الأحد، 17 أبريل 2022

      مَسائل حديثية (30):

شرُّ الطعامِ؛ طَعامُ الوليمة!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

رآني أحدُهم في وليمةٍ، فعاتبني بقوله: أيليق بالشريف عداب؛ أن يكونَ في وليمةٍ، والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (شرُّ الطعامِ؛ طَعامُ الوليمة)!؟

أقول وبالله التوفيق:

ليس الفقيرُ عدابٌ ممّن يحضُر طعامَ الولائم، ويعتذر عن حضورِ الولائم، إلّا في حالات نادرة!

لكنْ هل قال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم هذا الحديثَ فعلاً؟

أخرج البخاري في كتاب النكاح (5177) ومسلم فيه (1432) من حديث عبدالرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة أنه كان يقول:

«شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُدْعَى لَهَا الْأَغْنِيَاءُ، وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ.

وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ؛ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»

فهذه الرواية موقوفةٌ على أبي هريرة من قوله.

وأخرج مسلم عَقبَ هذا الحديث (1432) من حديث ثابتِ بن عياض الأعرج عن أبي هريرة؛ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: وذكر الحديث بمثلِه.

فجعله ثابتٌ الأعرج مرفوعاً.

وقد عالج مسلمٌ مسألةَ تعارض الوقف والرفع على النحو الآتي، فقال:

(1) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ «فيما روى» عَنْ ابْنِ شِهَابٍ «في روايتِه» عَنْ الْأَعْرَجِ «فيما رواه» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: بِئْسَ الطَّعَامُ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ... الحديث.

(2) وحَدَّثَنَا «محمد بن يحيى» ابْنُ أَبِي عُمَرَ «العدني»: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ «بن عيينة» قَالَ: كَانَ أَبِي غَنِيًّا فَأَفْزَعَنِي هَذَا الْحَدِيثُ، حِينَ سَمِعْتُ بِهِ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ الزُّهْرِيَّ.

قلتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، كَيْفَ هَذَا الْحَدِيثُ (شَرُّ الطَّعَامِ؛ طَعَامُ الْأَغْنِيَاءِ)؟

فَضَحِكَ، فَقَالَ: لَيْسَ هُوَ (شَرُّ الطَّعَامِ؛ طَعَامُ الْأَغْنِيَاءِ) حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: (شَرُّ الطَّعَامِ؛ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ) ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ.

يريد الزهريّ أنّه يقول: طعامُ الوليمةِ؛ ليس كلَّ طعامِ الأغنياء!

(3) قال مسلم: وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ (ح)

وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: (شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ) نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ.

(4) وحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَ ذَلِكَ » يريد أنّ هؤلاء جميعاً جعلوا الحديثَ موقوفاً من قول أبي هريرة!

(5) وحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ زِيَادَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ ثَابِتًا الْأَعْرَجَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (شَرُّ الطَّعَامِ؛ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا، وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا) «وَمَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ؛ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ».

مفادُ هذا؛ أنّ مسلماً يريد أن يقول: اتّفق رواة الحديثِ من طريقي سعيد بن المسيّب وعبدالرحمن بن هرمز، على جعل الحديث موقوفاً من قول أبي هريرة.

وخالفهما ثابتُ بن عياضٍ، فجعله مرفوعاً من قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم!

وقد قدّمَ مسلمٌ الأقوى - كما نصّ في مقدمة كتابه - ثمّ ذكر المخالفةَ، وهذا ترجيحٌ منه لرواية الوقف على رواية الرفع!

لكنّ مسلماً لم يوضح ذلك صراحةً، ولم يشرح أسبابَ هذا الترجيح، ونحن سنقوم بذلك!

الإمامُ سعيد بن المسيّب؛ أعلم تلامذة أبي هريرةَ وأخصّهم به، فهو صهره على ابنته!

وقد روى له البخاريّ عن أبي هريرة خمسة عشر حديثاً!

والإمامُ عبدُالرحمن بن هرمز الأعرج، من أخصّ تلامذة أبي هريرة به، وقد روى له البخاريّ عن أبي هريرة ثمانية أحاديث!

أمّا ثابتُ بن عياضٍ؛ فلم يرو له البخاريّ في صحيحه شيئاً، وليس له في الكتب التسعة كلها سوى هذا الحديث الواحد الذي أخرجه مسلم ليبيّن علّته!

وهذا يعني ترجيح رواية سعيد بن المسيّب والأعرج على رواية ابن عياضٍ هذا؛ لأنّه ليس من علماء الحديث، وليس من خواصِّ أبي هريرة.

وأهل العلل تكلّموا على هذا الحديثِ، بنحو كلامي عنه، فلا حاجة بنا إلى التطويل!

وقد رجّح بعض العلماءِ أنّ الحديث موقوفٌ روايةً، لكنه مرفوعٌ حكماً، بدليلين:

الأوّل: أنّ آخر الحديث (فقد عصى الله ورسوله) لا يمكن لأبي هريرة أن يقوله اجتهاداً.

والثاني: أنّ أوّل الحديث في حكم المرفوع أيضاً، إذ من الثابت كما يقولون أنّ إطعامَ الطعامِ من أحبّ الأعمال إلى الله تعالى.

وجوابي أنّ الحديثَ كلّه من أوّله إلى آخره من كيسِ أبي هريرة، وإليكَ بيان ذلك!

أوّلاً: سئل الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم: أيّ الإسلام خير؟

قال: (تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ) أخرجه البخاري في الإيمان (12) ومسلم فيه (39).

وطعامُ الوليمةِ داخلٌ في إطعام الطعام.

ثانياً: ندب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أصحابه إلى إجابة دعوة الوليمة فقال: (إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ؛ فَلْيَأْتِهَا) أخرجه البخاري (5173) ومسلم (1429) من حديث عبدالله بن عمر مرفوعاً، وابن عمر أعلم وأفقه وأتبع للأثر من أبي هريرة وغيره!

فهل يدعو الرسول أصحابه إلى شرّ طعام؟

ثالثاً: كيف يقول أبو هريرة: شرّ الطعام؛ طعام الوليمة، ثم يقول: «وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ؛ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» كيف يلبّي المسلم الدعوةَ إلى شرّ طعامٍ؟

رابعاً: ندب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مَن تزوّج بصنع الوليمة، فقال لبعض أصحابه: (أولم ولو بشاة!) أخرجه البخاري (2049) ومسلم (1427).

يعني أولم بقدر ما تستطيع، وأقلّها أن تجعل وليمتك على شاةٍ واحدة، ووليمة الزفاف يحضرها الأهلَ والأصدقاء، وليست خاصّةً بالفقراء.

خامساً: عاش أبو هريرة فقراً مدقعاً، جعله يحسّ بآلام الفقير أكثرَ من إحساس أكثر الأغنياء، فاجتهد بأنّ الأغنياء لا يُحضِرون الفقراء ولائمهم، بل لا يصنعونها للفقراء أصلاً!

والمدعوّون الأغنياء؛ ليسوا في حاجة إلى طعام الغنيّ، ولا ريب في أنّ الأحوجَ هو الأولى!

خِتاماً: يدخل تحتَ الوليمةِ؛ دَعوة ذوي الأرحام، ودعوة الأقارب، ودعوة الأصدقاء وفي كلّ ذلك خير وبركةٌ وتآلفٌ وتقارب، فهل جميع هؤلاء يتناولون شرَّ طعام.

لكنّني أندب إخواني الأغنياء إلى الانتباه إلى الفقراء، فلا يطعموهم فتاتَ طعامهم، ولا يُعطوهم القليلَ من مالهم، إنما يكرمونهم بما يكفيهم، و(لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها).

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.  

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

الجمعة، 15 أبريل 2022

 التَصَوُّفُ العَليمُ (14):

السَبيلُ إلى رُؤيةِ الرَسولِ في المنامِ واليقظَةِ!؟

صلّى الله عليه وآله وسلّم

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

تحدّثتُ في المنشور السابق (13) عن تفسير العلماء لقول الرسول صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم (مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ؛ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ، وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي).

مثلما تحدّثت عن تجربتي الشخصيّة في رؤية الحبيب المحبوب صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم.

وفي هذا المنشور (14) سأتحدّث عن «السَبيل إلى رُؤيةِ الرَسولِ في المنامِ واليقظَةِ»!؟

صلّى الله عليه وآله وسلّم.

هناك أورادٌ خاصّةٌ، يذكرها بعضُ شيوخ التصوّف، يصِفونَها لمن يرغب برؤية الحبيب المصطفى السَبيلُ صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وأنا لم أجرّب واحدةً منها، فلا أعرف ما إذا كانت ناجعةً مفيدةً حقّاً، أم لا!

بيد أنّ كثيراً مما يصفونه شرعيّ، كقراءةِ سور مخصوصة من القرآن العظيم، وتلاوة أدعية معيّنة، وإكثار الصلاة والسلام عليه وآله، حتى إنّ بعضهم يوصل عدد الصلوات على الرسول إلى عشرةِ آلافِ صلاةٍ في اليوم.

في البداية أقول: ليس كثيراً - والله - أن تصلّي على رسول الله عشرةَ آلاف مرّةٍ في اليوم، إنْ كنت تقوى على ذلك، ففضله علينا أعظم الفضل، بعد الله عزّ وجلّ.

بيد أنّني أنا الفقير، لا أذكر أنني صليت عليه - أفتديه بروحي - عشرةَ آلاف مرّةٍ في يومٍ واحدٍ قطّ، طيلةَ حياتي الطويلة!

وأكثرُ ما أتذكّر قيامي به؛ هو ألفُ مرّةٍ في يومٍ، وقليلاً ما أتممت هذه العدّة!

وأنا أؤمن إيماناً راسخاً بمقولة: «أخلص دينَك؛ يكفِك العمل القليل»!

وأنا أؤمن أيضاً بمسألة العبدِ الطالبِ، والعبد المطلوب!

وهي تجسّد قول الله تبارك وتعالى (ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

وقد ذكرت في المنشور السابقِ؛ أنني رأيتُ الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم في بداية صِبايَ، ربما في المرحلة الابتدائية!

وربما لأجل هذا؛ لم أجرّب شيئاً من تلك الوصفاتِ، التي سألتُ كثيرين من المواظبين عليها، فأجابوني بأنهم لم يروا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنهم سيظلّون مواظبين عليها، حتى يتحقق لهم هذا الأمل، رضي الله عنهم، وبارك بهم!

هؤلاء أناس أفاضل صادقون، وهم مأجورون على أورادهم وأذكارهم، حتى لو لم يشاهدوا الرسول في هذه الدنيا.

لكنْ من وراء تجربتي الخاصّة؛ وجدتُ ورد «الرابطة الروحيّة» أفضلَ الأوراد لرؤية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وورد الرابطة الروحية الصوفية؛ لا يفيدُ في تحقيق المرادِ، حتى تحقّق في نفسك أموراً كثيرةً:

الأمر الأوّل: اليقينُ بالله تعالى.

الأمر الثاني: اليقين بالقرآن العظيم.

الأمر الثالث: اليقين بالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

الأمر الرابع: حبّ الرسولِ وآل البيت عليهم الصلاة والسلام.

الأمر الخامس: حبّ الصحابةِ الأخيار السابقين، الذين أثنى عليهم الله تعالى في كتابِه.

وليس من هؤلاءِ الكرامِ؛ الطلقاءُ والبغاة والمحاربون لأهل الحقّ قطعاً.

فليس حبّ هؤلاء من الدين، بل هو من الجهل وتقليد الآباء!

ولو كان هذا مطلوباً في الإيمان والدين ورؤية الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ما كنتُ لأرى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ما لا أحصي من المرّات!

فأنا أُبغض هؤلاء بغضاً لا مزيدَ عليه!

الأمر السادس: التوبةُ النصوح عن جميع الموبقات العملية، وفي طليعتها السحر والربا.

الأمر السابع: طهارةُ العرض، فأنا أعرف عدداً ممّن اتهموا بارتكاب جريمة الزنا أو اللواط، ثمّ تابوا، وصلُحت أحوالهم، وقد سألت عدداً منهم، عمّا إذا كان رأى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يقظةً أو مناماً؛ فلم يخبرني واحدٌ منهم بأنه رآه، روحي له الفداء.    

الأمر الثامن: المحافظةُ على القيام فرائض الطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحجّ لمن قدر عليه.

الأمر التاسع: المحافظة على تلاوة القرآن الكريم، من دون أدنى انقطاع، والمحافظة ولو على صفحة واحدةٍ في كلّ يوم.

الأمر العاشرُ: أن يكون له وردٌ من الاستغفار والتهليل والتسبيح، مهما كان قليل العدد (10) مرّات لكلّ صيغةٍ مثلاً.

الأمر الحادي عشرَ: أن يكون له وردٌ من الصلاة على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، لا يقلّ عن (100) مرّة يوميّاً، بصيغة شرعية جامعة (اللهم صلّ على محمّد وآله وسلّم وبارك) فمن أغفل الآل في صلاته؛ فقد خالف الرسولَ متعمّداً، فكيف سيطمح إلى مشاهدته؟

فمتى تحقّق للمريد ما سبق كلّه، ثمّ واظب على  عباداته وأوراده أربعين يوماً، من دون انقطاعٍ أبداً؛ يمكنه القيام بورد الرابطة الروحية الصوفيّة، ونسأل الله تعالى له تحقيق مراده.

وورد «الرابطة الروحية» هو وِردٌ يوميٌّ عند السادة النقشبنديّة، كنّا نقوم به عقب صلاة العشاء، في آخر مجلس الختم، وهو ليس خاصّاً برؤية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، إنما يمكنك أن ترابطَ به مع أيّ نبيٍّ من الأنبياء، أو عبدٍ من عبادِ الله الصالحين، حيّاً أو متوفى.

وإليكَ مراحلَ القيامِ بورد الرابطة - أخي القارئ الكريم - على حسب اختياري.

إذ أنا الفقير مأذونٌ بالإرشاد والتسليك، ومأذون باختيار الأوراد للسالكين، إضافةً إلى الورد اليوميّ العامّ!

- تتوضأ وضوءاً سابغاً، حتى لو كنت مُتوضئاً.

- ثم تتشهد ثلاثاً، ثم تقول: برئتُ من أيّ دين يخالف دينَ الإسلام.

- ثم تستغفر بهذه الصيغة: أستغفر الله وأتوب إليه  (١١) مرة.

- ثم تستغفر بصيغة «سيد الاستغفار» مرة واحدة.

- ثم تقرأ الفاتحة والمعوذتين مع التجويد (٣) مرات.

- ثم تقرأ الصمد (١١) مرة مع التجويد.

- ثم تتوجه إلى القِبلة، وتجلس جلسة التشهّد «التحيات لله».

- ثم تقول: لا إله إلا الله، مالك الملك والملكوت، محمد رسول الله، الهادي إلى الرحموت والرهبوت، صلّى الله عليه وآله وسلّم.

اللهم اربط قلبي بقلب عبدك فلان.

 ولنُمَثِّلْ بالرابطةِ مع الرسولِ.

اللهم اربط قلبي بقلبِ عبدك ورسولك محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم، واربط روحي بروحه، وانفعني بذلك الرباط الإيماني الوثيق، وارزقني مشاهدته في الدنيا، وشفاعته في الدنيا والآخرة.

ثم تغمض عينيك، وتطئطئ رأسك، مُسنداً ساعديك على ركبتين.

 ثم تكرّر سرّاً:  الله الله الله حسبي عدتي وقصدي.

ثم تتصور أنك بين يدي الرسول، تصلي عليه، وتدعو له، وتحاوره بما تريد.

ثم اطلب من الله تعالى به صلّى الله عليه وآله وسلّم ما تريد، مُدّةً لا تقل عن خمس دقائق، ولا حَدَّ لأكثرها، على حسب الحضور الروحي والأنس والراحة.

ورؤيةُ الرسولِ يَقظةً بقلبك؛ لن تكون من المرّةِ الأولى، حسب معرفتي وتجربتي!

إنما عليك أن تكرّر هذا، وتديمه، مع الثقة بأنك تتعبّد الله تعالى، ومع يقينك بإجابة دعائك وقبول رجائك.

وأوّل أَماراتِ القَبولِ؛ أنك عقبَ إغماضِ عينيك؛ يبيضَّ أمام قلبك الظلام، ثم ينكشف لك النورُ شيئاً فشيئاً.

ثمّ تصبحُ متى أغمضتَ عينيك؛ ترى النورَ مباشرةً!

ثمّ تتصوّر حضور روحانيّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

ومتى فاحت عليك روائحُ الجنّة؛ فاعلم أنك في حضرة الحقّ، وحظيرة القدُس!

فأظهر البِشْرَ والسرورَ، وأكثر من حمد الله تعالى، والصلاة على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وتيقّن أنّ الله تعالى راضٍ عنك، وأنّ الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم راضٍ عنك، فاستبشر خيراً.

ولا تستصغر إلى ما وراء ذلك أبداً؛ لأنّ هذه المنزلة ليست قليلة!

ومتى شاء الله تبارك وتعالى؛ أراكَ الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وقد لا يكون لك قسمةٌ من رؤيته في هذه الدنيا، فحافظ على تلك المنزلة التي وصلتَ إليها، ولا تحدّث بها أحداً من خلق الله تعالى، ويكفيك أنك تستمتع بها، وأنها عاجل بشراك للآخرة، وتطلّع قلبيّاً إلى مشاهدة الرسول!

 ثم متى أردت أن تنهي الرابطة مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أو مع غيره من الأولياء والصالحين أحياء أو أمواتا:

تقرأ الصلوات الإبراهيمية، ثم تقول:

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ.

رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ.

رَبّ اغْفِر لي ولوالديّ، رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.

جزى الله عنّا نبينا محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم ما هو أهله» ثلاث مرات.

ثم تقول: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

 قطوف من الآلام (13):

عَبدُ الغنّي التَميميُ في ذِمّة الله تعالى!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ.

وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).

ببالغ الحزن والأسى، وبتمام الرضا بقضاء الله تعالى وقدره؛ تلقّيتُ قبلَ قليل نبأَ وفاة الأخ الفاضل والزميل الصالح المهذّب، الأستاذ الدكتور عبدالغني بن أحمد مُزهر التميمي الداري الفلسطيني (1368 - 1443 هـ) في شرقيّ الأردنّ.

كان الفقيدُ على جانبٍ عالٍ من الأدب الإسلاميّ، والأخلاق السامية، والالتزام الشرعيّ الدقيق.

أتقدّم إلى أولاده الكرام، وأسرته وسائر أحبابه، بخالص العزاء والمواساةِ، سائلاً الله تعالى أن يرزقهم الصبرَ الجميل والاحتساب.

وأسألُ الله الرحمنَ الرحيمَ أن يتغمّد الأخ الحبيبَ الفقيدَ بواسع رحمته، وعميم عفوه ومغفرته، وأن يرفعَ منزلتَه لديه، تباركَ وتعالى.

وأسألكم إخواني القرّاء الأكارم له الدعاءَ بالعفو والمغفرة والرضوان.

إنّا لله وإنا إليه راجعون.

ولا حول ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم.

وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وعظّم الله أجورنا وأجوركم أيها الأحباب الكرام.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحمد لله على كلّ حال.

الأربعاء، 13 أبريل 2022

 التَصَوُّفُ العَليمُ (13):

رُؤيةُ الرَسولِ في المنامِ واليقظَةِ!؟

صلّى الله عليه وآله وسلّم

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

سألني: هل رأيتَ الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم في المنام؟

قلت له: إي والله، رأيته في المنام كثيراً وكثيراً جدّاً، ولله الحمدُ والمنّة!

قال: هناك حديث يقول: إنّ مَن رأى الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم في المنام؛ فسيراه في اليقظة!

- فهل هذا الحديثُ صَحيحٌ؟

- وهل تكون الرؤيا في الدنيا، أو في الآخرة؟

- وهل رأيتَه أنتَ يقظةً، وكيف؟

- وما السبيلُ إلى رؤيتِه في المنام، أو في اليقظة؟

أقول وبالله التوفيق:

رأيتُ الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم في صوَرٍ عديدةٍ!

