مَسائلُ حديثيّةٌ (70):
يقول الإمام الشافعيّ: «لم
أر قوماً أشهَد بالزور من الرافضة»!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ
بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
ممّا لا يحتاجُ إلى تأكيدٍ
مستمرٍّ أنّ الفقير عداباً يفرّق بين الشيعة والرافضة، ويفرق بين أهل السنّة
والنواصب.
استمعت قبل قليل إلى محاضرةٍ
على الانترنيت، لشيخٍ رافضيّ اسمه «أحمد الجعفري» في وسطِها سأله المذيع: «سماحةَ
الشيخ سيقول الوهابية: كيف نتجرّأ على أمّ المؤمنين عائشة»؟
فأجاب سماحتُه: «نحن لا
نتحدّث من عندنا عزيزي، من يأتِ بسبٍّ أو طعنٍ أو لعنٍ من عند نفسه؛ أنا أقول:
لعنة الله عليه؛ لأنه لا يجوز لك أن تتكلّم من دون دليل، نحن لا نتحدّث وفق
المزاج، لا عزيزي، نحن أولوا أخلاقٍ وأولو علم، عندما نتكلّم؛ نتكلّم بدليل!
هذا الشيخُ الذي قدّمه
المذيع على أنّه أستاذُ الدراساتِ العليا؛ هو بالتأكيدِ ممّن عناهم الإمام
الشافعيُّ بقوله: «لم أر قوماً أشهَد بالزور من الرافضة»!؟
تناول هذا الرافضيّ أمّ
المؤمنين عائشة بالتحليل النفسيّ، الذي بناه على دليلين باطلين:
الدليل الأوّل: أنّ عائشةَ
كانت سوداءَ أدماءَ قبيحةَ المنظر!
والدليل الثاني: أنّ الحيض
«والاستحاضة» كان يتلبّسها على طول حياتها، فلا تطهر، وهاتان البليّتان سبّبتا لها
مرضاً نفسيّاً، إذ الثانية على الأقلّ تمنع الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم من
مقاربتها!
وقبل الولوج في هذا
الموضوع؛ لا بدّ من تذكير جميع القرّاء الكرام بأنّ الله تبارك وتعالى قال: (النَّبِيُّ
أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ).
وعائشةُ بيقينٍ كانت إحدى
زوجاتِ الرسول، وهي أمّنا.
أنا وأنتَ - أخي القارئ
الكريم - لا يعنينا إذا كانت والدتُنا جميلةً أم قبيحةً، سوداءَ أدماءَ، أم بيضاء
شقراء!
نظيفةً ذاتَ دورةٍ شهريّةٍ
مستقرّةٍ، أم كانت مستحاضةً لا تكاد تطهر!
كان هذا يؤثّر على نفسيّتها
أم لا يؤثّر!
هي أمّنا كيفما كانت، ما دمنا مؤمنين بالله تعالى
وبالقرآن الكريم!
نأتي بعد ذلك إلى مناقشة
الدليل الأوّل، الذي اعتمد عليه سماحة الرافضيّ الجعفريّ!
ذهبَ إلى تاريخ ابن معين -
رواية الدوري (3: 509) فقرأ علينا النصَّ الآتي: « يحيى يَقُول: قَالَ عبّاد:
قُلْنَا لسهيلِ بن ذكْوَانَ: رَأَيْت عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: نعم!
قُلْنا: صِفْها؟ قالَ:
كَانَت سَوْداء».
وزعم الجعفريُّ أنّ علماءَ
الحديثِ كذّبوا سهيل بن ذكوانَ هذا؛ لأنّه قال: إنّ عائشةَ سوداء!
ثمّ ذهب إلى تهذيب الكمال
(12: 223) وقرأ علينا ترجمةَ سُهيلِ بن أبي صالح، واسم أبي صالح: ذكوان، ونقل
أقوال العلماء فيه، وأنّه ثقة أخرجه له الجماعة، ما عدا البخاريَّ، فقد أخرج له مقروناً.
فثبّتَ في ذهن السامعِ أنّ
المحدّثين ظلمةٌ منحازون، وأنهم إنما ضعّفوا هذا الرجلَ الثقةَ، انتصاراً للروايات
الكاذبةِ التي تقول: إنّ عائشةَ كانت بيضاءَ شقراء!
وهذا جهلٌ فاضحٌ من هذا
الرجلِ، أو كذبٌ تعمّده ليضلّ به الناس، ويزيد من غضب الله تعالى وسخط رسوله صلّى
الله عليه وآله وسلّم عليه وعلى من يصدّقون كلامه.
لأنّ سهيلَ بن أبي صالح
العالم المحدّث؛ ليس هو سهيلَ بن ذكوان شبه المجهول!
وإليك أدلّة لك.
أوّلاً: إذا رجعنا إلى
تاريخ يحيى بن معينٍ برواية الدوري نفسها (3: 182) نجده قال: «أَبُو صَالح السمان:
كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ: سُهَيْل بن أَبى صَالح، وَعبّاد بن أَبى صَالح،
وَصَالح بن أَبى صَالح، كلهم ثِقَة»!
