعلنوا عِصيانَهم، حتى يتبيّن لجميع المسلمين؛ أنّ دعواهم الإصلاحَ بين أمّة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم؛ ليست سوى دعوى لخداع العوامّ، إذ كيف يكون تكوين جيشٍ يتّخذ من البصرة قاعدةً له؛ إصلاحاً مع إمام الأمة المقيم في المدينة؟
وكيف يكون قتلُ مئاتٍ من البصريين المسلمين، ونهبُ خزينة بيت المال، وطرد والي البصرة؛ سُبُلاً للإصلاح؟
لكنّ لحاقَ الإمامِ عليٍّ بهم، قبلَ وضوح ذلك للمسلمين؛ ترك الأمور ملتبسة، رغم غلط عائشة، ومن معها.
- وأخطأ يومَ قَبِل التَحكيم، فلا يجوز للإمام أن يكون تابعاً لشعبِه، إنما هو متبوعٌ من قِبَلهم!
ومَن أمّ قوماً، لا يقوى على قيادتهم وإخضاعهم لأوامره وسلطانه؛ يجدُر به أن يستقيلَ فوراً!
وأخطأ يومَ النَهروان، فقد كان يَسَعُه مطاولةَ الحوارِ معهم، ريثما يتوضّح لهم الحقّ، أو يتوضّح لكثيرين منهم!
وأخطأ يومَ قتله أيضاً، فقد كان يعلم علمَ اليقين أنّ ابنَ مُلجَم يُعدّ العُدّة لاغتيالِه، وقد صرّح لبعض أحبابه بذلك، لكنّه لم يقُم بأيّ احتياطٍ تُجاهَ ذلك، بحجّة أنّ القاتلَ لم يقُم بجريمته بعد!
وجوابي وجوابُ غيري على كلّ ماسبقَ؛ أنّه اضطُرّ إلى هذا كله اضطراراً، فما الحيلة؟
وأقول: هذا كلّه كرّس سياسةَ الاضطرار، والأمرِ الواقع، وترك الأمة إلى هذا اليومِ، من غير منهاج سياسيّ، سوى المنهج القائم على التغلب!
فغدا منهاج العربِ في انتقال السلطة قبلَ الإسلام؛ خيراً من مِنهاج المسلمين، أو مثله!
- وأنا سني العشيرة والنسب، شافعي المذهب، فليس في سلسلة نسبي حنفيٌّ، أو مالكيٌّ، أو حنبلي، أو شيعيٌّ واحدٌ، منذ عهدِ الأيوبيينَ، وحتى اليوم!
لكنني عندما كتبت كتابي «النسخ» سنة (1977) خالفت الشافعي في جميع مَباحث النَسخِ، تأصيلاً وتطبيقاً.
أما تأصيلاً: فقد قرّر الشافعي منهج قبول الناسخ والمنسوخ ورسم حدوده.
وأما تطبيقاً: فقد ذهبَ إلى نَسخِ أربعَ عشرة آية من القرآن الكريم، ونسخِ عَددٍ من الأحاديث النبوية.
وأنا رفضت منهج النسخ نظرياً، ورفضته تطبيقاً، فليس عندي في القرآن العظيم ناسخ ولا منسوخ! ونشأت أشعري المذهب، وماتريديّاً في مسائل الخلاف بين المذهبين في أكثر المسائل!
وقرأت على عدد من شيوخي عقائدَ الأشاعرة، كما قرأت جميع ما طبع من كتبهم حتى سنة (1977) بما فيها شرح المواقف للسعد وحواشيه!
ويكذب مَن يَقول بأنني صرت سلفياً ساعة واحدة في حياتي؛ لأنني أعدّ السلفية تخلفاً وتبعيةً بغيضةً لقوم كانوا في بداياتِ العلم والحضارة.
وكيف أكونُ سلفيّاً، وأنا أعد نفسي أعلمَ من أحمد ابن حنبلٍ، حتى في الحديثِ وعلومِه؟
وقرأتُ الاعتزال والتشيع بشقيه، وكتب الملاحدة، والديانات القديمة، واليهودية والنصرانية، وخلصت إلى أنّ الأممَ كلَّها رَعاع، وأنّ أصحابَ السلطان الجهّالُ؛ هم الذين يشكلون دياناتِ الناس وتوجهاتهم الفكرية والسلوكيّة!
يساعدهم في ذلك بعض رجال الدين الجبناء، رغباً ورهباً، و(الناس على دين ملوكهم)
وفكري الإسلاميّ؛ مستقلٌ، ينظر إلى جميع أفكارِ الفرقاء بإشفاقٍ، وليس باحترام، فالتقليد عندي لا يَستحقّ الاحترام أبداً!
فأنا اليوم لست أشعرياً، ولا ماتريدياً، ولا حنبلياً، ولا مُعتزلياً، ولا زيدياً، ولا إمامياً، ولا إسماعيليّاً، ولا إباضياً... كما لست عشائرياً، ولا قومياً، ولا إقليمياً.
وإنْ كنت شديدَ الاعتزازِ بنسبي الهاشميّ، وانتمائيّ النعيميّ النبيل!
على أنّ ليَ في جميع هذه الدوائر أحباباً، أتفق مع الجميع بالكثير، وأختلف مع كل فرقة ببعض ما تذهب إليه بقيدين اثنين، لا أعلم لهما وجود عند غيري من أهل العلم في هذا العصر:
- الأول: إعذاري للمجتهدين في اجتهادهم، مع تقديري للصادقين منهم!
- الثاني: إشفاقي على المقلدين، وحزني على تعصبهم، وثوراتهم مع جهلهم المركب البغيض!
وأحسب أنني أمتلك من أدوات العلم والمعرفة؛ ما يؤهّلني للكتابة في منهج التفكير الإسلامي، إلى جانب حيادي الفكري المطلق!
وفي المنشورات التاليةِ؛ سأشرح مقصودي من عنوان هذا المنشور الأوّل الذي سبق نشره قبل سنواتٍ «إعادةُ صياغة العقل المسلم: في المرجعيات، والمصطلحات، والمصادر، والتاريخ» بوضوح!
عسى أن يقوم واحدٌ من تلامذتي، أو إخواني العلماء بكتابة هذا الكتابِ، الذي يحتاج شباباً وقوّةً وراحةً وحياةً مطمئنّة!
وأختم بقولي: إنّ فكري السياسيّ؛ مختلفٌ عن فكريَ العلميّ والسلوكيّ؛ لأنّ السياسة في هذا العصر؛ تدور مع الأصلحِ، ومع الإمكان!
فمن حيث المبدأ، أنا لست مع الملكيةِ، ولا مع الإمارة الواراثيتين قطعاً، وأرى النظام الجمهوريَّ الرئاسيّ؛ أقربَ إلى العدل والحقّ، إذ لا يمكننا أنْ نطبق أحكام «الخليفة» المنثورة في كتب الفقه، على أيّ حاكم اليومِ، ولو طبّقناها؛ فلن نجد حاكماً شرعياً في تاريخ أهل السنّة على الإطلاق!
فموقفي من الحاكم يكون على قدر ما يَظهرُ لي من نصرته للحقّ، ودفاعه عن المظلومين، واهتمامه بقضايا الأمة ووحدتها، ورعايته للعلم والعلماء، بمعزلٍ عن دستور بلده وقوانينه وسلوك رعاياه!
أمّا غير أهلِ السنةِ وحكّامُهم؛ فليس لي بعد اليوم شأنٌ بهم، فقد أبانوا عن تعصّب وحميّة قبيحة، توجب عليّ الابتعادَ عن دوائرهم تماماً!
والله تعالى أعلم
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
والحمد لله على كلّ حال.
 

السبت، 12 أكتوبر 2013

أوهام الجمع والتفريق عند المحدثين

بالإمكان تحميل بحث الشيخ عداب الحمش المسمى


(أوهام الجمع والتفريق عند المحدثين)


عبر الموقع الرسمي للشيخ عداب الحمش من خلال الضغط على الرابط أدناه:


الاثنين، 22 أبريل 2013

القراءات القرآنية
 مصادر وتاريخ/ الجزء الثاني

محاضرة للشيخ عداب الحمش في جامعة أم القرى

الأحد، 31 مارس 2013


القراءات القرآنية
مصادر وتاريخ

محاضرة الشيخ عداب الحمش في جامعة أم القرى


الأحد، 10 مارس 2013

كلمة في الفقه



من الضروري جداً لكل طالب علم أن يقرأ خمسة كتب، ليتعرف إلى بدايات تشكيل الفقه الإسلامي من منابعه الأصلية، وليرصد التطور في تأطير الفقه الإسلامي وانغماسه في مستنقع الطائفية في بعض الجوانب منه:
1.  موطأ الإمام مالك، برواياته الثلاث المشهورة المطبوعة كاملة: رواية يحيى بن يحيى الليثي، ورواية محمد بن الحسن الشيباني بصفته تلميذ مالك ومخالفه في مذهبه، ورواية أبي مصعب الزبيري بصفته أحد المنتمين لمدرسة أهل الحديث، لا إلى مدرسة مالك. وينبغي أن تقرأ هذه الروايات الثلاث معاً كالمقابلة.
2.   كتاب الحجة على أهل المدينة، لمحمد بن الحسن الشيباني راوي الموطأ السابق ذكره.
3.    كتاب الأم للشافعي، وخاصة المجلد السابع، ويُستحسَن أن يُقرأ كل فصل منه خمس مرات متوالية.
4.    شرح معاني الآثار للامام الطحاوي.
5.    بداية المجتهد لابن رشد، ويُفضّل أن تكون القراءة على هذا الترتيب الذي ذُكر.
والفقه الإسلامي ليس هو الاسلام في جانبه التشريعي والحُكمي، وإنما هو أنظار المجتهدين الأعلام في استنباط حكم الله تعالى، أو حكم الدين، أو مقصد الشرع في هذه الواقعة من مصدَرَي الدين: كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما الإجماع، فلو تحقق، فهو مصدر كاشف عن حكم الشرع، وليس مصدراً مؤسِّساً ذاتياً، على أنه ليس في الدنيا إجماعٌ على الإطلاق بالمعنى الأصولي.
فهناك ثلاثة أنواع من الإجماع، لا يوجد غيرها في التاريخ الإسلامي على الإطلاق:
1.  الإجماع بمعنى عدم الوقوف على المخالف، فالعالم ينظر في الكتب التي يقف عليها، فيجد المسألة مطروحة في أحد الكتب بمثل الرأي الذي يراه، ويجدها غير مطروحة أصلاً في كتب أخرى، لكنه هو لم يقف على مخالف، فيدعي الإجماع..! وأكثر الإجماع في كتب الفقه من هذا الطراز.
2.  الاجماع التواضعي، وهو قيام مهتم بأمور الإجماع برصد كتب أصحاب المذاهب الأربعة، إما المعتمدة للفتوى عند كل مذهب، وإما انتقائياً للشهرة أو غير ذلك، فيجد المسألة مبحوثة لدى الجميع أو مبحوثة لدى البعض وغير مبحوثة لدى البعض الآخر بموافقة أو بمخالفة، فيدعي الإجماع!! ومن هنا رَدّ كثير من المتأخرين دعاوى الإجماع على من ادّعاها ممن تقدمهم.
3.  الاجماع الافتراضي، وصورته أن تنزل نازلة من النوازل، فيُسأل الفقيه عنها، فيُعمل ذهنه فيها، فيتوصل إلى أن المسلمين يجب أن لا يختلفوا في أن هذه المسألة مشروعة أو غير مشروعة، فيقول: وإجماع المسلمين على هذا، وليس هو في الحقيقة إلا افتراض في انتفاء وجود مخالف، وأكثر دعاوى ابن تيمية رحمه الله الاجماع التي يحكيها عن السلف من قبيل ذلك.

الخميس، 28 فبراير 2013

قول في التاريخ الاسلامي

التاريخ الاسلامي كله بني على التعامل البشري للمسلمين مع تعاليم الله تبارك وتعالى الواردة إليهم عن طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتاب والسنة.
فما كان في تاريخنا من مساحات مشرقة مضيئة، فهو القدر الذي اهتدى فيه المسلمون بتعاليم الوحي وتطبيقات النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
وما كان فيه من سِباخٍ وسُجُفٍ وظلام، فهو أثر من آثار الانحراف عن منهج الله تبارك وتعالى بغض النظر عما إذا كان هذا الانحراف مقصوداً أم غير مقصود، وسواء كان أثراً من آثار حظوظ النفس البشرية أم كان خطأً في الاجتهاد، فالذي تمخض عن ذلك كله هو هذا الواقع البئيس الذي نعيشه.
وإن من أغرب ما يصادف الباحث النزيه الحر في دراسة هذا التاريخ تلك القداسات المزعومة لرموز أو مواقف، ومحاولة الدفاع عن تلك الأخطاء بين سطر وسطر بتعليلات ينقض بعضها بعضاً، حيناً بعد حين.
والتاريخ الاسلامي، يعتقد أهل السنة أن الشيعة هم الذين استأثروا بكتابته والشيعة يعتقدون أن أهل السنة -أنصار الحكام- هم الذين صاغوا التاريخ على وفق أهواء أولئك الحكام الظالمين، في نظرهم.
والصواب أن للحكام دوراً بارزاً كبيراً فيما يُكتب وما لا يُكتب، والوقوف على الحقيقة في وقائع التاريخ، وخاصة في القرن الأول، عويصةٌ عسيرةٌ، لأنها تصطدم بما يسمى (مسلَّمات) لا يجوز المساس بها، من مثل: عدالة الصحابة، وعصمة الأئمة، والنص، والتعيين، والالماح، والاشارة، وفضائل الصحابة التي لم تعد فضائل فحسب، وإنما غدت عقائد مركوزة في أدمغة عامة المسلمين، بل مثقفيهم، ولهذا يصعب طرح وقائع من التاريخ الاسلامي الأول عارية غير مغلفة، لأن الأسلوب الأمثل عند المسلمين بجميع طوائفهم هدر دم المخالف وتكفيره وتفسيقه؛ إذا خرج على السائد في الشارع الجاهل.
والأمم المتحضرة كلها تفرق بين خمسة أنواع من الطروحات الفكرية:
1. فالطرح الفكري العام: هو الذي يتماشى مع سذاجة العوام ويرتفع بهم قليلاً لِتَحْسُنَ سياستُهم من قبل الحكام. وهذا أردأ أنواع الطروح الفكرية وأيسرها.
2. والطرح الفكري الموثق بالعزو والاحالات: كمن يتكلم على معركة الجمل أو صفين مستنداً إلى روايات تاريخ الطبري، أو إلى ما يختاره هو منها، فإن المثقف العادي حين ينظر في الإحالة إلى تاريخ الطبري يذهب وَهَلُهُ مباشرة إلى أن الذي أمامه صحيح موثق. والصواب أن هذا هو التاريخ الخادع المخادع الذي يكتبه أصحاب الأهواء، سواء كانوا من اتجاهات السنة أم الشيعة أم الخوارج.. إلى آخره. لأن هذه الكتب ليست خالصة للحقائق الصحيحة، كل كتب التاريخ بلا مثنوية تجمع الغث والسمين، ولا يجوز اعتماد ما فيها على أنه صحيح مطلقاً، حتى في حال عدم معارضة بعض النصوص لبعض.
3. الطرح الفكري (المرجعية الفقهية): وتعتمد أيضاً لدى كبار الكتاب المحققين على أنها مرجعية موثوقة بسبب أنها قد بُني عليها أحكام فقهية شرعية، ويبدو هذا أشد ما يبدو لدى الإمامية والحنفية والمالكية الذين لديهم مرجعيات ملزمة، من عصمة الأئمة، وحجية قول الصحابي، وعمل أهل المدينة، وهي كلها في الحقيقة ليست مرجعيات ملزمة. وهذا أخطر جانب على الفكر الإسلامي الناقد، لأنه لا يمكنه مصادمة حكم فقهي غدا في أنظار تسع وتسعين بالمئة من أئمة الإسلام أنه دين!! وهو ليس بدين وإنما هو اجتهاد صاحبه في فهم هذا الدين. فقد يكون صواباً، فيكون من الدين؛ وقد يكون خطأً، فلا قدسية له، ولا هو من الدين!!
وأضرب لذلك مثالاً صغيراً جداً، وهو مشهور: إن قراءة الفاتحة في الصلاة واجبة عند جماهير علماء المسلمين، وهي ركن عند الشافعية حتى في صلاة الجماعة خلف الإمام. ويذهب السادة الحنفية إلى أن قراءة الفاتحة خلف الإمام مكروهة تحريماً!!
فهذه مرجعية فقهية يدين الله بها أكثر من نصف المسلمين على الكرة الأرضية وهي عند النصف الآخر ليست مرجعية مقدسة، ولا هي صحيحة!!
وهذا في مسائل العبادات، فما بالك بمسائل التاريخ التي تصطدم مع ما أعطيناه لأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، من قداسة مطلقة، تشبه إلى حد بعيد قداسة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
صحيح أن الشافعية، ومن تبعهم، في كتب الأصول لا يقولون بحجية قول الصحابي، فضلاً عن التابعي فمن دونه! لكن الواقع المنظور أن الشافعية، قبل غيرهم، بنوا عقائد وصححوا وقائع كثيرة بناءً على أقوال بعض الصحابة والتابعين فمن بعدهم.
وإلا فماذا عن هذه العقيدة التي نكفر ونفسق ونضلل على اعتقادها أو منافاتها، ما حظها من شرع الله؟! وما أثرها في دين الله؟! وهي عقيدة: القول بخلق القرآن، أو بغير خلقه!!
فإن الأمة انتصرت لأحد الفريقين المتصارعين بغير عقل، فالمعتزلة ومن ذهب مذهبهم كفروا بقية الأمة، وبقية الأمة كفروا المعتزلة في مسألة صغيرة لا يترتب عليها أي حكم تكليفي، ولا يسأل الله أحداً عنها يوم القيامة! ولا نزال اليوم نقرر أن من يقول بخلق القرآن كافر!! ويقرر الإباضية والزيدية والاسماعيلية وغيرهم من الفرق غير المحدودة أن من يقول بقدم القرآن كافر!
ويُدرَّس هذا في الجامعات ويُعَدُّ من دين الله، وهو لا صلة له بدين الله أصلاً!!
4. الطرح الفكري التاريخي الفلسفي: وهو الذي يسميه العلماء اليوم: البحث عن فلسفة الوقائع، ورؤية مقدماتها وأسبابها ودوافعها، ورصد مسيرتها والوقوف على نتائجها وآثارها.
وهذا لا وجود له -والحمد لله على كل حال!!- في بيئاتنا العربية على الاطلاق وخاصة في الدراسات الدينية الشرعية، لأنه يعني البحث في الأسباب الحقيقية التي قادت أبا بكر الصديق رضي الله عنه إلى هذه الحروب الطاحنة التي سموها حروب الردة. فالأسباب الخفية -في واقع الأمر- هي غير المعلنة! ورصد مسيرة هذه الحروب تبرز جانباً من جوانب التعامل البشري الخاطيء لدى المتحاربين، والوقوف على نتائجها من قتل آلاف العرب المسلمين وغير المسلمين، ورصد آثارها المدمرة التي كانت من أبرز أسباب ظهور الفرق القبلية ثأراً لمن قُتل في تلك الحروب، وانتصاراً للأفكار التي كانت وراء قيامها!!
وقل مثل ذلك عن الأسباب الحقيقية لمنع عمر رضي الله عنه إعطاء بني هاشم سهم الخمس!
وقل مثل ذلك في إعراض عثمان رضي الله عنه عن سيرة الشيخين في توزيع الثروة!
وقل مثل ذلك في إعراض علي رضي الله عنه عن متاركة أهل الجمل والصبر عليهم!
فلا ريب أن الأسباب المعلنة ظلال الأسباب غير المعلنة، أو بعضها على أقل تقدير، وهذا لا يحتمله أكثر المفكرين المسلمين، مع احتمالهم كل ما يسمونه التأويل، والتماس المعاذير، والتغطية على هذا الواقع التاريخي.
5. الطرح الأخير، وهو نقد التاريخ: ويبدو أن الأمة تحارب هذا النوع من الطرح محاربة لا هوادة فيها، بأشد مما تحارب الطرح التنظيري الذي قبله!
ولهذا بقيت هذه الطروحات -الرابعة والخامسة- حكراً على العرب الملحدين، من أمثال حسين مروة، والجابري، وغيرهما من العرب الماركسيين الذين يعطون لأنفسهم الحرية المطلقة حتى في نقد الله ورسوله، فضلاً عن الصحابة والتابعين. وحين يقوم علماؤنا بالرد عليهم، لا يأتون في بعض الجوانب -في بعضها فقط- إلا بقيل وقال، وحُكي، وزعموا، ويُحتمل، لأن المرجعيات المقدسة تقهرهم!!
فمثلاً، في كتاب لجلال صادق العظم، يقول فيه إن الصحابة لم يكونوا يلتزمون بأقوال وأفعال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أنها دين، وإنما يأخذون منها ما يحتاجونه لتبرير عمل يريدون القيام به وتخويف العوام بذلك! فمن ذلك تحريم عمر المتعتين!!
ففي البخاري ومسلم أن عمر وقف في الناس خطيباً، وقال: أيها الناس، متعتان كانتا على عهد رسول الله، والله يغفر لرسوله -وفي رواية: والله قد غفر لرسوله ما تقدم من ذنبه وما تأخر-، وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما أشد العقاب، فسأله أحد الصحابة، يا أمير المؤمنين فعلناها نحن وأنت مع رسول الله -يعني متعة الحج- فبِمَ تنهى عنها؟! قال لعلكم تطؤون نساءكم تحت الأراك، ثم تخرجون إلى عرفات ومذاكيركم تقطر من المني!! لا والله لا يكون هذا.
يتساءل جلال العظم، فيقول: تُرى هل كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم غافلاً عما تفطن له عمر؟! أم هل كان هو شريكاً في الرسالة؟! أم أنه في الحقيقة لا نبوة ولا رسالة؟!!
ونحن نسأل: فبماذا يجيب العالم المسلم، الذي وضع بين يديه مُسلَّمتان خطيرتان:
الأولى: ما ثبت في الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مسدّدٌ ملهَم، وأن الحق معه حيث كان، وأن الشيطان لا يقترب من الوادي الذي فيه عمر.
الثانية: صحة جميع ما في البخاري ومسلم.
فبماذا يجيب العالم المسلم هذا العربي الماركسي الذي يسمّى في ساحات كثيرة مفكراً؟!
لذلك نقول:
كل تاريخنا الإسلامي بدءاً من ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا يحتاج إلى دراسة في ضوء علم النقد الحديثي، والنقد التاريخي، بدون مرجعيات مسلمة معصومة، فلا الصحابة معصومون، ولا الأئمة معصومون، ولا صحيح البخاري وصحيح مسلم معصومان، ولا أحد من الخلق غير الرسل معصوم.
وتدرس كل روايات التاريخ في ضوء تلاقح هذين المنهجين، وينظر في آراء الفرق المخالفة ليتوقد الذهن عن الإجابات المنطقية، والاستنتاجات الصحيحة بغية الوصول إلى الحق.
وقد نُسأل: ولِمَ نفعل كل هذا؟ وهذا تاريخ مضى وانقضى؟ ولمصلحة من هذا؟
فيجاب: هو لمصلحة الإسلام أولاً، حتى لا ندخل فيه ما ليس منه! وهو لمصلحة المسلمين، لأن المسلمين اليوم كتلٌ بشرية هائلة، فالإمامية الذين استطاعوا على مدار التاريخ تثبيت المرجعية الفقهية، يصدرون عن مرجعية واحدة. ويمكن في المستقبل القريب أن تكون مرجعية الشيعة في العالم، هي ما يقوله مرشد الثورة الايرانية، أو ما يقوله رئيس أكبر دولة شيعية، بصفته القادر السياسي.
والخوارج والزيدية والاسماعيلية وما يتفرع عن كل فرقة من هذه الفرق، كتل بشرية ضخمة لها جيوشها وقواتها ومدمراتها! فلا يجوز بحال من الأحوال أن يبقى الطرح الفكري هو الطرح الفكري الذي كان بعد مقتل الحسين، أو في عهد عمر بن عبد العزيز، أو حتى في عهد العباسيين، لأن كل فرقة من الفرق تشكل ملايين يمكن أن يؤثروا سلباً على واقع المجتمع المسلم، كما هو ظاهر، والله أعلم.