فأوّل مرّة رأيتُه في المنام، كنت صغيراً جدّاً، ربما في الابتدائي، فهِبتُه وفزعتُ من رؤيته صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأخبرت والدتي بذلك!

سألتني الوالدة رحمها الله تعالى: هل قال لك شيئاً، أو قلت له شيئاً؟

قلت لها: هو قال لي كلاماً كثيراً، لكنني نسيتُه، وكأنّه حذّرني من إغضابِك، ونهرني لذلك، فخفتُ منه كثيراً، ولم أقلْ شيئاً!

ثمّ رأيته يقظةً في الصفّ الثالث الإعدادي، في صلاةِ فرض العشاء، وفي جامع الأحدبِ، مُقابلَ الميضأةِ!

وانتهت الصلاةُ وأنا أبكي بكاءً شديداً، فظنّ بعض زملائي أنني أتصنّع البكاء من خشية الله تعالى!

وأنا إنما كنت أبكي من رهبة نار جهنّم التي شاهدتها، مثل البحر المحيط الأحمر!

لكنني لم أكن لأجرؤَ على التصريحِ بما شاهدتُ؛ لأننا شبابٌ صغار، لا يصدّق بعضنا بعضاً بأقلَّ من هذا بكثير، وقد قصصتُ عليكم الرؤيا سابقاً!

بعد الصف التاسع هذا، توالت رؤايَ لسيدي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنصحني جدّي بأن لا أتكلّم بشيءٍ من هذا، وقال لي: هذه خصوصيّة!

قلت له: ما مَعنى خصوصيّة؟

قال: اسمع الكلام، واسكت، ولا تحدّث أحداً بما ترى!

مضت سنواتٌ طويلة، ولم أحدّث أحداً برؤية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلى سنة (1976) عندما فاتحني سيدي الشريف محمّد سليمان أحمد الشندويلي رحمه الله تعالى، قال: قصّ عليّ ما رأيتَ الليلةَ، قبل أن يحضرَ الأولاد - يقصد زملائي في حلقة القرآن العظيم - فإذا حضرَ أحدُهم؛ فاسكت!

فجئتُ لأقول له: إنني ممنوعٌ من قَصِّ هكذا رؤى؛ قال: لا تخف، قصّ ما ترى على عالمٍ أو ناصحٍ، وإيّاك وقصَّ الرؤى على حسود!

قلت له: كيف أعرف الحسودَ؟

قال: عُدَّ كلّ مَن حولك حساداً، وإن كان قليلٌ منهم ليس كذلك!

قصصت عليه الرؤيا، فقال: اذهب إلى جدّك الإمام الحسين، وسلّم عليه، وقصّ عليه الرؤيا بقلبك، وادعُ الله تعالى هناك  بما شئتَ، ولا تنسني من الدعاء، ففعلتُ!

أنجزتُ حصّتي من القرآن عنده، ثمّ ذهبتُ إلى زاويةِ المغربلين، فإذا بسيّدي الشريف محمّد الحافظ التجاني رحمه الله تعالى، ينتظرني في مسجد الزاوية، وهو يبتسم!

قال: هيهِ يا شيخ فيصل، حدّثني بما رأيتَ الليلةَ، وراحَ يبكي!

حدّثته بما رأيتُ، فتبسّم، ثم بكى فرحاً واستبشاراً؛ لأنّ الرؤيا كانت تخصّه!

فعددتُ طلب كليهما بأن أقصّ عليهما رؤياي، وفي يومٍ واحدٍ إذناً بقصِّ الرؤى!

وكان لي أخ حبيبٌ يُظهِر أنّه يُحسن تفسيرَ الرؤى، فصرتُ أقصّ عليه رؤايَ!

وكلّما قصصتُ عليه رؤيا؛ قال لي: صدقتَ!

قلت له مرّةً: كلّما قصصتُ عليه رؤيا؛ تقول لي صدقتَ، فكيف تعرفُ أنني صادقٌ في رؤيايَ، أو غير صادق؟

قال: متى تماديتَ أو كذبتَ في رؤيا؛ سأقول لك: تماديتَ، وعندها ستعرف بنفسك!

رأيت الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم في صورة جدّي السيّد إبراهيم!

ورأيته في صورة الملك الحسين بن طلال، ثلاثَ مرّاتٍ!

ورأيته في صورة الدكتور الشريف راشد بن راجح العبدلي، قبل أن أراه، وقال لي يومها: (موعدنا في موسم الحجّ من العام القادم) وفعلاً قدّر الله لي الحجّ عام (1399) بطريقةٍ تشبه المعجزة!

ورأيتُه مرّةً أسمرَ اللون، قصيرَ القامة، فبكيت وخفتُ كثيراً، فقصصت الرؤيا على سيّدي الحافظ التجّاني، فقال: ولم تبكي، أنسيتَ أنّك رأيتَه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهل يَتمكّن كلّ أحدٍ من رؤيتِه؟

لا تحزنْ، أَكثِرْ من الصلاة والسلام عليه؛ يَبيضَّ لك وجهه الشريف!

أمّا حديث (مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ؛ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ، وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي) فأخرجه البخاري في التعبير (6993) ومسلمٌ في الرؤيا (2266).

وللحديث ألفاظ متعدّدة، من أجل اختلافها؛ اختلف العلماء في تفسير الحديث!

وقد أوضحَ الحافظُ ابن حجر في فتح الباري (12: 384) فما بعدها أوجهَ اختلاف العلماء في تفسير هذا الحديث، ثمّ لخّصها بقوله:

«وَالْحَاصِلُ مِنَ الْأَجْوِبَةِ سِتَّةٌ:

أَحَدُها: أَنَّهُ عَلَى التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ).

ثَانِيها: أَنَّ مَعْنَاهَا سَيَرَى فِي الْيَقَظَةِ تَأْوِيلَهَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَوِالتَّعْبِيرِ!

ثَالِثُها: أَنَّهُ خَاصٌّ بِأَهْلِ عَصْرِهِ، مِمَّنْ آمَنَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ.

رَابِعُها: أَنَّهُ يَرَاهُ فِي الْمِرْآةِ، الَّتِي كَانَتْ لَهُ، إِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ!

وَهَذَا مِنْ أَبْعَدِ الْمَحَامِلِ.

خَامِسُها: أَنَّهُ يَرَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِمَزِيدِ خُصُوصِيَّةٍ، لَا مُطْلَقٌ مَنْ يَرَاهُ حِينَئِذٍ، مِمَّنْ لَمْ يَرَهُ فِي الْمَنَامِ!

سَادِسُها: أَنَّهُ يَرَاهُ فِي الدُّنْيا، حَقِيقَةً، وَيُخَاطِبُهُ، وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِشْكَالِ»!  

والإشكال الذي يقصده ابن حجر؛ هو قولُه قبل هذا الكلام:

« وَنُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّالِحِينَ؛ أَنَّهُمْ رَأَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، ثُمَّ رَأَوْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْيَقَظَةِ، وَسَأَلُوهُ عَنْ أَشْيَاءَ كَانُوا مِنْهَا مُتَخَوِّفِينَ، فَأَرْشَدَهُمْ إِلَى طَرِيقِ تَفْرِيجِهَا، فَجَاءَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.

قُلْتُ - والقائل ابن حجر: وَهَذَا مُشْكِلٌ جِدًّا، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ لَكَانَ هَؤُلَاءِ صَحَابَةً، وَلَأَمْكَنَ بَقَاءُ الصُّحْبَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ!

وَيُعَكِّرُ عَلى هذا القولِ؛ أَنَّ جَمْعًا جَمًّا رَأَوْهُ فِي الْمَنَامِ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ رَآهُ فِي الْيَقَظَةِ، وَخَبَرُ الصَّادِقِ لَا يَتَخَلَّفُ!

وَقَدِ اشْتَدَّ إِنْكَارُ الْقُرْطُبِيِّ عَلَى مَنْ قَالَ: مَنْ رَآهُ فِي الْمَنَامِ؛ فَقَدْ رَأَى حَقِيقَتَهُ، ثُمَّ يَرَاهَا كَذَلِكَ فِي الْيَقَظَة»!

وقال ابن حجر: «وَقد تَفطّن ابنُ أَبِي جَمْرَةَ لِهَذَا، فَأَحَالَ بِمَا قَالَ عَلَى كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ!

فَإِنْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ تَعَيَّنَ الْعُدُولُ عَنِ الْعُمُومِ فِي كُلِّ رَاءٍ!

ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ عَامٌّ فِي أَهْلِ التَّوْفِيقِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ؛ فَعَلَى الِاحْتِمَالِ، فَإِنَّ خَرْقَ الْعَادَةِ قَدْ يَقَعُ لِلزِّنْدِيقِ بِطَرِيقِ الْإِمْلَاءِ وَالْإِغْوَاءِ، كَمَا يَقَعُ لِلصِّدِّيقِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ وَالْإِكْرَامِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ».

وأقول: نستنتج من هذه الاختلافاتِ الأمورَ الآتية:

أوّلاً: حصلَ هذا الاختلاف الكبيرُ، مع أنّ الحديث عندهم صحيح؛ لكنْ لمّا كان الحديث آحاديّاً، مَظنونَ الثبوت، وما دام مظنون الثبوت؛ فالاجتهاد في فهمه سائغٌ، وعدمُ اعتمادِه، سائغٌ لدى مَن يرى المتن منكراً، من العلماء أيضاً.

ثانياً: نستنتج من كلام الحافظ ابن حجر أنّه لم ير الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم يقظةً، حتى تاريخ انتهائه مِن «فتح الباري» لأنّه لو كان رآه؛ لكان جوابُه غيرَ جوابِه هذا!

ثالثاً: إذْ لم يتّفق العلماء على قولٍ واحدٍ في دلالة متن الحديث، إنما اختلفوا فيها، فتبقى المسألة على الاحتمال، وترجيح أحد الاحتمالين، إنما يكون بالوِجْدان!

والمثبتُ في الممكنات؛ مقدّم على النافي!

بقي الكلامُ في هل تكون رؤية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يقظةً، رؤيا عينٍ أم رؤيا قلب؟

حكى الإمام السيوطيُّ وكثيرون غيرُه أنّها رؤيا عين، وقد حدّثني غير واحدٍ من شيوخي أنّهم أُخبروا بأنّها رؤيا عين، وقليلٌ منهم مَن قال لي: إنّه رآه صلّى الله عليه وآله وسلّم يقظةً رأيَ عين!

وفي مثلِ هذه المسائل، لا أحبَّ النقولَ أبداً، إنما أحبّ نقلَ تجربتي الشخصيّة كما هي!

وأنا الفقير إلى الله تعالى؛ لم أرَ الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا غيرَه من الأنبياء ولا أئمة آل البيت والصحابة والصالحين، رأي عينٍ باصرةٍ قطّ!

إنّما هي الرؤيا القلبيّة، وحسب!

والرؤيا القلبيّة ليست مستنكرةً لدى السادة الصوفيّة أبداً، بل إنهم بنوا عليها «الرابطة الروحيّة» والرابطةُ الروحيّة؛ يستطيع كلّ امرئٍ تجربتَها، وستتحقّق نتائجُها لكثيرين، لكنّ الأكثرين لن يروا شيئاً!

قال لي غير واحدٍ من شيوخي، وبه أقول:

الرابطة الشريفة لا تفيدُ المرابين والزناة واللوطيين والقتلة والسحرة، حتى وإن تابوا من جرائمهم هذه.

سألت أحدهم: أليس الإسلام يجبّ ما قبلَه، أليست التوبةُ تجبّ ما قبلَها؟

قال لي: وما علاقة هذا بذاك؟

هل تظنّ أنتَ أحدَ هؤلاء الفجرةَ التائبين، رأى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في المنام، حتى نفترضَ إمكانَ رؤيتِه الرسولَ يقظةً؟

ونحن لا نعلمَ أحداً من أهل الموبقات، حصلت له هذه الرؤيةُ الشريفة!

أمّا السبيل إلى رؤية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، مناماً أو يقظةً، فتحتاجُ إلى مَنشورٍ خاصّ.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

الاثنين، 11 أبريل 2022

       بَعيداً عن السياسةِ (32):

أنتَ تُحبُّ صدّام حسين!؟

بسم اللهِ الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كثيرٌ من العراقيين - خاصّةً الشيعةَ منهم - يعتقدون أنني أحبّ الرئيس صدّام حسين، بل إنّ أحدَ المشايخ اتّهمني بأنني بعثيّ!

أقول وبالله التوفيق:

إنّ كلَّ إنسانٍ يتكوّن من ذاتٍ وصفاتٍ وأفعال!

أمّا ذاتُه؛ فلا يدَ له في خلقها وتكوينها وتعديلِها.

وأمّا صفاتُه الفطريةُ والكسبيّة؛ فيمكن تبديلها وتغييرها بالدُرْبَةِ والمِرانِ والثقافة.

وكُلُّ واحدٍ منّا، تتطوّر صفاتُه، وربما تتبدّل، بعضُها يتغيّر إلى الأحسنِ، وبعضها يتغيّر إلى الأسوأ!

إنّما الذي يَخصّ الآخرين من ذاتي وصفاتي؛ هو أفعالي، وكيفيّة تعاملي معهم!

كلّ واحدٍ منّا يُحبّ أباه وجدّه وإخوانَه وأبناءَ عمومتِه وأصدقاءَه!

ومع هذا، فهو لا يرضى عن بعضِ أفعالِهم، أو عن كثيرٍ منها، وقد حدّثتكم عن بعضِ معاناتي مع سيّدي الوالدِ الصالح، رحمه الله تعالى، وأعلى درجته ومقامه.

وأنا الفقيرُ حتى عام (1990) لم أكنْ أفرّق بين الرئيس صدّام حسين، والرئيس حافظ الأسدِ، وكلاهما كان عندي كافراً، عدوّاً للإسلام والمسلمين!

لكنّني عندما قدمتُ إلى العِراقِ، وتعرّفت إلى الرئيس صدّام حسين؛ تغيّر فكري تجاهَه تماماً، فقد أُعجبتُ بشخصيّته الحازمة الهادئة اللطيفة، وأعجبت بأدبه في الحوار، وأعجبت بكثير من صفاته، من الشجاعة والحزم والكرم ورعايةِ الفقراء، وعطفه على النساء والضعفاء.

ولم أرَ فيه شيئاً ممّا يدّعيه العراقيون، ويزعمونه، من ظلمٍ وجورٍ ودكتاتوريّة وكِبرٍ وخشونةٍ، طيلةَ وجودي في العراق (1992 - 2002).

وقد كان الرجلُ يستشيرني ويستفتيني، كما كان يستشير غيري من أهل العلم الشرعيّ، ويستشيرُ كبارَ أهل التخصّصات من كلّ علمٍ وفنٍّ.

أمّا أفعالُه التي ينسبها إليه العراقيّون:   

- فإن كان قتلَ إنساناً واحداً ظلماً؛ فهو عندي من أصحاب الجحيم!

- وإن كان غصبَ إنساناً حقّه المشروع؛ فهو في نار الجحيم!

- وإن استأثر بمال الأمّة، فتمتّع به هو وقرابتُه وأعوانه؛ فهو خائنٌ للأمانة، وهو في نار الجحيم!

أفعال صدّام حسين، هي التي تعنينا، أمّا شخصيّته وصفاته؛ فمنها ما هو جِبِليّ، لا يد له به، ومنها ما هو كسبيّ شخصيّ، يحاسبه الله عليه!

ولستُ من الغوغاء الذين يصدّقون كلّ قولٍ، أو من العامّةِ الذين يقودهم الإعلام حيث يشاء!

وإنّ الحكّام العملاء الذين حكموا العراق بعده؛ ليسوا أحسنَ حالاً منه بيقين!

ويكفيهم عاراً وذلّاً وخزياً؛ أنهم عملاء!

كان أكبرُ خلافٍ بيني وبين الرئيس صدّام حسين؛ اعتقادُه بجوازِ محاسبةِ الناسِ وَفقَ القانون العراقيّ.

واعتقادُه أنّه حاكمٌ شرعيٌّ، وأنّ من حقّه قتلَ مَن يُخالفُه، ويحاوُل  الخروج عليه!

وقد حاورتُه مرّةً بأنّ الهمَّ بالفِعل ليس فعلاً، ولا يجوز قتلُ من فكّر بشيءٍ، ثمّ لم يفعله، أو تراجعَ عنه.

وقلت له مرّةً: يا أخي كنْ مثلَ ابن عمّك الحسين بن طلالٍ، يحاولُ أحدهم قتلَه، فتسجنه قوّات الأمنِ، وتحكم عليه المحكمة العسكريّة بالإعدام، فيقوم الملك الحسين بالعفو عنه، وتكريمه، وتوظيفُه أحياناً، والحسين ليس أقوى منك ولا أقدر!

وقلت له مرّةً: أنتم أخذتم السلطةَ بانقلابٍ، فغدوتم في نظر أنفسكم شرعيين بهذا الانقلاب!

أفرأيتَ لو أنكم أخفقتم، ولم ينجح انقلابكم؛ هل غدوتم بهذا مُرتدّين، تحلّ دماؤكم، ويجوز قتلكم؟

أقول: حدّثني شيخي محمد علي المراد الحمويّ، رحمه الله تعالى قال: شهادتي بالله العظيم أنّ الرئيس حافظَ الأسد مسلمٌ سنيّ!

قلت له: سنيٌّ أيضاً؟

قال: إي والله إنه مسلم سنيّ، ومعارضوه هم الظالمون له!

وحدّثنا شيخنا الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، رحمه الله تعالى، في مكّة المكرمة قال: شهادتي على السيّد الرئيس حافظ الأسد؛ أنه مسلم مؤمن محسن، وأنه يحافظ على الصوم والصلاةِ، وما شهدنا إلّا بما علمنا!

وأنتم - يشيرُ إليّ - لا تفقهون في الدين شيئاً، ولا تفقهون في السياسة شيئاً، ولا تعرفون التاريخَ السياسيَّ الإسلاميَّ أصلاً!

هكذا هو الملك، وهذه هي طبيعته، لم يكن الملكُ في يومٍ من الأيّامِ، أصعبَ ممّا هو في عصرنا، فأعداء الأمّة كثيرون، وهم محيطون بنا من كلّ جانب، فلا يسع الحاكمَ حُسنُ الظنّ برعيّته، إذ من اليقين أنّ فيهم جواسيس وخونة وعملاء!

فكيف تريد أن يثق الحاكم بك، وأنت تكفّره وتثور عليه، ولا تترك له فرصةً للإصلاح أصلاً!

ختاماً:

هذا هو موقفي من الرئيس صدّام حسين، وتلك تجربتي معه!

وأنا لا أكفّره، ولا أكفّر حافظَ الأسد، ولا بشّار الأسد، ولا آل سعودٍ، ولا حكّام الخليج، ولا غيرهم.

حتّى أجالسهم، وأستمع إليهم، وأعرف حُجَجَهم، واعتذاراتِهم، فعلى مدى تاريخنا الإسلاميّ، كان الحكّام يقتلون، ويظلمون، ويُفقرون شعوبهم، ولم يكفّرهم العلماءُ المعاصرون لهم، إنما كانوا يرمونهم بالظلم، ويرون الظلمَ فسقاً، وليس بكفر!

ولا يَفهمنّ أحدٌ أنني أسوّغ الظلمَ، أو أحرّم الخروجَ على الحاكم الظالم!

ففرق كبيرٌ بين الخروج على الحاكم، وبين تكفيره!

يجب الخروج على الحاكم الظالم - في فقهي - متى ظلم وتمادى، ورفض إنصاف المظلومِ، وعزفَ عن التوبةِ النصوح!

انتبه أخي القارئ: أقول: يجب الخروج على الحاكم الظالم، وليس يجوز فحسب!

لكن متى؟

لا يجوز الخروج على الحاكم الظالم، مستعيناً عليه بظالمٍ آخرَ مثله، أو شرٍّ منه!

لا يجوز أن تخرجَ على الحاكم، تنفيذاً لأهدافٍ عِدائيّة، تخدم أعداءَ الأمة وأعداء بلدك!

وإنّ أولئك الذين يخرجون على حاكم بلدهم، مستعينين بالأمريكان، أو الأوربيين، أو أذنابهم من الحكام الوظيفيين؛ أولئك ثوّار سفلةٌ مجرمون عملاء!

فحاكم ظالم غير عميلٍ؛ خيرٌ من ثائرٍ ظالمٍ عميل!

سواء كان عميلاً لدول الخليج، أم كان عميلاً لأوربا، أم لأمريكا، فالعميل هو العميل، على كلّ حال.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى اللهُ على سيّدنا محمّد بن عبداللهِ، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كل حال.

الأحد، 3 أبريل 2022

مَسائِلُ مِنْ عُلومِ القرآنِ والتَفسيرِ (11):

(رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا)!؟

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

في حوارٍ مع أحدِ الإخوةِ الأفاضلِ؛ لفتَ نظري إلى خطورةِ قول الله تعالى (رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) علينا نحن أهلَ العلم.

وسألني عمّا إذا كنت انتبهتُ إلى أنّنا - نحن علماءَ الأمة ومفكّريها - يمكن أن نكون سبباً في صدّ الكافرين عن دين الله تبارك وتعالى.

والحقيقةُ أنني تنبّهتُ إلى هذا الأمر، منذ صدّرت مقالاتي ومنشوراتي كلّها تقريباً بهذه الآية الكريمة.

قال الإمام أبو منصور الماتريدي في تفسيره «تأويلات أهل السنة» (9: 612):

« قوله عَزَّ وَجَلَّ: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا)

ذكر أهلُ التفسير أنّ تأويلَ هذه الآية يُخَرَّجُ على ثلاثةِ أوجه:

أحدها: أي: لا تُسلّط علينا أعداءَنا؛ فيظنوا أنّهم على حَقٍّ، ونحن على باطل.

والثاني: لا تُنَزِّلْ علينا العذابَ دونهم؛ فيظنوا أنّهم على حقٍّ، ونحن على باطل.

والثالث: لا تُوسّعْ عليهم الدنيا، وتضيّق علينا؛ فيظنوا أنهم على حق، ونحن على باطل.

قال: ولو كان التأويل هو الثاني؛ لكان يجيء على هذا أن يكون الواجب على العدول من هذه الأمة أن يسألوا اللَّه تعالى العافية؛ لئلا يتوهم فُسّاقهم أنّهم على الحق.

ولكن الجواب عن هذا؛ أنّ الفُسّاق من هذه الأمةِ، قد علموا أنّ الذي هم فيه من الفسق محظور.

وأمّا الكفرةُ، فإنّ عندهم أنّ ما يدينون به من الكفر؛ حَقٌّ!

فإذا سُلّطوا على المؤمنين؛ توهموا أنّ الذي حسبوه حقّاً؛ هو حَقٌّ» فعلاً!

ثمّ قال، وهذا مقصودي من نقل كلامه:

«ويحتمل أنْ يكونَ المعنى من قوله: (لَا تَجْعَلْنَا) يعني: عذاباً.

أي: لا تجعلنا سبباً يُعذَّبُ به الكَفَرةُ».

قال الفقير عداب:

كلّ مَن يعرِض الإسلامَ بصورةٍ منفّرةٍ، كيفما كان هذا التنفير؛ فهو سببٌ في صدّ غير المسلمين عن الدخول في دين الله تعالى.

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحمد لله على كلّ حال.

السبت، 2 أبريل 2022

            مسائل فكريّة (23):

ما تفسيرُ حُبّكَ للإباضيّةِ النواصب؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

في حوارٍ مع بعض الإخوةِ، لم يستوعبوا كيف أُبغض بني أميةَ، وأحبُّ الإباضيّةَ وهؤلاء شرٌّ في النصبِ من أولئك؟

أقول وبالله التوفيق:

أنا الفقيرُ إلى الله تعالى؛ أُبغضُ نواصبَ عصرنا، تماماً كما أبغضُ اليهودَ والنصارى وعبدةَ الأوثانِ؛ لأنّهم - بعد العصرِ الأوّل - مُنافقون نفاقاً عقديّاً في اجتهادي!

إذْ لم يعد خافياً على أحدٍ من المسلمين؛ أنّ الإمامَ عليّاً هو أعلم الأمة، وأتقى الأمّة، وأفضل الأمةِ، وأشجع الأمة، وأقوى رجالها، وأعظمهم عدلاً وشورى!

وظهر لكلِّ ذي عينين؛ أنّ مخالفيه كانوا على خطأٍ، أو غَلطٍ، أو على فسقٍ ونفاق!

الذين كانوا على خطأٍ؛ هم أصحاب السقيفة كلّهم، من المهاجرين والأنصار!

والذين كانوا على غلط؛ هم طلحة والزبير وابن الزبير وعائشة وجيشهم.

والذي كانوا طغاةً بغاةً ظالمين محاربين قطّاع طرقٍ؛ هم معاوية وحزبه الفاجر!

فتَحتَ أيّ تصنيفٍ صنّفنا الإباضيّة المتقدّمين؛ فهم لم يكونوا مثلَ فريق معاوية بيقين، بل كانوا أصحاب عبادات واجتهادٍ في الدين!

هَبْ أنّ الجيلَ الأوّل - بعد وفاة الرسول، صلّى الله عليه وآله وسلّم  - انحرفَ وفسق ونافق وارتدّ، كما يقول بعض الإماميّة، فما ذنب ذرّياتهم الذين جاؤوا بعد العصرِ الأوّل؟

وما ذنب ذريّاتهم اليوم، بعد أربعةَ عشر قرناً؟

أنا الفقير لا أبغض بني أميّة أبداً، ولا أبغض بني العبّاس أبداً، ولا أبغض الأيوبيين مطلقاً، ولا أبغض العثمانيين أبداً.

وأنا لا أبغض أهل السنّة بمذاهبهم، ولا أبغض الشيعةَ بمذاهبهم، ولا أبغض الإباضيّة أيضاً!

أنا أُبغضُ وأبرأُ إلى الله تعالى من كلّ ناصبيّ عالمٍ، سنيّاً كانَ أم شيعيّاً، أم إباضيّاً.

وأُبغض وأبرأ إلى الله تعالى من كلّ رافضيٍّ عالم، سواءٌ كان سنيّاً، أم شيعيّاً، أم إباضيّاً.

أمّا عا مّة أهل السنّة، وعامّة الشيعة، وعامّة الإباضيّة؛ فأنا أُشفق عليهم، وأعذرهم؛ لأنّ علماءهم أفهموهم أنّ ما هم عليه من نصبٍ أو رفضٍ؛ هو دين الله تعالى، وهو تكليفهم الشرعيّ، الذي لا يدخلون الجنّة إذا لم يلتزموا به!

هؤلاء هم الذين يجب أن نبغضهم، متى ظهر لنا منهم النصب أو الرفض!

وقد عشت بين الإباضيّة فصلاً دراسيّاً تامّاً، قرابةَ خمسة أشهر، كنت ألتقي زملائي الأساتذة، وطلّابي الذين يعدّون بالمئات الكثيرة؛ فلم أسمع من واحدٍ منهم انتقاصاً، أو حتى نقداً للإمام عليٍّ أو للحسن والحسين، عليهم الصلاة والسلام أبداً أبداً!

وكلّ الذي رأيتُه منهم الحفاظَ على الجمعة والجماعةِ، وطلب العلم، وعفّة اللسان، والأدبَ والأخلاق والسلوكَ الحميد، وفيهم صوفيّة سلفيّة راقيةٌ، ليس فيها هَبلٌ ولا تخريفٌ ولا ابتداع، ولا انحراف!

ولا والله، ثمّ لا والله، ثمّ لا والله؛ ما طلبَ مني طالبٌ واحدٌ أنْ أراعيَه في درجته!

ولا والله، ثمّ لا والله، ثمّ لا والله؛ ما اغتاب طالبٌ من طلّابي الكثيرين أستاذاً أو زميلاً له، أو أحد مدراء المعهد الشرعيّ أمامي.

وعندما انتدبتني الإدارةُ لاختبار جميع الطلّابِ، في حفظ القرآن الكريم وتلاوتّه؛ رسبَ في الامتحان عندي قُرابةُ مائة طالبٍ، وربما أكثر!

لم يراجعني منهم - والله! - سوى طالبٍ واحدٍ، قال: سامحك الله يا دكتور، أخّرتَ تخرّجي فصلاً دراسيّاً كاملاً!

قلتُ: لم فعلتُ ذلك؟

قال: رسبتُ عندك في التلاوة والتجويد، لكنّك لم تظلمني!

بلى والله راجعني طالبٌ آخر، لكنّه هذه المرّةَ ليس إباضيّاً، إنّما هو سنّيٌ عراقيّ!

جاء إلى بيتي ذات ليلةٍ، عقب صلاة العشاءِ، ومعه صديقٌ له، وهو يحملُ طبقاً من الأرزّ، وعلى وجهه قطعٌ من اللحم أو الدجاج، نسيت!

رحّبت به، ثمّ تعرّفتُ إليه، فإذا هو ابن صديقٍ حبيبٍ لي!

سعدتُ بزيارته إيّايَ، وأثنيت على والده الفاضل، وسألته:

أنت طالبٌ عندنا في المعهد الشرعيّ؟ قال: نعم!

- في أيّ سنة أنت؟!

- في الرابعة الأخيرة!

- ما رأيتُك في محاضراتي قطّ!

- ليس عليّ دوام، إنّما أحمل أربع موادّ حفظ القرآن وتجويده!

- أنا بخدمتك، فوالدُك عزيز عليّ، وصاحب فضل، أنا حاضرٌ لأعلّمك التلاوةَ والتجويدَ والوقفَ والابتداء، وأحفّظك الأجزاء الأربعة، فنحن في بداية الفصل، وتستطيع أن تحفظَ أربعةَ أجزاء في أربعة أشهرٍ، فأنا الفقير حفظت القرآن العظيم، وأسمعتُه شيخي في أقلّ من أربعةِ أشهرٍ، وأنت هاشميٌّ مثلي!

ثم قلتُ له ما معناه: ما هذه الجرأةُ التي عندك، حتى تحضر إليّ طعاماً؟

قال: أنت رجلٌ كريم، والكريم يقبل الهديّة!

قلت له: هل سمعتَ في العرب أحداً، يحضر طعاماً إلى بيتِ كريمٍ، ويقول له: هذا الطعام هدية لأتعشاه معك؟

وقلت له: ما دمت طالباً عندنا في المعهد؛ فأنت بين خيارين لا ثالث لهما:

إمّا أن تأخذ قيمةَ الطعامِ التي دفعتها، ثمّ نتعشى طعامَك معاً، وأعدّه هدية!

وإمّا أن تأخذ طعامك معكَ، عندما ترحل، وهذا آخر كلامٍ لديَّ!

لست أتذكّر كيف حُلّت المسألة بيننا، لكنّ الطالبَ خرجَ غيرَ راضٍ، ثمّ لم أره إلّا قُبيلَ امتحاناتِ الطلاب!

جاء إليّ في بيتي، ومعه هاتف خلويّ، فاتّصل بوالده مباشرةً، فكلّمني والدُه، وطلب مني مساعدَته وتمشيةَ حاله، حتى لا يتعطّلَ تخرّجه أكثرَ ممّا تعطّل!

قلت له: هناك أمران يا دكتور:

الأوّل: أنا لا أدرّس مادّةَ القرآن الكريم، فكيف سأساعده، أتريدني أن أشفع له بالباطل عند أستاذِ مادّة القرآن الكريم؟

والثاني: لا تنس يا دكتور، عندما استدعيتني، وقلت لي: إنّ ابن أختك راسبٌ، تنقصه درجتان، أو ثلاث درجات، في مادّة كان عدابٌ يُدرسها!

فقلت لك: والله لا أزيدُه ربعَ درجة، فإذا أردتَ أن تزيده أنت؛ فافعل، فأنت العَميدُ المخوّل، أمّا أنا؛ فلا أفعل!

لعلّ واحداً من أولادك يَكبُر غداً، ويَدرسُ عندي، فتقول لي: هذا ولدي رسب في مادّة عندك؛ فزده وأنجحه، مثلما أنجحت ابنَ أختك!

قال: يا دكتور، لا تكن سبباً في ضياع مستقبل الولد، نحن نريد أن نسجّل له في الماجستير!

قلت له: وتَقبل يا دكتور أن يسجّل ولدك في الماجستير، وشهادته البكالويوس مزوّرة مغشوشة، أو كلاماً كهذا!

سَخُنَ الحوارُ بيننا، وتيقّن أن لا فائدةَ من الحوار، فختم كلامه بقوله: يا دكتور الإدارة انتدبتك لتكونَ رئيس لجنة امتحان الطلّاب لمادة القرآن الكريم، وربما أنت لم تعلم بعد، فأرجو أن لا تُجبرَ ولدي على الامتحان لديك، وأن لا تُخبرَ اللجنة بذلك!

قلت له: هذا لك وعدٌ وعهد!

إنّ بعضَ طلّابي على تواصلٍ معي، وأظنّ جميعَ طلّابي يحبّونني مثلما أحبهم!

وبعضهم رُزق بأولادٍ، فسمَّوا عليّاً وحسناً وحسيناً وحمزة وفاطمة!

فأبغضهم لماذا أيها المخابيل المتعصّبون، أصحابَ الغلّ والحقد والهوى ؟!

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.