الجمعة، 9 مايو 2025

  اجتماعيات:

سلوك القطيع!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ للهِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى).

أما بعد:

عَتب علي إخوة محبون عديدون، يقولون ما معناه: يا أخي معاندة السلوك الجمعي، والسباحة ضد التيار، ومخالفة علماء الأمة؛ أمور أضرت بك، قبل غيرك، وأخّرتك وقدمت من هو دونك علما بكثير!

فأشفق على نفسك أوّلاً، ثم أشفق على من حولك ممن يحبونك!

أقول وبالله التوفيق:

أنا الفقير عداب لا أجهل قول الإمام علي عليه السلام، في صحيح البخاري (127): (حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ)؟!

ولا أجهل قول الصحابي عبدالله بن مسعود رضي الله عنه في مقدمة صحيح مسلم (ص: 11): (مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْماً حَدِيثاً، لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً).

ولا أجهل قول الشاعر العربي:

وهل أنا إلّا مِن غَزيّةَ، إن غَوَتْ

غَوَيتُ، وإنْ تَرشُدْ غَزية؛ أرشُدِ.

وقول الشاعر الآخر:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم

في النائبات على ما قال برهانا

ولا أجهل المثل الحموي، الذي صدع رأسي مرات لا تحصى:

حُطّ رأسكَ بين الرؤوس، وقل: يا قطّاعَ الرؤوسِ!

كل هذا أحفظه، وأحفظ قبله كلَّه، وأعظم منه كلِّه؛ قولَ الله تعالى:

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ؛ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَاب).

بيد أنّ الله تباركَ وتعالى أمدّ في عمري، حتى قاربتُ الثمانينَ، وبارك لي في عقلي وذهني وجسميّ، ووجّهني إلى فهم كتابه وسنّة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم أليس ذلك من أجل خدمتهما؟

إنني أرى من يسمّونهم «كبارَ العلماءِ» يجهلون علوم السنّة النبوية جهلاً مطبقاً، ويتعبّدون الله تعالى بفهوم أناسٍ مضى على موتهم أكثر من ألفٍ ومائتي عام، وكأنّ الله تعالى قضى في علمه الأزليّ أنّه خلقهم، ولم يخلق مثلَهم أو أعلمَ منهم، من دون دليلٍ مسعفٍ، ولا برهانٍ منجٍ عند الله تعالى.

وكلُّ الذي أبتغيه أن يعتقد الناسُ بأنّ فتوى العلماء المتقدمين للعاميِّ بجواز تقليدِ العالم؛ لا يجوز أن تنتقلَ لتمسي «وجوب التزام مذهب من المذاهب الأربعة».

وكما قلت مراراً وتكراراً: ليس هؤلاء الأربعة الذين فرض بعضُ الحكّامِ اتّباعَهم على الأمّة؛ هم أعلم الأمّة، لا في عصرهم، ولا بعده.

وأريد أيضاً أن تنتهي «الفرديّةُ» في العلم والفتوى، أريد أن يتوجّه العلماءُ إلى العلم «الشوريّ» إلى العلم «المؤسسي» فنحن حتى اليوم لا نعرف «الاجتهاد الجماعيّ» في حقيقة الأمر.

والذين كتبوا أبحاثاً في «الاجتهاد الجماعيّ» ليس فيهم أحدٌ مؤهّلاً لأنْ يكون بين أولئك المجتهدين!

أنا لا أستطيع أن أحترمَ عالماً من أئمة المذاهب يقول: إذا عشق الإنسان والدته أو أخته أو عمته أو خالته، أو عشقته هي، فعقدا عقد نكاحهما وأشهدا شهيدين، ثم راح يواقعها كما يفعل الرجل مع زوجته، إلى أن يُكتشفَ أمرُه، ويوشى به إلى القضاء.

 هذا القضاءُ الذي سيفرق بينه وبين محرمه، من دون أن يقيم عليهما حدّ الزنا الأقذر «زنا المحارم» لشبهة العَقد!

ثمّ إنّ تركيبتي الشخصيّة لا تسمح لي بغضِّ الطرفِ عن الخطأِ الواضح البيّنِ، خالفني من خالفني من الناس، فمخالفة جميع الناس بلا مثنويّة؛ لا تعدِلُ بي عن حقٍّ أعرفه، أو باطلٍ أرفضه.

مستذكراً دائماً قول أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ؛ كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ؛ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ) رُوي مرفوعاً وموقوفاً، والموقوف أصح.

والله تعالى أعلم.

والحمد لله على كلّ حال.

        مسائل حديثيّة

خُطورَةُ نَقدِ المَتْنِ على الحديثِ النبويّ!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ للهِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى)

أمّا بعد:

ليست مسألة «نقد متن الرواية الحديثيّة» بدعةً محدثةً، وليست غريبةً على علم الحديثِ، كما يتوهّم كثيرون، في أيّامنا النحساتِ هذه.

وقد قام عددٌ من العلماءِ والمحدّثين بتوجيه نقدهم إلى متون عددٍ من الرواياتِ الحديثيّة!

ولعلَّ أقدمَ كتابٍ حديثيٍّ «مُفردٍ» وصلنا في هذا الاتّجاه «الإجابةُ لإيرادِ ما استدركته عائشةُ على الصحابة» لبدر الدين الزركشيّ المحدّث الأصوليّ (ت: 794 هـ).

وترجع مسألة (نقد المتون) في أصولِها إلى مدرسةِ الرأي: المعتزلةِ والحنفيّة والمالكيّة والشيعةِ الإماميّة.

ولعلَّ سبب قلّةِ احتفاظِ كتب المحدّثين بجملةٍ وافرةٍ من «نقدِ المتون» أنّ نقدَ المتن فرعٌ عن نقدِ الإسنادِ، ولهذا شاعت بينهم جملةُ (ثَبِّت العرشَ، ثمّ انْقُش).

إذْ اختلالُ «المتن» معنىً أو صياغةً أو عربيّةً؛ أثرٌ من آثار «ضبط الراوي» ونكارةُ المتنِ قد ترجع إلى الضبطِ، وقد ترجع إلى عدالةِ الراوي!

فإذا لم يصحّ الإسنادُ إلى مخرجِ الحديثِ الأعلى «الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم» أو إلى مَن دونه؛ فليس ثمّةَ ضرورةٌ للتفتيشِ عن نكارةٍ المتن.

والمعاصرون الذين كتبوا في «نقد المتن» نقلوا بعضَ النصوص التي ردّها بعضُ نقّاد الحديثِ، بسبب غرابةِ متونها أو نكارتها.

وقبل خمسٍ وعشرين سنةً من اليوم؛ نشرتُ كتابي «محاضرات في تخريج الحديثِ ونقده» جعلت نقدَ المتنِ فيه المرحلةَ الأخيرةَ من مراحل نقد الحديثِ، وأسميتُها «التوازن التشريعيّ» وهي تعني «التعارض والترجيح» بين المتون في المسألة الواحدة.

ما أعنيه أنّ «نقدَ المتنِ» خطوةٌ عُليا في مراحلِ نقد الحديثِ، وليست هي المرحلة الوحيدةَ في عمليّةِ النقد.

ومقولةُ: «الإسنادُ من الدينِ، ولولا الإسنادُ؛ لقال مَن شاء ما شاء» صحيحةٌ تماماً أيضاً.

إذْ قيامك بعمليّة جمع طرق الحديث، وتعيين مداره، ودراسةِ أعمدةِ الإسنادِ؛ تظهر لك صورةُ الحديث واضحة، وتضع يدكَ على علّةِ الحديثِ، إنْ كان معلولاً.

والاقتصارُ على نقد متن الحديث؛ قد يوقع بالكذب على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، إذْ جملةٌ وافرةٌ من الأحاديثِ الضعيفةِ؛ معانيها صحيحة، بيد أنّ هذا المعنى الصحيح لا يجوز أن ننسبه إلى الرسولِ، إذْ نسبةُ حديث ما إليه صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ يجعله من الدين، ومَن لا يعرف علمَ الحديث؛ يذهب فيفرّع على هذا الحديثِ، وربما جعل ما ليس بواجبٍ في الأصل واجباً، وهذا موجودٌ بكثرةٍ في كتب الفقهاءِ غير المحدّثين!

والاقتصار على نقدِ المتن؛ يجعل للمزاجِ الشخصيّ مدخلاً إلى رفضِ الحديث!

هناك حديثٌ يقول: إنّ الصحابة كانوا يتسابقون إلى نُخامةِ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيدلون بها وجوههم، ويكادون يقتتلون ليأخذوا ماء وضوئه ليشربوه ويتمسحوا به...إلخ!

كنتُ أتضايق نفسيّاً من متن هذا الحديثِ، وأستبعد استبعاداً مزاجيّاً نفسيّاً أن يكون حصلَ هذا بالفعل!

بيد أنني بعد أن تعلّمت «نقد الحديث» رددتُ هذا الحديثَ المنكر «وفق قواعد نقد الحديث» وليس وَفقَ مزاجي!

ختاماً: إنّ «عرضَ متنِ الحديث على القرآن الكريم» جملةٌ عريضةٌ ضخمةٌ، وهي عند التحقيق، يمكن أن تكونَ في عددٍ من أحاديثِ الأحكام وحسب!

فكثيرٌ من أحاديثِ الفضائل والمناقب والتاريخ والتفسير والآداب؛ لا يمكن عرضها على القرآن الكريم.

وهي فرع عن مسألة «نقد المتن» التي يلجأ إليها مَن لا يحسنون «فقه الجرح والتعديل» و«علم العلل».

وأنا الفقير لا أدّعي الإحاطةَ بعلوم الحديثِ، ولا أزعم أنني أمتلك الحقيقةَ المطلقة!

بيد أنّ تفرّغي لعلوم الحديث منذ عام (1977م) وقد كتبت ألوف الصفحاتِ في هذا العلم، وأشرفت على عشراتٍ كثيرةٍ من رسائل الماجستير والدكتوراه، وقوّمت أكثر من عشرين رسالةً (تقويم الخبير) ورقّيتُ عدداً من أساتذة الحديث؛ له معانٍ علميّة!

فعندما أنتقدُ أحداً من الناسِ في هذا العلم؛ فإنما أنتقده من مجموعِ هذه الثروة العلميّة، وليس لأنني أحبّ انتقاد الآخرين وانتقاصهم.

بيد أنّ الذي أوجّهه عدّةَ مرّاتٍ، إلى ضرورة إصلاح الخلل في منهجه، ثمّ لا يفعل؛ فما لي من حيلةٍ سوى بيانِ الحقِّ في مسلكه الخاطئ.

والله تعالى أعلم.

والحمد لله على كلّ حال.

الخميس، 8 مايو 2025

 مسائل حديثيّة

فِقْدانُ بَوصلَةِ الكَذِبِ في الإسرائيليات!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ للهِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى)

أمّا بعد:

تحت هذا العنوان نشر الأستاذ الدكتور السيّد عمّار الحريريّ الحُسينيُّ مقالاً مطوّلاً نسبيّاً انتقد فيه حديثين من أحاديثِ أبي هريرة المرفوعةِ إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وسأنقلُ أبرز عباراته بحروفها، وأناقشها، بغيةَ توضيح المنهجِ الخاطئ الذي يسير عليه في نقدِ الرواياتِ الحديثيّة.

قال حفظه الله تعالى وألهمه رُشْدَه:

(1) لا أخفيكم أنني في دراساتي الحديثية أولي نقد المتن اهتماماً يفوق السند، وذلك انطلاقاً من خبرتي المتواضعة في تتبع ظاهرة الوضع في الحديث وتركيب الأسانيد. فقد أصبحتُ أتأمل في الأحاديث التي تستشكل، لا بعين التبرير والتأويل والمسلمات» انتهت هذه الفقرةُ عندي.

أقول وبالله التوفيق:

من المعلوم لدى المبتدئين في علمِ الحديثِ؛ أنّ الحديثَ الذي ينتهي إلى الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو إلى مَن دونه من صحابيٍّ وتابعيٍّ؛ هو إسنادٌ ومتن.

والإسناد ينقسم إلى قسمين:

القسم الأوّل: الرواةُ العُمَدُ في الإسنادِ، وهم الرواة الذين يبدؤون من مدار الحديث (أوّل موضع تفرّد من جهة المصنّف) إلى الصحابةِ رضي الله عنهم.

والقسم الثاني: الرواة النَقَلَةُ، وهم الرواة ما دون المدار، والمحدّثون يتشدّدون في تقويم شخصيات الرواةِ العُمَدِ أضعاف ما يتشددون في تقويم شخصيات الرواة النقلة؛ لأنّ تتابع هؤلاء النقلة على رواية متن حديث واحدٍ عن مَداره، مع الوفاق؛ تقوّي روايةُ أحدِهم روايةَ الآخر.

ويتمّ التشديد؛ إذا ما خالفَ بعضُ الرواةِ بعضَهم الآخر في سياقة الإسنادِ، أو في متن الحديث.

فإذا كان مدارُ الحديثِ على شيخِ البخاريّ (في حديث الباب) إسحاق بن نصر السعديّ، فنشدّد في تقويم شخصيّة السعديّ؛ لأنّه موضع التفرّد الأوّل في الإسناد.

ويكون احتمال وضعُ الحديثِ، أو تركيبُ الأسانيد ممكناً نظريّاً.

أمّا إذا كان مَدار الحديثِ على الصحابيِّ؛ فهل يمكن أن نتّهم الصحابيَّ بوضع الحديثِ؟

بمعنى أوضح:

حديث الباب الآتي؛ مداره على أبي هريرة، رواه عنه:

الحسن البصريّ، عند الإمام البخاري (3404) وقد أخرج له البخاريّ (40) رواية مكررة، وأخرج له مسلم (26) وقال الحافظ ابن حجر: ثقة.

وخِلاسُ بن عَمرٍو الهجريّ، عند البخاريّ (3404) وقد أخرج له البخاري (3) روايات مكرّرة، وأخرج له مسلم حديثاً واحداً (439) وقال الحافظ ابن حجر: ثقة.

وعبدالله بن شفيق، عند مسلم (339م) في فضائل موسى عليه السلام، عقب حديث (2371) وقد أخرج له مسلم (22) رواية، وقال الحافظ ابن حجر: ثقة.

ومحمّد بن سيرين، عند الإمام البخاريّ (3404) وقد أخرج له البخاري (98) رواية مكرّرة، وأخرج له مسلم (88) رواية، وقال الحافظ ابن حجر: ثقة ثبت.

وهمّام بن منبّه، عند الإمام البخاريّ (278) وقد أخرج له البخاري (69) رواية مكررة، وأخرج له مسلم (83) رواية، وقال الحافظ ابن حجر: ثقة.

وههنا نعيد تساؤلَ الدكتور عمّار البروفيسور بعلم الحديث، الذي يقول فيه:

 (انطلاقاً من خبرتي المتواضعة في تتبع ظاهرة الوضع في الحديث وتركيب الأسانيد) ونسأله بدورنا:

أنت بين خيارين لا ثالثَ لهما، عند أهل الحديثِ، ولا عند الأصوليين، ولا عند غيرهم من العقلاء: هل اجتمع هؤلاء الرواةُ الأربعةُ الثقاتٌ على وضعِ هذا الحديثِ، أو اجتمعوا على تركيب أسانيده؟

وإذا كان أمثالُ هؤلاء الرواةِ، يمكن أنْ يُتّهموا بوضع الحديثِ، أو تركيب الأسانيد؛ فمن هم الرواة البرآءُ عندك من هذه التهمة؟

إذا كان من المستبعدُ عقلاً وديناً وتاريخاً؛ أن يجتمع هؤلاء على وَضع حديث؛ فيبقى مدارُ الحديث «أبو هريرة» هوالذي وضعَ هذا الحديثَ، أو ركّبَ أسانيده؟!

وإذا كان هذا الاحتمالُ غيرَ ممكنٍ أيضاً، فما الخروجُ من هذا المأزق، يا دكتور عمّار؟

قال الإمام ابن حبّان في خطبة صحيحه (ص: 111): «إني أمثل للاعتبار مثالاً يُستدرك به ما وراءه.

وكأنا جئنا إلى حمّاد بن سلمة، فرأيناه روى خبراً عن أَيُّوبُ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلم، لم نجد ذلك الخبر عند غيره من أصحاب أيوب.

فالذي يَلزمنا فيه؛ التوقّفُ عن جرحه، والاعتبارُ بما روى غيره مِن أقرانِه.

فيجب أن نبدأ، فننظر هذا الخبر: هل رواه أصحاب حمّاد عنه، أو رجلٌ واحد منهم وحدَه.

فإن وُجِد أصحابُه قد رَووه؛ عُلِمَ أنّ هذا قد حدّث به حماد.

وإن وُجِد ذلك من رِواية ضعيفٍ عنه؛ ألزق ذلكَ «الحديثُ» بذلك الراوي دونه!

فمتى صحّ أنه روى عن أيوبَ ما لم يُتابَعْ عليه؛ يجب أن يُتوقف فيه، ولا يُلزق به الوهن!

بل يُنظر: هل روى أحدٌ هذا الخبرَ من الثقاتِ عن ابنِ سيرين غيرَ أيّوب؟

فإن وُجد ذلك؛ عُلِم أن الخبر له أصلٌ، يَرجع إليه.

وإن لم يوجَدْ ما وَصفنا؛ نُظر حينئذٍ: هل رَوى أحدٌ هذا الخبرَ عن أبي هريرةِ، غيرَ ابن سيرين من الثقاتِ؟ فإن وُجِد ذلك؛ عُلِمَ أنّ الخبر له أصل.

وإنْ لم يُوجدْ ما قلنا؛ نُظِر: هل رَوى أحد هَذَا الْخَبَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم، غيرَ أبي هريرة؟

فإن وُجد ذلك؛ صحّ أن الخبرَ له أصل.

ومَتى عُدم ذلك - والخبر نفسه يخالف الأصول الثلاثة «الكتابَ والسنّةَ والإجماعَ»- عُلِم أنّ الخبر موضوعٌ، لا شك فيه، وأنّ ناقلَه الذي تَفرّد به؛ هو الذي وَضَعَه!

هذا حكم الاعتبار بين النقلة في الرواياتِ» انتهى كلام ابن حبّان.

وههنا قد تفرّد أبو هريرة بهذا الخبر، عن الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهل هو الذي وَضَع هذا الحديثَ؟ 

تابع الدكتور عمّار يقول:

(2) بل بعين الفحص والتمحيص، لأتبين كيف تاهت بوصلة الوُضّاع في صناعة الرواية، بخلاف المنهج السائد الذي يميل إلى التلفيق والتأويل من أجل نسبتها للنبي عليه الصلاة والسلام بأي وجه كان، وخصوصا كونها في الصحيحين» انتهى.

قال عداب: أظهر لنا أنت ياصاحب الفحص والتمحيص، كيف حصلَ الوضعُ في هذه الرواية؟

ولست أدري مَن تقصدُ بأصحاب المنهج السائدِ، الذي يميل إلى التلفيق والتأويل؟

أتقصدُ المتقدّمين، أم تقصد المتأخرين، أم تقصد المعاصرين؟

إنّ الفقير عداباً بدأ بنقد الصحيحين عام (1983) فكم كان لك من العمر آنئذٍ، وفي أي مرحلة دراسيّة كنتَ أيّها السيّد الكريم؟

هذا التعميمُ المُبهَمُ دليل خَوفك من مواجهةِ الذين تتهمهم، أوضح مقصودك بشجاعة!

فهذا المنهج ليس موجوداً في عقلك أنت، ولا أعلم أحداً من المحدّثين القدامى والمعاصرين يلفّق ويؤوّلُ، بغيةَ أن ينسبَ هذا الحديثَ أو ذاك، إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم!

ثم تابع الدكتور عمّار يقول:

(3) وحين أستحضر صحيفة همام بن منبه ذات الطابع التوراتي، وأتأمل كيف تَسربت بعضُ رواياتِها إلى الصحيحين، بل كيف قام الشيخان بانتقاء أحاديث منها؟

مع اختلافهما في ما اختاراه يزداد عجبي من اعتماد مثل تلك الروايات، التي تحمل في متنها علاماتِ الوَضعِ والدَخن، وأُبْعِدُ أن تكون منسوبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وخصوصا مع بطلان متونها) انتهت الفقرة.

قال عداب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأعوذ بالله من شرّ شيطانك يا عمّار!

يقول الدكتور عمّار: صحيفة همّام بن منبّه؛ ذات طابع توراتيّ، ورواياتها تحملُ علاماتِ الوضع والدَخَنِ!

أخرج البخاريّ في صحيحه، من صحيفةِ همّام (69) روايةً، سأعرضُ متون الرواياتِ الخمس الأولى متتابعةً، من دون انتقاء!

قال الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى:

(42) حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا؛ تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا).

راجعتُ التوراةَ والإنجيل، فلم أجد شبيهاً بهذه الرواية، بل وجدت شاهدها في القرآن الكريم (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ).

(113) حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ عَنْ أَخِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ) أين الطابع التوراتي، أيها المؤتمنُ على سنّة جدّك الرسول؟

(135) حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ مَنْ أَحْدَثَ، حَتَّى يَتَوَضَّأَ).

(237) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا إِذْ طُعِنَتْ تَفَجَّرُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالْعَرْفُ عَرْفُ الْمِسْكِ) ليس في التوراة مثل هذا حتماً؟

(416) حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَبْصُقْ أَمَامَهُ، فَإِنَّمَا يُنَاجِي اللَّهَ، مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ؛ فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ فَيَدْفِنُهَا) أين في التوراة مثل هذا الأدب؟

لست أدري - أخي السيّد عمّار - هل هذه المتون تَستبعد صدورها عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهل وجدتَ أصولَها في التوراه أو في الإنجيل؟

ثمّ قال الدكتور عمّار:

 (4) خذ على سبيل المثال: حديث موسى والحجر، الذي رواه الإمامان البخاري ومسلم، بسندهما يمرّ عبر عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة:

حيث يروي البخاري بسنده قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ #أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ #النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَكَانَ مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلَّا أَنَّهُ آدَرُ، فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الحَجَرُ بِثَوْبِهِ، فَخَرَجَ مُوسَى فِي إِثْرِهِ، يَقُولُ: ثَوْبِي يَا حَجَرُ، حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مُوسَى، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ، وَأَخَذَ ثَوْبَهُ، فَطَفِقَ بِالحَجَرِ ضَرْبًا "

وفي خاتمة الحديث، يقول #أبو هريرة: "وَاللَّهِ إِنَّهُ لَنَدَبٌ بِالحَجَرِ، سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ، ضَرْبًا بِالحَجَرِ".

ما يثير الانتباه هنا ليس السند رغم أن رواته من مسلمي أهل الكتاب بل مضمون المتن، الذي ينتهي بأبي هريرة يصف لنا حال الحجر وعدد الندوب التي تركتها ضربات موسى، وكأنه كان شاهداً حاضراً للموقف مع موسى عليه السلام، أو أنه يتحدث عن وحي أو علم غيبي!

فهل يعقل أن يعرف أبو هريرة عدد الضربات على حجر في قصة وقعت لبني إسرائيل قبل آلاف السنين؟ ومن أوحى إليه بهذا؟ فضلا عن تصور أن ضرب موسى للحجر قد نحت فيه ندبا..!

إذن، لماذا لم يستشكل البخاري كلام أبي هريرة في وصفه الحجر بنفسه... ليستنبط أن المتن فيه إشكال وتلاعب بين كلام النبي وكلام أبي هريرة، ومن هو القائل الحقيقي للنص وأنت بحضرة همام بن منبه صاحب الكتب القديمة؟) انتهت الفقرة.

قال الفقير عداب: هذا الحديث مشهور عن أبي هريرةَ، رواه عنه في الصحيحين فحسب؛ أربعة ثقاتٍ:

همّام بن منبّه من أهل الكتاب.

الحسن البصريّ وُلد في المدينة المنورة، وألقمته ثديها الطاهر أمّنا أمّ سلمة زوج الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وليس من مسلمة أهل الكتاب.

ومحمّد بن سيرين وُلد في المدينة أيضاً، وليس في شيوخه كعب الحبر، ولا وهب بن منبه، ولا وهيب، ولا أبو موسى الأشعريّ، ولا عبدالله بن سلام.

وخلاس بن عمرو الهجريّ؛ عربيّ، وليس في شيوخه أحدٌ من أهل الكتاب.

ولنفترضْ أنّهم جميعاً من أهل الكتاب، فهل لديك برهانٌ من الله تعالى بأنّ هؤلاء الأربعةَ قد اجتمعوا، ووضعوا هذا الحديث؟

وهل على مَتن هذا الحديثِ علائم توراتيّة، أو هو من الكتبِ القديمة؟

تتبّعت ما يدعى بالكتاب المقدس،  في كلمات (نهر، سبح، اغتسل، غسل، ثوب، عراة) ومشتقاتها الصرفية؛ فما وجدت أنّ بني إسرائيل كانوا يغتسلون في النهر عراة، وليس فيه أنّ موسى كان يغتسل في النهر أصلاً.

فكيف تزعم أنّ صحيفة همّام توراتيّة الاتّجاهِ والهوى؟

يبدو لي أنّك لا تجرؤ على اتّهامِ أبي هريرةَ بوضع هذا الحديثِ عمداً، أو وَهماً، أو جهلاً، فتروغ إلى دعوى أنّ الحديث موضوع، أو مركّب الأسانيد، من دون معرفةِ من فعلَ ذلك!

أنا لا أتّهم أبا هريرةَ بوضعِ الحديث، ولو كنت أتّهمه بذلك؛ ما تردّدت لحظةً في اتّهامه، فقد اتّهمه غير واحدٍ من الصحابة بما يُشبه الكذب!

بيد أنّ أبا هريرةَ رجلٌ أمّيّ، لا يقرأ ولا يكتب، وهو أكثرُ الصحابة رضي الله عنهم حديثاً عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم!

فلو كان بمثل هذا الذكاءِ وتلك العبقريّة حقّاً؛ فلماذا لم يتعلّم القراءةَ والكتابةَ في سنةٍ مثلاً؟

وإذا كانت حافظته مُترعةً بألوفِ الأحاديثِ، وهذا يستلزم زيادةَ علم؛ فلماذا لم يعدَّه أحدٌ من العلماءِ المتقدّمين، من فقهاء الصحابةِ، بل كان السادةُ الحنفيّة لا يعتدّون برواياتِه إلّا في الترغيب والترهيب؟

إذا كان متن الحديثِ منكراً - وهو كذلك - فعلينا أن نبحثَ عن مخرجٍ مقبولٍ لردّ الحديثِ!

كأنْ نقول: كان أبو هريرة كثيرَ الصحبةِ لمسلمة أهل الكتاب - كعبٍ وغير كعبٍ - وغير واحدٍ من العلماء كانوا يتّهمون كعباً، ويتحرّجون من الروايةِ عن مسلمة أهل الكتاب!

فربما حدّث كعبٌ أبا هريرة بهذا الحديثِ، كقصّةٍ تروى في غير التوراةِ، من كتب اليهود، ومع تقادمِ الزمانِ؛ نسي أبو هريرةَ، فرفع الحديثَ إلى الرسول!

وربما سمع أبو هريرة هذه القصّةَ من مجهولٍ، ومع تقادم الزمان ظنّ أنه حفظها عن الرسول، صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ختاماً: لا أريد أن أسترسل في بيانِ أخطائك المنهجيّة؛ لأنّه ليس هدفاً لي معك!

إنّما أردتُ أن أبرز لك بأنّك تسير وفقَ هوىً آثمٍ، لن تؤجر عليه حتماً؛ لأنّك غير مؤهّلٍ للاجتهاد في (نقد الرواية الحديثيّة).

وسيظهر لك أيضاً؛ أنّ لشهادتي هذه بمستواك الحديثيّ قيمةً عليا، إنْ كنت ممّن يعتقد بحكمة (الرجوع إلى الحقّ؛ خيرٌ من التمادي في الباطل).

وأنا أنصحُ إخواني القرّاءُ الكرام من روّاد صفحتي، وروّاد صفحة أخي الدكتور عمّار الحريري؛ بأنْ لا يطالعوا صفحتَه بتاتاً، فهو ليس بناقدٍ حديثيٍّ من جهةٍ، وهو صاحبُ هوىً يدفعه إلى قولِ غير الحقِِّ، وإلى التشكيك بالرواياتِ الحديثيّة قاطبةً!

وأنا منذ عرفتُ صفحتَه إلى هذا اليوم؛ لا أتذكّر أنّه عرض عليها حديثاً واحداً صحّحه!

وقد طالبته عدّةَ مرّاتٍ بأن يعرض لنا خمسةَ أحاديثَ، يراها هو صحيحةً، فلم يفعل حتى هذا اليوم.

وأسألُ الله تعالى أن يعينني على متابعتِه أسبوعاً من الزمانِ؛ ليستيقن هو أوّلاً؛ أنّه يسير في نقدِ الروايات الحديثِيّةِ على غير هدى!

واللهُ تعالى أعلم.

والحمد للهِ على كلّ حال.


الثلاثاء، 6 مايو 2025

  بَعيداً عن السِياسةِ:

ليستْ الغِلظَةُ طبعي!

بسم الله الرحمن الرحمن

(الْحَمْدُ للهِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى).

أمّا بعد: عَتبَ بعضُ الإخوةِ عليّ؛ لعَدَم مراعاتي الحكمةَ في الخطاب!

وعتب عليّ آخرون بأنني تسبّبت لهم بأضرارٍ نفسيّة، أو ماديّة، بسبب جفوتي وغلظتي، وهم محسوبون بأنهم من طلّابي!

أقول وبالله التوفيق:

يُخطئ مَن يُظنُّ بأنني لا أستطيع كتابةَ الكلامِ الرقيق، أو أنني لا أعرف المجاملةَ وخطابَ الكبار!

والصوابُ: أنّ مَن حولي من علماء الأمة ومفكريها وأدبائها وشعرائها وإِعلاميّيها، أراهم أجمعين أكتعين يجاملون، ويتقعّرون في كلمات المجاملة والإطراءِ الغالي، فرأيتُ أنّه يتعيّن عليّ الصَدْعُ بالحقِّ، من دونِ وجلٍ ولا مداهنةٍ.. هذه هي المسألة فحسب!

ترجم ابن حبّان في الثقات (7: 390) الإمامَ محمّدَ بنَ عبدِالرحمن ابن أبي ذئبٍ القرشيّ، وكان ممّا قال في ترجمته: «كَانَ من فُقَهَاء أهل الْمَدِينَة وعُبّادِهم، وَكَانَ مِن أَقُولِ أهل زَمَانه بِالْحَقِّ!

دَعاهم هارونُ الرشيدُ فَاجْتمعُوا إِلَيْهِ، وَفِيهِمْ مَالك بن أنس، وَابْن أبي ذِئْب، وَسَائِر فُقَهَاء الْمَدِينَة، فَسَأَلَهُم عَنْ سيرته [يقصد هارون سألهم: كيف ترون سيرتي في الرعية؟] فكُلّهم قَالَ مَا حَضَره من تَحْسِين ما هُوَ عَلَيْهِ [أيوه هكذا هم علماؤنا وللأسف]!!

فَسَأَلَ ابنَ أبي ذِئْب عَنْ ذَلِك؟ فَقالَ: إِنْ رأى أَمِيرُ الْمُؤمنِينَ أَن يُعْفِيَني مِنْ هَذَا؛ فَعَل!

فَقَالَ هارون: سَأَلتُك إِلّا صَدَقتَ!

قَالَ: أمّا بعدَ أنْ سَأَلتَ؛ فَإِنِّي أَرَاك ظَالِما غشوماً، قَعدتَ فِي أَمرٍ لَيْسَ هُوَ لَكَ، وغَصَبتَه عَمَّن هُوَ لَهُ بِحَقٍّ!

ثمَّ تَأْخُذُ الْأَمْوَالَ من حَيْثُ لَا يَحِلُّ لَك، وتُنفقُها فِيما لَا يُرضي اللهَ وَرَسولَه، صلّى الله عليه وآله وسلّم.

 وَلَو وجدتُ أعواناً؛ لخلَعْتُكَ مِن هَذَا الْأَمرِ، وأدخلتُ فِيهِ مَن هُوَ أَنصح للهِ وللمسلمينَ مِنْك،  فَأَطْرَقَ الرشيد بِرَأْسِهِ!!

قَالَ مالك: فَضممتُ إِليَّ ثِيَابِي، كي لَا يُصِيبنِي مِن دَمِه!

فَرفع الرشيدُ رَأسَه، فَقَالَ: أما إِنَّك أصدقُ الْقَوْم! ثمَّ قَالَ لَهُم: قومُوا وأضعف لِابْنِ أبي ذِئْب فِي الْعَطِيَّة» انتهى المقصود!

انظُرْ إلى رهافةِ حسِّ مالكٍ، خشيَ أن يتطايرَ دم ابن أبي ذئب، فيعكّر صفوَ أناقةِ مالكٍ وثيابه البيضاء، ولم يخشَ من إزهاقِ روحِ عالم جليل!

وقال الذهبي في تاريخ الإسلام (4: 302): كان مالك بن أنسٍ لا يأخذُ بحديثِ عبداللهِ بن عمر مرفوعاً (البيّعان بالخيار، ما لم يتفرّقا) أخرجه البخاريّ (2109) ومسلم (1531) فبلغ ذلك محمّدَ بنَ عبدِالرحمن ابن أبي ذئبٍ، فقال: «يُستتابُ مالكٌ، فإن تابَ، وإلّا ضُربَتْ عُنُقُه».

قال الإمام أحمد معقّباً على هذه الحادثة: «ابن أبي ذئب؛ أورعُ وأقولُ بالحقِّ من مالك»! فقد عدّ الإمامُ أحمدُ ذلك الموقفَ من مآثر ابنِ أبي ذئبٍ، ولم يَعُدَّ ذلك غلظةً ولا جفاءً!

وإنْ كنتُ لا أرى ابن أبي ذئبٍ في فتواه هذه مصيباً!

أيها الإخوةُ الكرام: نحنُ - الشعراءَ - من أقدر خلق الله تعالى على التلاعُبِ بالألفاظ، واستخدام عبارات الذمّ بما يُشبه المدحَ، وعباراتِ المدحَ بما يشبه الذمَّ، والتوريةِ والمبالغة والاختصار والاضمار والتعمية.. أجلْ كلَّ هذا نُحسنُه، ونستطيع أن نُلبسُ الحقَّ ثوبَ الباطلِ، ونخلعُ على الباطل حُلى الحقّ، فيبدو كأنه هو!

وإليك بعضَ الأبياتِ التي كتبتُها، في عام (1971) قلت عليّ السلام:

القلبُ صفّق تحناناً وعرفانا

والروح ترقص في الأعطاف تيهانا

والعينُ تبسمُ، والأنداء هازجةٌ

تنساح رقراقةً، تنداح ألحانا

ترتّب اللحنَ أنغاماً تذوبُ لها

كوامنُ النفس إذعاناً وتيهاناً

في بردةِ الشعرِ، بتنا في رفارفها

وفرقدَ الكونِ قد رمناه سكنانا

«ما الشعر إلّا عطاءُ الله يمنحه

صَفوَ الأنام أحاسياً ووُجدانا».

وأستاذي النبيل الشاعر السيّد عبدالغني أحمد الحدّاد، يقول: إنّ البيتَ الأخير من نظمه هو!

أجل أيها الإخوةُ الكرام:

إنني أستطيع أن أقول:

صاحبَ السموّ الملكيّ المعظّم:

إنّ ما يراه بعضُ ضيّقي العَطنِ، عُشِيِّ النظرِ، متخلّفي التفكير، من أنّ البرامجَ الترفيهيّة التي فطرتموها وابتكرتموها؛ هي خروجٌ عن الدينِ، ومحادّةٌ لرسولِ ربّ العالمين!

هُمْ لم يُدركوا أبداً أنّك رجلٌ مترَعٌ بالشجاعةِ، مجتبىً بالبراعة، متجمّلاً بالوضوح والصراحة!

إنّك تعلم أنّ أيَّ مجتمعٍ في الوجود؛ متفاوتٌ في الذكاءِ والنباهةِ والأخلاقِ والسلوك!

حتى جيلُ الصحابة نفسه، كان كذلك!

لشجاعتك المفرطةِ، ووضوحك التامّ؛ لم يرق لك أبداً أن يَسودَ في مجتمعك النفاقُ، ويخشى مواطنوك ظهورَ السِرار، فأرشدتهم إلى أن يتحلَّوا بالعزيمة الصادقةِ، والإرادةِ الحرّةِ، والاختيار المسؤول (فمَن شاءَ؛ فليؤمن، ومَن شاءَ؛ فليكفر)!

مَنْ أراد أن يذهب إلى المسجدِ، يتعبّد الله تعالى، بجميع ألوان العباداتِ المشروعة؛ فهو ممدوح!

ومَنْ أرادَ أن يروّح عن نَفْسِه ساعةً أو ساعاتٍ بالنظر البهيجِ، والسماعِ الرَقيق، ثمّ يعود إلى منزله، فيحسن وضوءَه، ويصلّي ما عليه من الفرائض، ويستغفر الله تعالى ويتوبَ إليه عدّةَ مرّات، وإذا به أمسى مع (مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحاً، فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ، وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

أجلْ يا صاحبَ السموّ المكيّ المعظّم:

يقول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا، مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ:

فَزِنَا الْعَيْنَيْنِ؛ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ؛ النُّطْقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ، أَوْ يُكَذِّبُهُ) أخرجه البخاري (6243) ومسلم (2657) وهذا لفظه.

فإذا كان هذا من القدرِ المحتومِ، واللهُ تعالى يقول: (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ، وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً) فعلى المسلم أن يجتهد غايةَ الاجتهادِ في اجتناب الزنا، ظاهراً وباطناً، وأن يستغفر الله تعالى ويتوب إليه، كلّما ساقته نفسه الأمّارةُ إلى حفلة ترفيهيّة، والله تعالى أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين» انتهى وحيُ الشيطان، حاشا الحديث والقرآن !

أيّها الإخوةُ الكرام: إنّ العالم أكبرُ وأعظم من الحاكم، خاصّةً إذا لم يكن ذاك الحاكم من أهل العلم والدين، ففي هذه الحال؛ عليه أن يجتنب غِلاظَ الألفاظ، ثمّ ليعظه وينصحه بكلماتٍ حازمةٍ، وليخوّفه من عذاب النار وبئس المصير.

والعالم في حال نصحه للحاكم الظالم؛ لا يستجديه، ولا يتملّقُه، إنّما هو يطالبُه مطالبةَ صاحبِ الحقِّ، برفعِ الظلمِ عن المظلومين، والاعتذارِ إليهم، وتعويضهم، وأن يتوبَ فوراً عن ظلمه وطغيانه، إنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر.

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً، عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ، وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنا، وَاغْفِرْ لَنا؛ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

هذا.. وصلّى الله على سولنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً.

والحمد للهِ على كلّ حال.  

الاثنين، 5 مايو 2025

 إلى سوريا من جديد:

لماذا أهلُ السنّة؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
(الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى).
أمّا بعد: جميعُ قرّائي القُدامى والجُددِ؛ يعلمون أنّ مصطلح (أهل السنة) لا ينطبق على فكر عداب؛ لأنّ كثيراً من مسلّماتهم لا أعتقدُ بها، بل لا أجيزُ اعتقادها.
ومن ذلك تكفير الذي يقول بخلق القرآن.
ومن ذلك وجوبُ طاعة وليّ الأمر الفاسق الجائر المتغلّب.
ومن ذلك القول بعدالة جميع الصحابة (نظريّاً) وعصمتهم عمليّا، خاصّةً الساسةَ منهم.
فالذين شتموني أنذال حقراء سفلة!
أمّا لماذا وجّهتُ خطابي إلى أهلِ السنّةِ؛ لأنّ أصواتَ الأقليّات الكافرة والعلمانية؛ هي الأعلى في سوريا اليوم!
ولولا تفرّق أهل السنّة السياسيّ؛ ما حكمنا المجرمون (آل الأسد) وأعوانهم ستين سنة، لم يبقوا في سوريا حجراً على حجر، وأذلّوا الأكثرية السنيّة وأهانوهم وقتلوهم جهاراً نهاراً بلا رادع!
لقد قتل آل الأسد النصيريّون الكفرة أكثر من مليوني سنّيٍ!
كم مسيحيّاً قتلوا؟
كم نصيريّاً قتلوا؟
كم دُرزيّاً قتلوا؟
هل هدموا مدينة السويداء وجرمانا والأشرفيّة (الدرزية)؟
هل هدموا مدنَ النصيريّة في اللاذقيّة وطرطوس وبانياس؟
هل هدموا محردة والسقيلبية وكفربهم (المسيحية)؟
على الأوغاد الأنذال الذين يشتمونني، وينتقدون توجيه خطابي إلى أهل السنّة؛ أن يفهموا جيّداً؛ أنّني رجلٌ عالمٌ معتقدٌ بكلّ حرفٍ في هذا القرآن العظيم
النصيريّة والدروز والمسيحيّون اليوم؛ مجرمون في نظر القرآن الكريم (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) [القلم].
على هذه الأقليّاتِ التي تكفرُ بالله، وتُشركُ بالله صباحَ مساءَ؛ أن تحترمَ هي أهلَ الحقِّ، وأنْ تلتمسَ رضاهم، لا أنْ نلتمس نحن رضا كفرةٍ مجرمين سفهاءَ، يستقوون علينا بكفّارٍ مثلهم.
إنّ الذين يقولون: (نحترم جميع عقائد الناس) إنْ كانوا مسلمين؛ فهم جهّال، وإنْ كانوا علمانيين؛ فالعلماني هو والدرزيّ والنصيريّ سواء!
عندما يهدأ هؤلاء الكفّارُ ويسكنون، ولا يلتمسون النصرةَ من أعداء المسلمين الكفّار؛ نخاطبهم بالخطابِ الدعويّ، ونحسن إليهم، أمّا أن يكون الكافرُ مثلي؛ فهذا مخالف للقرآن الكريم جهاراً!
فهؤلاء عندما يقتلون شبابنا، ويعلنون العصيانَ، ويستقوون بالكفّأر؛ فلا بدّ أن نُبرز الخطاب العقديّ (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ؛ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ.
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ، غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ.
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ؛ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ، فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ، أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) [الحجّ].
فالذي يقول: عليّ إله، أو تجسّد به الإله؛ فهو مشركٌ ملعون.
والذي يقول: إنّ الحاكم الفاطميَّ إله، أو إنّه هو مظهر ناسوت الله تعالى؛ فهو مشركٌ ملعون.
والذي يقول: المسيح هو الله، أو هو ابن الله؛ فهو مشرك ملعون!
(قَالَ الْمَسِيحُ: يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ؛ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ؛ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَمَأْوَاهُ النَّارُ، وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) [المائدة].
وأنا الفقير لم أدعُ، ولن أدعوَ فيما تبقّى من حياتي إلى قتلِ أيّ إنسانٍ بسبب معتقدِه، حتى لو كان يعبد البقرة، أو الفأر، أو الحجر!
لأنّ اطّلاعي على جميع ثقافاتِ الأمم؛ وجدتَ (الإنسان) سخيفاً حقّاً، ضالّاً حقّا جاهلاً حقّاً، وينطبق على جميع بني الإنسان ما عابه عليهم القرآن العظيم:
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ؛ قَالُوا: حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ؟(104) [المائدة].
(تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ، فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ، فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) [النحل].
أنتَ أيها الإنسانُ غيرَ المسلم: هذا مكانك في عين الله تعالى، وأنا عندما أواجهك بالحقيقةِ؛ لأنها ديني ومعتقدي، ولن أترك ديني ومعتقدي من أجل مراعاة مشاعرك الكافرة القميئة، فأنا أبغضك في الله تعالى، وهذا واجب دينيّ شرعيّ! (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ (4) [الممتحنة].
ومع بغضي لك، واحتقاري الشديد لمعتقداتك وأفكارك ومشاعرك الكافرة؛ فقد أمرني الله تعالى بالعدلِ معكَ، والإحسان إليك، إذا لم تكن جاسوساً للكفرة، ولم تتمرّد عليّ!
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ، شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ، وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَاتَّقُوا اللَّهَ؛ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) [المائدة].
نحن - المسلمين - مطالبون بالعدل حتى مع الحيوان والشجر والحجر!
(لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ، أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8).
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ، وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ؛ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ!
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) [الممتحنة].
أيتّها الأقليّات غير المسلمة في بلدنا سوريّا: أنتم لا تستطيعون إخراجنا من ديارنا، بيد أنكم اليومَ تقاتلوننا وتظاهروا أعداءنا علينا، أو تتقوّون بهم علينا، فكيف تريدون منّا الإحسانَ إليكم؟
أنا لست سياسيّاً، ولا أعرفُ ما تريده الحكومةُ السوريةُ الجديدةُ، ولا يعنيني ما تريده من الأساس!
إنّما أنا طالب علم، ناصحٍ لكم والله العظيمِ
جميع أهل السنّة يعتقدون أنّكم كفّار، ويعتقدون بجميع ما ذكرته في هذا المنشور، إنما يختلفون عني باتّباعهم سلوك التسكين والمجاملة والمراوغة!
وربما كنتُ أنا من أكثرهم - بل ومن أكثر الخلق - بعداً عن سفك الدماء!
لأنني أشفق على البشريّة كلّها بغبائها وسخافة عقولها!
الإنسانٍ يخرج إلى الدنيا من فرج أمّه القذر، وينشأ سنين وهو يلقي قاذوراته على جسده، ويعيش عمره كلّه بين الهم والقهر والحاجة والمرض!
فعندما تأتي طائفة من هؤلاء البشر المغفّلين، فتمنح هذا الإنسان (المُعَفّن) منزلةَ الله تعالى، أو تجعله مَحَلّاً لتجسّده أو حلوله أو اتّحاده؛ فأنا أشفق عليها من عذاب الله تبارك وتعالى.
(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) [الأعراف].
والله تعالى هو الحقّ المبين.
والحمد لله على كلّ حال.

الأحد، 4 مايو 2025

        مسائل حديثيّة

صلَةُ نُسخةِ أبي ذرٍّ الهرويّ بفتح الباري!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ للهِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى)

أمّا بعد: كتب إليّ يقول: «سمعتُ أحدَ المتحدّثينَ على القنواتِ الفضائيّة يقول: لا يوجد نسخةٌ أصليّة من كتاب «فتح الباري» للحافظ ابن حجر العسقلانيّ، إنّما المطبوع نسخةٌ ملفّقةٌ، فمتن صحيح البخاري شيءٌ، وشرحُه شيءٌ آخر!

وتجد الحافظ في بعض الأحيان يشرح كلماتٍ ليس لها وجودٌ في متنِ صحيح البخاريّ الذي جعل فتح الباري شرحاً له، فما رأيكم بهذا الكلام)؟ انتهى.

أقول وبالله التوفيق: الكلام في هذه المسألة طويلُ الذيلِ، وإنْ ضبط هذا الناقلُ؛ فذلك المتحدّثُ على إحدى القنواتِ مغرضٌ أو جاهل!

أوّلاً: نصّ الحافظ ابن حجر في آخر مقدّمته لفتح الباري، عقب سياقة أسانيده، إلى روايات صحيح البخاري؛ أنّه اعتمد نسخة الحافظ أبي ذرّ الهرويّ عن شيوخه الثلاثة.

قال في مقدمة فتح الباري «بعد هدي الساري» من طبعة مؤسسة الرسالة العالمية (1: 11): «انتهى الغرضُ الذي أردتُه، من التَوصيلِ الذي أوردته.

فليقع الشروعُ في الشرحِ، والاقتصارُ على أتقن الروايات عندنا، وهي روايةُ أبي ذرٍّ عبداللهِ بن أحمد الهروي عن مشايخه الثلاثة؛ لضبطِه لها، وتمييزه لاختلافِ سياقِها، مع التنبيه إلى ما يُحتاجُ إليه ممّا يخالفها، وبالله تعالى التوفيق».

وفريق تحقيقِ فتح الباري بمؤسسة الرسالة، برئاسة الشيخ شعيب الأرناؤوط - عفا الله عنه - ألمَحوا في مقدمة تحقيقهم لهذا الكتاب الكبير الماتع، إلى أنّهم لم يَقفوا على نسخةِ أبي ذرٍّ، فاستعانوا بمتن صحيح البخاريّ من النسخة اليونينية.

قالوا في هدي الساري (1: 61): «الروايةُ التي اعتمدها الحافظ ابن حجر في شرحه صحيح البخاري؛ هي رواية أبي ذرٍّ الهرويّ عن مشايخه الثلاثةِ: الكُشْميهَنيّ، والمستملي، والسَرْخَسيّ، ثلاثتهم عن الفِرَبْريِّ؛ لكونها أتقن الروايات عنده.

علماً بأنّ الحافظَ ابن حجرٍ؛ لم يسرد متونَ أحاديثِ صحيح البخاري بألفاظها في شرحه، فاعتمدنا في إثباتِ المُتونِ على النسخة اليونينية، بوصفها أضبط نسخةٍ أشارت إلى روايات صحيح البخاريّ بدقّةٍ متناهية» ... إلخ.

ولم يبدِ فريق التحقيقِ سببَ اعتمادهم على النسخة اليونينية المتقنةِ حقّاً، كما قالوا.

وسبب ذلك واضحٌ ظاهرٌ، إذْ لم تكن نسخةُ أبي ذرٍّ معروفةً في أيّام تحقيقهم فتحَ الباري، عام (2013م).

وأوّلُ من كَشفَ عن وجود نسخة أبي ذرٍّ الهرويّ في إحدى مكتبات المخطوطات باستانبول؛ هو الدكتور الشريف محمد مجير الخطيب الحسينيّ، في عام (2017م) جزاه الله خير الجزاء.

وقد صُوّرت نسخةُ أبي ذرٍّ تصويراً جميلاً واضحاً، وعُرضَتْ للبيع على نطاق محدودٍ، وأهداني الشريف صالح بن سليمان الحسنيّ نسخة منها، فله الشكر الجزيل.

ونحن في «المركز الهاشميّ للبحث العلميّ» قابلنا صحيح البخاريّ على ثلاث نسخٍ أصيلةٍ، جميعها فروعٌ عن اليونينية، هي: نسخة النويريّ، ونسحة البقاعيّ، ونسخة الكازرونيّ، ومن ضعف همّتي وتردّدي في نشر ما أنجزه؛ لم ننشر نسختنا هذه، مع أننا انتهينا من تحقيقها وتخريجها منذ أعوام!

وعقب حصولي على نسخةِ أبي ذرٍّ هذه؛ لم تعد نسخةُ النويريّ ذاتَ قيمةٍ كبيرةٍ في نظريّ، إذْ إنها ليست سوى فرعٍ عن اليونينيةِ، التي طُبعت عليها النسخة السلطانية الممتازة!

ولأنني أقوم بتحقيق «كتابِ التوحيدِ» من فتح الباري، في هذه الأيّام، لما له من أهميّةٍ كبرى في بيان مذهب السلفِ في إثبات صفاتِ الله تعالى الخبريّةِ؛ فقد شرعتُ بمقابلةِ نسختنا الثلاثيّة، على نسخةِ أبي ذرّ.

وسأجعلَ نسخةَ أبي ذرٍّ هي الأصلَ في سياقة متون أحاديث كتاب التوحيد؛ ليتطابقَ الشرحُ مع المتن، إنْ أعانني الله تعالى على ذلك.

ختاماً: لو سكتَ الذي لا يَعلَم؛ لقلَّ الخلافُ بين أهل العلم!

والله تعالى أعلم.

     والحمد لله على كلّ حال.