فابن معينٍ فرّق إذن بين
سهيل بن أبي صالح الثقةِ، وبين سهيل بن ذكوان، الزاعم بأنّ عائشةَ سوداء!
ولو رجعنا إلى الإمام
النسائيّ؛ لوجدناه قال في كتابه «الضعفاء» رقم (285): «سُهَيْلُ بنُ ذكْوَان - وَلَيْسَ
السمّان - مَتْرُوك الحَدِيث».
وترجمه العقيليّ في
الضعفاء (2: 154) وقال: «حَدَّثَنِي آدَمُ بْنُ مُوسَى قَالَ: سَمِعْتُ
الْبُخَارِيَّ قَالَ: سُهَيْلُ بْنُ ذَكْوَانَ الْمَكِّيُّ، سَكَنَ وَاسِطَ، أَبُو
السِّنْدِيِّ: سَمِعَ عَائِشَةَ وَابْنَ الزُّبَيْرِ.
سَمِعَ مِنْهُ هُشَيْمٌ،
وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ.
قَالَ عَبَّادُ بْنُ
الْعَوَّامِ: «كُنَّا نَتَّهِمُهُ بِالْكَذِبِ».
وترجمه ابن حبان في
المجروحين (459) واتّهمه بالكذب!
وترجمه ابن عديٍّ في
ضعفائه (865) وقال: «وسهيل بْن ذكوان هذا، مع ما يُنسَب إلى الكذبِ؛ ليس له كثيرُ
حديث، وإنما لم يعتبر الناس بكذبه؛ لأنّه قليلُ الروايةِ، وإنما تَبيّنوا كَذِبَه
بمثل ما بينّا:
- أنّ عائشة كانت سوداء، وعائشة
كانت بيضاء!
- وأنّ إِبْرَاهِيم النخعي
كان كبيرَ العينين، وإِبْرَاهِيم النخعي أعور، وَهو في مقدار ما يرويه ضعيف.
ثانياً: إنّ العقيليّ
وابنَ عديٍّ وغيرهما ترجما سهيل بن أبي صالح في ضعفائهما أيضاً، لورود جرح فيه.
ولو كان سهيل بن أبي صالح
هو سهيل بن ذكوان، كما دلّس الشيخ الجعفريّ الرافضيّ؛ لكان تناقضاً منهما، بل كان
بعداً لهما عن السبر والتمييز
ترجم العقيليُّ في ضعفائه
(659) سهيل بن أبي صالح، ونقل أقوال العلماء فيه.
وترجمه ابن عديٍّ في
ضعفائه (866) عقبَ سهيل بن ذكوان مباشرة، ونقل اختلاف العلماء في توثيقه وتليينه،
وختم ترجمته بقوله: «لسهيل أحاديثُ كثيرةٌ غيرَ ما ذكرتُ، وله نُسَخٌ، وروى عنه
الأئمةُ، مثل الثَّوْريّ وشُعبة ومالكٍ، وغيرهم... وسهيل عندي مقبول الأخبار، ثبت
لا بأسَ به».
ثالثاً: ليس لسهيل بن
ذكوان الراوي عن عائشةَ أنها سوداء، في الكتب التسعة أيُّ حديثٍ، بينما لسهيل بن
أبي صالح في الكتب التسعة (528) منها خمسةُ أحاديث عند البخاري، ومئةٌ وثلاثة عشر
حديثاً عند مسلم، أوائلها (35، 55، 76، 101، 122) وأواخرها (2903، 2904، 2912، 2922،
2995).
ثالثاً: قالوا في ترجمة
سهيل بن ذكوان الضعيف: إنّه يروي عن عائشةَ، واعتمده الجعفريُّ الرافضيّ، وبنى على
مشاهدته أنّ عائشة سوداء أدماءُ قبيحة!
بينما لا يروي سهيل بن أبي
صالحٍ عن عائشةَ أيَّ حديث!
وهذا وحدَه ينسف تدليسَ
الجعفريِّ وكذبه من أساسه!
أقول: ظهر بما تقدّمَ أنّ
صاحبَ السماحةِ الرافضيّ، إمّا جاهلٌ بعلم الرجالِ!
وإمّا كذّابٌ تعمّد تضليلَ
مستمعيه، وإهانةَ أمّ المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها.
الدليل الثاني: أنّ الحيض «والاستحاضة»
كان يتلبّس عائشةَ طيلةَ حياتها!
وهذا سبّب لها مرضاً
نفسيّاً، انعكسَ على تصرفاتها حدّةً وسوءَ أخلاق!
وجوابُ هذا الافتراء من
وجوه:
الوجه الأوّل: أنّ المرأةَ
التي ليس لحيضِها، أو لنقل: لنزيف دمها أيّامٌ معلومةٌ يقال لها في الاصطلاح
الفقهيّ «مستحاضة» ولها أحكام مختلفةٌ عن أحكام المرأة الحائض!
المرأة الحائض: لا تصوم
ولا تصليّ ولا يجامعها زوجها في مدّةِ أيّام حيضها.
أمّا المستحاضةُ: فتصوم
وتصلي ويجامعها زوجها متى شاء.
وهذا يتعلّمه الطلّاب في
الصفّ الخامس، من مدارس «إمام وخطيب» عندنا في تركيّا هنا، ومن المحالِ أنّ
الجعفريَّ يجهل هذا!
الوجْه الثاني: لم يَرِدْ
مطلقاً في أيّ كتابٍ من كتب أهل السنّةِ، بنصٍّ صريحٍ؛ أنّ أمّ المؤمنين عائشةَ
كانت مستحاضةً، ولو لمرّةٍ واحدةٍ في تاريخ حياتها، فهذا كذبُ عمْدٍ!
إنّما أخرج البخاريّ في كتاب
الحيض (294) ومسلم في كتابِ الحجّ (1211) من حديث القاسم بن محمد بن أبي بكرٍ قال:
سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: خَرَجْنَا لَا نَرَى إِلَّا الْحَجَّ، فَلَمَّا
كُنَّا بِسَرِفَ «قرية بين مكة والمدينة» حِضْتُ!
فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي، قَالَ: مَا لَكِ،
أَنُفِسْتِ؟ قُلْتُ نَعَمْ!
قَالَ: إِنَّ هَذَا أَمْرٌ
كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ، غَيْرَ
أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حتى تطهري!
وفي طرفٍ لهذا الحديث عند
البخاريّ (316): أَنَّهَا حَاضَتْ، وَلَمْ تَطْهُرْ حَتَّى دَخَلَتْ لَيْلَةُ
عَرَفَةَ.
قالَتْ: فَلَمَّا قَضَيْتُ
الْحَجَّ أَمَرَ عَبْدَالرَّحْمَنِ «بنَ أبي بكرٍ» لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ،
فَأَعْمَرَنِي مِنْ التَّنْعِيمِ».
في هذا الحديثِ أنّ عائشةَ
كانت طاهراً، عندما خرج ركبُ الحجّ من المدينة، ثم حاضت في أثناء السفر، ثمّ طهرت
ليلةَ «عَرَفةَ» وهذا نصٌّ في أنها ذات حيضٍ لأيّام معلومةٍ، وليست مستحاضةً.
الشيخ الجعفريّ يقول: إنّه
يحتجّ علينا من كتبنا، وهذا الذي تقوله كتبنا، وهي لا تقول أبداً: إنّ عائشةَ كانت
مستحاضةً طيلَة عمرها!
الوجه الثالث: قال
الرافضيّ هذا: إنّ دليلَه على أنّ عائشةَ كانت غارقةً في مأساةِ الحيضِ؛ أنّ (99%)
من أحاديثِ الحيض ترويها عائشة!
وجواب ذلك أنّ عائشةَ هي
أفقه الصحابيّات على الإطلاقِ، وحتى لا يغضبَ الرافضةُ نقول: هي أكثر الصحابياتِ
روايةً عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ومن الطبيعيّ أن تكون
روايتُها النسائيّة أكثر من غيرها من الصحابة والصحابيّات.
وكتابُ الحيض في صحيح
البخاريّ مثلاً، فيه (39) حديثاً مكرّرة، منها عن أمّ المؤمنين أمّ سلمة (298، 322)
ومنها عن أمّ المؤمنين
ميمونة (303، 333)
ومنها عن أمّ عطيّة قبل (305،
326).
ومنها عن أسماء بنت أبي
بكر (307).
ومنها عن حفصة أم المؤمنين
(313، 324).
ومنها عن أنس بن مالك (318).
ومنها عن عبدالله بن عباس
(329).
ومنها عن أبي سعيدٍ
الخدريّ (304).
ومما يجب بيانُه أمامَ هذا
الافتراء على أمّ المؤمنين عائشة أنّ قصّة حيضها بمنطقة سَرِف - في طريق المسافر
بين مكة والمدينة - (294) كرّره البخاريّ في كتاب الحيض نفسه (305، 316، 317، 319).
وأنّ حديث عائشةَ في قصّة
استحاضة فاطمة بنت حُبيش (306) كرّره البخاري في كتاب الحيض نفسه (320، 325، 331).
وأنّ حديثَ عائشة في قصة
الأنصاريّة التي سألت الرسولَ صلى الله عليه وآله وسلم عن كيفية الاغتسال من الحيض
(314) كرره البخاريّ في كتاب الحيض نفسه (315) فمن أين جاء بأنّ (99%) من أحاديثِ
الحيضِ عن عائشة؟
ويلاحظُ القارئ الكريم أنّ
عائشةَ تنقلُ ما أفتى بها رسولِ اللهِ أمامَها.
فبدلاً من شكرها على ذلك؛
نجعل ذلك سبّةً عليها، وتعييراً لها بأنّ غارقة طيلةَ عمرها بالحيض؟!
ختاماً: خصماءُ شيوخِ
وعلماءِ الرافضة يومَ القيامةِ كثيرون، وإنني أخشى أنْ لا يدخل أحدٌ منهم الجنّة!
والله تعالى أعلم
والحمدُ لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق