مَسائِلُ مِن الفِقْهِ والأُصولِ (13):
الصَحابةُ الفُقهاءُ مَن هم !؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
كتب إليّ أحد تلامذتي من أهل العلم يقول: «قرأت في منشورك عن الصحابة أن أبا بكر وعثمان وسعد وطلحة والزبير ليسوا
من علماء الصحابة ؟
ما الذي استندت عليه لتحدد أن هذا من علماء
الصحابة، و ذاك من غير العلماء ؟
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (نضر الله
امرأ سمع مقالتي فوعاها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)
إذنْ كثرة الرواية ليست ضابطاً للفقه والعلم.
ولكن الضابط ما قاله الإمام علي
عليه السلام: ولكن فهم يؤتاه...» إلخ كلامه.
أقول وبالله التوفيق:
أكثر من تناول مسألة التفريق بين الصحابة الفقهاء،
والصحابة الرواة، وعوامّ الصحابة؛ هم الحنفيّة في كتبهم الأصوليّة (أصول الفقه).
بيد أنّ الإمامين أبا محمّد بن حزم الأندلسي في
كتابه الأصوليّ «الإحكام في أصول الأحكام» وأبا بكر ابن قيّم الجوزيّة في كتابه
«إعلام الموقعين» عُنيا عنايةً فائقة بهذه المسألة.
قال
ابن حزم في الإحكام (5: 92): «قال أبو محمد: وهذا حينُ نذكر إن شاء الله تعالى اسمَ
كُلّ مَن رُوي عنه مسألةٌ، فما فوقها من الفتيا، مِن الصحابة رضي الله عنهم وما
فات منهم - إن كان فات - إلا يسيرٌ جدّاً، ممن لم يُروَ عنه أيضاً إلا مسألة واحدة،
أو مسألتان، وبالله تعالى التوفيق:
أوّلاً:
المكثرون من الصحابة رضي الله عنهم فيما رُوي عنهم من الفتيا: عائشة أم المؤمنين، وعمر
بن الخطاب، وابنه عبدالله، وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن العباس، وعبد الله بن
مسعودٍ، وزيد بن ثابت.
فهم
سبعةٌ، يمكن أن يُجمع مِن فُتيا كلّ واحدٍ منهم سِفرٌ ضَخم!
ثانياً:
والمتوسطون منهم، فيما رُوي عنهم من الفتيا رضي الله عنهم:
أمّ
سلمة أم المؤمنين، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدريّ، وأبو هريرة، وعثمان بن عفان،
وعبدالله بن عمرو بن العاص، وعبدالله بن الزبير، وأبو موسى الأشعريّ، وسعد بن أبي
وقاص، وسلمان الفارسيّ، وجابر بن عبدالله، ومعاذ بن جبل، وأبو بكر الصديق.
فهم
ثلاثة عشر فقط، يمكن أن يجمع من فتيا كلّ امرىء منهم جُزءٌ صغير جدّاً.
[انتبه
إلى جملة «جزء صغير جدّاً»]
ويُضاف
إليهم أيضاً: طلحةُ، والزبير، وعبدالرحمن بن عوف، وعمران بن الحصين، وأبو بَكرة
الثقفيّ، وعبادةُ بن الصامتِ، ومعاوية بن أبي سفيان.
ثالثاً:
والباقون منهم رضي الله عنهم مُقِلّون في الفُتيا، لا يُروَى عن الواحدِ منهم إلا
المسألةُ والمسألتان، والزيادةُ اليسيرة على ذلك فقط!
يمكن
أن يُجمع مِن فُتيا جميعهم جزءٌ صغير، بعد التقصي والبحث».
ثمّ
ذكر أسماءَ هؤلاء الذين لا يُروى عن الواحد منهم إلّا القليل، فراجعه ثمّة!
ومع
أنّ ابن حزم جعل المكثرين من فقهاء الصحابة سبعةً، وجعل المتوسطين ثلاثة عشرَ
صحابياً، بيد أنهم متفاوتون تفاوتاً كبيراً في قلّة الفتوى وكثرتها، إضافةً إلى أنّ
مناهجهم في الفقه والتفقّه مختلفة فيما بينهم تماماً، وأكثرهم ناقلون للفتوى،
وليسوا مجتهدين!
من
أمثال عبدِالله بن عمر، وعبدِالله بن عمرو، وأنسٍ، وأبي هريرة.
وبين
يديّ أطروحة علميّة عالجت مسألةَ اجتهاد الصحابةِ معالجةً جيّدةً، كتبها الدكتور
عبدالرحمن بن معمر السنوسيّ، بعنوان:
(الاجتهاد
بالرأي في عصر الخلافة الراشدة) وطبعتها وزارة الأوقاف الكويتية، عام (2011م) والكتاب
مجلّد ضخم يقع في (615) صفحةً، وهو مفيدٌ من أوّله إلى آخره.
وأكبرُ
ما يُنتقَد عليه؛ هو ما يُنتقَد على سائر الفقهاء، من الاستدلال بنصوصٍ مرويّةٍ،
من دون نقدٍ لأسانيدها، خاصةً إذا كانت في الصحيحين، أو صححها واحدٌ من علماء
الحديث!
وقد
بيّن السنوسيُّ في كتابه هذا مناهجَ فقهاء الصحابة في الاجتهاد، وفي مستند
الاجتهاد عند فقد النصِّ، وأكثرُهم كان يَعتمد تقليدَ من سبق، وبعضهم كان يعتمد
المصلحة الشرعية، وبعضهم يعتمد القياس.
فأنا
الفقير لا أكتب إليكم رؤايَ وتحليلاتي، إلّا بعدَ اطّلاعي على المأثورِ الذي عاصر
الحدثَ الذي أحدّثكم عنه.
وليس
لي من غرضٍ في التقليل من شأن الصحابة - كما يتوهّم بعضهم - إنما مرادي الوقوفُ
على الحقائق كما هي، من دون تزييفٍ وتهويل!
والمجتهدون
أهل النظر من الصحابة في نظري أربعة، على الترتيب الآتي: عليّ، ثمّ ابن عبّاس، ثم
عمر، وعائشة في أمور النساءِ، رضي الله عنهم، ومن عدا هؤلاء الأربعة؛ بعضهم من
العلماء، وبعضهم أعلمُ من بعضٍ، وبعضهم أكثر فتوى من بعضٍ!
وبعضُ
التابعينَ يرى ابن عبّاسٍ أعلم من جميع الصحابة، بمن فيهم عمر وعليّ وعبدالله بن
مسعودٍ رضي الله عنهم!
«قال
ابنُ أبي نَجيح: كان أصحابُ ابن عبّاس يقولون: ابنُ عباسٍ أعلم من عُمر ومن عليّ
ومن عبداللَّهِ بن مسعود، ويَعدّون ناساً آخرين من الصحابة!
فيَثِبُ
عليهم الناس «كما يثبون علينا اليومَ ويثورون»!
فيقولُ
أصحاب ابن عبّاسٍ: لا تَعْجَلوا علينا، إنّه لم يكن أحد من هؤلاء إلّا وعنده مِن
العِلم ما ليسَ عندَ صاحبه، وكان ابن عباس قد جَمَعه كُلَّه» انظر إعلام الموقّعين
(2: 35).
وهذا
أمرٌ طبيعيٌّ جدّاً، لكنّ البشرَ دَرجوا على تعظيمِ الحكّام والأسماء الكبيرة!
ويحسن
أن نوضح ذلك بمثالٍ ممّا بين أيدينا ههنا!
إذا
روى أبو بكر (100) حديثٍ، ورى عمر (200) حديثٍ، وروى عليّ (300) حديث!
نظرنا
في المشترك بينهم، فوجدناه (30%).
ثم
جاء ابن عبّاسٍ، فحفظ هذه الــ(600) حديث كلّها، أفلا يكون مسنده الحديثيُّ ستّة
أضعاف مسند أبي بكرٍ، وثلاثة أضعاف مسند عمر، وضعفي مسند عليّ، رضي الله عنهم؟
وإذا
رُويت عن أبي بكرٍ (100) مسألة فقهية، ورويت عن عمر (400) مسألة فقهية، ورويت عن
علي (300).
نظرنا
في المتّفق عليه بينهم، فوجدناهم اتّفقوا على (50%).
ثمّ
جاء ابن عبّاس، فحفظ مسائل الفقه الـــ(800) كلّها، أفلا يكون ابن عبّاس أكثر
فقهاً من أبي بكرٍ وعمر وعليّ؟
أليس
العِلمُ تراكميّاً، يُحصّل المتأخّر منه أكثر مما يحصله المتقدّم والمعاصر؟
كيف
تستوعب عقولكم أن لا يصلنا سوى (100) حديثٍ من مسند أبي بكر، ثمّ تقبلون أنّ أحمد
ابن حنبل يحفظ مليون حديث؟
أليس
هذا يعني أنّ ابن حنبلٍ أحفظ من أبي بكر بــــ(100) ألف مرّة؟
ولو
نحن سلّمنا لابن حزمٍ بأنّ جميع هؤلاء الصحابة من الفقهاء العلماء؛ فحسن جدّاً،
ليتنا اقتصرنا على رواياتهم أيضاً؛ إذنْ لقلّ التعارض والتناقض بين المرويات عنهم،
والمرويات المنسوبة إلى غيرهم من الصحابةِ العوامّ، ومن جيلِ الصحابة، الذين لا
اشتغال لهم بالعلم، ولا اشتُهروا بجودة الفقه والفهم!
قال
لي أحدهم: أتقول حقّاً: إنّ الإمام الشافعيّ أفقه من الأئمّة محمّد الباقر وجعفر
الصادق وموسى الكاظم عليه السلام؟
قلت
له: الشافعيّ كتب بيدِه عشرةَ مجلّدات من الفقه الثابتِ النسبةِ إليه، تزيد على (5000)
صفحة، فهل لديك (50) صفحةً فقهيّةً ثابتةً عن كلّ واحدٍ من هؤلاء الأئمّة الكرام؟
هذا
يعني أنّ علينا التفرِقَةَ بين المَلَكَةِ الفقهيّة التي يتمتّع بها كلّ واحدٍ من
هؤلاءِ الصحابةِ الفقهاء، والأئمة الكرام، وبين ما صدَرَ عن هذه الملكة من فقه!
عظمةُ
هذه المَلَكَةِ أو تلك؛ هي دعوى، أو كما يقولون في المثل العربيّ: «المعنى ببطن
الشاعر» من أين أعلم أنّ لدى أبي بكرٍ أو غيره من الصحابة ملكةٌ فقهيّة راقيةٌ، أو
دون ذلك، إلّا من خلال المنقول الثابت عنهم؟
واللهُ
تَعالى أَعلمُ
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد
لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق