مَسائلُ حَديثيّةٌ (41):
فرضُ خمسين صلاةً على أمّة الإسلام!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
كتب إليّ يقول: علمتُ أنّ الدكتور أحمد نوفل صديقك،
فما رأيُك برفضه حديث المعراجِ، وفرض خمسين صلاةً على المسلمين، في تلك الليلةِ
المباركة؟
أقول وبالله التوفيق:
الدكتور أحمد نوفل - حفظه الله تعالى - ليس صديقي
وحسب، إنما هو أخي الكبير وأستاذي الفاضل.
وأنا الفقير محدّث، لا أقبلُ منهجَ ردّ الحديثِ
المخرّج في الصحاحِ، من جهة متنه، من دون تعيين مدار الحديثِ، ودراسةِ أعمدة
الإسناد، ثم الحكم على الإسناد، ثم الانتقال إلى نقدِ متن الحديث!
وسبق لي أن نشرت منشوراً، بيّنت وجهةَ نظري في جميع
أحاديث المعراج.
لكنّني في هذا المنشور؛ سأعتمد نقدَ الحديثِ من جهة
متنه، ثم أعيد النظر في إسناده، فأقول:
حديث الباب هذا؛ أخرجه البخاري في كتاب الصلاة
(349) ومسلم في الإيمان (163) والترمذيّ في الصلاة (213) وقال: حسن صحيح غريب!
وموطن الشاهد من الحديث؛ قَولُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَرَضَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً،
فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ، حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: مَا فَرَضَ اللهُ لَكَ
عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاةً!
قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ
لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا!
فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، قُلْتُ: وَضَعَ شَطْرَهَا،
فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ!
فَرَاجَعْتُ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ
إِلَيْهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ!
فَرَاجَعْتُهُ، فَقَالَ «الله تعالى»: (هِيَ خَمْسٌ،
وَهِيَ خَمْسُونَ، لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ!
فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ،
فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي).
قال الفقير عداب:
أوّلاً: من المعلوم لدينا أنّ حديثَ الآحاد إذا
خالفَ القرآن الكريم، أو خالفَ الوقائع التاريخيّة، أو خالفَ الإمكانَ، أو خالفَ
ما هو أصحّ منه؛ رُفض الحديثُ، وعددنا أضعفَ راوٍ في الإسنادِ قد وهم به، من دون
أن نطعن بعدالة الراوي، أو نردَّ سائرَ أحاديثه.
ظاهر هذا الحديثِ؛ أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله
وسلّم، حملَ معه من السماء هذه الفريضة، من دون أن يسأل اللهَ تعالى عن مواقيتها
وكيفيّاتها، أو ليس في الحديث على الأقلّ بيان ذلك!
من المسلّم أنّ عدد ساعاتِ اليوم والليلة (24)
ساعةً، وهذا يعني أنّ على المسلم أن يصلّي في كلّ ساعة مرّتين!
هل يستطيع بشرٌ أن يصلّي في كلّ ساعةٍ صلاتين، وإذ
نحن لا ندري عن توزيعِ هذه الصلوات المفترضِ شيئاً؛ فظاهر الخبر أنّ على المسلم أن
يبقى صاحياً، في الليلِ والنهار، حتى يتمكّن من أداء خمسين صلاة مفروضة!
يُمكن أن يتمكّن المسلم من هذا مرّةً في السنة، أو
مرّةً في الشهر، أما أن يكون في كلّ يوم؛ فهو تكليفٌ بما لا يطاق، ولا يُعقل، ولا
يستطيع أن يلتزم به أحدٌ حتى الأنبياء!
وإذا كان كذلك؛ فهذا التكليف لم يحدث أبداً!
ثانياً: هذا الحديث ينصّ صراحةً على جواز النسخِ
قبلَ امتثالِ العمل بالمنسوخِ، وهذا عبثٌ يتنزّه عنه العقلاء، فَضلاً عن الشارع
الحكيم (وما كان ربّك نسيّاً)!
ثالثاً: نأتي بعد ذلك إلى مخالفةِ هذا الحديث
لآياتٍ عديدةٍ من القرآن الكريم:
(وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ، هُوَ
اجْتَبَاكُمْ، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (78) [الحجّ] وأيُّ
حرَجٍ أكبرُ من هذا الحرَج؟
(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ (185) [البقرة].
أين اليسر في فرضِ خمسين صلاةً مجهولةَ المواقيت،
تستغرق الليل والنهار؟
(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا (61)[هود].
استعمركم: كلّفكم بعمارة الأرض، وعِمارةُ الأرض
تستدعي راحةً وغذاءً ونوماً، وهو ممتنعٌ، أو متعذّر مع هذه الفريضة الشاقّة!
ونحن لو حملنا الخمسين صلاةً على خمسين ركعةً؛ لأنّ
كلّ ركعةٍ صلاة؛ فيبقى الإشكال قائماً: متى سنصّلي هذه الخمسين ركعةً، وكيف؟
رابعاً: هذا الحديث فردٌ غريب مطلقٌ، لم يروه عن
أبي ذرّ سوى أنس بن مالك، ولم يروه عن أنس سوى ابن شهابٍ الزهريّ، تفرّد به يونس
بن يزيد الأيليّ.
ويونس بن يزيد، وثّقه كثيرون، وضعّفه آخرون، ومتى
وقفت على ترجمة كهذه؛ فاعلم أن التوثيق ينصرف إلى العدالة الدينية، وقد ينصرف إلى
المعرفة بطلب العلم!
أمّا التضعيف؛ فينصرف إلى ضبطه ومعرفته الحديثيّة!
قَالَ الإمامُ وَكِيْعُ بن الجرّاح:
رَأَيْتُ يُوْنُسَ بنَ يَزِيْدَ، وَكَانَ سَيِّئَ الحِفْظِ.
قِيْلَ لأَبِي عَبْدِاللهِ أحمدَ ابن حنبلٍ: إِبْرَاهِيْمُ بنُ
سَعْدٍ؟
فَقَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ رَوَى إِبْرَاهِيْمُ عَنِ الزُّهْرِيِّ؟
إِلاَّ أَنَّهُ فِي قِلَّةِ رِوَايَتِه أَقَلُّ خَطَأً مِنْ يُوْنُسَ، قَالَ: وَرَأَيْتُه
يَحْمِلُ عَلَى يُوْنُسَ، وَضَعَّفَ أَمرَ يُوْنُسَ، وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ
يَعْرِفُ الحَدِيْثَ.
وانظر باقي ترجمته في أعلام النبلاء (6: 297) فما بعد!
وحديث الباب من جملة أحاديثِ يونس التي تفرّد بها عن الزهريّ.
فيكون هذا الحديثُ من أوهامه!
خامساً:
فرضيّة الصلاة؛ أحد أركان الإسلام، وقد ثبتت فرضيتها بالقرآن الكريم مطلقةً.
وبيّنت
السنّة عددَ الصلواتِ، وفي جميع الأحاديثِ أنها خمس صلوات، وليس في شيء من
الأحاديثِ أنها كانت خمسين، ثم صارت خمساً، سوى هذا الحديث الموهوم!
والله
تعالى أعلم.
(رَبَّنا:
ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ
مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا..
وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً. والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق